عندما يتفكر
المرء في روية يلاحظ سرعة إيقاع الأحداث السياسية في السودان. والمثير للعجب أن
إيقاع مسار الأمور في شتى مناحي الحياة الأخرى يتسم بالبطء النسبي . فلماذا ذلك
كذلك؟ الرأي عندي أن سبب ذلك أنه بينما تمضي سائر أمور الحياة الأخرى بتوجيه
الأفعال نحو مقاصدها فإن غالب أمور السياسة أنما يجيء في شكل رد فعل سريع لفعل من
طرفٍ موازٍ . وغالباً ما كان ذلك الفعل نفسه جزءاً من تداعي ردود الأفعال. ولاشك
أنه من طبيعة الأشياء أن يكون رد الفعل سريعاً فتتمظهر الأحداث بشكل متتالية سريعة من ردود الأفعال. مما يشى بأن مكنون الأفعل من العاطفة أكبر بكثير من مضمونها من الفكر المتروى المصوب نحو مقاصده بدقة وسداد . هذا التداعي السريع للأحداث السياسية والأقوال والتصريحات السياسية
يجعل الساحة السياسية تمر بحالة من التجاذب المستمر ويجعل الجمهور في حالة من
التوتر والترقب وكأن البلاد موعودة دائماً بالثبور وعظائم الأمور .
الراهن السياسي ... بشائره ونذره
قضايا
كثيرة مثارة هذه الأيام وهي تشكل الراهن السياسي الماثل بين أيدي الناس وبعضها بين
ظهرانيهم. العلاقة بين الشمال والجنوب وما أتصل بها من إرتباط بين الجنوب وبين
المعارك التي تدور في جنوب كردفان والنيل الأزرق هي واحدة من أهم الموضوعات . وإمتداد
ذلك في تحرك بعض الحركات المتمردة في دارفور ، ومن جهة أخرى توقيع السلام مع حركة
العدل والمساواة – قطاع الميدان – ثم دعوة الرئيس لحوار مفتوح غير مشروط والذي
سبقه لقاء برلين الذي أثار انتباه الرأي العام .ثم تصريح رئيس الجمهورية الذي عده
البعض أمراً مقصود التوقيت والتوجيه بأنه غير راغب ولا عازم على الترشيح مرة أخرى
للرئاسة. وتنوقلت بين هذا وذلك تصريحات عديدة وأقاويل كثيرة قليل جداً منها
المتبصر المتفكر في مسارات الأمور أو في مآلاتها.
قد يعلم
أهل العلم والخبرة أن السياسة بخلاف بعض الشؤون الأخرى تبدأ بالجزئي ثم أنه لابد
لها من نظم هذه الجزئيات في إطار كلي جامع يعطيها الوجهة والمعنى في آن واحد. بيد
أن هذا التدبير الحكيم لا يحدث كثيراً في السياسة السودانية . فأنها كثيراً ما تظل
محصورة في إطار جزئيات وجزئيات أخرى . ومواقف متوحدة وتصريحات معزولة عن أي سياق
يصلح للتتبع والقراءة المنهجية الموضوعية. وهذه السريالية السياسية قد أعيت الشعب
الصابر وأرهقت أعصابه وأنهكت قواه في أنتظار أن يبرم أهل السياسة أمر رشد للبلاد يقرُ
به الأمر ويستقر . ويتهيأ به مناخ جديد للتعاون على إصلاح شأن البلاد والعباد بما
يُعمر به اقتصادها . ويترقى في مدارج الحضارة مجتمعها ليكون رائداً كما هو قمين به
أن يكون. ولكم يقض بالي سؤال ممض هل ثمة مساحة أو سانحة للفاُل الحسن ؟ لكني أرد
هاجسي النفسي إلى أن الايمان من الفاُل الحسن . وأنه لا ييأس من روح الله إلا
القوم الكافرون. وأن هذه البلاد لها سوابق نواجح في وصل ما انقطع ورتق ما انفتق . بدءاً
بالتوافق على الاستقلال ثم التوافق على المصالحة والسلام لأكثر من مرة . فلربما
يتنزل روح من الله على أهل السياسة تهدأ به النفوس الثائرة وتساق به العقول
الحائرة لتقرب إلى الهداية والرشد.
