الأربعاء، 12 ديسمبر 2012

الفكرة المتفجرة



أحداث محاولة الإنقلاب في الخرطوم، وحدث معركة الدندر مع جماعة من السلفيين الجهاديين حدثان يطرحان أسئلة مهمة حول  التطور الفكري والسياسي في بلادنا. فظاهرة الشرعنة الاخلاقية للعنف قد أنتشرت إلى مدى يهدد الإستقرار إلى أمد طويل. والظاهرة ليست بارزة في السودان فحسب، بل أنها توطنت منطقة الحوض العربي الإسلامي بأسره من أفغانستان مروراً بالعراق ولبنان وسوريا ومصر وليبيا وتونس والجزائر إلى مالي والمغرب الكبير. وأطرافها كل التيارات الفكرية والسياسية من أقصى اليسار إلى تلقاء السلفية الجهادية.
ثقافة العنف .. ثاوية أم مستزرعة:
        من أين يستقي هذا التعانف الأهلي مشاربه هل هي مسائل ترتضع من نسغ نبع أسلامي الجذور كما تزعم الدعاية الغربية المناهضة للاسلام المروجة للاسلامو فوبيا والناشرة للكراهية للاسلام ورسول الاسلام وأهل الإسلام؟ أم هي نبت مستزرع من ثقافة الافناء وأبادة الشعوب شرقاً إلى استراليا وغرباً حتى أمريكا وأمريكا اللاتينية. والتى هى ثقافة محاكم التفتيش والحروب الصليبية والإضطهاد الديني والعرقي الأعرق في مشارب الثقافة الغربية المعاصرة. والإجابة هى أن العنف الفكري ليس إلى عقيدة الإسلام بسبب ولا نسب. فأداة ترويج الفكرة والعقيدة في الإسلام هي الدعوة. وتأمل في مفردة الدعوة كم فيها إحترام لكرامة الإنسان واستقلال ارادته ورأيه وقناعته . هى دعوةٌ إلى مأدبة الرحمن فمن شاء فليأت ومن شاء فليعتذر "لا أكراه في الدين قد تبين الرشد من الغى ) (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" "لست عليهم بحفيظ" " لست عليهم بوكيل" "أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا باللتي هي أحسن" "أنا أوأياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" "قل لا تسألون عن ما أجرمنا ولا نسأل عن ما تعملون" هذه بعض مقتبسات من الأدب الألهي لترويج الفكرة. ولا يصلح لترويج الفكرة سبيل آخر. فالفكرة ليست إلا علاقة ثلاثية بين الإنسان والكون والحياة. فهي إذاً مسألة وجودية غير قابلة للاستزراع الجبري. وإذا شاء بعض المتجبرين أن يأطروا بعض الناس على اعتناق أفكارهم باستخدام العنف والقوة فان الكفر لا الفكر هو محصلة الاجبار . ولئن كان الفكر هو الإضاءة الساطعة على الواقع فإن الكفر هو تغطية الفكر وتغطية الواقع بغشاء من الرفض والكراهية. والقرآن يحدث عن مثل هذه الظاهرة عندما يقول "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً" فرفضهم ناشيء من بطر الحق والاستعلاء على أهله والإقامة على الظلم . وأما الفكرة فواضحة جلية أمام سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم . فهؤلاء هم من يوصوفون "لهم قلوبُ لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون"
        منهج القرآن في نشر الأفكار هو مداواة النفوس من دنفها والقلوب من مرضها وتفتيح الأبصار والاسماع بأزالة غشاء الهوى ووقر التعصب. ومنهج القرآن لنشر الأفكار هو منهج المعرفة والعرفان والتعارف . فالمعرفة هى مصباح العرفان يهدى إلى الدار المظلمة . وما لم يُفتح له الباب المؤصد المخفور بجلاوزة الشك والريبة والخوف الدفين فليس الى دخول من سبيل . والدعوة هي أن تطرق الباب بالكياسة واللطف وأن تقول لصاحبها"قولاً ليناً لعله يذكر أو يخشى" والدعوة أن تخاطب الناس بأحسن مما يتوقعون وأن تصبر على ما يفترون.


آفة الفكرة حاملها:
        وللأفكار المطابقة للحقائق والوقائع قوة نفاذ ذاتية للفهوم وللشعور ما لم تتصدى لها الأفئدة بالممانعة والعقول بالمعاندة. ولا يحرك ممانعة القلوب ولا معاندة العقول مثل استعلاء حامل الفكرة على المحمولة إليه . وليس ثمة استعلاء فوق محاولة الأكراه والاجبار . وليس ثمة استعلاء مثل أن تقول للناس ما لا تتمثله "كبر عند الله مقتاً أن تقولوا ما لا تفعلون) .  وكأنك تقول للناس أنتم بحاجة إلى ما أنا غني عنه. ومن يفعل ذلك إنما يُحسن الظن بنفسه ويسيء الظن بالناس . ولكن تعاليم القرآن تعلمنا بغير ذلك . فاساءة الظن  بالنفس باب من أبواب الرقائق عظيم. لأنها تجعل صاحب الفكرة محاسبياً يحسب الخطى قبل أن يخطوها ويحاسب النفس على الخطى التي مشاها . أما أصحاب الدعوة في زماننا وناشرو الفكر في أواننا فجلهم لا كلهم (بحمد الله ) فبخلاف ذلك. فهم يدخلون الباب على الناس عنوة ويُسمعون الناس من القول أشده وأغلظه . ويُحسنون الظن بأنفسهم حتى كأنهم ممن طُهروا تطهيرا ويسيئون الظن بالناس . ولكأن الناس قد أنقسموا إلى فسطاطين فسطاط الفساق وفسطاط الكفار . وكل مستور الحال عندهم متهم حتى يسلم لهم بالحق الذين لا يرون من ورائه إلا الباطل.
        لأجل ذلك فان أولى الناس بالدعوة في هذا الزمان هم أهل الدعوة. ومن لم يبدأ بنفسه لمحاسبتها ومراجعتها فليسوا أهلٌ لتذكير الناس أو تبصيرهم. فلينظر أهل الفكرة والدعوة إلى حالهم اليوم فطائفة منهم تساير أهل السلطان بنصح قليل ومدح كثير ، وطائفة تجانبه استكباراً وعلواً . وطائفة تُجهل المجتمع بأسره وتضلله وطائفة أخرى تكفره . ولكننا نحمد الله على الطائفة الصابرة المرابطة المستعينة بالله على أنفسها وعلى خلقه . والتي نرجو أن يفتح الله لها وبها فتحاً لأهل الإسلام فيكثر علماؤه ويعدل أمراؤه وتستقيم جماعته على الجادة وعلى الصراط المستقيم.

الفكرة وتغيير ما بالناس:
        لاشك أننا نعيش في زمان ضُعف فيه شأن المسلمين وهان . فلا غرو أن امتلأت نفوس الشباب ذوي الهمم بالموجدة والغضب . ولكن شتان ما بين الغضب الذي هو من نفث الشيطان ومن فيح جهنم وبين الغيرة للحق وبالحق. حُق لشباب المسلمين الصاعد أن تمتليء نفوسهم بالحسرة والخيبة . ولكن المؤمن الحق لا يستسلم لخيبة الأمل وتناهي الرجاء بل أنه يستمد من روح الله الذي لا ييأس من روحه إلا القوم الكافرون أملاً ضخماً ورجاء عريضاً لنهضة وشيكة ترودها عزائم الرجال والنساء.  ابتداءً من تغيير واقع النفوس إلى تغيير واقع الحال. ولابد لأهل الإصلاح والتغيير أن يبصروا بمقاصده وأن يدركوا  سننه وسبله وأن يمسكوا بذرائعه. وأول التغيير هو تغيير ما بالنفس ولا يغير ما بالنفوس مثل المعرفة . فالمعرفة المعتادة تنشيء وتدُيم الواقع المعتاد. والمعرفة الجديدة تنشيء وتقيم الواقع الجديد المطل على المستقبل بالفأل الحسن. وكما أن حبة الدواء الواحدة تنشيء ممانعة بالجسم لتغيير واقع المرض فإن الفكرة الواحدة تنشيء سلسلة من الأفكار تبرئ سقم الأفئدة والألباب فتعود لتزهو بها الحياة من جديد.
        ولن نستطيع أن ندرك ذلك حقاً حتى نعرف كيف تتفاعل الفكرة والنفس والواقع المحيط. فالعلاقة بين الفكرة والشعور والواقع علاقة تماس وتفاعل وتكامل. وهي أعمق كثيراً من يظن بعض الناس ويحسبون، وأبعد وقعاً وأثراً. وأفضل تمثيل تشبيهي لهذه العلاقة هو الانسان نفسه "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" . فالعلاقة بين حركة الفكر وحركة الشعور (السايكولوجيا) وحركة الأعضاء والخلايا (الفيزولوجيا) تعرض أفضل أنموذج توضيحي لحركة الفكر والواقع . وهي علاقة مثل علاقة البيضة والدجاجة لا تستطيع أن تجزم بأيهما كان المبتدأ . فأن شئت ان تبدأ بالفكرة فهي تتولد من معطيات واقع ماثل وواقع مختزن وواقع متصور . فهي تصوير لعلاقة الفكر بالزمن الحاضر (الواقع الماثل) والزمن الماضي (الواقع المختزن في الذاكرة) والمستقبل (الواقع المتخيل المتصور). والفكرة تتعرف على الواقع المعاش من خلال التحسس بالسمع والبصر وسائر الحواس ثم من خلال التدبر (إدارك علاقة الأشياء والأحداث ببعضها البعض ) ثم من خلال التذكر (إدراك علاقة أحداث الراهن بأحداث الماضي الدابر ) وكذلك من خلال التخيل وهو وصل أحداث الراهن والماضي بمآلاتها المتصورة ومصائرها المتوقعة. وكل ذلك لا يستغرق إلا برهة لا تكاد تحتسب من الزمان . وعبر هذه الصيرورة يتصل الشهود الحاضر بالغيب الماضي والغيب الآتى فتتولد الفكرة . وعندها يخفق القلب ويتدفق الأدرانالين ويحرك المشاعر حباً أو بغضاً أو خوفاً أو اطمئناناً أو حماسة أو خشية . ويتولد النزوع للفعل فينقل صاحبه من الهدوء الى الثورة ومن الحزن الى الفرح، ومن اليأس إلى الرجاء. فاذا تغير الحال بالمعرفة تغير الفعل . ولاشك أن الفاعلية هي التي تحدد الواقع أو تعيد أنتاجه من جديد. فالفكرة المعتادة لا تلد معرفة جديدة فلا يتولد بها فعل جديد ويمضى الحال على حاله بل ينزلق إلى أسوأ من حاله لأنه من سنة الحياة أن ما لا يتحرك يجمد وما يجمد يموت أو  يتفتت.
الفكرة المتفجرة والفكرة الخلاقة:
        فاما الفكرة الخلاقة فهي الفكرة التي تتعلم من "الله أحسن الخالقين" . فهي لا تقتأ في  تأمل وتدبر كما أمرها خالقها وخالق كل شئ . وهي بذلك في تجدد مستمر يحاكي تجدد الجسد المستمر في دمائه وذراته وخلاياه . وأما الفكرة الهدامة فهي تلك الفكرة التي تجمد تحيزاً أو تعصباً أو وجلاً أو خوفاً. ولئن كان التحول في الواقع هو ما يحرك الفكر والتحول في الفكر هو ما يغير الواقع فأن الجمود الفكري يؤدي إلى ركود الواقع وتأسنه وتخلفه . كما نرى واقع حال الحوض العربي الإسلامي اليوم. والركود والتأسن ليس غثاءً طافياً وزبداً طافحاً فحسب بل وفقاقيع متفجرة يحسبها الناس من الفكر وهي ليست إلى الفكر بصلة. هي أفكار نمت من نتن التعصب والكراهية وسوء الظن . ثم يوشك أن تكون تبعة ذلك أرواح تهدر ودماء تسفك وموارد  تبدد .  ويحسب أولئكم أنهم يحسنون بذلك ولا يسيئون  . ويعلم الله أي الناس هم الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيُهم فى الحياة الدنيا ويحسبون أنهم يحسنون صنعا . وهو وحده المطلع على الضمائر العالمُ بالسرائر والهادي الناس إلى صراط مستقيم.

ليبراليون .. بلا ديمقراطية


ما يجرى من أحداث في مصر وتونس بين المجموعات العلمانية واللادينية وبين القوى الإسلامية التي أضحت تمثل الضمير الوطني في هذه البلدان هو صورة مكبرة لما يحدث في السودان واليمن والمغرب ، وربما سائر البلدان العربية التي تشهد بلا استثناء نهضة غير مسبوقة للتيار الإسلامي. هذه القوى العلمانية وبعد أن أيقنت أن الجماهير أعلنتها بالكفر بعنوانها اللا ديني وحكمها الإستبدادي وسياستها الظالمة الفاسدة، نصبت لأنفسها خيمة كبرى وضعت على بوابة منها أسم القوى المدنية وعلى الأخرى القوى الليبرالية وقد يعجب المرء من تهرؤ العبارة وتفسخها وعجزها عن تحمل الفكرة. أما الآن فهذه القوى التي تُجسد كل معنى ثارت عليه جماهير الأمة العربية تجيء متدثرة بعباءة المدنية . وتارة أخرى بدثار القوى الليبرالية . وهي مدنية ظلت الأحزاب التي حكمت المنطقة طيلة فترة ما بعد الاستعمار تجافيها وتباعدها كما باعدت الثريا سهيلاً . فالبذة العسكرية هي ما تحلت به هذه الأحزاب في العراق وسوريا ومصر وليبيا أو اتكأت على منسأتها في تونس. وأما الحقوق المدنية Civic Rights فهي أبرز الممنوعات على عهد حكم البعث والناصريين والشيوعيين والبيروقراطيين الذين ظلوا الملأ الأدنى للأنظمة القهرية وإن أحسنوا التمشدق بالكلام (الصحيح سياسياً).


