الأربعاء، 26 يوليو 2017

الكلام المسهوك....تأملات فى الخطاب السياسى الدارج4


يتخذ الخطاب الموجه إلى جهة ما أصنافاً متعددة فهو قد يكون محادثة إن توجه لشخص تواجهه وتباشره بالكلام . وقد يكون حواراً إن كنت تطرح موضوعاً للمناقشة وتتوقع تفاعلاً ممن تخاطبه. وقد يكون خطبة إن كان موجها لجماعة معلومة تباشرها بالكلام ولا تتوقع منها الرد . وقد يكون كلاماً مبثوثاً عبر وسيط لجمهور غير محصور ولا معلوم، ثم جاءت الوسائط الجديدة فإختلطت الأمور بين المحادثة والخطبة والبث العام . بيد أن الخطاب السياسى لم يتهيأ بعد للتلاؤم مع مستجدات التكنولوجيا والوسائط الجديدة. فلا يزال يحافظ على خطابيته التى لا تتوقع تفاعلاً من الطرف المخاطب ، ولا تأبه فى أحيان كثيرة من يكون ذلكم المخاطب . ولذلك فهوخطاب أشبه مايكون بالطلقة الطائشة لا تصيب هدفا إلا بالمصادفة المحضة.
الكلام المسهوك... عبثية الخطاب السياسى:
أشرنا فيما سبق إلى إمتلاء الخطاب السياسى العربى بالمسكوكات والعبارات الخاوية أو الفقيرة المعنى ،ذلكم أنه أقرب إلى كونه تقريرات من كونه خطاباً موجهاً للإقناع.فطبيعة الحالة السياسية السائدة لا تجعل الإقناع أمراً مهماً أو أن يسعى السياسى (وبخاصة صاحب السلطة) للإقناع بإختياراته مهما تكن مجانبة للصواب مفارقة للمنطق السليم أو القسطاس المستقيم.وقد يعلم العقلاء أن جوهر السياسة الراشدة أنها مشاورة ومساجلة. فبلاغة الخطاب السياسى هى بلاغة مشاورة وحوار.ذلكم أن مقصود السياسة هو التدبير ولا يكون تدبير إلا بإستصحاب السواد الأعظم من الناس الفاعلين أو جمهورهم الأغلب، ولا يكون ذلك إلا إقناعاً أو إكراهاً. وقد علم الناس منذ عهد قديم إنه من العسير إكراه غالب الناس غالب الوقت، ولذلك فإن بلاغة الخطاب وبلاغة الإقناع هى آلة السياسة التى ما منها من مندوحة . بيد أن ساستنا فى العالم العربى بات يخفى عليهم المعلوم من الأمر للكافة، فحسبوا أن تدبيج الكلام فى تقريرات مكتنزنات بمسكوك ومسهوك الكلام يمكن أن يجديهم سائر الوقت.وتأمل ما تشهده الساحة العربية هذه الأيام من أحداث وما تُرجع أصداؤها من خطاب سياسى فارغ من كل مفهوم مفارق لكل منطق معلوم.
إن جوهر السياسة هو أخذ الآخر فى الإعتبار ليكون بالإقناع من أهل الموالاة والمؤازرة أو إن كان من أهل المناوئة والمعارضة فبالإحتواء وتقليل الأضرار.فالناس لا يعدو أن يكون أحدهم موالياً نستديم ولاءه بالإقناع ، أو أن يكون منازعاً نحتوى نزاعه بالمناظرة والمساجلة لإقناعه أو عزله عن من سواه ، أو أن يكون منقاداً لسواه بغير بصيره بالإستهواء لموالى أو المناوىء فهو تبع لمن تابع . فالسياسة هى دائرة التشاور والحوار والمناظرة، وإلا صارت دائرة للمنازعة والتعانف.وقد أخذت السياسة إسمها من ساس يسوس الذى هو من الترويض فهى تفترض إبتداء ضرباً من التجاذب والمقاومة قبل أن تسلس الأمور وتسلم قيادها.وهى بذلك تتعامل مع وضع قائم يشتمل على نوع من المقاومة الطبيعية أو النفسية أو الإجتماعية بقصد تغييره نحو وضع جديد يُظن أنه الأفضل وأنه المفيد.فالسياسة درء وضع يُظن عدم ملاءمته وجلب وضع جديد تُظن فائدته ومنفعته. والمعتاد فى الطباع أنها تأنس لواقع الحال مهما كان راهنه فقير بئيس، فالناس يخافون الإنزلاق إلى وضع أسوأ لذلك يلجأون للمحافظة على ما هم عليه . ومهمة السياسة هى تغيير الأوضاع للأحسن أو حيث يظن الساسة أنه الأحسن، ولذلك فهى تعمل بخلاف إتجاه الرياح.ولذلك فهى إما أن تبذل جهداً مضاعفاً فى إقناع الناس أو تفرط فى قمعهم إن هى أرادت تعديل الأوضاع بصورة ملموسة. ولاشك أنه مع حالة فقر الأفكار التى يعانى منها الملأ السياسى فى منطقتنا فلا عجب أن يكون طابع السياسة قمعى ومن يلجأ للقمع فلا شك أنه لن يبذل جهداً كبيراً فى صياغة بلاغة إقناعية.
بلاغة الإقناع فى مقابل القمع:
كان سقراط وأرسطو وإفلاطون ومن بعدهم الفارآبى وأبن سينا وأبن رشد يصلون بين رشد الفكر ورشد الحكم ،ولاشك ولا مشاحة فى صحة ذلك الوصل . فهكذا يتحدث الكتاب العزيز وصلاً بين الحكمة وفصل الخطاب والحكم بالعدل.والسياسة التى لا تستند على المعرفة سوف تستند على الهوى والتشهى لا ريب فى ذلك ولامراء.والمعرفة إنما تنال بالمدارسة والمشاورة وهو البعد الأول من السياسة الراشدة والذى هو الشورى، وهى وسيلة إكتساب المعرفة وأختزانها ، ولايكون ذلك إلا بالحوار . وما الحوار إلا المساجلة أن تدلو بدلوك وأدلو بدلوى، فالمدارسة حوار والمحااضرة التى تسمى فى أيامنا مثاقفة حوار وكل تفاعل بين جهتين فى المعرفة حوار فما الحوار إلا المراجعة أن أدلى بقول فترجع عليه بقول آخر يعززه أو يفنده. ومن شكول الحوار المناظرة التى تشتمل على المساجلة المنطقية الإستدلالية والبرهانية.والعاقل من ولج لكل مناظرة بعين التدبر والإعتبار ليستفيد من كل ملاحظة ويتقوى بكل حجة ومنطق سديد. وكل مناظرة هى محاججة فى جوهرها فإذا دخلها التعصب صارة عقيمة وصارت بأصحابها للتعانف بدلا من التفاهم.فالتعصب حالة إستهواء مزاجى عاطفى نفسى وهو بلا شك سبيل الضلال ( ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله).وخطاب الإستهواء خطاب هوية فى صفته الأساس بمعنى أنه تطغى عليه العناصر الذاتية الوجدانية لاالعناصر العقلية الفكرية ( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) فسبيل الرشاد عند من يوالي الحاكم هو سبيل الحاكم المتغلب فهو الميسم له والمعلم عليه. ولكم يذكر هذا بالخطاب العربى الدارج الذى يستدل على الحكمة بمن صدر منه الكلام إن يكن صاحب سلطة ومقام.وخطاب الهوية هو خطاب نحن وهم .فنحن شارة الإصلاح والتصحيح والخلاص وهم علامة السقوط والإنتهازية والدموية سواء جاء الخطاب من موالين أو معارضينفكيف نطمع بحوار ووتفاعل خلاق أو جدلية مثمرة منتجة؟
فالموالاة عند البعض تعنى التصويب فى كل حال ونفى القصورفى كل جانب، بله من إثبات الفشل أو الفساد ولو كان جزئياً. وما من حكومة إلا فيها الخطأ فى التقدير والقصور فى الإنفاذ، وفيها العجز الادارى والفساد بوجهيه الادارى والمالى مهما تطهرت وتزكت ، فلا شك أن إمتحان السلطان لن تكون نتيجته نجح الجميع لم يفشل ولم يخفق أحد. وأما جهة المعارضة فخطابها ليس خطاب العرض الآخر والبرنامج البديل بل هو خطاب الاعتراض والتعويق وسد الطريق على كل جهد مبذول من أهل الموالاة ولايهم صلاح ذلك الجهد من فساده ولا نفعه من ضره، يكفى أن من تلقاء الحاكمين جاء، فالموالاة تكون على الهوية والمعارضة تكون على الهوية لا على ما ينفع ويضر.
الخطاب السياسى والخطاب الدعائى:
ولئن كنا قد أوضحنا تعريفنا للخطاب السياسى إلا أن الخطاب السياسى قد يتخذ أسلوب الدعاية فيصبح خطابا دعائيا قليل المردود من حيث قدرته على الإقناع وليس بالضرورة قليل الفائدة من حيث قدرته على سوق العامة على الانصياع لخطاب السلطة مهما يكن فقير المحتوى متهافت المعانى.وربما نحتاج غلى تعريف موجز لمقصودنا من كلمة دعاية.