الدستور .. معناه ومغزاه:-
الدستور
في اللغة العربية قد جاء من لفظة فارسية هي "دست" والدست هو ما تقعد
عليه أي هو المقعد أو القاعدة ولفظة أور تعنى صاحب . وهو في الإصطلاح المادة التي
تستوحى منها الأنظمة والقوانين والمعنى في اللغة الإنجليزية شبيه بذلك فلفظة Constitution تأتي من
كلمة Constitute
أي يؤسس . فهو الأساس الذي تؤسس عليه الأنظمة والقوانين . وإذا كان الدستور هو
أساس النظام والقانون علينا أن نتأمل في حالنا لنقرر بشأن قدرتنا ورغبتنا في بناء
نظام متوافق عليه . يكون هو القاعدة التي يقف عليها الجميع. فالحوار حول الدستور
لابد أن يبدأ بحوار الأفكار قبل ان يخلص إلى حوار الأحكام . فكل حكم لم يؤسس على
أصول منضبطة فكأنه بناء شيد على شفا جرف هار لا يوشك أن يهوى بما ومن يقف عليه إلى
درك سحيق . ولاشك أن بعض أخوتنا من الإسلاميين يسألون إن كان الدستور هو القاعدة
التي تؤسس عليها كل الأنظمة والقوانين في الدولة لماذا نحتاج بعد القرآن إلى دستور
بخلافه ؟ أوليس القرآن هو دستور الأمة؟ والإجابة لها أكثر من وجه . و الوجه الأول هو
أن الدستور يحتاج إلى تحديد دقيق لئلا تكون القاعدة نفسها موضعاً للخلاف . لذلك
لزم أن نستوحي من القرآن أصولاً حاكمة كما فعل الفقهاء والعلماء على مدار الزمان
الإسلامي. فهم لم يكتفوا بالقول أن القرآن قد أصل الأصول وقعد القواعد فلا حاجة
إذاً لأصول للفقه . بل لا حاجة للفقه نفسه لأن الفقه أنما هو الأدلة التفصيلية
التي تستنبط منها الأحكام فتتنزل على الأوضاع والأحوال.
فتدوين
الدستور مثل تدوين المذاهب ليتوافق أصحابها على قواعد الفهم والاستنباط . ولكن
تدوين الدستور هو مقاربة لتدوين وثيقة جامعة بين المذاهب . بل وثيقة جامعة بين
المذاهب والملل في بلد لم تخلص للمسلمين وحدهم. ولذلك فان رسول الله صلى الله عليه
وسلم لم يأطر اليهود ويجبرهم إجباراً على الخضوع لاحكام القرآن بل تعاهد معهم على
وثيقة تحدد واجباتهم وحقوقهم في تعاطيهم مع أهل المدينة وفي خضوعهم لسلطانها. ولأن
دولتنا المعاصرة ليست بدولة الملة الواحدة فلابد من توافق مع أهل الملل الأخرى على
قواعد التعايش الوطني من خلال وثيقة الدستور. والرحلة نحو تدوين دستور متوافق حوله
تبدأ بالحوار الحر حول أفكار ما قبل
الدستور . ونقصد بها الأفكار الكلية أو المرجعية الكلية التي يتوافق عليها السواد
الأعظم من الناس . ثم يتوافقون حول كيفية استيعاب الآخرين المختلفين أو المخالفين
في إطار رؤى هذه المرجعية الكلية. كذلك لابد أن يشمل الحوار توصيف الحالة
الإجتماعية والثقافية في البلاد . لأن أيما وثيقة يراد لها ان تشكل النظام الاساس
للاجتماع المدني بالبلاد لابد لها أن تكون متلائمة مع الحالة الإجتماعية والثقافية
في تجانسها وتنوعها. فالدستور هو رحلة البحث عن نظام عادل order Just يقبل الجميع
الانصياع لاحكامه . لأنه يحقق فكرة المنفعة العامة التي لا تفرق بين الناس بسبب
أعراقهم أو مللهم أو أنواعهم أو ألوانهم . بل تجعل المواطنة أي التعايش والتساكن
المدني هو الأساس الذي تحدد على قاعدته الواجبات وتنال الحقوق.
نواصل،،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق