بدأت الفتنة
الكبرى بمقتل الخليفة الراشد عثمان ذي النورين عليه الرضوان. فعثمان رضي الله عنه
الذي حاز الخلافة بالتزامه بشرط
اتباع مهج الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أتهمه بعض المخالفين له بعدم تحري
نهج الخلافة الحقة للشيخين ومن قبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذلكم بحجج ووحيثيات
لا نحب ان نخوض فيها فإحترامنا موفور لجميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالخلافة كما فهمها الأولون ليست هي ذات الشيء الذي يفهمه المتأخرون في يومنا هذا.
الخلافة عندهم هي إتباع (سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء المهديين من
بعده) وذلك في كل الأبواب وبخاصة في باب تولي الإمرة على المؤمنين. ولأن المصطلحات
قد أصبحت ملتبسة في كثير من الأذهان حرى بنا مراجعة المفاهيم التي تحتويها هذه
المصطلحات . وبخاصة مصطلح الحاكمية والحكم ومصطلح الخلافة ومصطلح الدولة لأننا أن
أخطأنا الفهم لهذه المصطلحات ولما بينها من موافقات ومفارقات قادنا ذلك لالتباس
وجدل قد يفضي إلى إختلاف وإشتجار.
الحاكمية والحكم:
الحكيم هو
الذي يضع كل شيء موضعه المناسب له في الوقت والمحل المناسبين . ولا يكون ذلكم متحققاً
بصورة مطلقة إلا لله رب العالمين. وأما الحكم فهو الخطاب المتعلق بالفعل المناسب
في المحل والوقت المناسب . وهو قد يكون على سبيل الإيجاب أن كان صاحب الأمر صاحب
سلطان أو نفوذ على المأمور بالفعل . وقد يكون على سبيل التخيير من صاحب الأمر
للمأمور بالفعل أن شاء فعل وان شاء امتنع . ولاشك أن مفارقة رأي الحكيم تورد المرء
موارد الشر إن لم تورده موارد الهلاك . ولأن الحكم تابع للحكمة والحكمة تابعة
للعلم ولا يعلم كل أمر ولا يحيط بكل شيء إلا الله سبحانه وتعالى فأن مركز العقيدة
الايمانية التوحيدية هو الإقرار بالحاكمية المطلقة لله رب العالمين . لأن له الخلق
والأمر وهذا المعنى هو أس توحيد الالوهية فالخالق حاكم والمخلوق محكوم . والطلب
الإلهي أمراً أو نهياً هو صورة الحكم الشرعي . والحاكمية الإلهية ليست سياسية فحسب
بل هي شاملة ومحيطة بكل مجالات السلوك الإنساني . فالمسلم لا يكون مسلماً إلا إذا
سلم بالحاكمية لله في دقيق إمره وخطيره. (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر
بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) فالإسلام هو التسليم
الكامل لله رب العالمين. فالمسلم مخاطب بأن يجعل كل فعل يفعله وانتهاء ينتهى عنه
وفاقاً للتوجيه الإلهي إتساقاً مع إيمانه بان الله وحده هو صاحب العلم المحيط
والقدرة القاهرة . وأما الحكم بمعناه الإداري والسياسي فهو التمكن من التصرف في
الأمر بقصد دفع الأذى ودرء المفسدة وجلب المصلحة وتحقيق المنفعة . وهو يحب ان
يتحلى بالاتقان والاحسان وان يؤسس على الحكمة التي هي التصرف بمقتضى الحق وان يؤسس
على مبدأ الوكالة عن الأمة لا على الغلبة والتسلط . واضفاء صفة الحاكمية لله
سبحانه وتعالى يعني أن المرجعية العليا لإنشاء الإلزام والقضاء هي لله سبحانه
وتعالى وحده ولا يجوز إشراك أحداً غيره
معه . وتؤكد هذا آية سورة الكهف (ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحداً)
يقول ابن كثير في شرح معناها (أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر الذي لا معقب
لحكمه وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير تعالى الله وتقدس) ويقول الطبري في
تفسير نفس الآية (ولا يجعل الله سبحانه وتعالى في قضائه وحكمه في خلقه أحداً سواه
شريكاً بل هو المتفرد بالحكم والقضاء فيهم وتدبيرهم وتصريفهم في ما يشاء وما يحب)
فالحاكمية بمعنى المصدرية الأولى والمرجعية الأخيرة للأحكام لا تجوز إلا لله رب
العالمين . فلا يجوز لأحد أن يدعى الايمان
ثم لا يصدر فيما يأخذ وما يدع عن احكام الله سبحانه وتعالى (إنما كان قول المؤمنين
إذا دعوا لله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) .
فالحكم بمعنى المصدرية والمرجعية لما يؤمر به وما ينهى عنه لا يجوز إلا لله سبحانه
وتعالى . بيد أن الحكم الذي هو تراث النبؤة علماً وحكمة فيجوز بحق الاستخلاف
للائمة اتباعاً للسنة كما جاز للنبي صلى الله عليه وسلم تبليغاً واستقراء. والحكم
الذي هو خلافة الأئمة والرسول صلى الله عليه وسلم في نشر علوم الشريعة وتطبيق
أحكامها هو حكم مشروط بتحقيق المصلحة والمنفعة العاجلة والآجلة للمؤمنين، ودرء
المفسدة والمضرة العاجلة والآجلة عنهم . ولذلك فان القاعدة الحاكمة في هذا السياق هي
(أن التصرف بالسياسة الشرعية منوط بالمصلحة) فلا يكون الحكم شرعياً ولا يكون
التصرف بموجبه سياسة شرعية إلا إذا تحققت به المصلحة العامة. والخلافة تعنى تحري
إتباع النبي صلى الله عليه وسلم وتحري سبيل خلفائه الراشدين المهديين من بعده فان
استقام أولى الأمر على الخلافة صارت
طاعتهم من طاعة الله ورسوله (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
وأولى الأمر منكم) ولم تتكرر كلمة أطيعوا قبل أولى الأمر بل عُطفت الطاعة لهم على
الطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم فلا طاعة لهم ما لم يلتزموا السيرة النبوية
ويتخذوها قدوة واسوة.