عرفت الدعاية بتعريفات عديدة فبعضهم قال (ان الدعاية ما هي الا فن التأثير والممارسة والسيطرة والالحاح والتعبير والترغيب اوالسعى لضمان قبول وجهات النظر والاراء و الاعمال او السلوك) والدعاية هى محاولة(غالبا من مركز سلطة ) التاثير على الشخصيات او السيطرة على سلوك الافراد لاغراض تعتبر غير عملية او مشكوك في قيمتها في مجتمع معين و زمن وهدف معينين وربما تكون ذات أغراض ترويجية تجارية أو سياسية ولكن أسلوبها الذى يركز على الاستمالات العاطفية وربما الإكراه المعنوى لا يتغير فى كل الأحوال.وقديما درسنا أن للسلطة وجهان وجه قسرى عبر القانون ووجه توجيهى عبر النفوذ العلمى والآن اصبح للسياسة أسلوبان للنفاذ أحدهما يتمثل فى القدرة على إستخدام القوة الشرعية وأحيانا غير الشرعية والثانى يتمثل فى القدرة الدعائية.وإستخدام الدعاية المفرط فى زماننا إنما مرده لأزمة الصدقية وأزمة الشرعية.فمن المعلوم أن البضاعة الجيدة تكون بضاعة مزجاة لا يحتاج صاحبها للنداء عليها لتزجيتها وأما البضاعة المشكوك فيها أو غير المعروفة هى التى تحتاج للنداء عليها وأنظر كيف يجهد الباعة أنفسهم آخر النهار بالنداء على بضائعهم غير النافقة. فهكذا يفعل أهل السياسة فهدف الدعاية هو التبرير للسياسات والتصرفات وإضفاء الشرعية
عليها .وطرائق الدعاية تعتمد على الإستهواء أى إثارة مشاعر امشاهد والمستمع والقارىء وبناء إنطباعاته بالإستمالات العاطفية.وأساليب الدعاية إنما تعتمد على بناء قوالب وأنماط جاهزة وتسمية الشىء الواحد بأسماء متعددة وتعتمد الغموض من خلال إطلاق الشعارات والعبارات الفضفاضة وتكرار المعلومات غير الصحيحة وغير الدقيقة لاضفاء الصدقية عليها بالتكرار وإستدعاء أحصاءات غير دقيقة وإستفتاءات غير علمية وإستخدام العبارات الشائعة المستملحة والشخصيات المشهورة والسعى للتماهى مع المزاج العام وليس الرأى العام مع إدعاء أفساح المجال للرأى الآخر وتجشم الموضوعية والتنائى عن الحساسيات الشعبية .ولعل السؤال البدهى الذى يعرض نفسه لماذا يلبس الخطاب السياسى العربى لبوس الدعاية ولا يتخذ سبيل المقاربة الإقناعية ؟ والإجابة بسيطة وهى أن دعائية الخطاب السياسى مرجعها إلى عجزه عن إنشاء تواصل حميم مع الواقع ومع الجمهور الذى يخاطبه ومردها كذلك إلى فقر الأفكار وفقر البرامج الذى تعانى منه السياسة فى العالم العربى وإلى عجزها عن تجديد فكرها أيا كان الفضاء الذى يسبح فيه هذا الفكر إسلاميا كان أم قوميا أم وطنيا قطريا وبالتالى عجزها عن تطوير خطاب يحمل هذا الفكر للكافة.ولاشك أن حالة القطيعة الإجتماعية بين النخب الحاكمة والجماهير المحكومة هى أساس المشكلة.ذلك أن النخبة تعيش حالة طفو فوق الواقع ولذلك فإنها تسعى من خلال الخطاب إلى إصطناع واقع مفترض . ولا يهم كم هى تناقضاته ومفارقاته لوقائع الأحوال . ولكم تختلط العوالم والعبارات والشعارات فى الخطاب السياسى العربى فتأمل على سبيل المثال خطاب الأنظمة القومية الذى يدعو للوحدة ثم تأمل خطابها القطرى المعادى لرفقة النضال من أجل ذات القضية، إنظر الى خطاب بعث العراق وخطاب بعث سوريا والبعوث التابعة لهؤلاء وأولئك ، ثم أنظر لخطاب مصر الناصرية.هذا بشأن القضية المركزية لهؤلاء جميعا قضية الوحدة العربية ثم أنظرغلى خطابهم تلقاء من يصورونه الخصم التى هى أمريكا كيف تكون هى الخصم وهى الحكم فى آن واحد. وكيف تكون هى الشيطان وهى المثال الحضارى فى آن واحد .ثم أنظر إلى خطاب هؤلاء الذى يزعم أن الاشتراكية هى سبيلهم للنهضة والرفاهة وأنظر من بعد إلى سياسات تلك الحكومات وإنجازاتها على صعيد الواقع فالعراق القومى إنتهى عشائرياً وسوريا القومية إنتهت إلى الطائفية ومصر الناصرية إنتهت غلى إستيلاء الجيش على السلطة والمال معاً بلا شركاء ولا حتى أجراء.وأنظر إلى حال الأحزاب اللبيرالية العتيقة مثل حزب الوفد المصرى وكيف لم يبق من ليبراليتها إلا حرية الأسواق، أما حرية المواطن فإمكانها الانتظار. كذلك فإنه حتى الحركات الاسلامية التى يصلها مع الجمهور حبل الدين المتين فشلت هى الأخرى فى الإندماج مع الجماهير الشعبية وفضلت أن تبقى مع النخب المجانبة والمحاربة لها . وهى الأخرى لم تنجز شوطا يذكر فى تجديد فكرها أو تطوير أساليبها . ولذلك بقى خطابها خطاب نخبة وظلت مع بقية النخب فى الطابق الأعلى من المجتمع، بل أن ردات فعل غالب الحركات الإسلامية للدعوات الحقيقية لتجديد الفكر وتطوير الأساليب قد إتسمت بروح شكوكة إن لم نقل روح عدائية تجاه التجديد والمجددين ، وظل الحديث عن التجديد يدور حول قضايا شكلية أكثر منها قضايا مفاهيمية ذات قدرة على تفاعل حيوى مع الواقع الذى إختطفه الأنموذج الغربى فى تفاصيله ومجملاته.ومما لا شك فيه أن أزمة الخطاب السياسى العربى هى أزمة أفكار فى المقام الأول ومالم تشهد المنطقة حقبة تنويرية تتجدد فيها الأفكار ويسود فيها نهج الحوارفسوف يتطاول إنتظار الناس ليوم يبصرون فيه ضؤاً فى نهاية النفق نفق العجزوالإستضعاف و التخلف الحضارى.

الكلام المسهوك....تأملات فى الخطاب السياسى الدارج 3


أجمع كل فلاسفة السياسة أن شرعية نشؤ سلطة حاكمة إنما تبرر بحاجة الناس إليها لدرء الفوضى والنزاعات والدفع الجماعى المنظم للمضار والمفاسد والتضامن الجماعى لتحقيق المصالح وجلب المنافع.بيد أن هذا التبرير النظرى لا يصدقه الواقع فى أحيان كثيرة أو على الأقل ليس فى جميع حيثياته.فلطالما كانت سلطة كثير من الحاكمين تشهياً بهوى الأنفس وظلما وفسادا.وظل الكثيرون منهم لا يجدون تبريرا لوجودهم وإستمرارهم فى السلطة إلا الكلام العفو أو الكلام المكرور المسهوك الذى لايفتقر إلى الصدقية فحسب بل قد يفتقر إلى التماسك اللفظى والمنطقى.
هل الشرعية مسألة خطابية :
رغم غرابة السؤال فإنه يكتسب شرعيته من واقع الحال حيث أصبح الحصول على السلطة والبقاء فيها يعتمد إلى مدى بعيد ليس على ماتفعل الحكومات أو لاتفعل بل إلى ما تقول أو لا تقول.وبخاصة وقد أصبح أهم وسائل السلطات الحاكمة غلى إشهار شرعيتها هى زعمها بتصديها لأخطر المشاكل القائمة ومواجهتها لأهم التحديات المنتصبة سواء كانت قضايا تحرير أو تعمير مثل خطابات التحرر من الإستعمار الجلى أو الخفى أو مناهضة التخلف والفقر وتحقيق العدل الإجتماعى أو تحقيق الوحدة الوطنية أو القومية أو وحدة أهل الملة. وقد أشرنا إلى أن غالب الخطابات السياسية التى تنشد الشرعية إنما تسبح فى هذه الفضاءات التهويمية فى غالبها، على إختلاف فى التركيز بين التيارات المختلفة والمتنوعة.والأمر العجيب أن مثل هذه الخطابات رغم تهافتها اللفظى والمنطقى فى غالب الحال ، أثبت نجاعتها فى حمل أصحابها من الملأ السياسى إلى السلطة وأعانتهم على البقاء بها. وذلك رغم تجارب الشعوب المتكررة مع هذه الخطابات الهواء الجوفاء،الركيكة المبانى المسهوكة المعانى. وحديثنا فى مقامنا هذا إنما ينصب على المنطقة العربية ونحن حلً بهذه المنطقة العربية. والعرب أمة إشتقت إسمها من العُربة والإعراب أى من التعبير والإفصاح وكلمة تعبير هى نفسها حالة إقلاب لكلمة عرب.فاللسان المعرب الفصيح هو أهم صفات العرب.فهم أهل الفصاحة والبلاغة والكلام ، حتى أن إعجازهم وتحديهم كان إعجازا بلاغيا بيانيا فالقرآن قد تحداهم مرارا وتكرارا ونازلهم فى ميدانهم ودعاهم أن يأتوا بسورة من مثله أو حتى بآية واحدة بل لقد أقروا بالعجز إمام بلاغته على لسان الوليد بن المغيرة إذ يقول فى وصف القرآن (والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته) فأمة العرب هى أمة الكلام كانت وما تزال رغم ما أعترى قدراتها الإعرابية والتعبيرية من وهن كما وهن لديها كل شىء فإنها لا تزال تقارب غالب تحديات وجودها بالكلام، ولكن شتان ما بين اليوم والأمس فبالأمس كانت الفصاحة والبلاغة هى الصفة والنعت للعرب وصارت الفهاهة والركاكة هى غالب أمرم اليوم ولايزال ساستها وقادتها يسوسونها بالكلام وأى كلام.ورغم إختلافى مع محمد عابد الجابرى فى أمور وإتفاقى مع فى أمور أخرى فإنه مما يوسفنى الإتفاق معه إلى مدى غير قريب فى خلاصته التى خلص إليها بإن( العقل العربى قد فشل فى بناء خطاب متسق حول أية قضية من القضايا التى عاشتها الأمة فى المائة سنة التى مضت) ولئن كان لى من إستدراك فأقول أن عقل النخبة العربية التى فرضت نفسها على الأمة العربية بمختلف تياراتها قد فشل فى إنتاج فكر وخطاب قادر على التصدى لقضايا الأمة ومعضلاتها فى واقع الحال.فما هى المشكلة؟ هل هى مشكلة خطاب أم مشكلة أفكار؟ أم مشكلة سلوك وأخلاق؟لا شك عندى أن الفشل مرتجعه لخلل فى كل ذلك.فمرده إلى الفشل فى إنتاج الأفكار وفى التعبير عنها برصانة وتدقيق وفى الإلتزام بها والإستقامة عليها.
أهل السياسة العرب من هم؟
قلنا أننا لن نتعرف على الخطاب السياسى قبل أن نعرف من هم أهل السياسة فمن هم أهل السياسة فى منطقتنا العربية؟ هل هم أناس إرتقوا إلى سلم القيادة وتسنموا سدتها بما كسبوا من ولاء عامة الناس لهم وبقدرتهم على إقناع الناس بخطاب يلامس ضمير الناس ويحرك هممهم لمجابهة التحديات التى تنتصب أمامهم؟إن أجبنا بالإيجاب كنا أقرب للكذب منا إلى الصدق.فأهل السياسة فى المنطقة العربية إما شيوخ شعائر قفزوا من زعامة القبيلة إلى سدة الدولة أو عسكريون قفزوا من ثكناتهم إلى قصور الحكم أو مثقفون تحالفوا مع هؤلاء تارة ومع الآخرين تارة أخرى أو معهما كلاهما ليتبلغوا إلى حكم لايستوى فيه الحلفاء والنصراء فى الحقوق مع غيرهم فهؤلاء ليسوا إلا أوليجاركية بلغة إفلاطون ولكنها أوليجاكية جديدة. فلئن كانت أوليجاركية إفلاطون هى مكونة من النبلاء والأغنياء فإن هذه فئة من المتعلمين التى تسمى نفسها نخبة أو صفوة تتميز بالتعليم العالى أو السلطة العسكرية وغالبا ما تتقوى بالنسب والصلات القبلية ثم هى تتقوى من بعد بالمال الذى تحوز النصيب الأوفى منه أما نهباً مباشراً فى غالب الحال أو إمتيازات غير مستحقة. والقرآن أسمى هذه الأوليجاركية (الملأ) فى أكثر من آية.ولئن كانت السياسة أكثر إنفتاحا فى المجتمعات الغربية بحيث يتاح مرارا للعامة التنافس عليها فإن العامى فى المنطقة العربية لن يبلغ إلى السلطة مالم تعلو مرتبته فى السلطة العسكرية ثم يتحالف مع قوى تقليدية عشائرية أو طائفية للبقاء فيها.لذلك فإن الوصول للسلطة لا يعتمد على إقناع فئات الشعب بل إقناع الوكلاء العشائريين أم الطائفيين أو التحالف معهم بعد التوصل إلى السلطة بالغلبة العسكرية.فالخطاب السياسى يتوجه بالأساس للحلفاء لا عبر الجمل والعبارات ولكن عبر الإشارات والتلميحات.ولاعجب إذا أن يكون الخطاب ضعيفاً فى بنيته البلاغية غامضاً فى تأديته للمعانى ولكنه يبقى ناجعاً فى تأمين الوصول للسلطة والبقاء فيها طالما أن الملأ الذى يستند إليه النظام لا يزال متحداً يسند بعضه بعضاًويتبادل المنافع والمصالح بوجه يرتضيه أركانه ويريده سوادهم الأعطم إن لم يكن الجميع.وأعجب ما فى الأمر أن هذه السياسة النخبوية تحوز على رضى جمهور غفير من الناس فيقبلون خطابها ويعززون إستمرارها فى السلطة ولو أخلفتهم الوعد المرة من بعد المرة.فماهو تفسير عدم تفكك شرعية النظم رغم إخلاف وعدها ورغم بؤس خطابها وتهافته من الناحيتين البلاغية والمنطقية ؟هل هو حالة فوبيا من عدم اليقين؟ هل هو فزع من فتن ليلها كنهارها كما نراها اليوم فى الشام واليمن؟ أم هى عقيدة قدرية تؤمن أن الحكام يحكمون بقدر من الله وأنه لا يجوز منازعة أقدار الله والتمرد عليها؟
الخطاب السياسى بين الجدية والإعتباطية:
وسؤال آخر هل يأخذ أهل السياسة خطابهم مأخذا جادا فيتفكرون فى ألفاظ ومعانى ما ينثرونه على الناس من كلام ؟ أم هو حديث عفو مثل المحادثة العابرة لا يعتد بها القائل أو السامع بعد مبارحة المكان؟إجابتى من تدبرى لواقع الحال وملابستى لواقع السياسة أن الخطاب السياسى فى غالبه أدنى إلى الإعتباطية منه إلى التدقيق فى الألفاظ والمعانى. وحتى إذا صيغت جمله وعباراته بلغة رصينة متينة ومعانيه بمنطق فصيح مبين فإن السامع والقائل فى غالب الأحيان يعتبرانه أبن إبانه وموقفه الذى قيل فيه ولا يكون الإلتزام الأدبى أو الفعلى به قويا متيناً. ينبيك عن ذلك كثرة العبارات المسكوكات فيه ثنياه. ومقصدى بالعبارات المسكوكات هى الجمل والعبارات والأقوال والأمثال المحفوظة المكرورة التى يؤتى بها لملء فجوة فى الكلام لتقويته أو لتزينيه.ولغتنا العربية بما لها من تراث تليد فى الأقوال والأمثال والعبارات لا تعجز المقترض ولا ترد المستدين. وكثير من هذه التعابير الجاهزة المعدة للإستعمال فصيح وبليغ وبخاصة الأمثال والأشعار والأقوال الحكيمة ولكن هنالك أيضاً ما يربو على ذلك من العبارات الركيكة والأمثال الرديئة والأقوال التى تقف من الحكمة على الضفة الأخرى . وكثير من الناس ومن أهل السياسة حاطب ليل يجمع فى سلته الحطب النافع مع الثعبان العقور. وأما الموفق من أهل السياسة فسيجد فى لغتنا العربية معيناً ثراً من هذه العبارات الجاهزة التى أصبحت مثل المسكوكات أو الأكليشيهات التى يطبع بالضغط عليه نسخا لا حصر لها ولا عد. وهذه المسكوكات ظلت حية ومتداولة منذ عصر الجاهلية إلى عصور الإسلام وظل بعضها سائراً ودارجاً فى لغة التخاطب العام فى الحياة اليومية والحياة الثقافية على حد سواء. وهى تجىء على هيئة تراكيب لغوية وأبيات شعرية أو عبارات نثرية أو مصادر سماعية وتنقل كما هى وترصف رصفاً فى سياق الكلام.وهذه المسكوكات عند الشخص البليغ كنز ثمين يستعين به على تبليغ المعانى الدقيقة والإشارات الحصيفة. وخير هذه المسكوكات هى الأمثال السائرة التى تؤدى المعنى الدقيق العميق الدلالة بغير تعقيد ولا غموض.والأمثال السائرة إن هى وضعت مواضعها الصحيحة فإنها أداة بلاغية مؤثرة وقادرة على تبليغ المعانى الواسعة أو الدقيقة العميقة .بيد أن الأكثر شيوعا فى لغة الخطاب العام والخطاب السياسى ليست هى الأمثال أو الأشعار أو الحكم وإنما العبارات والجمل واالتعابير الإصطلاحية التى قلما تستخدم فى ما يناسبها من مواضع كأن يقول القائل أنى لا أملك عصا موسى فى التعبير عن إستحالة إنجاز أمر ما.أو يتهم أحدهم الآخر بتعدد المعايير أو مسك العصا من منتصفها أو أن يتهم أحد من الناس غيره بالصيد فى الماء العكر أو بذر الرماد فى العيون.أو عبارة أعطاه الضؤ الأخضر للسماح بعمل شىء.ومثل أن يقال أنظر للجزء الملىء من الكوب أو أن تقول أتحدث من خارج الصندوق أى بغير المعتاد من القول. ولن نستطيع أن نحصى هذه المسكوكات اللفظية التى أصبح الخطاب السياسى متخما بها.ودخل للخطاب السياسى إلى جانب أمثال هذه الإكليشيهات اللفظية عبارات كثيرة ركيكة وهى غير صحيحة صرفاً ونحواً فى أحيان كثيرة ولكن تنتشر(إنتشار النار فى الهشيم) (هذه مسكوكة هى الأخرى ولكننا نضعها موضعها من الكلام)وقد شاعت عبارات فى الأونة الأخيرة فى لغة السياسة حتى أصبحت وكأنها صرعة لغوية مثل عبارة التقييم والتقويم ويقصدون بها التقدير والتقويم وقد لا يعلمون أن كلمتى تقييم وتقويم كلمة واحدة سوى أن أولاهما خطأ شائع.,عبارة سمجة أخرى هى عبارة (الإنجاز والإعجاز) ومثل عبارات أن (الأمر تحت السيطرة )(والضرب بيد من حديد)فإلى أى مدى تفلح أمثال هذه المسكوكات فى توصيل خطاب بليغ مؤثر للسامعين وما أثر نجاحها أو أخفاقها فى فعل ذلك على المشهد السياسى فى بلد ما
،واصل بإذن الله
LikeShow more reactions
Comment

لكلام المسهوك....تأملأت فى الخطاب السياسى الدارج2

ا
د. أمين حسن عمر
كانت خاتمة مقالنا السابق أن الخطاب العربى الدارج هو خطاب بلاغة وليس خطاب إتصال ما يعنى أن إستثارة الإعجاب ببلاغته تبقى أولوية تعلو على مُكنته فى توصيل الأفكار أو تحقيق الإقناع. والخطابة فى أصلها هى فن توصيل المعانى وإستمالة السامع، ولكنها لما جنح بها الجانحون ناحية الصور المتخيلة والأساليب التزينية والمبالغات اللفظية والعبارات المحفوظة،صارت أقرب للدعاية منها للإعلام أو الإقناع . والبلاغة التى مقصدها توصيل الأفكار وتحقيق الإقناع بها جدلية حوارية فى طبيعتها بينما البلاغة التى مقصدها الدعاية محفلية إحتفالية فى جوهرها.
هوية السياسى وهوية خطابه:
لاشك أنه من العسير التعريف بالخطاب دون التعرف على صاحبه، فهوية الخطاب جزء من هوية صاحبه . ومثلما يُتخذ الخطاب ذريعة لتمرير الأفكار فهو يتوسل به للتعريف بصاحبه. وقد يكون التركيز على بناء صورة إيجابية لدى السامع عن صاحب الخطاب أهم فى الأولوية لدى فئام من أهل السياسة إن لم نقل جلهم ، من إيصال اقكار السياسى إليه وتجشم إقناعه بها.وهذا يعنى أن بناء الصورة يأتى عند أهل السياسة وبخاصة فى منطقتنا وبلادنا أولوية فوق كسب إقتناع السامعين بالفكرة. ونعنى بذلك أن خطاب الخطباء من أهل السياسة وإن كان يحمل رسالة ما، و ويحاول نشر فكرة عامة أو محددة مهما كانت بساطتها، لكنهم يهتمون أكثر من ذلك، أو ربما من خلال ذلك، ببناء صورتهم بصفتهم سياسيون أو خطباء أو حزبيون أو تنفيذيون. وهم وإن كانت الرسالة والأيديولوجيا من أهدافهم فهى إنما تُستخدم لتأسيس هوية مفضلة لدى السامعين . فالخطاب السياسى كله يشتمل على رسالة وعلى هوية ولكنما يختلف التناسب والأولوية حسب طبيعة أهل السياسة وطبيعة السياسة السائدة نفسها . فإن كانت سياسة تدبير وإستصلاح برزت الرسالة وتسنمت المحل الأرفع ،وإن كانت سياسة تكالب وصراع كانت الأولوية للهوية ولبناء الصورة الإيجابية عن السياسى ، الأمر الذى لا يتحقق فى غالب الأحوال.
ونحن إذ نتحدث عن الهوية والخطاب الهوياتى لا نتحدث فقط عن الخطاب الفردى والهوية الفردية، بل يشمل ذلك الهوية الجماعية حزبية أو أيدولوجية. فالسياسة المعاصرة أضحت ذات طابع مؤسساتى فالسياسى فى كل حال متحيز إلى فئة حزبية أو سياسية أو أيدولوجية. وهوية الخطاب هى ما ترسم صورة تلك الفئة وما تحدد هويتها بأكثر مما تحدده الأسماء والمقاروالمشاركات العامة . وأما الخطاب السياسى للأفراد المنقطعين ( من يتسمون بالمستقلين) فهو خطاب منقطع مثلهم غير متصل. ذلك أنه خطاب بما ينبغى أن يكون لا خطاب بما يمكن أن يكون. ذلكم لأن طبيعة السياسة أنها ذات صلة بالعمل الجماعى والتدبير المدنى ، ولا يصلح المنفرد المنقطع أن يقوم بأعبائها.ثم أن خطاب المنفرد خطاب معيارى أخلاقى للتحسين والتقبيح لا للإرشاد والتدبير وهو فى غالب الأحوال يجنح للتركيز على تحسين صورة الخطيب بأكثر من التركيز على فكرته. فالمنتمى إلى جماعة بسبب إحساسه بهذا الإنتماء فإنه سوف يتذكر الأفكار التى تصله بالجماعة ولا ينساها، لأنها وسيلته لكسب مودة الجماعة إن لم يكن كسب ولائها. وخطاب السياسى المنفرد هو أشبه شىء بخطاب المنابر الدعوية والدينية الدارجة فى بلادنا.نعنى بذلك أنه معيارى أخلاقى فى أحسن أحواله أو هو متكلف متزيد فى غالب أحواله . ولا يخلو فى أحيان كثيرة من التركيز على بناء صورة إيجابية للخطيب، ولو على حساب إيصال مضامين صحيحة ودقيقة لخطابه الدينى أو التوجيهى والإرشادى. وقد يتداخل الخطاب السياسى والخطاب الدينى المنبرى تداخلاً لايحقق المقصد السياسى من توظيفه فى غالب الأحوال، بينما يؤذى لُحمة التماسك المسجدى والدعوى بغير طائل . وهذا يجلبنا إلى التنبه إلى أن الخطاب السياسى فى منطقتنا بات ينقسم إلى خطابين ، خطاب منطلقاته دينية وخطاب منطلقاته ومرجعياته لا دينية ، وكلا الخطابين له إستمداده وتوظيفه للبلاغة المستمدة من مصادر معرفية دينية. وصار الخطاب يُقسم حسب ميوله نحو المحافظة أو التغيير إلى خطاب يمين وخطاب يسار، ثم أنه صار إلى تقسيم جديد يصنف على أساس أيدولوجى، فما كان إشتراكى النزوع صنف يساراً ، وإذا أبعد النجعة من الفكر الإجتماعى صنف يميناً ، وفى كل الأحوال فإنه تصنيف أدنى إلى الإعتباطية منه إلى المنهجية.
خطاب التدبير وخطاب التأثير:
أوضحنا أن غرض الخطاب هو ترويج فكرة والإقناع بها وتحفيز الناس على العمل بها أو مساندة من يعمل بها . وغرض ذلك كله هو الاستصلاح بمعنى تدبير الأمر العام، بما يتفادى الضرر ويدرءه ويجلب المصلحة والمنفعة وينميها. فالخطاب بذلك ﺣﻘﻞٌ ﻟﻠﺘﻌبير ﻋﻦ اﻵراء وإقتراح اﻷﻓﻜﺎر و تبنى المواﻗﻒ ﺣﻮل اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ . وهى مسائل ﻣثل ﺷﻜﻞ منهج الحكم واﻗﺘﺴﺎم اﻟﺴﻠﻄﺔ وربما إقتراح أطرها والتمييز بين أﻧﻮاﻋﻬﺎ . وقد بينا أن الخطاب اﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﺧﻄﺎب إﻗﻨﺎعي ﻳﻬﺪف إلى سوق السامع للخطاب إﻠﻰ اﻟﻘﺒﻮل واﻟﺘﺴﻠﻴﻢ ﺑﺼﺪﻗﻴﺔ أداء من يخاطبه . وذلكم ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﻮﻇﻴﻒ الحجج والبراهين . ثم هو من بعد كونه إقناعى هو تحفيزى يحرك نوازع العمل والمشاركة فى نفوس المخاطبين ، ويعطى شرعية للمقاصد العملية من خلال التسليم بها ، والمشاركة فى تحقيقها . وهو يعطى فى ذات الوقت شرعية للفاعلين السياسيين عبر إضفاء الشرعية على أفعالهم ومشاريعهم ورؤاهم لحل المشاكل القائمة ، أو الفرص السانحة أوالصراعات المحتدمة والنزاعات العالقة ويضمن تصنيفهم إلى جانب الحق والصواب. والشرعية إنما تكتسب ببناء صورة إيجابية للسياسى. فكل سياسى وإن أتى للسلطة غلبة إنما يسعى لتأسيس أو تأكيد شرعيته السياسية . والشرعية التى نشير إليها ههنا ليست المشروعية القانونية ، فقد يأتى الحكام بصورة دستورية وقانونية سليمة ولكنهم قد يفقدون الشرعية السياسية من بعد لأسباب مختلفة ومتعددة بمفارقتهم لقواعد الحكم الراشد . فالشرعية السياسية تعنى الحق فى تسلم الحكم والإستمرار فيه. وقد كان مونتسكيو بين فلاسفة الغرب هو أول من أشار إلى مبدأ المشروعية القانونية والدستورية ولكن معنى الشرعية السياسية أشمل من معنى المشروعية القانونية، لأنه يشمل إستخدام السلطة وإن جرى التوصل إليها بصورة دستورية أوحتى غير دستورية ، لجلب المصالح العامة ودرء المفاسد العامة . ومفهوم السلطة الشرعية إنما يتبلور من خلال الثقافة السائدة والتنشئة الإجتماعية وهو شديد التأثر بالقيم والأفكار والأخلاق السائدة فى المجتمع . كما أنه يتأثر بمدى تواصل وتأثر مجتمع ما بالمجتمعات الأخرى مقارنة بها أو تأسياً بنماذجها . وكذلك فإن المعارض المتشوف للسلطة يسعى هو الآخر لتأسيس شرعية سياسية لمعارضته ولعرض شخصه وأفكاره وتقويماته بديلاً لما هو كائن وقائم . فكما أن السياسى فى الحكم والسلطة يسعى إلى شرعنة إستمراره بها، فإن السياسى خارجها يسعى إلى إضفاء الشرعية على أفعاله فى معارضة السلطة القائمة دعوته لإستبدالها بما يدعو له من شخوص وأفكار وأحزاب. ولا شك أن الخطاب السياسى يزعم فى كل الأحوال أنه خطاب إصلاح وتدبير، ولكن صدقية هذا الزعم من تحققه فى الواقع أمر آخر، وأما أن غالب الخطاب فإنه يُتقصد به إحداث تأثير إيجابى لصالح رسم صورة حسنة للسياسى . وهو الأمر الغالب الذى لا يمارى فيه إلا مكابر. وكل خطاب من هذه الخطابات إنما يسرح فى فضاء من الفضاءات التى يؤثرها . فبعض الخطابات تتحرك فى فضاء المظالم الإجتماعية وغالب الخطاب الإشتراكى يسبح هنالك. وخطابات أخرى تتحرك فى فضاء مناهضة التخلف وتحقيق التقدم الحضارى وغالب خطابات الإسلاميين كذلك، وخطاب يتحرك فى فضاء الدعوة للوحدة والتوحد سبيلاً للتقدم وهو خطاب القوميين بمختلف أصنافهم.. وخطابات تتحرك فى فضاء التنمية الإقتصادية والسياسية، وغالب تحرك الأحزاب الليبرالية صدقت أو كذبت فى ليبراليتها تسبح هنالك. ولايعنى هذا إن التداخل بين الخطابات لا يقع ولكننا نغلب الأمر الغالب ، فكل مقاربة لتصنيف أمر من الأمور إنما تفعل كذلك. وإذا أردنا محاكمة خطاب الإشتراكيين إلى واقع العدالة الإجتماعية إستبان لها حظ خطابهم من التأثير على واقع الحال . وإذا أردنا محاكمة القوميين إلى واقع حال الوحدة لوضح لنا حظ مجمل خطابهم من التحقق فى واقع الدول والمجتمعات . وإذا نظرنا إلى موقع الأمة المسلمة فى متدرج الصعود الحضارى ومتدارك التخلف لعلمنا حظ خطاب الإسلاميين من التأثير على وقائع الأحوال ، فالجميع يتقاصر كلامهم عن مرامهم . وحديثنا عن فضاءات متنوعة لايعنى أن الجميع لا يجمعهم فضاء واحد هو الفضاء الإجتماعى و الوطنى الذى يشملهم جميعا . وهو فضاء منقسم بين نخبة وعامة ولكل قسم لغته وأولوياته وهمومه ومشاغله حتى لكأننا نتحدث عن مجتمع رأسى من طابقين لامجتمع أفقى يتفاعل فيه المتعايشون ويتواصلون. ولما كان الأمر كذلك فإن ناتجته أن جميع من ذكرنا من أصحاب الخطابات إنما يجمعهم خطاب واحد رغم تنوعه هو خطاب النخبة لبعضها البعض وخطابها للعوام . وخطاب النخبة كله خطاب غربة وإغتراب عن واقع حال الجمهرة الغالبة من عوام الناس.هو خطاب لاترى فيه النخبة إلا نفسها ولا تخاطب إلا نفسها وأما سائر الناس فيستمعون وإن شاءوا فيمتنعون.
نواصل بإذن الله

الكلام المسهوك....تأملأت فى الخطاب السياسى الدارج 1



د. أمين حسن عمر
يقول القائلون أن الحرب أولها كلام، كذلك فإن السياسة أولها كلام، لذلك إن كان كلام أهل السياسة أجوفاً لا يمتلىء ماعونه بالمعانى فأعلم أن فعلهم لن يمضى على طريق الصلاح شوطا طويلاً. والعلاقة بين أساليب الخطاب السياسى ومحتواه وبين أساليب طلب السلطة وكيفية إدارتها علاقة وشيجة عميقة. ثم أنه توجد علاقة قوية بين مستوى الخطاب السياسى وبين حالة الرضا وعدم الرضا عن الحالة السياسية . ولا ينحصر الأمر على مستوى الرضا عن الإنجاز للوعد السياسى فحسب. وحالة عدم الرضا البارزة التى تسم الواقع السياسى عربيا ومحليا مرجعها ليس للحصيلة البائسة للمجهود السياسى فحسب، وإنما جزء غير يسيرمنها مرجعه لبؤس الخطاب السياسى أيضا. فالخطاب السياسى الدراج أصبح خطاباً مكروراً مستهلكا، مسهوك الوجهين قليل العائدة فى سوق الإقناع.
ما هو الخطاب السياسى:
الخطاب السياسى عبارة تتشكل من مفردتى الخطاب والسياسة،فالخطاب ليس محض الكلام والمحادثة بل هو كلام تتوضح به مسألة أو طلب أوقضية ما، وذلكم بقصد إقناع المخاطب بها. يقول الزمخشرى الخطاب هو المواجهة بالكلام أو المراجعة به. ويقول أبن منظور هو مفاعلة من المخاطبة ووالمشاورة والمشاورة تعنى المراجعة بالرأى. والخطاب بهذا المعنى لا يستغنى عنه صاحب قضية قط ، فهو وسيلة لتحقيق مبتغاه أياً ما كان أو يكون ذلك المبتغى. يقول أبو هلال العسكرى(كانت الخطب تستخدم فى إصلاح ذات البين، ولحلفاء الحرب وحمالة الدماء والتشييد للملك، والتأكيد للعهد، وفى عقد الإمتلاك ، والدعاء إلى الله ، وفى الإشادة بالمناقب وكل ما أريد ذكره ونشره وشهرته بين الناس) . فهذا شأن سالف أمر العرب مع الخطب والخطابة . وأما السياسة فهى من تولى الأمر والتدبير، والعرب تقول ساس القوم أى تولى أمرهم لتدبير على الوجه الذى يزعم أنه يصلح ولا يفسد. والقواميس العربية تقول عن السياسة أنها الرئاسة وأنها القيام على الأمر بما يصلحه . وموضوع السياسة عند فقهاء الأحكام السلطانية وحكماءالسياسة الشرعية هو الرعاية والتدبير، ومقصدها تحقيق الإصلاح. ونحن نقرأ فى الكتاب العزيز (وشددنا ملكه وأتيناه الحكمة وفصل الخطاب) فالحكمة هى حسن التفكير وحسن التدبير بوضع الأمور مواضعها التى تناسبها. وأما فصل الخطاب فهو التعبير عن هذه الحكمة بعبارة نافذة فاصلة تقطع كل ريبة وشك ، وتدحض كل شبهة وحجة زائفة. وتأمل العلاقة بين تثبيت الملك وتقوية أواصره وبين الحكمة والتوفيق فى الخطاب. وكيف يقع تثبيت السلطان؟ هل بتقوية الحراسات وتكثير الجلاوزة من الجنود كما ذهب إليه بعض المفسرون أوكما يعتقد كثير من حكام زماننا الذى أبتلينا بهم؟ أم ان تشييد الملك وتقويته يكون بتقوية مقبوليته لدى الناس وإحساسهم العميق بمشروعيته القائمة على حسن القول وحسن التدبير؟ فالعلاقة بين الخطاب وقوة مقبولية وشرعية الحكم القائم لا يخطئها إلا غافل أومتغافل .فهدف الخطاب السياسى هو إقناع المخاطبين ببناء صورة مؤاتية وملائمة للمخاطب إياهم، ولقضيته التى يسعى إلى ترويجها والإقناع بها، وليجد أنصاراً على إنفاذها وإعمالها على واقع الحال. يقول فليب بورتون(الخطاب نشاط انسانى يتخذ أساليب تواصلية عديدة ووسائل متنوعة ويهدف إلى قناع شخص أو جماعة ما بتفهم مسألة ما أو المشاركة فى رأى)فمقصود الخطاب هو إقناع المخاطبين وتوجيههم وحفزهم للتصرف على نحو ما يعزز نهج الحكام، ويدعم المقبولية والمشاركة لإنفاذ سياسيته، أوبخلاف ذلك إن كان الخطاب يراد به معارضة ومناوئة الوضع القائم ، وإفشال سياسته وتقوية المجانبة لنهجه ومبادئه. لذلك يلزم أن نفهم أن الخطاب السياسى رغم أن مقصوده هو الإقناع وأنه جدلى وحجاجى فى طبيعته إلا أنه لايقصد إلى الحوار والجدل . بل هو يريد إنصياعاً فكرياً وسلوكياً من المخاطبين، ويتوسل لتحقيق ذلكم الإنصياع الفكرى والسلوكى بأساليب ووسائل متعدده، ربما منها إستمالات عقلية إقناعية وإستمالات عاطفية وإستمالات تعبوية مثل إستخدام المويسقى الحماسية أو الصور والألوان. وهدفه هو تحقيق الموالاة للسلطة أو المناؤاة لها، فهو خطاب سلطة فى المقام الأول من حيث الواقع المشهود، وإن كان المرام المطلوب أن يكون خطاب حكمة لا خطاب سلطة. وأدوات الخطاب السياسى توسعت توسعا هائلاً مع توسع وسائط التواصل ووسائل الإعلام ففى الماضى كان الخطاب المباشر نثراً أوشعراً أو إنشاداً هو الأداة الرئيسة . بيد أن ثورة الإتصالات والإعلام غيرت ذلك تغييراً كبيراً مما أتاح وسائل ناجعة بأيدى أهل السياسة، ولكن الناس قد علموا من عهد إرم أن السيف لا يقطع، وأنما تقطع اليد حاملته وموجهته للأعناق . والإعلام اليوم بأيدى الحذاق اصبح سلاحاً مرعباً، فهو ﺑﺘﻘﻨﻴﺎﺗه الحديثة ووﺳﺎﺋﻠﻪ اﻟناجعة وﺑﻼﻏﺘﻪ بلغة الكلام ولغة الصورة وبتقنيات الصورة المتحركة قد أصبح المساهم الأكبر فى ﺗﺸﻜﻴﻞ صورة الحقائق والوقائع فى أذهان المخاطبين . بل أن أهل علم الإجتماع باتوا يتحدثون عن ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻟﺮأي اﻟﻌﺎم فى مصانع الإعلام. فهو بات يصنع كما تصنع لعب الأطفال . وأصبح قوة هائلة تؤثر تأثيراً بالغاً فى تراتبية اﻟﻘﻴﻢ وإتجاﻫﺎت اﻟﺴﻠﻮك . ولئن كان الأعلام قد أضحى صنعة، فقد صار هو الآخر صانعاً ، ﻳﺼﻨﻊ اﻟﺸﺨﺼﻴﺎت ويحدد أدوارﻫا ويرسم صورة اﻟﻠﻌﺒﺔ السياسية وﻗﻮاﻧﻴﻨﻬﺎ ، بل يحدد فى الأمراﻟﻐﺎﻟﺐ، ﻨﺘﺎﺋﺠﻬﺎ . ومن صدق شنشنة أهل الأعلام عن موضوعيتهم وحياديتهم فقد أراد أن ينخدع لمن أراد خداعه .الأعلام المعاصر كله أصبح خطاباً له مرئياته وﻣﻮﺟﻬﺎﺗﻪ اﻹﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ. بيد أنه خطاب فى أيدى الحذاق ونحن لانتهم أهل السياسة فى بلادنا وفى الإقليم بهذه التهمة فهم منها براء.
واقع الخطاب السياسى العربى:
وقد وضعنا العنوان الجانبى ونسبناه للعربى وكان بالإمكان أن نقول السودانى أو العراقى أو اللبنانى أو المصرى مع حفظ المقامات فى الدرجات والدركات. فآفات الخطاب السياسى العربى واحدة مع تنوع طفيف. وكله خطاب أيدولوجيا وخطاب سلطة قائمة أو متشوفة، وليس خطاب حكمة ولا حسن تدبير. ونحن فى هذه المداخلات ننوى أن نفحص بعدسة مقربة حال الخطاب السياسى العربى وأوضاعه وتأثيراته السلبية على واقع الحال مع إلتفاتة خاصة لواقع الخطاب السياسى فى السودان . ودراسة الخطاب السياسى يعنى دراسة السياسة.ما يعنى أننا نحتاج إلى تعريف مصطلح السياسة الذى أصبح مضطرب المعنى قائم الصورة فى الأذهان .
ومصطلح سياسة بمعناه الدارج اليوم في حياتنا المعاصرة يختزن المفهوم الغربي لهذه المفردة. وذلك المفهوم يجعل دلالتها الأظهر هي ما يتصل بالقوة والسلطة والدولة. إلا أن التمحيص الدقيق لهذه المفردة في السياق الحضاري الاسلامي يبرز من المعني الدلالات التي تتصل بالتربية والتدبير والرعاية وتحصيل المصالح ودرء المفاسد. يقول ابن منظور:- السياسة القيام علي الشئ بما يصلحه والأصل السوس الطبع والخلق والسجية . وفي قاموس مختار الصحاح السياسة هي الإيآلة يقال آل الأمير رعيته من باب قال أي ساسها واحسن رعايتها . وفي ذلك اشارة لطيفة الي ان الوالي ينظر في ما توؤل اليه قراراته وتصرفاته واوامره . فكأن السياسة في الاصل نظر في المآلات وهذا معني صحيح. وكلمة سياسة الي جانب النظر في المآلات تحمل معني التوسل بكافة الوسائل لتحقيق المقاصد .
ومصطلح سياسة الوارد في كتب التراث الاسلامي لا يخرج عن هذا المعني الي المعني المعاصر الرائج الذي يركز علي امتلاك واستخدام السلطة والقوة. فالمصطلح يرد في كتب التراث جميعاً في سياق تدبير المرء لامر نفسه وتدبير المرء لامر اهله وتدبير الامام لامر الأمة. وقد استخدم الفلاسفه مفردة السياسة لتأدية ذات المعني. فعند الفارابي فى كتاب السياسة المدنية فإن رئيس المدينة الفاضلة هو إنسان كامل صار عقلاًمحضاً وتجرد عن شوؤن المادة وهموم الحياة اليومية، وهو المدبر لشان الامة في المدينة . يقول الفارابي "ذلك لانه مستغرق في الله يستضئ بنوره ويقبس من لدنه العلم الالهي الذي هو مصدر التشريع والتدبير للمدينة الفاضلة. اما الفيلسوف ابن سينا فيقول في رسالة (السياسة) وهو يتحدث عن حاجة الناس للسياسة : أن المجتمع البشري لا يصلحه إلا قيام الحكم والتدبير . والسياسة عنده اصلاح وتدبير يقول : ان كلا العقل والشرع اساس الصلاح فالعقل يكشف العيوب . وكشف العيوب ضروري لاصلاح النفس واصلاح الآخرين. وابن خلدون في المقدمة يكتب عن حفظ الدين وسياسة الدنيا به وكل ذلك مهمة الخليفة الحاكم . وكلمة سياسة عند أبن خلدون هي رعاية الخليفة لمصالح الناس في العمران البشري الذي هو مقصد جميع الناس . والغزالي يمضى على ذات النهج . فالسياسة هي تربية النفس على اخلاق الايمان وحملها علي أصول العدل والانصاف . ويحدد فى غاية الوضوح مهمة السياسة الشرعية في اصلاح نفس الراعي وإصلاح شان الرعية. فالسياسة اذاً في مفهومها الحضاري الاسلامي ليس حيلاً للوصول الي السلطة او استخدامها فى وسوسات و خطرات القلوب او تشهيات النفوس وميولها ، بل هي تدبير الانفس والجماعات والمجتمعات بما يصلحها . لتربيتها علي اخلاق الايمان ودرء المفاسد والمعايب عنها . وجلب المنافع والمصالح إليها والاجتهاد فيما يصلح دنيا الناس وتصلح به آخرتهم في عاقبة أمرهم
وأما الخطاب السياسى فهو فحوى ما تقوله السياسة وتزعم أنها تسعى لإنجازه. وربما يتعسر دراسة السياسة دراسة واقعية ما لم نفهم ممارسيها ما يعنى أنه يتوجب دراسة أهل السياسة للمزيد من فهم السياسة يقول هارولد لاسويل (دراسة السياسة هى دراسة أولى التأثير وتأثيرهم) ويخلص للقول أنهم هم من يأخذون حصة الأسد من كل ما يمكن أن يتقاسمه المجتمع). وإنما مدار السياسة هو العدل . وأقرأ إن شئت (يا داؤد إنا جعلناك خليفة فى الأرض فأحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى). فالحكم بالحق هو الحكم بالعدل بإعطاء كل ذى حقٍ حقه ومستحقة .ما يعنى أنه هو القسمة بالإنصاف وبالسوية. وإتباع الهوى هو إيثار النفس ومن تحب فى هذه القسمة ، فهى قسمة ضيزى يستأثر فيها القاسمون بالنصيب الأوفى، ثم لا يقسمون ما تبقى بمعيار الحق المستحق . ونحن عندما نقرر أن دراسة الخطاب يتطلب دراسة السياسة ودراسة السياسة تتطلب دراسة الفاعلين السياسيين، فنحن نعنى بذلك إتساق الخطاب فى حد ذاته ثم إتساقه مع الممارسة ومع إتجاهات الممارسيين من أهل السياسة. وما ننوى فعله هو من شاكلة ما يسميه ميشيل فوكو بالتحليل التاريخى للممارسات الخطابية. والجزء الأول يقوم بفحص بتحديد الساحة السياسية والفاعلين فيها ووصف أحوالها من تجانس أوإضطراب، ثم تحليل الخطاب الرائج والدارج فى هذه الساحة ، وما فيه من تعارضات وتناقضات ذاتية وموضوعية، والنظر إليه من زاوية الفروق والموافقات، ونسبة كل الذى يجرى إلى البيئة المتشكلة فى وقت ومحل معلوم. ثم نفحص العلاقة بين الخطاب والممارسة وجملة علائقها بالسياق الإجتماعى والثقافة الرائجة. ونحن ههنا نقوم بأمر ليس متردد الحدوث فى البيئة السياسية والفكرية العربية المعاصرة التى تقنع بالإنطباع عن الفحص والتفكيك والتحليل.وأما فى الساحة العربية فإن التفرقة بين الخطبة والخطاب اى بين مايسمى عند الغربين (إسبيش) وبين ما يسمى عند الإفرنجة ( دسكورس) فلا تكاد تعرف. ولذلك فإن كلمة خطاب تحمل سمات الخطبة بتاريخها فى التاريخ العربى المديد التليد. وهى كلام تغلب عليه البلاغة والإستمالات العاطفية والإستعارات الجمالية وإما إتساق معانيه وإستقامة منطقه فيأتى فى الرتبة الثانية فى غالب الأحوال هذا إن أتى على كل حال .
نواصل بإذن الله

السبت، 8 أكتوبر 2016

الأرهاب .. معضلات التعريف والمواجهة 7
د. أمين حسن عمر
يتسم فكر الغلو العنيف بمقدرة إقناعية عالية لا تتأتى إليه بقوة حجته ولا باستناده إلى مرجعيات صحيحة مؤثوقة ، بقدر استفادته من حالة الفراغ الفكري وغياب أية سلطة فكرية ذات إعتمادية لدى غالبية الشباب في عالم الأسلام . فالشباب في العالم الإسلامي ومنهم أيضاً المسلمون في الدول الغربية يعيشون فراغاً فكرياً هائلاً ، وأزمة هوية ثقافية طاحنة . وتفاقم ذلك عدة ازمات أخرى يواجهها الشباب هي البطالة وأزمة الحرية والديمقراطية في بلدان العالم الثالث المسلمة ، والتهميش الاجتماعي وتحدي العولمة الثقافية وقضايا الإندماج الهوياتي للشباب المسلم في الغرب. والشباب المسلم يواجه هنا الواقع الطاحن دون مساندة حقيقية ومؤثرة من أي طرف من مؤسسات الدولة أو المجتمع المدني في بلاده أو في الغرب.
تفكك المرجعيات والسلطات الدينية :
واحدة من أكبر أسباب أنتشار فكر الغلو العنيف هو غياب أية مؤسسية مؤثوقة وفاعلة في مجال التجديد الفكري والفقهي لجعله معاصرا وعمليا قابلا للتطبيق. ولم يكن الحال هكذا حتى في سنوات القحط الفكري والثقافي في تاريخ العالم الإسلامي فكانت هنالك مؤسسات ذات مرجعية وقدر مناسب من المقبولية والموثوقية لدى قطاعات الشباب. وذلك من لدن الجامعة النظامية في بغداد إلى المدرسة الجوزية في الشام وصولاً إلى جامعة القرويين والزيتونة والأزهر وعشرات المؤسسات الجهوية الأخرى . ومئات العلماء حتى في الأزمان المتاخرة بدءاً بندوة العلماء في الهند التي أنجبت أفذاذاً من أمثال الكاندهلوي إلى أبي الحسن الندوي وأبي الأعلى المودودي ، مروراً بالشرق الأوسط الذي أنجب في الأزمان المتأخرة اعلاماً من أمثال الشوكاني والصنعاني من اليمن وجمال الدين الافغاني من افغانستان ومحمد عبده ورشيد رضا الطباطبائي وعلى شريعي من إيران وباقر الصدر من العراق ومحب الدين الخطيب من الشام وأحمد شاكر وأبو زهرة من مصر وابن عاشور والثعالبي من تونس وابن باديس والابراهيمي ومالك بن بني من الجزائر وعلال الفاس من المغرب ولا نريد الأحصاء ولا التزكية ، ولكن هو مجرد تمثيل وحتى ستينيات القرن الماضي كان العالم الإسلامي يحفل بالرموز الفكرية التي يرجع إليها الشباب والمؤسسات العلمية التي ينهلون منها ، ولكن ذلك كله تناهى وأصبحت المؤسسات واهية وضعفت ثقة الشباب بها واختفى العلماء الأعلام إلا قليل ، وحلت الجماعات ذات الصفة الايدولوجية محل المؤسسات . وجلبت تلكم الجماعات معها إلى الساحة الفكرية والفقهية مزيداً من التعصب وقليلاً من الانفتاح . وانحاز فئام من الشباب إلى هذه الجماعة ضد تلكم الجماعة . وبدأ الأمر بالتخطئة المطلقة المتبادلة ثم التفسيق ثم التكفير حتى بلغنا إلى الخوض في الدماء الذي هو المعضلة الكبرى التي تواجه المسلمين اليوم . حيث يقتل المسلمون بعضهم بعضاً ويخرجون فريقاً منهم ليس بالقليل من ديارهم ، حتى صار ما يسميه هؤلاء دار الاسلام تطرد بنيها إلى ما يسمونهم دار الكفر . وترافق هذا التراجع الكبير في الأطروحات الإسلامية المعتدلة مع توسع الجماعات الايدولوجية وتعاظم قدراتها المالية والمؤسسية على استقطاب الأعضاء . وأصبح العالم الإسلامي في مجالاته الفكرية ساحة للتنازع والصراع، مما زاد الشباب حيرة وارتباكاً . وقد بذلت هذه الجماعات جهداً قليلاً لابتدار حوارٍ منتج بينها باللتي هي أحسن ، رغم أنها تقرأ أنه مأمورة بالحوار بالحسنى وبقول التي هي أحسن حتى لمن خالفها في الدين فكيف بمن خالف الجماعة أو المذهب أو الطريقة الصوفية أو السلفية . ولاشك أن التطلع إلى مواجهة مشكلة الارتباك الفكري لن يكون أمراً عملياً ولا ممكناً ما لم تتوصل الجماعات ذات التوجهات الفكرية إلى كلمة سواء بينها . تجتمع فيها على الأصول وتتفق على المقاصد وتصطلح على المناهج ، وتتوافق على احترام الاختلاف في الأمور الاجتهادية التي هي محل لتقديرات قد تتفاوت وقد تتنوع . وتشرع بادارة التنوع الفكري بروية ورشد لأن ذلك أصبح أمراً لازماً كي تُستعاد الثقة في المؤسسات والمرجعيات ، والإ فان الشباب سوف يجذبه الطرح المباشر والظاهري . وقد تتفاقم مشاعر الحيرة والارتباك لديه بما يعانيه من مشكلات وما يشاهده من مظالم وتحيز وعدوان على المسلمين حينما اتجهت منه الانظار.
الأجندات الدولية والحرب على الارهاب:
إن مخافة كثير من الدوائر الدولية من ظاهرة الصحوة الإسلامية وبخاصة بعض مظاهر الغلو العنيف في بعض تبدياتها، قد أدى إلى تفاقم الاسلامفوبيا في الدوائر العلمية والاعلامية والسياسية في كثير من بلاد الغرب وحتى في الشرق غير المسلم . وأصبحت كثير من الدول تنظر إلى الجماعات الإسلامية حتى لو كانت معتدلة بوصفها مهدداً محتملاً لأمنها أو مصالحها الحيوية . واتسع هذا ليشمل الجاليات المسلمة التي تعيش في الغرب بأكملها. وأدى تفاقم الاسلامفوبيا إلى جعل عملية إندماج المسلمين في مجتمعاتهم عسيرة . ففي الوقت الذي تريد تلك المجتمعات الغربية من المسلمين أن يصبحوا جزاءاً لا يتجزأ من نسيجها الاجتماعي والثقافي فإنها لا تثق بهم وتتحامل عليهم . ولا تخبرهم المعاناة التي يجدونها من التحيزات ضدهم سوى إن حصولهم على معاملة عادلة أمر غير قابل للتحقيق . والشباب هم أكثر القطاعات تأثراً بالتحيز ضد المسلمين في أتاحة فرص العمل وسائر الامتيازات التي يتمتع بها كل مواطن آخر لا يشي أسمه أو سمته العام أنه مسلم سواء كان معتدلاً أم غير معتدل راغباً في الإندماج في مواطنة متساوية أو غير راغب.
والأمر لا يتوقف عند أزمة التوافق والاندماج ،وإنما يتجاوز ذلك كله إلى مجمل الخطاب الاعلامي والسياسي الذي يتجاوز التحيز إلى خطاب الكراهية في أحيان ليست بالقليلة . وهو خطاب إعلامى قوي ومسموع ومشهود وله تأثير واسع وأحدى آثاره هي استثارة خطاب مقابل لدى الشباب المسلم هو الآخر خطاب ثقة مفقودة وكراهية موجودة وتتجدد بكل خطاب جديد من الطرف الآخر . ولذلك لزم أن تنشأ المبادرات لفتح آفاق حوار منطقي وموضوعي حول المسائل التي تثير مشاعر التخوف من الإسلام لدى الدوائر الاعلامية والسياسية في الغرب. فالحوار وحده هو دائرة الإطفاء الفاعلة لمشاعر الشك والكراهية المتبادلة المتعاظمة . ولاشك إن الدول والمؤسسات المسلمة والعلماء المسلمون لهم أدوار يتوجب عليهم الإضطلاع بها في إدارة هذا الحوار الداخلي والخارجي لإحتواء ظواهر الغلو العنيف التي باتت تنتشر الآن عبر آسيا وافريقيا وتمتد أثارها إلى كل مكان . ذلك أن الحلول العسكرية والأمنية قد يكون لها أثر آنى ومحلى محدود لأنها العلاج بعد انتشار الداء ، ولكن الحوار وحده هو العلاج الوقائي الشامل. ويجب أن يمتد الحوار لمناقشة أمور كثيرة تتضمن بعضها السياسات الخاطئة والظالمة التي قد تتبناها بعض الدول الغربية ، والتي تعظُم بها بلوى قطاعات واسعة من المسلمين ،مثل الحروب الانتقامية في افغانستان والعراق ، ومثل المواقف المتحيزة من الصراع الفلسطيني الاسرائيلي ، ومثل العقوبات الآحادية التي تفرضها الولايات المتحدة الامريكية لإجبار بعض الدول للتماهي مع رؤيتها السياسية أو مصالحها الحيوية ، ومثال لذلك ما تفرضه الولايات المتحدة الامريكية من عقوبات آحادية تطال أثارها كل الشعب السوداني، ومن قبل أبتلى بها العراق وبلاد مسلمة كثيرة ، ومثل عدم احترام الولايات المتحدة للقانون الدولي الذي تجبر الدول الأخرى على الانصياع له ، وآخر الأمثلة على ذلك هو التشريع الذي خرج من الكونغرس الامريكي بأسم (الجستا ) أو قانون محاسبة رعاة الارهاب ، والذي يضرب بقواعد القانون الدولي عرض الحائط ،فيحاكم الدول أمام المحاكم الوطنية الامريكية . وأعجب ما في الأمر أن المحاكم الوطنية في امريكا قد حاكمت السودان وأصدرت عليه أحكامها بدعوى رعاية الارهاب حتى قبل إصدار هذا التشريع الأخير. أن مثل هذه التصرفات التي لا تستند إلا إلى منطق القوة هي التي تثير الغضب العارم لدى الشباب المسلم . ولئن كانت ردود أفعاله غير محسوبة وغير حكيمة في كثير من الأحيان ، فإن إحتواء ردود الأفعال هذه يتطلب حواراً رشيداً بين سائر الفرقاء فالجميع يشقى بالتنازع والحروب . ولذلك فإن تناصر الجميع على تفاهمات تدرأ النزاعات وتفض القائم منها ، وتدفع الحروب وتوقف الماثل منها أمر بات ضرورياً لسلام العالم بأسره ، لأن العولمة التي سطحت العالم جعلت أعاصيره مهددة للجميع ، فعلى الجميع أن يكفوا عن بذر بذورالريح لأن من يبذر الريح يحصد العاصفة .
انتهى،،،
الإرهاب .. معضلات التعريف والمواجهة (6)
د. أمين حسن عمر
ارتبط الغلو العنيف برؤية سلفية جهادية لها منظورها المخالف لرؤية الجماعات السلفية المعلومة فى المنطقة ، وإن إشتركت معها في بعض المفاهيم . كما أرتبط برؤية جهادية ثورية تشابه رؤى الجماعات الجهادية الإخوانية والمجموعات الثورية ذات التوجه الشمولي في دعوتها للتغيير الإجتماعي والسياسي. ورؤية مجموعات الغلو العنيف للسلفية رؤية ماضوية ترى أن صحة مرئيات السلف تنبع من زمانها لا من حجتها ولا مناسبتها لمعالجة النوازل والمشكلات المعاصرة . وهي ترى أن مذهب السلف مذهب لا تأريخي ، بمعنى أنه صالح لكل زمان مهما اختلفت الأوضاع أو تغيرت الأحوال، وإلى جانب هذا التقديس غير النقدي هنالك نظرة استخفافيه بكل فقه جديد أو رؤى معاصرة لكيفية معالجة معضلات الحياة المعاصرة استهداء بالأصول والمناهج والمباديء الإسلامية. فالمعاصرة التي يسمونها "بالعصرانية" سُبة في وجهة نظرهم و"العقلانية" التي هي التبصر في واقع الحال وملاءمته مع التوجيهات الإسلامية هي أيضاً سُبة وكلاهما العصرانية والعقلانية دلالة لديهم على عدم صدق تدين القائل بهما إن لم يكن نفاقه وموالاته لأهل الكفر والضلال.
التوحيد والجهاد
وقطبا الدعوة السلفية الجهادية هما التوحيد والجهاد . ولأهل الغلو من هذه الجماعات تفسيرهم الخاص للتوحيد وللجهاد. فالتوحيد يُنظر إليه من باب المخالفات لا من باب التمثلات . فالأولى والأرجح لديهم هو مخالفة طرائق أهل الجحيم من الكفار وتجنب كل ما يشبه تلكم الطرائق لا موافقة أهل النعيم والتشبه بفلاحهم. فالأنتهاء عن شبهات الشرك من مثل تعظيم لما سوى الله سبحان وتعالى والتوسل إليه بغيره هو أولى الأولويات. وذلك فقد أحيت الجماعات الجديدة الرؤية المتشددة للأخوان من اتباع محمد بن عبدالوهاب بازاء المخالفات الشركية من تعظيم للقبور والقباب أو التوسل بالصالحين والأولياء أو التقرب أو التزلف لغير أهل الأيمان. ولاشك أن الكفر بمظاهر الطاغوت هي الخطوة الأولى من خطى الأيمان ، ولكن كونها الخطوة الأولى لا يعني أنها الخطوة الأهم . فالأصل هو التحقق بالايمان لأن نفي الكفر بغير تحقق الايمان هو باب من أبواب الكفر. ونفي الشرك دون التمثل والتحقق بمرئيات الايمان هو أيضاً باب من أبواب الشرك. فالأيمان هو الأصل، لأن مراد الله سبحانه وتعالى من الخلق وهو الارتقاء بهم إلى الاخلاق الربانية . ولن يتحقق ذلك لهم إلا بالتعرف والتحقق باخلاق الايمان . ولن يكفي مطلقاً التبرؤ من اخلاق الكفر والجحود فحسب . فالرؤية التوحيدية لجماعات الغلو رؤية سلبية منشغلة بالآخر ، تتحدد مواقفها بمواقفه ، وترهن خطاها بخطواته . ولذلك لا عجب أن تحتل ثقافة التكفير هذا الموقع المهم في تفكير هذه الجماعات . فالكفر الذي هو كفر الآخرين هو الشاغل الأكبر ، وليس الأيمان الذي هو إيمانها . وعندما يأتي الأمر للايمان فالجانب السلبي الذي هو الكفر بالطاغوت هو الأهم لديهم، وليس الايمان العملي بالله رب العالمين بالاهتداء بهديه والتمثل بمطلوباته ومراداته. ومما يؤسف له أن هذه الجماعات هي الأكثر اهتماماً بالكتابة في باب التوحيد ، مما يجعل رؤيتها هي الرائجة ، بينما يسكت جمهور العلماء من أهل الاعتدال الفكري عن شرح وتوضيح فكرة التوحيد التي هي جوهر العقيدة الإسلامية .
الايمان هو الأصل :
التوحيد هو أن نؤمن الله وحده ولا أحد سواه وأنه هو الحق وأنه مصدر ومرجع للخير والجمال والجلال. ولذلك فإن جوهر الحياة هي رحلة عرفان وطلب لله سبحانه وتعالى "يا أيها الانسان إنك كادحٌ إلى ربك كدحاً فملاقيه" وهي لقيا عرفان بالتعرف على الله سبحانه وتعالى بما عرف به نفسه ،والتقرب إليه بتحقيق مراده منا ،لأن مراده منا هو لأجلنا لا من أجله سبحانه ، فهو الغني عن كل ما سواه ولو اجتمع الخلق جميعهم على مخالفة إمره والكفر به ما نقص ذلك من ملكه من شيء . والكفر هو مخالفة سبيل الحق الذي هو صراط الله المستقيم . ومخالفة مرادات الله من خلقه التي بها سعادتهم في الدارين . ولذلك فإن الأصل هو الايمان وإما الكفر فهو الضلال عن طريق الايمان . وهذه الرؤية الايمانية للتوحيد هي التي ستجعل الكفر أمراً ثانوياً جانبياً ، ويصبح التكفير قضية ثانوية أيضاَ . فالتحقق بالايمان إنما هو في جوهره ارتقاء بالإنسان ليكون ربانياً في أخلاقه رحيماً كريماً عادلاً رؤوفاً حليماً ، لأن الديانة ما جاءت إلا رحمةً للعالمين ، رحمة للإنسان ، ورحمة الإنسان لبني جنسه وسائر المخلوقات الأخرى . وعندما يصبح الايمان هو مركز الوجود وتصبح الرحمة هي جوهر الايمان فحينئذ يتبدد التشدد والغلو . وتحل الرحمة والرأفة محلهما ،رحمة عامة بالعالمين لا رحمة بالمسلمين وحدهم . ولذلك لا يصبح الكفر حاجزاً بين المسلم والكافر بل الدعوة بالتي هي أحسن هي الصلة وهى خطاب المؤمن للكافر وهي ليست دعوة باللسان فحسب بل باللسان وبالأسوة الحسنة والسلوك الكريم. أما الكافر المحارب فيُحارب لأنه محارب لا لأنه كافر . والكافر المعتدي نعتدي عليه كما أعتدى علينا والله لا يحب المعتدين . وأما أولئك المسالمين من غير أهل الإيمان فأصل العلاقة معهم هي البر والقسط "لا ينهاكم الله عن اللذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" . فالله يحب المقسطين ولا يحب المعتدين ، ولئن كان الكفر يمثل إعتداء في حد ذاته فهو اعتداء في حق الله سبحانه وتعالى . وقد شاءت مشيئة سبحانه في حق الكافرين الارجاء والامهال لعلهم يرجعون . فلا يحق لأحد أن يعتدي على كافر لمجرد الكفر وقد أمهله الله سبحانه وتعالى ، بل وأمرنا بامهاله " وإن إحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله تم أبلغه مأمنه" يقول الطبري إنما ُشرع أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله وتُنشر دعوة الله في عباده. وكيف يُرجى لدعوة الإسلام ان تنتشر ان كان حكم الكافر ان يقتل لكفره لا لعدوانه وحرابته . وتستشهد جماعات الغلو بآيات مقيدة باحداث معينة وأهل شرك معلومين هم مشركو العرب الذين تربطهم أواصر النسب بكثير من المسلمين حتى يكاد البعض يواليهم على حساب ولاء الاسلام ، وعندما يستشهد أهل الغلو العنيف بأية سورة براءة "فاذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم واحصروهم وأقعدوا لهم كل مرصد فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلو سبيلهم" . أو آية "يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليحدوا فيكم غلظة" فكأنهم لم يقرأوا "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" . يقول صاحب التفسير : وأمرهم تعالى ذكره بقتال من كان منه قتال من مقاتلة أهل الكفر دون من لم يكن منه قتال، لأنه أباح الكف عمن كف فلم يقاتل من مشركي أهل الأوثان والكافرين عن قتال المسلمين ومن كفار أهل الكتاب.
وقد صارت عقيدة البراءة من الكفر التي بلورها الأمام أبن تيمية فيما أسماه الولاء والبراء أصبحت عقيدة لبعض أهل الغلو والتشدد . فكأنها أصل من أصول الايمان وعلا مقدارها عندهم أكثر من مقدار وجوبية الدعوة لله التي هي ثلث الايمان. فكيف تجانب الكافر المُسالم وتحاربه ثم تزعم أنك تستجيب لنداء الله " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن" . وهل ينفتح أصلاً باب للجدل إذا سبقه في الانفتاح باب الكراهية والاقتتال . ان سكوت جمهور العلماء عند مجادلة أهل الغلو في ما يسمونه عقيدة الولاء والبراء هو واحد من اسباب تعاظم ارتباك الشباب وبخاصة وهم يرون في كل يوم الظلم والتحامل الذي يقع على المسلمين. وقد اتسعت نزعة المجابنة والمحاربة لغير المؤمنين لتشمل بعضاً من أهل الايمان الذين توسع أهل الغلو والتشدد في تكفيرهم بسبب الآراء الاجتهادية . فبعد أن أحال هؤلاء كل رأي اجتهادي للسلف إلى أمر قطعى وجعلوا كل ناقش ذلك الرأي أو ناقضه فاسقاً أو منافقاً أو كافراً ، جاءوا من بعد ذلك بفتوى عجيبة يوسعون بها القتل لأهل الايمان وهي أن وصموا من خالف رأى من أراء السلف بالردة والكفر وزعموا أنه أولى أن يحارب قبل الكافر الأصيل. وهكذا ينقص الايمان بايقاف الدعوة واعلاء القتال كما ينقص بتكفير المؤمنين بأوهى سبب وأدنى تعلة فلا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
نواصل
الإرهاب ... معضلات التعريف والمواجهة (5)
د/ أمين حسن عمر
ظاهرة ما يسمى بالإرهاب هي ظاهرة فوضى فكرية تتمظهر في فوضى ذات أبعاد إجتماعية وسياسية وأمنية خطيرة، باتت دول عريقة تنهار بآثارها وتفكك مجتمعات كانت بالأمس آمنة ومستقرة، وتكاد منطقة الشرق الأوسط بأثرها يعاد تشكيلها جغرافياً وديموغرافياً بالتحولات العظمى التي تنشئها هذه الزلزلة وتوابعها في المنطقة . بيد أن القليل من الجهد هو المبذول لفهم الظاهرة في أبعادها الفكرية والنفسية لتدبير مواجهة شاملة تبدأ بالإحتواء ولا تنتهي بالملاحقات الأمنية والعسكرية بل بالحصانة الفكرية ضد كل فكرة متفجرة.
المناجزة الفكرية للإرهاب
يكاد الجميع يدرك ويقرر أن الحرب على الإرهاب يجب أن لا تقتصر على المواجهة العسكرية الأمنية . وقد إنتظمت قمة لمكافحة الإرهاب دعا لها الرئيس الأمريكي باراك أوباما في واشنطن شهدتها سبعون دولة وكان التركيز فيها على مواجهة الإرهاب في الشبكة الدولية والإعلام . كذلك فإن الجهود التي تقودها المملكة العربية السعودية في إطار التحالف الإسلامي ضد الإرهاب قد قررت إقامة مؤسسة فكرية للحرب على الإرهاب. لكن الجميع يقر أنه ومنذ أن أعلنت الولايات المتحدة حربها على ما تسميه الإرهاب أثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2011م فإن الفكر التكفيري المستقطب لآلاف الشباب من شتى أنحاء العالم بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها قد توسع توسعاً عريضاً. وأن حربي أمريكا في أفغانستان والعراق كانتا اثنتين من أسباب تحفيز إنتشار الفكر التكفيري وتوسع ثقافة الكراهية فى العالم بأسره. فلئن كان الشباب المسلم الحانق قد دفعه الغضب واليأس تلقاء مزيد من التجاوب مع الخطاب التكفيري ، فإن ثقافة التحيز ضد المسلمين في الغرب وبخاصة في أوساط الإعلام والسياسة قد توسعت هي الأخرى . وتضاعفت جرائم الكراهية ضد المسلمين أضعافاً مضاعفة . ويدرك العقلاء جميعا إلى أين ستقود ثقافة وخطاب الكراهية العالم بأسره. لذلك فالحملة الفكرية للتعامل مع ظواهر الإرهاب وتوابعها يجب أن تشتمل على جهود منسقة شاملة تنظم تنتظم كل العالم يتوجه بعضها للشباب المسلم المتأثر بالتأويل الخاطيء للنصوص الإسلامية وبالصورة الشائهة للآخر . وكذلك يجب أن تتوجه إلى أولئك المتأثرين بثقافة الكراهية للإسلام والمسلمين . فإن أقوالهم وأعمالهم تصب الوقود على الظاهرة بدلاً من أن تعين على التعامل الرشيد معها . ولا شك أن محتوى خطاب الجماعات الغالبة الضيقة يُعطي صدقية عندما تمكنه الإشارة إلى توسع ظاهرة الإسلاموفوبيا وإنتشار جرائم الكراهية ضد المسلمين في المجتمعات الغربية.
بيد أن الاجماع حول ضرورة الحرب ضد الغلو العنيف لم تثمر إلا النذر القليل. ذلك أنها لا تهتدي برؤية موحدة شاملة للظاهرة، بل لا تتفق حتى على تعريف ما يسميه الغرب الإرهاب ونؤثر تسميته (الغلو العنيف) ولا تقارب أبحاثها الجذور الفكرية والمحاضن المذهبية لأفكار الغلو العنيف . وقد قادني الإطلاع الواسع على هذه الجهود الفكرية إلى خلاصة هي - أن جميع هذه الجهود لن تنجح في إقناع قطاعات واسعة من الشباب – لأنها لا تبدو مؤهلة لكسب ثقته من ناحيتي الموثوقية العلمية والأمانة الأخلاقية العلمية. وقد إنهمكت بعض الدوائر السياسية ودوائر الجماعات الدينية بتبادل الإتهامات كلً يرمي الآخر بأنه منبع أصيل للفكر الغلو. وأصبحت هذه التهمة متبادلة بين الطائفتين السنية والشيعية. فالسنة يتهمون الشيعة ومخابرات دولة إيران بصناعة أو اختراق هذه الجماعات المتشدده . والشيعة يزعمون أن المحضن الفكري والمذهبي لهذه الجماعات هي الرؤية المذهبية السائدة في المملكة العربية السعودية والشيعة أنشط في السعي بهذه الدعاية في الأوساط الغربية التي تتجاوب معها بسالفة التحيز الفكري والإسلاموفوبيا.. وكذلك فإن بعض الجماعات السلفية ترمي الجماعات الإخوانية بالتهمة ، وبعض الجماعات الإخوانية ترمي الجماعات السلفية بالتهمة . والجميع لا يقتربون من التشخيص الصحيح للقضية، فالظاهرة في بعدها الفكري مثلما هي أية ظاهرة فكرية نتاج تفاعل وتداخل أفكار متعددة منها ما هو متأثر بأفكار موروثة وأخرى معاصرة ، بعضها يعود للفكر السلفي ، وبعضها للرؤية السياسية الإخوانية للواقع المعاصر، وبعضها متأثر حتى بأفكار غربية ذات طابع ثوري شمولي، فلا فائدة من المبارزه الجانبية بين المذاهب والجماعات . وإنما يجب التركيز على فهم المشارب الفكرية لظاهرة الغلو المعاصر . وهي وإن أشبهت بعض ظواهر نشوء جماعات متشددة في الماضي مثل الخوارج أو القرامطة، فإن إعتبارها إمتداداً لذات الأفكار وكأنها سليلة لتلكم الجماعات خطأ ينأى بنا عن التشخيص السليم للحالة الراهنة.
دراسة المحتوى الخطابي للغلو المعاصر
يفتقر الخطاب المنتسب لجماعات الغلو العنيف بالفروعية وغياب الرؤية الكلية الأصولية . فهو مجموعة فتاوي وتفاسير لآيات وأحاديث متناثرة لا تنتظم في رؤية شاملة لمراد الدين في تفسير ظاهرة من الظواهر أو علاقة من العلاقات بين الأفراد والجماعات. وهي بذلك تبرز واحدة من أزمات الفكر الإسلامي المعاصر ، وهي فروعيته وجزئيته. ويصبح الدين لدى هؤلاء الشباب جمهرة فتاوي وأحكام آمرة ناهية مثلها مثل صيحات الآمر العسكري الذي يصرخ في جماعته أفعلوا أولا تفعلوا . وبذلك لا تفهم الجماعات من خلال هذه الأوامر إلى أين يمضي المسار بها وإلى أي مقصد أو غاية ينتهي. وهذه الفروعية والجزئية في الفهم تقود إلى ظاهرة فكرية أخرى هي الظاهرية، أي أن الأوامر الدينية والأحكام تبدو وكأنها لا تحتاج إلى تفسير أو تأويل، وإنما تفهم على ظواهرها. بينما الأصل في كل شيء وفي كل خطاب أن له ظاهر وباطن . وهؤلاء يقرأون آية سورة آل عمران ويمرون عليها مرور العابرين " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وآخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إبتغاء الفتنة وإبتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا ألو الألباب" يقول ابن كثير في تفسير الآية آيات محكمات أي بينات واضحات الدلالة لا إلتباس فيها على أحد من الناس، ومنه آيات أخر فيها إشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن رد ما إشتبه عليه إلى الواضح منه وحكم محكمه على متشابهه عنده فقد إهتدى. وهو يقول أن التأويل الذي هو عمل الراسخين في العلم ، إنما يكون بجعل الآيات المحكمات مراجع لفهم ما تشابه من الآيات. والتشابه في اللغة أمر لا معدى عنه ، لأن اللغة تعمل بوسائل الإشارات والدلالات والإيماءات ويتطور المفهوم فيها بتغير الأحوال والانساق والمساقات. وقد خاض المفسرون وأهل اللغة في موضوعات التشابه اللغوي المتأتية من إستخدام التشبيهات والكنايات ودلالة العبارة ودلالات الإشارة ودلالة الوقف والإتصال . وتوسعت تلكم العلوم في زماننا هذا توسعاَ هائلاَ ، فأصبح للغة علوم لسانيات تتوسع يوماَ بعد يوم، وتمكن بتوسعها الدارسين من فهم غوامض دلالات التعابير اللسانية والنفسية على حدٍ سواء.
الآفة الظاهرية :
والظاهرية في الدين هي أكبر إنحرافات الفهم له، ذلك أنها تحيل الدين إلى طقوسية بلا معنى ولا مقاصد . فيكون إعتبارها للمباني لا المعاني ، وتعويلها على الألفاظ لا على دلالة الألفاظ ، وعلى قوالب ومظاهر العبادة لا على نياتها التعبدية ونفعها العاجل والآجل. ولا شك أن حفظ النصوص المتعلقة النازلة واستظهار الآيات والأحاديث أمر يسير لا يحتاج إلى أن يكون المرء راسخاً في العلم كما هو الشأن في الفقه والتأويل . ولذلك فقد تكاثر أهل الفتوى في تلكم الجماعات وما يُشابهها، ، فكل حافظ للقرآن ومستظهر لطائفة من الأحاديث عارفٍ ببعض أخبار سيرة مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنف عاجلاَ من أهل الرسوخ في العلم ، وهو لا يعدو سابحاً في طافيا في سطحه محروم من أدوات الغوص في أعماقه لاستجلاء غوامضه وسبر أغواره واستخراج لؤلؤات المعاني منه.
وكذلك ان عاهة الفكر الظاهري وآفته الكبرى هي افتقاره للأصولية والمقاصدية . ولابد لكل فكرة من أصل كلي ترجع إليه ، فيكون مرجعيتها ، وإلى مقصد تتجه إليه فيكون غايتها التي يُنتفع بها في العاجلة والآجلة. ومع إفتقار الظاهرية الجديدة للفهم الأصولي والمقاصدى إفتقرت للوعي الديني الشامل . والأصل في الدين أنه وعي بالواقع يتصل بالمرجعيات والمقاصد . وإلا صار تقليداً أعمى مثل تقليد الشيعة لمراجعهم بغير فهم أو بصيرة ، أو تقليد غلاة السلفيين للسالفين من أهل العلم بغير فهم ولا إدراك. وكلا الطرفين يحسب أن كل فكرة متجددة في تأويل النصوص كيما يفهمها فهماً معاصراً متصلاً بالواقع هي بدعة وفتنة إن لم يذهبوا في تعجلهم إلى تكفير صاحبها أو أصحابها وإخراجهم من الملة ضربة لازب.
ومما مكن وسهل وساعد على إنتشار هذه الفوضى الفكرية من الأسباب هو غياب المؤسسات العلمية ذات المرجعية . فقد صار أمر السلطات العلمية إما إلى تماهي مع السلطة السياسية، وهذا غالب الحال وهى سلطة لا تحظى بثقة ولا مقبولية الجمهور من شعبها كذلك فى غالب الحال ، أو إلى معارضة ومناجزة تُخشى عقابيلها. وقد صار شأن مؤسسات مثل الأزهر والزيتونة والقرويين إلى أن صارت توابع علمية للنظام السياسي وفقدت صدقيتها العلمية لدى الجمهور . ونشأت في مقابلها جماعات دينية مستقلة أو معارضة يُفتي كلَ منها حسب ما تعتمده الجماعة فصارت وكأنها مذاهب جديدة . ولكن بغير المعايير الضابطة المضطردة التي تتميز بها المذاهب المعلومة. والأنكى من ذلك أن هذه الجماعات قد تحولت إلى ما يشبه الأحزاب السياسية في علاقتها التنافسية ببعضها البعض، ومنعها التعصب الذي يبديه البعض منها تلقاء البعض الآخر من أن تحوز على ثقة الجمهور الواسع ، بل أصبحت وكأنها مذاهب خاصة بأعضائها وحدهم، وأدى ذلك إلى تبعثر الأطروحات وتشتت المبادرات الفكرية، بل وتناقضها في كثير من الأحيان مما أدخل الشباب الناشيء في قدر غير يسير من الحيرة والإرتباك.
نواصل......