الثلاثاء، 30 يونيو 2015

اللادينية ... وأثوابها الثلاثة

        إن أزمة المفاهيم هي ما يقف في طريق تسلسل المعاني الصرفة في سياق الإتصال الفكري بين الناس. وليس من عجب ان يختلف الناس على المفاهيم وألا يصطلحوا عليها فالاختلاف هي سمة الاجتماع البشري الأولى، بل هو سمة الوجود البشري بذاته . لأن الوجود البشرى متعدد وكل متعدد لابد أن يختلف . وأختلاف الأشياء والأسماء هو ما يتيح نمو المعارف الإنسانية . لان التمييز بين المختلف هو ما يصنع المعرفة. لذلك فأن حلم التوصل إلى إصطلاح ناجز وناجع حول المفاهيم حلم مستحيل. ولئن كان ذلك كذلك فالتوصل إلى يقين نهائى بأدوات الأنسان حلم أبعد مطالاً ومنالاً. وما تقدم من قول هو الرد على وهم اللادينية بأنها قد تمتلك اليقين باستخدام أدوات النفي والانكار .  ذلك أنه لا يكون نفي إلا وهناك إثبات ولا يكون عدم إلا وكان هناك وجود . وتوهم اللادينيون بقدرتهم على استخدام مناهجهم على نفي الدين وجعله وهماً من الأوهام هو الوهم الأكبر . ذلك أن مناهجهم ذاتها هى التي تدحض مقاصدهم في الزعم بلا منطقية ولا علمية ولا مدنية التدين الإنساني . ومما لاشك فيه أن خطابي هذا الذي تقدم إنما يتوجه للتيار اللاديني في الغرب. فهنالك يكون الحوار صريحاً فلسفي وعقلي وحجاجى فى طبيعته . وإما لادينيو المشرق فإنهم سياسيون لاعقلانيون يفتقرون إلى الصراحة القولية والفكرية بله الصرامة المنهجية والمنطقية . فاللاديني في الغرب يقرر صراحة أنه لا ديني وقد يكتب ذلك في إستمارة بطاقته الشخصية سواء كان مفكراً أو مواطناً عادياً لم ينشأ على دين. ولكن لادينيو المشرق يتدثرون بأثواب يرونها براقة جذابة . فهم يتسمون بأسم التنوير مرة والعقلانية  وتارة بأسم العلم والعلمانية وثالثة باسم التحضر والمدنية وهم في ذلك كله مثل الفرعون العاري الذي يُنكر عُريه بينما تسؤ سوأتُه كل الناظرين. واللادينية في المشرق علمت أنها لا تستطيع أن تجاهر بموقفها المجانب أو المعادي للدين فزعمت أنها تيار عقلاني إلى العقل ينسب أو أنها تيار علماني إلى العلم ينسب أو أنها تيار مدني إلى المدنية ينسب . وفي مقالتنا هذه سوف نحاول إثبات الحقيقة الماثلة لكل ذي بصر وبصيرة وهى أن دعاة اللادينية في المشرق والمغرب يفتقرون إلى ما يثبت بُنوتهم للعقل والرشد أو للعلم أو للتمدن دون سائر الناس بل  دون سوادهم الأعظم الذي يعتنق الأديان منذ أن خلق الانسان.
اللادينية وثوب االعقلانية:
        بدأت اللادينية في الغرب مشكلة سياسية لا فكرية . لأنها إنما بدأت صراعاً سياسياً بين الكنيسة وملوك الاقطاع . ولم يكن الفكر فيها سابقاً للسياسة ورائداً أمامها يفتح لها الطريق بل كانت السياسة هي من تلهم ومن تملي . فالعلمانية "اللادينية" هي الوليد الشرعي أو اللاشرعي للدولة كما نعرفها اليوم  وهى أمتداد للدولة الملكية على عهد الاقطاع . لم تكن الدولة مجرد آلة أو وسيلة للتسيير بل انها فرضت رؤيتها للعالم وللفضاء العام على من يخضعون لها وبذلك أحلت "دين الملك" وهو الايدولوجيا مكان دين الله وهو العقيدة الدينية . وهي وعدت وكافأت من يؤمن بدينها بالخلاص الدنيوي كما يقول الفيلسوف الالماني هابرماس كما وعدت بنعيم دنيوي بديل للنعيم الأخروي فلا غرو أن يؤثر سائر الناس الحياة الدنيا "بل يؤثرون الحياة الدنيا والأخرة خير وأبقى" . ومضت أبعد من ذلك فحرمت النقاش خارج هذه الرؤية الدنيوية مثلما حرمت الكنيسة الاقطاعية النقاش خارج رؤيتها الأخروية . ووسمت الدولة الاقطاعية رؤيتها هذه بأسم التنوير والرشد ووسمت رؤية الكنيسة بالظلامية واللاعقلانية . وكان كل ذلك محض ايدولوجيا سياسية جاء فلاسفة الدولة الحديثةمن بعد لتبريرها والباسها لبوس العقل النجيب والرشد المهيب. وأسموا ذلك العصر بعصر الرشد أو عصر التنوير ومفردة الرشدالتي يُنسب إليها الترشيد والتنوير تعني "عقل" أو "رشد" . فالعقل والرشد هو ما ينسبون إليه ذلك العصر وذلك الفكر . وقد كان ماكس فيبر مبرر تلكم الايدولوجيا الأول ومفكرها الذي نثر كنانة مفكريه ثم نظمها نظماَ فريداً ووضعها على جيد الدولة الجديدة وحداثتها الكافرة بالأديان بل وكما سنبين فيما بعد الكافرة بالانسان.
العقلانية الكافرة
        لا تستطيع اللادينية أن تدعى لنفسها احتكار العقل . فالعقل هي سمة الانسان التي تجعله مختلفاً عن كل ذي مخلب أو ظلف. والعقل يقع موقع الضرورة لاستمرار الفرد والنوع الإنساني . بيد أن العقل مثل صاحبه نامٍ ومتطور . فهو بواقع الحال قاصر ومنقوص . لأنه لا يتصور نمو ولا تطور إلا بوجود قصور ونقصان. والزعم ببلوغ العقل مقام الرشد زعمٌ لابد له من شهود من خارجه . ولا يكفي ان يدعى العقل بنفسه ذلك المقام ليطابق الحال المقال. ولكن اللادينيون يزعمون ان العقل قد بلغ مقام الرشد . وكل من بلغ مقام الرشد إستغنى عن كل توجيه وترشيد قد يأتى من سواه . ولذلكفهم  ينزعون سلطة التوجيه والترشيد ممن قام بها منذ بداية الدهور وهي العقيدة الدينية ليعطونها حكراً بلا شراكة للعقل الرشيد. بيد أنهم يقعون في تناقض بين عجزهم عن الأعلان عن مرحلة الوصول لتمام الرشد ودعوتهم المستمرة للترشيد "Rationalization" . فالدعوة للعقلنة وللترشيد المستمر تعني نمواً وتطوراً مستمراً وهو إقرار بان مقام التمام لما تلوح بوادره وبشائره بعد. والعقلنة تعني لديهم تفكيك المشهود وإعادة تركيبة ونذكر المشهود لأن المغيب لديهم خارج دائرة الوجود أو خارج دائرة النظر والإعتبار. وتفكيك المشهود يتم بادوات العقل فحسب ولا يتاح هذا التفكيك إلا بالتغاضي المتعمد عن اعتبارات كثيرة وتجريد الموضوع المشهود منها ليصبح موضوعاً خالصاً . وبعد عملية التفكيك أو التحليل هذه تجري عملية إعادة التركيب على شروط العقل ومحدداته لا غير ولا مزيد . ولاشك ان هذا النمط الفكري لا يمكن له ان يصح إلا ان يكون مادياً محضاً يستبعد المعنويات والأدبيات جميعاً . ولا نذكر الروحانيات والميتافزيقيات فالكفر بهذه معلنٌ لا مواربة ولا موارة فيه.
        ولئن كان ذلك كذلك فان العقل نفسه يدخل في محاجة عقيمة . فالعقل نفسه لا يمكن تجريده من المعنوي والروحاني إلا إذا كان ما يسمى بالعقل هو الرديف المتطابق مع ما يسمى بالمخ ".  وهم يجعلون للعقل مركزية مطلقة وأحادية لا شريك لها ولكنهم يعجزون عن تطبيق أنموذجهم التجريدى ومنهجه فى التفكيك وإعادة التركيب على شروط عقلانية محضة على العقل نفسه. إن أزمة العقيدة العقلانية التي تفرد العقل بالربوبية تكمن فى كونها في حاجة لادخال العقل دائرة موطنها خارج الفيزيقيا ليعلو فوق المشهودات جميعاً . وليكون قادراً على رصد الواقع بأسره والاحاطة به بله والتحكم فيه .  أن العقلانية المحضة رفضت الايمان الموروث الذي يقوم على الاعتقاد بعقل كلي هو الرب المتحكم فوق الاشياء وذوي الاسماءجميعاً لتصنع ربها الذي تعترف بحاجته للنمو والتطور باستمرار وتنسى أو تتناسى ان ما يحتاج للنمو والتطور باستمرار هو القاصر والناقص باستمرار في طبيعته وجبلته . والمعضلة الثانية التي تعيشها العقلانية المدعاة هي أنها جعلت المشهود المادي هو الحاكم لأنه هو وحدة الواقع الذي لا محيد للعقل عنه لذلك يصبح المادي هو حقيقة الحقائق التي تقود التطور . ولا يملك العقل الإنساني إلا مسايرة السياق الحتمي الذي تفرضه معطيات المشهود المادى . لذلك لا عجب في مقولة ماركس ومن قبله فيورباخ أن التحولات في عالم المادة هي تمثل البنية التحتية وإن كل ما سواها فهو بنية فوقية تابعة لها. فالعقل الذي هو انساني بطبيعته لا يعود رباً متحكماً كما يزعمون له بل تعود الريادة للمادة والمعلوم التجريبي هو وحده الذي يصنع كل معلوم آخر. وهكذا بدلاًمن أن تكون الطبيعة مسخرة للانسان صار الانسان مسخراً وتابعاً لها .فمنطق الاشياء  يبقى كما هو بغير تبديل ولا تعديل من المشيئة الانسانية هو الذى يسود دائما.ويصبح لكل شىء منطقه المادى الذى ينسجم مع المرجعية المادية العامة.وهذه العقلنة لاتحفل بالعقد والمركب بل تنزع كما أشرنا آنفا للتفكيك والتبسيط وكلما يستعصى على التفكيك يهمل وينحى جانباًبينما ينصب عمل العقلنة على الجانبين التفسيرى المعرفى أو التطبيقى العملى. والجانب الاول يسعى الى استيفاء المعلومات وحصرها وتصنيفها وترتيبها منطقيا ثم استخلاص النتائج وفى هذا السياق فان كل غيبى غير مشهود فهو منفى أومهمل. يشمل ذلك الدينيات والاثنيات والاعراف والحكم والامثال والروابط ذات الطابع العاطفى كل ذلك اما منفى أو غير ملتفت اليه .ويزعمون أن هذا هو تحرير الانسان من مخافة المغيب وفك أسره من الاعراف والتقاليد والوشائج التى تمليها العواطف الانسانية سواء كانت على بداءتها الاولى أو هى متطورة مشذبة ومهذبة .ونتاجا لذلك فان السياسات والتشريعات العقلانية هى تلكم التى لا تلفت للعواطف والمشاعر الانسانية . ولكنها تُبنى على حقائق ملموسة ومعطيات محايدة تُستلخص منها المعلومات.  وقد يجرى ضبط هذه المعلومات ونمذجتها بتحويلها الى مصفوفات ومعادلات رياضية تؤسس عليها السياسات والاختيارات التى يؤسس عليها العمل . واما على الصعيد التطبيقى فالمطلوب هو المواءمة بين السلوك الانسانى ومنطق الاشياء المادية ليقع الانسجام ويتناغم الانسان بسلاسة مطلقة مع علم الاشياء من حوله . منطق الاشياء قد يتسمى بأسماء متعددة فهذه على سبيل المثال فلسفة اقتصادية ومنطق اقتصادى لا يقوم على أدارة النظم والاشياء  فحسب بل يقوم أساسا على نمذجة السلوك الاقتصادى الانسانى على أساس قيمة الاشياء لا قيمة الانسان .فالانسان لايعود أنسانا بل منتجاً أو مستهلكاً وقد عبر ماكس فيبر عن هذا المعنى بوضوح لا مورابة فيه عندما قال ان حالة العقلنة الكاملة تحدث عندما يعتنق العالم أنموذج المصنع . ففى المصنع وخط انتاجه الذى تتحدد فيه الادوار وتتكامل تكمن  الصورة المثلى للمجتمع العقلانى المتطور .وههنا يسود منطق الكم بل أنه حتى نوع السلع المنتجة خاضع لمنطق الكم وكل شىء هنالك خاضع للقياس . وكلما يستعصى على القياس فلا اعتداد به .وفى هذا المجتمع يتحول الانسان الى مهنى أى  الى صاحب مهنة منتج أو الى مستهلك للسلع والخدمات . ويجرى تنميط المهن والسلع والخدمات وكل شىء يدخل الى وصف واحدى . فالتنميط يجعل الانتاج ميسورا ويوسع دائرة الاستهلاك وتدور الدائرة ولكن لمصلحة من تصب فوائدها فى خزائنهم .
العقلانية المؤمنة :
وقد يسأل السائل متعجبا من الاعتراض على هكذا عقلنة وكأن الاعتراض على جعل سلطة العقل سائدة فوق العواطف الفجة أو التقاليد البالية أو التحيزات العشائرية والشخصية. فمن ظن ذلك فقد أوغل فى الخطأ .  ونقول لا أحد يعترض على تحكيم العقل على الاختيارات والقرارات والسياسات ولكن الاعتراض على التعريف المادى للعقل الذى لا يؤمن بالغيب على الرغم من أن حقيقة العقل نفسها مغيبة الا عن شعور الانسان ويقينه أن موجود وان الاشياء حوله موجودة . وان لهذا الوجود منطقاً مفهوما والا لما استطاع الانسان ان يستمر فى الوجود. والكويجتو العظيم لرينيه ديكارت يعبر عن هذا بقوة أنا أفكر أذا أنا موجود والعكس صحيح أنا موجود لذا أنا أفكر.فالعقل عليه المعول فى التحسين والتقبيح وفى تبيين الصالح من الطالح والمعلول من الناجع . ولكن هذا العقل البصيرة له قدرة فذة فى التعامل مع المشهود والمغيب . وكل انسان يتعامل فى كل لحظة مع الشهود والغيب . والغيوب أنواع فمنها غيوب مغيبة فى أبعاد الزمان والمكان . ومنها غيوب مغيبة فى وجدان الانسان ومنها غيوب مغيبة فى ماوراء الزمان والمكان الذين يسميهما الماديون اللادينيون بالميتافزيقيا .الايمان بالغيب هو الفرقان بين اهل الايمان واهل الكفر وبين فلسفة الايمان وفلسفة الكفر ومنطق الايمان ومنطق الكفر . ولئن كان تبرير اللادينيون لفلسفتهم بأنها فيها التحقيق والتعظيم للمصلحة والمنفعة الانسانية فان المشاحة بيننا وبينهم فى فهمهم وتفسيرهم للمصلحة  فليست المجادلة فى التعويل على العقل في إدراك المصالح والمفاسد فإن إدراك المصالح والمفاسد لا تكون في معظم الحالات إلا بعد نظر عقلي عميق، وتأمل وتدبر. بل انه حتى عند النص عليها فان المنصوص عليه من المصالح والمفاسد في الشرع فان تأكيد التنصيص لا يقوم الا بالعقل . والمنصوص عليه هكذا قليل لايضاهى غير المنصوص توقيفاً. ومصالح الناس والمفاسد التي يمكن أن تفضي إليها أفعالهم لا تتناهي . ولذلك فلابد من بذل الجهد العقلي في إدراكها. وذلك باستخدام طرق الاجتهاد لمعرفة مقصود الشرع في المسائل والنوازل. لأن المقاصد الشرعية علامات منصوبة تهدي إلى المصالح، وتبعد عن المفاسد . مثلما أن ما يلوح للعقل بأنه مصلحة مُشعر بقصد الشارع. فإذا أدى الاجتهاد إلى أن تحصيل ما يُرى أنه مصلحة لا تخالف مقاصد الشرع ولا تعارض قواعده ولا طريقة الشارع في اعتبار المصلحة ثبت أن الأمر المراد مصلحة. وإن لم يرد بشأنها دليل جزئي من الشريعة يدل عليها. فعلماء الشريعة يدعون إلى إعمال العقل في إدراك مصالح العباد. ولكنهم لا يرون للعقل حق الاستقلال بذلك. يقول الإمام الغزالي: "وكلامنا لا يمنع من إشارة العقول إلى جهة المصالح والمفاسد وتحذيرها من المهالك وترغيبها في جلب المنافع والمقاصد. أما كونه يستقل بادراك المصلحة فلا. لأنه لو استطاع إدراك جميع مصالح الدنيا والآخرة لم يكن لمجيء الشرع داع .لأنه يكون بمثابة تحصيل الحاصل. وهذا عبث تعالى الله عنه علواً كبيراً. ولو كان يدرك جميع مصالح الدنيا دون الأخرى ، لكان مجيء الشرع قاصراً على بيان مصالح الآخرة. وهذا لم يقل به أحد من علماء الشريعة"([1]).
          ويذهب الإمام الشاطبي إلى ما ذهب إليه الغزالي بالقول: "العادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل". ويمضي الشاطبي إلى القول "إنه لو جاز للعقل تخطي مأخذ النقل لجاز إبطال الشريعة بالعقل، وهذا محال. وبيان ذلك أن معنى الشريعة أنها جاءت لتحد للمكلفين حدوداً في أفعالهم وأقوالهم واعتقاداتهم. وهو جملة ما تضمنته . فإن جاز للعقل تعدي حد واحد لجاز له تعدي جميع الحدود. لأن ما ثبت للشيء يثبت لمثله. وتعدي حد واحد هو معنى إبطاله. وان جاز إبطال حد واحد جاز إبطال السائر. وهذا لا يقول به أحد لظهور بطلانه"([2]). فعلماء المسلمين يدركون أن القول باستقلال العقل بإدراك المصالح في الدنيا والآخرة يعني أن الديانة زائدة عن الحاجة أو أنها ذريعة من الذرائع لتحقيق منافع دنيوية، مثل ما يقول به أهل نظرية المنفعة العامة والذرائع.

ثانياً: أن المصالح الدنيوية لا ينظر إليها بمعزل عن مصير الإنسان في الآخرة ، أي مصلحته في الآخرة . فالحياة الإنسانية حياة واحدة ممتدة في العاجلة والآجلة. ومثلما أن الإنسان يضع اعتباراً لأمله في الحياة الدنيا، فالإنسان المؤمن يضع اعتباراً لأمله في الحياة الأخرى. ولذلك فان مقصود الشرع هو صلاح الناس في معاشهم ومعادهم. والسعادة المطلوبة للعباد سعادة في الدارين الدنيا والآخرة. وهذا معنى قصرُت دونه أفهام أهل المنفعة والذرائع، أو لعله قصُر دونه إيمانهم. والسعادة الحقة في مفهوم الشرع إنما تُنال بالعبودية الحقة لله تعالى. وهذه لا تكون إلا باتباع مرادات الله سبحانه وتعالى. ومراد الله سبحانه في الأشياء والأفعال هو تحقيق مصلحة العباد العاجلة والآجلة.

ثالثاً: وبسبب هذا البعد الإيماني بالله وبالدار الآخرة، فإن المصلحة في الشريعة لا يُنظر إليها نظرة وضعية أو مادية. بمعنى أنه لا يُنظر إلى ما يتحقق منها في دنيا الناس للأفراد أو الهيئة الاجتماعية بصورة محسوسة ملموسة. ولا يشترط فيها أن تكون مادية. فان لذات الروح وأفراحها أعظم من لذات الجسد وأفراحه. ومعاني الأشياء أكبر من تمثلاتها. فالكثير من العبادات الشاقة كالجهاد والسياحة في سبيل الله والقيام حتى تتفطر الأقدام، رغم ما فيها من مشقة وتعب، فهي لذة مطلوبة عند ذواقها مما دفع عبد الله بن المبارك للقول: "لو عرف الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف".

وهكذا فبرغم ما يلوح من موافقات بين مفهوم المصلحة عند فلاسفة المنفعة والذرائع ومفهومها عند فقهاء المسلمين، إلا أن الفروق تبقى أكبر من الموافقات. وإن المصلحة بمفهومها الغربي لا تصلح مستنداً للأحكام والتصرفات لانها أنما تعول على المحسوس الملموس والمنظر المشهود وتكفر بالمغيب أو تتخذه وراءها ظهريا .



[1] ) الغزالي - شفاء الغليل - ص130.
 [2])  الشاطبي - الموافقات  1/87.

هناك تعليقان (2):

  1. كلام غاية في الأهمية

    ردحذف
  2. نرجو أن تتناول أفكار الشيخ حسن التجديدية والفقهية بالتفصيل وتوضح لنا ما هو متعلق بالفروع وما هو متعلق بالأصول.. وتوضح لنا رأيك فيها أيضا مما توافقه ولا توافقه فيها..

    ردحذف