الخلافة بمعنى الرابطة الإسلامية:
بيد أن
المعنى السائد والدارج لكلمة الخلافة فى عصرنا هذا هو أنها الرابطة السياسية بين
مجتمعات المسلمين بحيث تكون لهم إمرة واحدة وأمام واحد. فالتركيز في هذا المعنى
على ينصب على معنى وحدة الأمة المسلمة والتعبير السياسي عن هذه الوحدة بالسلطان الواحد
والأمرة الواحدة النافذة. وهذا النوع من الرابطة لم يوجد على وجه المثال طوال
التاريخ الإسلامي . فقد ظل كثير من الحكام المنفردين بالسلطان فى أقاليمهم لا
يقرون إلا بولاء رمزي لخليفة المسلمين في دمشق أو بغداد أو الاستانة. لكنه رغم
تفرق الأمصار واستقلال الولاة فان نوعاً من الرابطة السياسية كان يصل بلدان الأمة
ببعضها البعض . فكانت هناك أقاليم مستقلة ولم تكن هنالك بلدان قطرية كما هو الحال
اليوم. وعندما جاء الاستعمار الذي استفرد باقاليم المسلمين اقليما من بعد اقليم
جعل نصب عينه إزالة هذه الرابطة الرمزية التي تصل الإقاليم بعضها بالبعض الآخر . وبخاصة
ان هذه الأقاليم كانت فيما يتعدى السلطان السياسى المباشر تتصل اتصالاً وثيقاً
ببعضها البعض بحركة العلم والعلماء وحرية الحراك الإقتصادي وحرية وسهولة الانتقال
من أقليم إلى اقليم. فكل بلاد الإسلام بلد للمسلم لا يحتاج فيه إلى هوية قطرية ولا
بطاقة شخصية. وكانت هذه الصلات تستند إلى وشيجة الرابطة الشعورية بين المسلمين،
فالمؤمنون أخوة . وهذا الإخاء هو وحده الذي استعصى على التمزيق والتقسيم . فقد مزق
الاستعمار وشائج الاتصال الأخرى في السياسة والاقتصاد ومنع هجرة المسلمين من بلد
إلى آخر . وعمل جاهداً على تفريقهم لاحكام سيادته عليهم جميعاً . ولا يزال
الاستعمار الجديد يفعل ذلك بل ويفعله بكفاءة أعلى بكثير مما كان يقدر عليه
الإستعمار بوجهه القديم. والاستعمار الجديد الذي أدخل الدويلات الإسلامية في روابط
جديدة تستتبعهم عمل جاهداً لئلا يلتئم شمل المسلمين في أية رابطة فاعلة . ولذلك
ظلت اشواق المسلمين متأججة إلى رابطة سياسية تلم شملهم وتعمل على تعزيز المصالح
الاقتصادية بينهم . ومنذ الغاء الخلافة في عشرينات القرن الماضي ظلت الحركات
التحريرية في العالم الإسلامي تتوق إلى إعادة رابطة الخلافة مرة أخرى . ولكن كثير
من علماء المسلمين الذين درسوا عبرة الماضي وأدركوا حقائق الواقع علموا أن الخلافة
لن تعود إلى صورتها المثالية في أذهان كثير من المسلمين. ولذلك دعا عبدالرازق
السنهوري في رسالته للدكتوراة بُعيد الغاء الخلافة إلى العمل على إعادة تأسيسها
على نحو جديد . يستوعب نشؤ الدويلات القطرية ويراعى الاختلافات التي نشأت بين
مجتمعات المسلمين بفعل نشؤ الدولة القطرية . وكذلك فعل مالك بن بني في خمسينات
القرن الماضي عندما دعا إلى كمونولث إسلامي . وكذلك دعا سيد قطب في كتابه الإسلام
والسلام العالمى وآخرون كثيرون .
بيد أن
التنظيم الوحيد الذي نشأ حول فكرة الخلافة ودعا لاحيائها بصورتها المثالية هو حزب
التحرير الذي أنشأه تقي الدين النبهاني . وفكرته هي أحياء الدولة الإسلامية على
نهج الخلافة الأولى . وتمكينها من حكم العالم الإسلامي في دولة واحدة موحدة. واتبع
هذا السبيل جماعة من الفقهاء والعلماء والمنتسبين إلى المدرسة السلفية والتي كانت
هي المحضن الأول للسلفية الجهادية . والسلفية الجهادية التي آنشأت (الدولة
الإسلامية في العراق ) في العام 2006 ثم أنشأت الدولة الإسلامية في العراق والشام
2012 هي التي تدعو المسلمين اليوم لتحقيق حلم انشاء دولة إسلامية موحدة تحت رآية
واحدة وخليفة واحد يدين له الجميع بالولاء ولتتمايز الصفوف بين أهل الولاء في دار
الإسلام وأهل البراء في دار الكفر.
نواصل ،،،