الدولة المدنية والقوى المدنية:
        أحزاب الزمن الداثر سكت مصطلحاً جديداً لا تعرفه الأكاديميا السياسية ولا الاستخدام الدارج السياسى في هذه المنطقة أو أية منطقة سواها من العالم وهو مصطلح الدولة المدنية. وهم يعلمون تماماً أنه مصطلح جديد يخبئون تحته الأسم القديم للدولة العلمانية والذي خبأوا تحته الأسم الحقيقي الذي لا صلة له بالمدنية ولا بالعلم وهو الدولة اللا دينية . فالقواسم المشتركة التي تجمع كل هؤلاء هى مباعدتهم للدين سلوكاً فردياً وجماعياً . ومجانبتهم للاسلام استلهاماً أو استهداءً ثم محبتهم وعشقهم للمتغلب المستعمر المستكبر ثقافةً وسياسة واقتصاداً.  فالصحيح الذي عاقد قلوبهم وعقولهم هو ما جاء من تلقاء أوربا أو أمريكا . أكان فكرة أو خطة أو صرعة من صراعات الفنون والأزياء المتقلبة المتحولة في العالم الذي يتسمى بالعالم الأول. وهؤلاء المتدثرون بثوب القوى المدنية ساسة كانوا أو أعلاميون أو بيروقراطيون في الخدمة العامة أو القضاء كانوا جميعاً أدوات الأنظمة التي ثارت عليها الجماهير العربية صيفاً وشتاءً . وليس ربيعاً كما أطلق عليه المستتبعون الاعلاميون . فلئن كان الاعلام الأوربي لا يريد أن يرى في العالم حدثاً إلا وهو صدى لحدث أوربي أو فكرة أو سياسة أوربية فإن اعلام المحاكاة العربي هو الذى أطلق أسم ربيع عربي على ثورات وقعت في ديسمبر ويناير وفبراير. ولكن لأن شرق أوربا لا يمكنها أن تثور في مواسم الجليد فكانت ثوراتها في الربيع فإن الثورة العربية أصبحت لدى الوراقين أو المرددين للأصداء في الاعلام العربي هي ثورة الربيع العربي . فكم يُنبيك هذا عن المدى والشوط الذي مضي عليه جل أعلام العرب في مسيرة المواكبة والتبعية للاعلام الغربي. والمتدثرون تحت غطاء القوى المدنية المبشرون باقامة الدولة المدنية يعلمون ان الحكم ما بعد الثورة في مصر أو تونس أو اليمن أو غيرها قد نهض على أنقاض حكم المؤسسة العسكرية. وهم اليوم من ينفذ مخططاً مقصده استثارة الفوضى لاستدعاء حكم العسكرتاريا من جديد. وهم كذلك يعلمون أن دولة المواطنة التي تقوم على تحقيق مساواة المتساكنين جميعاً في الحقوق المدنية والسياسية هي ما ينادى به الإسلاميون ويطبقونه على واقع الحال. فلا يوجد في القوى الإسلامية سواء في مصر أو تونس أو السودان أو غيرهم من ينادى بدولة تفرق بين المواطن والآخر بسبب العقيدة أو العرق أو اللون أو النوع أو الرأي السياسي. وأهل الاختصاص جميعاً يعرفون مصطلح الحكم المدني ويعرفون الحقوق المدنية والمجتمع المدني ولكنهم لم يسمعوا بالدولة المدنية إلا من معسكر الانهزام الفكري والسياسي التي تمثله فلول أحزاب الزمن الداثر من ناصرين وبعثيين وشيوعيين وبيروقراطيين يعرضون خدماتهم وولائهم لمن يضمن لهم الإرتقاء الشخصي والمنافع الخاصة.
ليبراليون ولكن بلا ديمقراطية:
        وهذه الأحزاب والقوى السياسية التى تتسمى  بالقوى الليبرالية تقف موقفاً جديداً .  فما نعلمه عن البعثيين والناصريين والشيوعيين  أنهم كانوا يستنكفون أن يوصفوا بهذا الوصف. كذلك فان الاعلام الغربي والاعلام التابع له عربياً أصبح يسلم لهم بهذا الوصف ولا أدرى كيف ولماذا الا اذا كان صدام والأسد وعبد الناصر من أرومة الليبرالية . يقولون ذلك رغم أنه لا يوجد في أيدولوجيا ولا في تاريخ أيٍ من هذه المجموعات السياسية ما يوائم الليبرالية بأي وجه من الوجوه . فهذه أحزاب تدعو بخلاف الليبرالية إلى هيمنة الجماعة على الفرد . وأنما تنهض الليبرالية على فلسفة فردانية متطرفة . ولأن هذه الاحزاب  تقول بهيمنة الجماعة على الفرد فأنها تراه أمراً مشروعاً أن تسحق أراء وأفكار وكرامة ومصالح المواطنين تحت حذاء الايدولوجيا التي تعتبرها هي المعبر الحقيقي عن شرعية هيمنة الجماعة الطبقية أو القومية على الأفراد. ولأن أحزاب الأشتراكية العربية هي مجرد نسخة معدلة من الماركسية  تتماهى مع الماركسية تجربة وتاريخاً وفكراً سوى أنها تستبدل الأممية بالقومية وتستبدل الطبقة البرجوازية الصغيرة بالعسكرتاريا. فلا غرو أن يتجمعوا فى فسطاط واحد تحت العنوان الذى قد يدغدغ الذائقة السياسية الغربية . وأما البيروقراطيون الذي تجدهم عن أيامن القوميين والناصريين وعن مياسرهم فقد كانوا دائماً خدماً وحشماً للحكومات البعثية والناصرية وحكومات العسكرتاريا في المنطقة . ولم ينطقوا  ببنت شفة حتى أنطقتهم التعاليم القادمة من واشنطون ولندن وباريس ، وهؤلاء جميعاً لم نعرف لهم موالاة فكرية للديمقراطية ولم نشهد لهم نضالاً على طريق تحقيقها. بل أننا لم نسمع منهم حتى هذه اللحظة كلمة مراجعة واحدة ضد عهود الاستبداد التي حكمت خلالها احزابهم بقوة الحديد والنار وبالمصانعة والمتابعة لقوى الاستكبار الغربي. ونحن لم نسمع من الحزب الشيوعي في بلادنا أنه قد تبرأ من تاريخه عندما كانت (مايو سيف العدا المسلول وكانت تشق اعدانا عرض وطول) ولم نسمع لهم مراجعات عن اخطائهم في مصادرة الحرية من الجميع (إلا القوى التقدمية) ولم نسمع منهم كلمة عن مصادرة أملاك أصحاب الأعمال لا لشيء إلا أنهم من (القوى الرجعية) ولم نسمع مراجعة لمقولات (دكتاتورية البرولتاريا) أو انكارهم (للديمقراطية البرجوازية) أو تقسيمهم للقوى السياسية للقوى رجعية وقوى تقدمية أو ايمانهم بالمركزية الديمقراطية بديلاً للديمقراطية الليبرالية وأهم من كل ذلك مدى استعدادهم لتقبل لقب الليبرالية عن طيب خاطر ماركسي .
        نحن في انتظار هذه التراجعات الفكرية والمراجعات السياسية لكي نحمل بديلهم الديمقراطي محمل الجد والنظر الجديد السديد. أما البعثيون فنريد كلمة صريحة عن حكم صدام وحكم آل الأسد ما جرى في العراق وما يجري في سوريا. نريد أن نسمع عن مفاصلة مع أنظمة القهر والاستبداد وعن طلاق غير رجعي للأولجاركية المتمسحة بمسوح التقدمية . وهي ترفل في ثوبٍ عشائرى خلقٍ في العراق وثوبٍ طائفي ترب في سوريا. وأما الناصريون والساداتيون والمباركيون فعليهم ان ينسبوا أنفسهم من جديد لحقب العسكرتاريا المختلفة في مصر سواء كانت ناصرية أو ساداتية أو مباركية . فنحن لا نعرف لعبدالناصر رعاية لحقوق الأنسان ولا حفاوة بالديمقراطية وإن كنا نحمد له حميته الوطنية وغيرته القومية ولكننا لا نرى ملامح حتى هذه المحمدة في الأحزاب الناصرية . فما عادت الناصرية اليوم شارة وشعاراً ضد الانحياز للغرب ولا صيحة ممانعة في وجه الاستكبار والاستعمار.
خاتمة وفاتحة:
        هذه الكلمات كما هي خاتمة لهذا المقال هي فاتحة لمقالات عن بعض احزابنا في السودان وفشلها فى اعادة تخليق فكرها ومواقفها وقيادتها لتكون مؤهلة لتوفر بديلاً في إطار ديمقراطية الجمهورية الثانية . فنحن مع  قلة ثقتنا في هذه الأحزاب فإننا ندرك أن نظام الديمقراطية نظام تصنعه تعددية حقيقية في الأفكار والمواقف والبرامج ويرتقى به تنافس حقيقي بين قوى تطرح بدائل حقيقية للجمهورليكون له الخيار.  فالديمقراطية هي ان يؤول الخيار للشعب وللشعب وحده بلا استعلاء لنخبة ولا وصاية لحزب.

الأحد، 25 نوفمبر 2012

كذب المنجمون وما صدقوا



لا يُعد من حسن الأداء المهني ولا التجمُل الخلقي أن يخوض الخائضون بالتكهنات في أمور تتصل بحقوق الآخرين في إفتراض البراءة في حال الإشتباه أو حتى الإتهام . وذلك معلوم بالضرورة لأهل المهنة الإعلامية . بيد أن الساحة الإعلامية قد أحتشدت بأماني البعض السيئة للحركة الإسلامية وبعض منتسبيها، كما فاضت صفحات الصحف بالتكهنات والتحليلات الفطيرة التي لا تستند إلى معلومة موثوقة أو مصدر معلوم ينسب إليه القول والكلام. كل ذلك والتحقيق الذي لا نشك في دقته وعدالته يستقصي المعلومات والقرائن والبراهين ليخرج على الناس بالقول اليقين.
المحاولة التخريبية ... ما كنهها ؟
        أن يوصف تدبير ثلة من العسكريين ومن ظاهرهم من المدنيين بأنه محاولة تخريبية وصف صادفه التوفيق. ذلك أنها مهما بلغت من مراحلها ما كان بإذن الله مكتوب لها أن تشق طريقاً للتغيير أو الإصلاح. ولعلها لم تكن إلا نفثة مصدور لأسباب لا نعلمها ولا نريد تجشم فهمها بالظن الذي لا يغني عن الحق شيئاً. ولا تهمنا الأسماء في هذا الصدد ولا يجوز لنا أن نتحدث عنها أو عن دوافعها قبل أن تخرج من دائرة الاشتباه ويُقضي يقيناً بضلوعها في ذلك التدبير. أما أن الواقعة قد وقعت فهذا مؤكدٍ من إعترافات بعض إطرافها. ولذلك يجوز لنا أن نتساءل عن دوافع من جعل من نفسه جزءاً من هذا التآمر على إستقرار الوطن وأمنه وسلامة مواطنيه. وخاصة إذا كان هذا البعض جزءاً ممن تحملوا مسئولية حفظ أمنه وسلامته مع أخوةٍ لهم لم يبدلوا تبديلاً. ولاشك عندي أن أحد أسباب إنكشاف هذا التدبير باكراً ائتمان أصحابه لجماعات سياسية لا يمكن لها أن تؤتمن على سر أو تُستحفظ على أمانة، فقد ظل بعض هؤلاء يلمح بمفاصلة جديدة والآخر يلمح بأن لهم إتصالاً وامتداداً داخل الحزب الحاكم وآخرون يزعمون أن المؤتمر الوطني يوشك أن ينفجر من داخله، وخاب فألهم كما ضل سعيهم ولن يهتدي إلى سبيل بأذن الله الذي إليه تصير الأمور. وبعض أولئكم ربما خادع نفسه بأنه يبغى الإصلاح ولو صدقها لعلم أن ما وضع أقدامه عليه من طريق ليس إلى الإصلاح بسبيل ، بل هو الافساد والتخريب وأهدار الأنفس والأرواح . ولن تكون ذريعة الخير من تلك الشاكلة أبداً . وليس لأحدٍ بالغاً ما بلغ أن يبريء نفسه من محبة الظهور والرئاسة. وليس من طالبٍ سلطان إلا بدعوى إصلاحٍ وإحسان. فلم تكن تلك المحاولة إلا انتصاراً لغضب النفوس أو اطلباً لحظوظها وإلا لكان في سبل الحوار والتحاكم إلى المؤسسات مندوحة عن مخالسة من أئتمن ومباغتة من أحسن الظن فوثق. وأما أن ينسب ذلك إلى كنف الجهاد والمجاهدين فهي شنشنة نعرفها من أخذم . فقديماً طلب أناس السلطان فرفعوا له قميص عثمان. وجهاد الحركة الإسلامية تليد عريق منذ الشهيد محمد صالح عمر إلى شهداء يوليو ومجاهديها إلى جهاد الانقاذ . ومن يُزعم أن الانقاذ قد غادرت ذلك المتردم فقد كذب وأفترى . فالانقاذ هي من بجدة الجهاد ومن معدنه الأصيل . وما من قائد فيها أو زعيم إلا وقد بذل من نفسه أو ماله أو أهله ما بذل . ولا يحق لأحدٍ أن يزعم لنفسه شرعية مزيدة بالجهاد إلا يكون ذلك من عُجب النفوس الذي يتعوذ منه الصالحون. والزعم أن جماعة من المجاهدين حملت أسم السائحين جزء من هذا الترتيب أفك لا ينهض على أساس إلا التخمين. ولربما تعاطف بعض أعضاء تلك المجموعة من المنتسبين المؤتمر الشعبي أو بعض الذين أرتكبهم الغضب والسخط فصار واحدهم كالمغلق لا يسمع ولا يبصر شئياً فمالت أنفسهم لألتماس الأعذار لأصحاب هذه المحاولة بزعم الإصلاح والتغيير والإصلاح عنها بمبعدة. وليس لاحدٍ أياً من يكون ن شرعية فوق شرعية المؤسسات المنتخبة ومن أخرج نفسه  عن ولاية هذه المؤسسات فليس له أن يتحدث في شأنها بشيء. بيد أن ذلك لا يعني أهمية إستمرار الحوار والتفاكر والتشاور حول سبيل إصلاح المسار ومراجعة الأداء وملازمة النقد الذاتي. فالنهج التبريري لم يكن ولن يكون في يومٍ من الأيام سبيلاً لمعرفة الذات أو الارتقاء بانجازاتها. وعلى أهل الاخلاص في الحركة الإسلامية أن يواصلوا نهج التواصي بالحق والمصابرة والمثابرة عليه مهما فتح ذلك سبيلاً لمن يخوض بالباطل في شؤون الحركة الإسلامية وشجونها.
تعرفونهم في لحن القول:-
        فرح أهل ا لمناوئة للانقاذ بما جرى , وما علموا ان ما حدث سيُقويها ولن يضعفها كما يرجون ويحسبون ، ولا شك عندي مما بدا من تصرفات وتصريحات أن الأجهزة الأمنية لم تكن وحدها هى من يتابع خيط التآمر بل كان أولئك على علم أو ربما في تنسيق مع أصحابها . بدأ ذلك في مفارقة بعضهم لنهج الحذر وحديثهم عن إعتصامات في الميادين , وكأن محاولتهم الخائبة في المرة السابقة لم تزدهم إلا غفلةً وتوهماً. وزعم البعض الآخر أن الحركة الإسلامية توشك أن تنفجر من داخلها وأن مفاصلة جديدة ستفتح لهم السبيل إلى الاستقواء ببعض أبناء الحركة الإسلامية . وما علموا ان الحركة الإسلامية شجرة مباركة , وأنه لا يتساقط عن فروعها إلا الأوراق الجافة . ومن أراد أن يتزود بما جف من أوراق فليتزود . وإذا  كان البعض لا يضيره أن يكون رفقاؤه وحلفاؤه هم مبغضو الدين والشريعة، فنحن نبرأ إلى الله منه ومن حلفائه . لأن أهل التوالي مع الباطل ليسوا إلا بعضاً منه. وليعلم بعض الزعماء أننا وأن إستيأسنا من رشد لهم بعد انتكاس فنحن لم نيأس من تابعين مخلصين لهم أشتبهت عليهم السبل فاحتارت منهم الألباب. بيد أن تصرفات الزعماء التي لا تستنكف عن عقد الخناصر والأواصر مع أعداء الدين في الداخل والخارج توشك أن تنشىء برذخاً بين هؤلاء وأولئك. وسيكون من أولويات الحركة الإسلامية إبتدار حوار واسع وكثيف مع كل من كانت له سابقة انتماء لصفوفها لكي تميز المعاند الذي أبعد النجعة ممن اشتبهت عليه الأمور. وأما حلف المناوئين فسنتركه لفطنة أهلنا الحكماء يعرفونهم من لحن القول ومن الصلات المشبوهة بمن عُرف يقيناً عداؤه للعقيدة والوطن. ولئن كانت الحركة حائط صد أمام المتآمرين والمتخاذلين فانها أيضاً لن تنزلق إلى منزلق تزكية النفس والعُجب بها . لذلك فأن المراجعة والمحاسبة سوف تكون ديدنها والإصلاح والتغيير للأحسن سبيلها. ولن يمنعها التصدي للخصوم المناوئين عن التيقظ لما يفتُ في عضدها من داخل صفها . إكان اغماضُ طرفٍ عن خطأ أو خطيئة أو متابعة مسار في سياسة  غير ناجحة ولا ناجعة . فذلك هو السبيل سبيل المجاهدة للنفس والمدافعة للخصوم والصبر على ذلك حتى يأتينا اليقين باذن الله.

الأربعاء، 21 نوفمبر 2012

الحركة الاسلامية أما بعد


أول من أول أمس انتخب مجلس شورى الحركة الإسلامية الأستاذ مهدي إبراهيم محمد رئيساً للمجلس . كما انتخب الأخ الاستاذ الزبير أحمد الحسن أميناً عاماً للحركة بالتزكية بعد إنسحاب الأخ الدكتور غازي صلاح الدين بعد قفل باب الترشيح. ولئن كان من حاجة لتعليق على هذه النتيجة فهي أن أهم ميزات الرجلين مهدي والزبير أنهما قد وُضع لهما القبول والمحبة في نفوس أعضاء الحركة جميعاً أو ربما سوادهم الأعظم. وهذا الحب الكبير للرجلين أسبابه لهجة الصدق وإضطراد مسيرة البذل وروح التفاؤل التي يتمتعان بها ، وما أحوج الحركة الإسلامية في هذا المنعطف الجديد للحب وللتفاؤل. وأما الأخ غازي لو لم ينسحب لكان قميناً بالقيادة حقيقاً بالريادة ولكنه آثر أن يتأخر لاسباب وجدتُ عُسراً في فهمها وفي تقبلها.
تحديات وعقبات على الطريق:
        والأخوان مهدي والزبير لن يجدا طريقاً معبداً سالكاً نحو مقاصد المرحلة. فالطريق محتشد بالتحديات ناتيء بالعقبات والمصاعب والعوائق. وأكبر هذه التحديات هي استعادة ثقة الأخوان كاملة في حركتهم وفي أنفسهم وفي قدرتهم على المجابهة للتحديات والمصادمة للقوى المضادة . والمناورة لاستثمار كل الفرص السانحة لتحقيق المقاصد. وبناء الثقة من جديد في قدرة الحركة على اجتراح مسار جديد نحو المستقبل شرط جوهري لحشد الأعضاء وتنظيمهم . وتحديد أدوارهم وتبصيرهم بالمهمة الرئيسة والمهام التابعة والمهام الجزئية. وهذا أمر يقتضي جلاء الرؤية ووضوح المطلوبات وفهم التحديات . كما يقتضي شحذ الهمم وبناء القدرات. والتصميم على العمل ليتحقق التشغيل الكامل  للعضوية أو أقل من التشغيل الكامل بقليل. وهذا يعنى أن الأنظار ينبغي أن تُصوب تلقاء العمل القاعدي، فالعمل القاعدي هو الأساس. وكل بنيان يُبنى من قواعده ويُهدم من سقوفه. ولذلك فبناء الأسرة التنظيمية هو أولى المهمات بالاهتمام . ثم بناء الشُعبة التنظيمية ثم بناء التنظيم المحلي فالولائي فالاتحادي. فالاسترخاء القاعدي لا يقود إلى تعطل أنجاز المهمات فحسب بل إلى تفكك بناء الحركة لانشغالها بالقيل والقال . وكثرة السؤال وإضاعة الوقت الثمين في التحسر على الحال والمآل . وبناء القواعد يستوجب إعادة تعريف مهام العضوية. فنحن وان كنا لا نرد مسلماً مستور الحال عن طرق باب الحركة للانتماء إلى صفها لكن يتوجب علينا أن نفرق بين الأخ الموالي والأخ الناشط . لأن النشاط وحده هو معيار النجاح في تحقيق المطلوبات في الدنيا وهو السبب لتحصيل الأجور في الآخرة. ولابد لنا من رسم حد أدنى لالتزام الاعضاء . وللنشاط  المتوقع منهم . وأول الواجبات هو تأكيد العضوية بالحضور للتشاور بصورة منتظمة في إطار الأسرة التنظيمية ثم دفع الإلتزام المالي الذي قد يُخير العضو في مقداره . وقد يبدأ بمبلغ جنيه واحد أو أقل . ويمكن للاسرة التنظيمية أن تكفل أعضاءها بدفع الإشتراك عنهم ولكن لابد من الإلتزام المالي قبل  كل نشاط . ولا يجب أن تنتظر الأسرة أو الشعبة تمويلاً من أعلى لإنجاز مهامها . فالسماء لن تمطر الذهب وسيبقى من يشتكي من قلة المال لانجاز المطلوبات على شكواه . ولم تكن الحال كذلك في سابق تجربة الحركة . فقد كان الأخوان يبذلون القليل الذي يباركه الله . فالنفقة تجلب البركة والبركة تجلب السعة . فلا يزال الأمر في إتساع ما لم يبخل الناس أو يقنطوا. ثم أنه يتوجب على الأسرة التنظيمية استقاق مهام جزئية تؤكل للاعضاء من نص وروح الخطة الكلية للحركة. فلا يبقى عضو بغير مهمة ولو كانت تلك المهمة أماطة الأذى عن الطريق أو بذل فضل الظهر أو التشجيع على حضور حلقة ذكر أو تلاوة أو علم أو عيادة مريض أو التبليغ عن ذي حاجة ملهوف عفيف اليد والخاطر أو المشاركة في تظاهرة مناصرة أو ترتيب لإقامة محاضرة أو ندوة أوأداء واجب فى منظمة طوعية . والمهام تتوالد في إطار موجهات الخطة العامة وتأدية المهام الجزئية هي مثل وضع الآجرة على الآجرة حتى يستقيم الجدار وينتصب لتُشاد عليه السقوف وترتفع فوقه الطبقات. وغاية أوجه نشاط عمل الأسر التنظيمية والشعب هو تحقيق التلاحم الفكرى والإجتماعي مع الشعب بالاقتراب من الناس العاديين . ولن يتحقق ذلك إلا عندما يكون الأخوان في أواسط الناس في المساجد وفي الأحياء وفي الأندية وفي كل مجمع ومحفل. بيد أن مجرد الوجود بين إيدي الناس وفي ظهرانيهم لا يكفي حتى تكون الحركة الإسلامية رائداً فيما ينفع الناس . ولذلك يتوجب على الحركة الإسلامية في جولتها الجديدة أن تتبنى من المشروعات ما ينسق جهدها لتحقيق مقاصدها. وأول تلك المشروعات التي اقترحها على الأمين الجديد هو المشروع الأهلي لمكافحة الفقر.
المشروع الأهلي لمكافحة الفقر:
        تعلمنا من القرآن ومن السنة أن العوز والفقر لا يكافح على الطريقة الأمريكية بل على طريقة الاشعريين . وهي الحوؤل دون تراكم المال في طرف واحد دون أن يكون ذلك موقفاً معادياً للايسار . فالغنى ممدوح والفقر يتُعوذ منه في الفكرة والطريقة الإسلامية. ولكن الغني شيء والإتراف والإسراف شيء آخر، ولذلك فان الدولة مدعوة لسن القوانين لتحريم وتجريم الربا المفضي إلى تراكم المال. لأن الربا هو أن يلد المال مالاً . والطريقة المثلى هي المضاربة والمشاركة والمقاولة وغيرها من الصيغ الإسلامية حيث يلتقي المال والعمل ، فيلد المال الحلال والجهد والعمل مالاً ينتفع منه العامل وصاحب المال. والدولة مدعوة لشن حملة على الاحتكار لأن الاحتكار واحدة من كبرى أسباب تراكم المال في أيدى القلة . والدولة مدعوة لمحاربة حجر التمويل وحصره على الأغنياء . ذلك أن التمويل ليس إلا مالٌ من مال العامة مبذولاً للاستثمار . فلابد من إقامة ميزان العدل في إتاحته للفقير والغني على حد سواء مع إختلاف الضمانات في كل حال لإسترداد أصل المال وربحه للمصرف أو الممول. ولكننا معنيون في هذا المقال  بالمجهود الأهلي لمحاربة الفقر والذي نرجو أن تقوده طلائع الحركة الإسلامية . وأن يُشارك فيه كل الشعب فقيرهم وغنيهم . وكلٌ يبذل قدر طاقته . فالفقير يُشارك ولو بشق تمرة . وهي في ميزان الله والاقتصاد كثير. والغني يشارك بما فاض عن حاجته وكمالاته الشرعية . فهو مشروع على طريقة زكاة الفطر يدفعها الجميع ثم تعود على الفقير أضعاف ما أنفق. والمشروع الأهلي لمكافحة الفقر يمكن له أن يشتمل على افكار جديدة عديدة . ولأن ناوى الخير موفق فسيفتح الله علينا بأذنه بركات الفكر قبل بركات المال . وكما يسعنا الاقتباس من أفكار كثيرة ناحجة وناجعة مثل فكرة بنك الطعام وغيرها. ولأن الطعام والعلاج والتعليم والماء النقي هي المتطلبات الحاجية وهي حد الكفاف في هذا الزمان. فلابد للمشروع الأهلي لمكافحة الفقر أن يستفرغ غاية الوسع لايجاد مشروعات تستقطب المجهود الشعبي في حملة شاملة لا هوادة فيها لدحر الفقر في بلادنا واضطراره إلى أضيق الطريق. والحركة الإسلامية بانتشارها في كل ارجاء السودان وانحائه والحزب الذي تواليه باتساع عضويته والحلف السياسي الذي يحالفه حزبها ويظاهره ومنظمات المجتمع المدني كل هؤلاء جيش جرار فليكن تمويل هذا الجيش الاجتماعي وشعاره "من القرش الواحد إلى المليون جنيه". ولننشىء مصارف وبنوك للطعام . ولنؤسس هيئات تأمينية أهلية للخدمات الصحية تُؤخذ أقساطها من الخيرين الأغنياء لصالح المحتاجين الفقراء . ولنؤسس الأوقاف الصغيرة والكبيرة لصالح تعليم أبناء الفقراء ولننشىء العيادات المسجدية والفصول الدراسية المجانية بالمساجد والأندية والمرافق العامة . تبرعاً بوقت الأطباء والصيادلة والمعلمين وما أكثرهم في قواعد الحركة الإسلامية وقواعد حزبها الجماهيري الذي إن نهض لهذا العمل الكبير فقد يمهد بذلك ضمانة لجماهيريته التي كسبها بحسن ظن البعض به وسوء ظن البعض بمن يناوئه من الأحزاب.
الحركة الإسلامية وأنعاش المجتمع:
        أن مطلب الحركة الإسلامية لأحداث التحول الشامل نحو الإسلام لن يتحقق بفاعلية ما لم ننقل ملكية المشروع المحدودة إلى المساهمة العامة . ولن يحدث ذلك إلا بالاقتراب من قوى المجتمع الفاعلة من الشباب . وتفعيل قوى المجتمع المعطلة من النساء. ولذلك فإن انعاش المجتمع السوداني إنما يتحقق بمشروع يرفع شعار "الريادة للشباب" ويرفع شعار "التمكين للمرأة" فالشباب ليسوا فقط غالبية الشعب السوداني بل هم السواد الأعظم من الحركة الإسلامية . وشيوخ الحركة الإسلامية لا يبلغ عددهم عشر عضوية الحركة . ولذلك فان إعادة صياغة هياكل الحركة من القاعدة إلى القمة لنفسح مساراً واسعاً لحركة الشباب هو واجب الوقت . وكذلك مراجعة هياكل الحركة وبرامجها لتفسح مساراً واسعاً لحركة المرأة هو أيضاً من أولى الأولويات . وتمكين الشباب وتمكين المرأة هو الذي سوف يبعث الحيوية الدافقة في شرايين الحركة الإسلامية وعروقها ويعيد الحركية المُنسابة إلى جوارحها ومفاصلها لتقطع المراحل قفزاً ووثباً إلى مقاصدها في النهضة والتقدم.
       




رجلان غازى والزبير



             

كتب الأخ الطيب مصطفى بل زفر الطيب مصطفى زفرته الحرى بعنوان لا عزاء للحركة الإسلامية . وصدق فلسنا في وارد تقبل العزاء، بل نحن في وارد تقبل التهاني بنجاح مؤتمر الحركة الإسلامية الثامن . ونجاح المساجلة الشورية واختتامُها بالتوافق . وإن كان في نفس هذا أو ذاك شيء من عتب أو حرج . وما كان لذلك الحرج أن يكون . لأن الواجب الحق أن يرضى الناس بحكم الشورى ويسلموا تسليماً . ومن عجب أن المتحسرين على مخرجات الشورى والمؤتمر هم الذين آثروا الخروج من دارها أو الذين لم يقابلوا تلك الدار إلا بالضرار منذ أن رفع لها جدار. ولست بصدد التعليق على رواية الأخ الطيب وسرده للحوادث فهو عندي ليس متهم بكذب . وأنما مراجعتى لحكمه المتحامل المتعجل على المؤتمر والشورى وعلى الأمين العام الجديد للحركة الإسلامية.
فاما المؤتمر فقد شهد كل ذي رأي موضوعي أنه كان مشهوداً . وكان حسن التنظيم والترتيب . وشهد سجالاً ديمقراطياً فريداً غير مسبوق في مؤتمرات الحركة . رغم أنها من أعرق الكيانات المنظمة في السودان تراثاً في الممارسة الديمقراطية الداخلية. وكانت أنتخابات الشورى حرة إلى المدى الذي جلب لمجلس الشورى بعضاً من الناس يشهدون على أنفسهم أنهم أدنى رتبة في مقام الرأي والتدبير من أناس آخرين حجبتهم الإنتخابات عن عضوية الشورى . ولا بأس من ذلك فمطلب الشورى ليس حسن الرأي فحسب وأنما مطلبها ايضاً إعلاء المقبولية العامة لما يتخذ من سياسات أو قرارات.
ولقد جاء انتخاب الأمين العام الجديد مبرأً من كل عيب في الإجراءات بشهادة المتحزبين لهذا الجانب أو للآخر. ولقد كان من أدب الأخ الزبير أحمد الحسن الجم أنه قال أنه لو جرى اقتراع لأقترع لغازي فهو يراه أفضل منه للموقع . ولكن الأخ دكتور غازي آثر الانسحاب لرأي رآه لا أراه صائباً ولا مناسباً. بيد أني لا أنكر فضل الأخ الدكتور غازي فمن ينكر فضله قد ينكر ضوء النهار. عرفت غازي منذ أكثر من ثلاثين سنة . فنحن دفعة واحدة في جامعة الخرطوم بل وأني وأياه ولدنا في سنة واحدة وفي شهر واحد. ومنذ ذلك الحين فى الجامعة اتصلت جهودنا في ساحة الحركة الإسلامية . وكان هو المُقدم دائماً بفضله وحسن استقامته الفكرية والأخلاقية. وقد عملنا معاً في مجلس شورى الحركة ثم التقينا في بريطانيا لبعض الوقت ثم في الخرطوم لوقت طويل . وعملت معه إبان كان أميناً للمؤتمر الوطني أميناً لأحدى الأمانات وسبقأن عملت معه في رئاسة الجمهورية عندما كان مستشاراً سياسياً وكنت مستشاراً صحفياً لرئيس الجمهورية . ثم عملت معه وزير دولة عندما كان وزيراً للاعلام والثقافة . وعملت معه عندما كان مستشاراً للسلام عضواً في وفد التفاوض وفي كل هذه الأحوال لم أجدني في إختلاف معه في مسألة جوهرية . فنحن مدرسة واحدة في التفكير . وقد نهلنا من ذات المناهل التربوية التي كان يستسقى منها ناشئة الناشطين في سلكها . وأنا لا أختلف مع الأخ غازي في ضرورة اشتقاق مسار جديد للحركة الإسلامية وابتدار شوط جديد في مسيرتها نحو مقاصدها . ولكني لم أفهم موقفه الآخير ولم أجد له فيه عذر . فترجيح اختيار الأمين العام ليكون من الشورى كان خيار الأغلبية . وكنت ولا أزال أعتقد أنه الأوفق لأنه يُعلى المؤسسة الشورية فوق الفرد "الأمين العام" . ولأن إعادة عقد المؤتمر من تلقاء القواعد لاختيار أمين جديد أكثر كلفة إن توفاه الله، وليس في توقع وفاة من دخل بين الستين والسبعين غرابة . فهذه هي الفترة  التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم أن آجال أمتة بين الستين والسبعين.وقليل منا يجتقب المتاع للأنصراف . وربما كان تقديرنا هذا حول انتخاب الأمين العام  خاطيء . ولكنه تقدير معقول ينبغي أن يُلتمس العُذر لصاحبه لا أن يتهم بأنه يداهن المتنفذين أو يسترضى الملأ الأعلى من  القوم . كما قال البعض أو أوشك الآخرون أن ينطقوا بما خبأته الصدور. وأما قوله عن القيادة العليا أنها تُخل باستقلالية الحركة الإسلامية فقول مستغرب إذا نُسب إلى نصوص الدستور . ثم إلى نص التعديل الذي أُدخل على المادة المتعلقة بهذا الأمرليؤكد أن وظيفتها تنسيقية. ثم أن خياره بالانسحاب يجئ خلافاً لما يتوقع ممن يتخوف من استتباع الحركة الإسلامية للمؤتمر أو للحكومة ، فكان الأولى به أن يتقدم للقيادة ليكون صمام أمان دون حدوث ذلك . وبخاصة وهو مسلح بنصوص الدستوروهو من نعرف فى الاستقلال بالنظر والاعتداد بالرأى. ولا أزال احتاج إلى جلسة مصارحة مع الأخ غازي لأفهم موقفه فالصراحة هي شارة المودة وعلامتها المائزة.
أما الأخ الزبير أحمد الحسن فأعرفه منذ أكثر  من ثلاثين سنه هو الآخر. وانأ أسن منه عمراً وهو أكبر مني رتبة وفضلاً . وقد عرفته طالباً نابهاً قيادياً في مدرسة عطبرة الثانوية عندما كنت مشرفاً من قبل مكتب الثانويات بجامعة الخرطوم علي مدارس المديرية الشمالية في ذلك الإبان. وكان عالي القامة رفيع الهامة والقدر بين إخوانه ولا يزال. وكان تقياً عفيفاً وإنما نحكم علي الناس بما نعهد ونعرف منهم والله أعلم بالسرائر . وقد حًظي ولا يزال بمقبولية واسعة في نفوس إخوانه ومعارفه وبمحبةٍ في قلوبهم لا يتجشم لها طلباً ولا جهداً. وأما أنه هو الأمين غير القوي فاتهام لم يسق الأخ الطيب عليه برهاناً سوي قرائن واهية وخطبة ادعاء ظالمة لقدره هاضمه لحقه . يقول الطيب أنه مجربٌ بإذعانه لمراكز القوي فما هي مراكز القوي  تلك ؟ إن كان المشار اليه هو الإذعان لرئيس الدولة فهو واجبه ديناً وعرفاً . فنحن نعرف من الفقه أن اختيار الرئيس في الأمور الخلافية وفي التقديرات النظرية يرفع الخلاف ويُلزم المكلفين بالإذعان له.لا يمنع ذلك من بذل النصيحة الخالصة .  إما إذا كان الادعاء أن الأخ الزبير قد يطيع في أمرٍ قد يخامره فساد أو خروج علي نهج الكتاب والسنة فبهتان وافتئات علي الآمر والمأمور علي حدٍ سواء أربأ بالأخ الطيب أن يكون قد عناه . وإما تحميله أخطاء كل المؤسسات في تهربها من ولاية وزارة المالية فتزيد وتحامل . ولا تعليق لي علي القصة التي تحكي عن الاتصالات لأن الأخ الطيب كان طرفاً فيها ولا يجوز له أن يكون حكماً وطرفاً في آن واحد. وأنا لا أبرئ الأخ الزبير ولا أنزهه عن الأخطاء.  فلو عرفت لنفسي نزاهة عن الخطيئة والأخطاء لرجمته يما يقذُ ويجرح من حجارة النقد والتبخيس. أما أولئك الذين يعيبون علي الأخ الزبير أنه رجل صامت، فليعلموا أن الصمت كان اختيارا له. فما عرفنا به من عيٌ ولا حصر . ولكنه رجل يتأدب بالقول النبوي "رحم الله امرءاً أمسك الفضل من قوله وانفق الفضل من ماله" وهو خيرنا جميعاً في التأسى بذلك الأدب. ولكن المسكوت عنه هو اتهامه بالمسايرة لمن يحسب أن المغايرة هي واجب الساعة. وأما الرأي عندي فأن المطلوب ليست المغايرة وإنما المطلوب التغيير . بالمراجعة للمقاصد التي تنتصب أمامنا دون الغاية الكبرى . وإعادة التفكير في الوسائل والوسائط . وبإعادة بناء الحركة الإسلامية لتمكين القيادات الجديدة . ولاستجاشة ثمرات العقول الذكية والألباب المتفكرة المتدبرة. ولا يقتضي ذلك بالضرورة مغايرة الحكومة أو الحزب بقدر ما يتطلب استقطاب الجهود جميعاً علي رؤية واحدة وخطة قاصدة. وليس ذلك ببعيد المتناول عن الأخ الزبير . وليس من الإنصاف في شئ ان نتعجل في الحكم علي أدائه قبل وضع يده علي مقود القيادة من تلك الحركة الشموس . لمجردتوجسات لا تنتهض الا علي سؤ الظن، ليس مظنة سؤٍ بالأمين العام فحسب بل بالحركة الإسلامية التي يقول الأخ الطيب أنه قد استبان له عوارها، ولم يتهم الأخ الطيب في ذلك بصره بل سارع إلي اتهام المؤسسة الاجتماعية التى أفنى فيها غالب جهده وعمره . انا نسأل الله أن يؤجره على ما تقدم منه كل الأجر وأن يثيبه خير الثواب وأن يغفر له ما تفلت به لسانه فلرب حسنه سالفة تمحو سيئة خالفه وله مني الود خالصاً في كل الأحوال.