السبت، 8 أكتوبر 2016

الأرهاب .. معضلات التعريف والمواجهة 7
د. أمين حسن عمر
يتسم فكر الغلو العنيف بمقدرة إقناعية عالية لا تتأتى إليه بقوة حجته ولا باستناده إلى مرجعيات صحيحة مؤثوقة ، بقدر استفادته من حالة الفراغ الفكري وغياب أية سلطة فكرية ذات إعتمادية لدى غالبية الشباب في عالم الأسلام . فالشباب في العالم الإسلامي ومنهم أيضاً المسلمون في الدول الغربية يعيشون فراغاً فكرياً هائلاً ، وأزمة هوية ثقافية طاحنة . وتفاقم ذلك عدة ازمات أخرى يواجهها الشباب هي البطالة وأزمة الحرية والديمقراطية في بلدان العالم الثالث المسلمة ، والتهميش الاجتماعي وتحدي العولمة الثقافية وقضايا الإندماج الهوياتي للشباب المسلم في الغرب. والشباب المسلم يواجه هنا الواقع الطاحن دون مساندة حقيقية ومؤثرة من أي طرف من مؤسسات الدولة أو المجتمع المدني في بلاده أو في الغرب.
تفكك المرجعيات والسلطات الدينية :
واحدة من أكبر أسباب أنتشار فكر الغلو العنيف هو غياب أية مؤسسية مؤثوقة وفاعلة في مجال التجديد الفكري والفقهي لجعله معاصرا وعمليا قابلا للتطبيق. ولم يكن الحال هكذا حتى في سنوات القحط الفكري والثقافي في تاريخ العالم الإسلامي فكانت هنالك مؤسسات ذات مرجعية وقدر مناسب من المقبولية والموثوقية لدى قطاعات الشباب. وذلك من لدن الجامعة النظامية في بغداد إلى المدرسة الجوزية في الشام وصولاً إلى جامعة القرويين والزيتونة والأزهر وعشرات المؤسسات الجهوية الأخرى . ومئات العلماء حتى في الأزمان المتاخرة بدءاً بندوة العلماء في الهند التي أنجبت أفذاذاً من أمثال الكاندهلوي إلى أبي الحسن الندوي وأبي الأعلى المودودي ، مروراً بالشرق الأوسط الذي أنجب في الأزمان المتأخرة اعلاماً من أمثال الشوكاني والصنعاني من اليمن وجمال الدين الافغاني من افغانستان ومحمد عبده ورشيد رضا الطباطبائي وعلى شريعي من إيران وباقر الصدر من العراق ومحب الدين الخطيب من الشام وأحمد شاكر وأبو زهرة من مصر وابن عاشور والثعالبي من تونس وابن باديس والابراهيمي ومالك بن بني من الجزائر وعلال الفاس من المغرب ولا نريد الأحصاء ولا التزكية ، ولكن هو مجرد تمثيل وحتى ستينيات القرن الماضي كان العالم الإسلامي يحفل بالرموز الفكرية التي يرجع إليها الشباب والمؤسسات العلمية التي ينهلون منها ، ولكن ذلك كله تناهى وأصبحت المؤسسات واهية وضعفت ثقة الشباب بها واختفى العلماء الأعلام إلا قليل ، وحلت الجماعات ذات الصفة الايدولوجية محل المؤسسات . وجلبت تلكم الجماعات معها إلى الساحة الفكرية والفقهية مزيداً من التعصب وقليلاً من الانفتاح . وانحاز فئام من الشباب إلى هذه الجماعة ضد تلكم الجماعة . وبدأ الأمر بالتخطئة المطلقة المتبادلة ثم التفسيق ثم التكفير حتى بلغنا إلى الخوض في الدماء الذي هو المعضلة الكبرى التي تواجه المسلمين اليوم . حيث يقتل المسلمون بعضهم بعضاً ويخرجون فريقاً منهم ليس بالقليل من ديارهم ، حتى صار ما يسميه هؤلاء دار الاسلام تطرد بنيها إلى ما يسمونهم دار الكفر . وترافق هذا التراجع الكبير في الأطروحات الإسلامية المعتدلة مع توسع الجماعات الايدولوجية وتعاظم قدراتها المالية والمؤسسية على استقطاب الأعضاء . وأصبح العالم الإسلامي في مجالاته الفكرية ساحة للتنازع والصراع، مما زاد الشباب حيرة وارتباكاً . وقد بذلت هذه الجماعات جهداً قليلاً لابتدار حوارٍ منتج بينها باللتي هي أحسن ، رغم أنها تقرأ أنه مأمورة بالحوار بالحسنى وبقول التي هي أحسن حتى لمن خالفها في الدين فكيف بمن خالف الجماعة أو المذهب أو الطريقة الصوفية أو السلفية . ولاشك أن التطلع إلى مواجهة مشكلة الارتباك الفكري لن يكون أمراً عملياً ولا ممكناً ما لم تتوصل الجماعات ذات التوجهات الفكرية إلى كلمة سواء بينها . تجتمع فيها على الأصول وتتفق على المقاصد وتصطلح على المناهج ، وتتوافق على احترام الاختلاف في الأمور الاجتهادية التي هي محل لتقديرات قد تتفاوت وقد تتنوع . وتشرع بادارة التنوع الفكري بروية ورشد لأن ذلك أصبح أمراً لازماً كي تُستعاد الثقة في المؤسسات والمرجعيات ، والإ فان الشباب سوف يجذبه الطرح المباشر والظاهري . وقد تتفاقم مشاعر الحيرة والارتباك لديه بما يعانيه من مشكلات وما يشاهده من مظالم وتحيز وعدوان على المسلمين حينما اتجهت منه الانظار.
الأجندات الدولية والحرب على الارهاب:
إن مخافة كثير من الدوائر الدولية من ظاهرة الصحوة الإسلامية وبخاصة بعض مظاهر الغلو العنيف في بعض تبدياتها، قد أدى إلى تفاقم الاسلامفوبيا في الدوائر العلمية والاعلامية والسياسية في كثير من بلاد الغرب وحتى في الشرق غير المسلم . وأصبحت كثير من الدول تنظر إلى الجماعات الإسلامية حتى لو كانت معتدلة بوصفها مهدداً محتملاً لأمنها أو مصالحها الحيوية . واتسع هذا ليشمل الجاليات المسلمة التي تعيش في الغرب بأكملها. وأدى تفاقم الاسلامفوبيا إلى جعل عملية إندماج المسلمين في مجتمعاتهم عسيرة . ففي الوقت الذي تريد تلك المجتمعات الغربية من المسلمين أن يصبحوا جزاءاً لا يتجزأ من نسيجها الاجتماعي والثقافي فإنها لا تثق بهم وتتحامل عليهم . ولا تخبرهم المعاناة التي يجدونها من التحيزات ضدهم سوى إن حصولهم على معاملة عادلة أمر غير قابل للتحقيق . والشباب هم أكثر القطاعات تأثراً بالتحيز ضد المسلمين في أتاحة فرص العمل وسائر الامتيازات التي يتمتع بها كل مواطن آخر لا يشي أسمه أو سمته العام أنه مسلم سواء كان معتدلاً أم غير معتدل راغباً في الإندماج في مواطنة متساوية أو غير راغب.
والأمر لا يتوقف عند أزمة التوافق والاندماج ،وإنما يتجاوز ذلك كله إلى مجمل الخطاب الاعلامي والسياسي الذي يتجاوز التحيز إلى خطاب الكراهية في أحيان ليست بالقليلة . وهو خطاب إعلامى قوي ومسموع ومشهود وله تأثير واسع وأحدى آثاره هي استثارة خطاب مقابل لدى الشباب المسلم هو الآخر خطاب ثقة مفقودة وكراهية موجودة وتتجدد بكل خطاب جديد من الطرف الآخر . ولذلك لزم أن تنشأ المبادرات لفتح آفاق حوار منطقي وموضوعي حول المسائل التي تثير مشاعر التخوف من الإسلام لدى الدوائر الاعلامية والسياسية في الغرب. فالحوار وحده هو دائرة الإطفاء الفاعلة لمشاعر الشك والكراهية المتبادلة المتعاظمة . ولاشك إن الدول والمؤسسات المسلمة والعلماء المسلمون لهم أدوار يتوجب عليهم الإضطلاع بها في إدارة هذا الحوار الداخلي والخارجي لإحتواء ظواهر الغلو العنيف التي باتت تنتشر الآن عبر آسيا وافريقيا وتمتد أثارها إلى كل مكان . ذلك أن الحلول العسكرية والأمنية قد يكون لها أثر آنى ومحلى محدود لأنها العلاج بعد انتشار الداء ، ولكن الحوار وحده هو العلاج الوقائي الشامل. ويجب أن يمتد الحوار لمناقشة أمور كثيرة تتضمن بعضها السياسات الخاطئة والظالمة التي قد تتبناها بعض الدول الغربية ، والتي تعظُم بها بلوى قطاعات واسعة من المسلمين ،مثل الحروب الانتقامية في افغانستان والعراق ، ومثل المواقف المتحيزة من الصراع الفلسطيني الاسرائيلي ، ومثل العقوبات الآحادية التي تفرضها الولايات المتحدة الامريكية لإجبار بعض الدول للتماهي مع رؤيتها السياسية أو مصالحها الحيوية ، ومثال لذلك ما تفرضه الولايات المتحدة الامريكية من عقوبات آحادية تطال أثارها كل الشعب السوداني، ومن قبل أبتلى بها العراق وبلاد مسلمة كثيرة ، ومثل عدم احترام الولايات المتحدة للقانون الدولي الذي تجبر الدول الأخرى على الانصياع له ، وآخر الأمثلة على ذلك هو التشريع الذي خرج من الكونغرس الامريكي بأسم (الجستا ) أو قانون محاسبة رعاة الارهاب ، والذي يضرب بقواعد القانون الدولي عرض الحائط ،فيحاكم الدول أمام المحاكم الوطنية الامريكية . وأعجب ما في الأمر أن المحاكم الوطنية في امريكا قد حاكمت السودان وأصدرت عليه أحكامها بدعوى رعاية الارهاب حتى قبل إصدار هذا التشريع الأخير. أن مثل هذه التصرفات التي لا تستند إلا إلى منطق القوة هي التي تثير الغضب العارم لدى الشباب المسلم . ولئن كانت ردود أفعاله غير محسوبة وغير حكيمة في كثير من الأحيان ، فإن إحتواء ردود الأفعال هذه يتطلب حواراً رشيداً بين سائر الفرقاء فالجميع يشقى بالتنازع والحروب . ولذلك فإن تناصر الجميع على تفاهمات تدرأ النزاعات وتفض القائم منها ، وتدفع الحروب وتوقف الماثل منها أمر بات ضرورياً لسلام العالم بأسره ، لأن العولمة التي سطحت العالم جعلت أعاصيره مهددة للجميع ، فعلى الجميع أن يكفوا عن بذر بذورالريح لأن من يبذر الريح يحصد العاصفة .
انتهى،،،
الإرهاب .. معضلات التعريف والمواجهة (6)
د. أمين حسن عمر
ارتبط الغلو العنيف برؤية سلفية جهادية لها منظورها المخالف لرؤية الجماعات السلفية المعلومة فى المنطقة ، وإن إشتركت معها في بعض المفاهيم . كما أرتبط برؤية جهادية ثورية تشابه رؤى الجماعات الجهادية الإخوانية والمجموعات الثورية ذات التوجه الشمولي في دعوتها للتغيير الإجتماعي والسياسي. ورؤية مجموعات الغلو العنيف للسلفية رؤية ماضوية ترى أن صحة مرئيات السلف تنبع من زمانها لا من حجتها ولا مناسبتها لمعالجة النوازل والمشكلات المعاصرة . وهي ترى أن مذهب السلف مذهب لا تأريخي ، بمعنى أنه صالح لكل زمان مهما اختلفت الأوضاع أو تغيرت الأحوال، وإلى جانب هذا التقديس غير النقدي هنالك نظرة استخفافيه بكل فقه جديد أو رؤى معاصرة لكيفية معالجة معضلات الحياة المعاصرة استهداء بالأصول والمناهج والمباديء الإسلامية. فالمعاصرة التي يسمونها "بالعصرانية" سُبة في وجهة نظرهم و"العقلانية" التي هي التبصر في واقع الحال وملاءمته مع التوجيهات الإسلامية هي أيضاً سُبة وكلاهما العصرانية والعقلانية دلالة لديهم على عدم صدق تدين القائل بهما إن لم يكن نفاقه وموالاته لأهل الكفر والضلال.
التوحيد والجهاد
وقطبا الدعوة السلفية الجهادية هما التوحيد والجهاد . ولأهل الغلو من هذه الجماعات تفسيرهم الخاص للتوحيد وللجهاد. فالتوحيد يُنظر إليه من باب المخالفات لا من باب التمثلات . فالأولى والأرجح لديهم هو مخالفة طرائق أهل الجحيم من الكفار وتجنب كل ما يشبه تلكم الطرائق لا موافقة أهل النعيم والتشبه بفلاحهم. فالأنتهاء عن شبهات الشرك من مثل تعظيم لما سوى الله سبحان وتعالى والتوسل إليه بغيره هو أولى الأولويات. وذلك فقد أحيت الجماعات الجديدة الرؤية المتشددة للأخوان من اتباع محمد بن عبدالوهاب بازاء المخالفات الشركية من تعظيم للقبور والقباب أو التوسل بالصالحين والأولياء أو التقرب أو التزلف لغير أهل الأيمان. ولاشك أن الكفر بمظاهر الطاغوت هي الخطوة الأولى من خطى الأيمان ، ولكن كونها الخطوة الأولى لا يعني أنها الخطوة الأهم . فالأصل هو التحقق بالايمان لأن نفي الكفر بغير تحقق الايمان هو باب من أبواب الكفر. ونفي الشرك دون التمثل والتحقق بمرئيات الايمان هو أيضاً باب من أبواب الشرك. فالأيمان هو الأصل، لأن مراد الله سبحانه وتعالى من الخلق وهو الارتقاء بهم إلى الاخلاق الربانية . ولن يتحقق ذلك لهم إلا بالتعرف والتحقق باخلاق الايمان . ولن يكفي مطلقاً التبرؤ من اخلاق الكفر والجحود فحسب . فالرؤية التوحيدية لجماعات الغلو رؤية سلبية منشغلة بالآخر ، تتحدد مواقفها بمواقفه ، وترهن خطاها بخطواته . ولذلك لا عجب أن تحتل ثقافة التكفير هذا الموقع المهم في تفكير هذه الجماعات . فالكفر الذي هو كفر الآخرين هو الشاغل الأكبر ، وليس الأيمان الذي هو إيمانها . وعندما يأتي الأمر للايمان فالجانب السلبي الذي هو الكفر بالطاغوت هو الأهم لديهم، وليس الايمان العملي بالله رب العالمين بالاهتداء بهديه والتمثل بمطلوباته ومراداته. ومما يؤسف له أن هذه الجماعات هي الأكثر اهتماماً بالكتابة في باب التوحيد ، مما يجعل رؤيتها هي الرائجة ، بينما يسكت جمهور العلماء من أهل الاعتدال الفكري عن شرح وتوضيح فكرة التوحيد التي هي جوهر العقيدة الإسلامية .
الايمان هو الأصل :
التوحيد هو أن نؤمن الله وحده ولا أحد سواه وأنه هو الحق وأنه مصدر ومرجع للخير والجمال والجلال. ولذلك فإن جوهر الحياة هي رحلة عرفان وطلب لله سبحانه وتعالى "يا أيها الانسان إنك كادحٌ إلى ربك كدحاً فملاقيه" وهي لقيا عرفان بالتعرف على الله سبحانه وتعالى بما عرف به نفسه ،والتقرب إليه بتحقيق مراده منا ،لأن مراده منا هو لأجلنا لا من أجله سبحانه ، فهو الغني عن كل ما سواه ولو اجتمع الخلق جميعهم على مخالفة إمره والكفر به ما نقص ذلك من ملكه من شيء . والكفر هو مخالفة سبيل الحق الذي هو صراط الله المستقيم . ومخالفة مرادات الله من خلقه التي بها سعادتهم في الدارين . ولذلك فإن الأصل هو الايمان وإما الكفر فهو الضلال عن طريق الايمان . وهذه الرؤية الايمانية للتوحيد هي التي ستجعل الكفر أمراً ثانوياً جانبياً ، ويصبح التكفير قضية ثانوية أيضاَ . فالتحقق بالايمان إنما هو في جوهره ارتقاء بالإنسان ليكون ربانياً في أخلاقه رحيماً كريماً عادلاً رؤوفاً حليماً ، لأن الديانة ما جاءت إلا رحمةً للعالمين ، رحمة للإنسان ، ورحمة الإنسان لبني جنسه وسائر المخلوقات الأخرى . وعندما يصبح الايمان هو مركز الوجود وتصبح الرحمة هي جوهر الايمان فحينئذ يتبدد التشدد والغلو . وتحل الرحمة والرأفة محلهما ،رحمة عامة بالعالمين لا رحمة بالمسلمين وحدهم . ولذلك لا يصبح الكفر حاجزاً بين المسلم والكافر بل الدعوة بالتي هي أحسن هي الصلة وهى خطاب المؤمن للكافر وهي ليست دعوة باللسان فحسب بل باللسان وبالأسوة الحسنة والسلوك الكريم. أما الكافر المحارب فيُحارب لأنه محارب لا لأنه كافر . والكافر المعتدي نعتدي عليه كما أعتدى علينا والله لا يحب المعتدين . وأما أولئك المسالمين من غير أهل الإيمان فأصل العلاقة معهم هي البر والقسط "لا ينهاكم الله عن اللذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" . فالله يحب المقسطين ولا يحب المعتدين ، ولئن كان الكفر يمثل إعتداء في حد ذاته فهو اعتداء في حق الله سبحانه وتعالى . وقد شاءت مشيئة سبحانه في حق الكافرين الارجاء والامهال لعلهم يرجعون . فلا يحق لأحد أن يعتدي على كافر لمجرد الكفر وقد أمهله الله سبحانه وتعالى ، بل وأمرنا بامهاله " وإن إحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله تم أبلغه مأمنه" يقول الطبري إنما ُشرع أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله وتُنشر دعوة الله في عباده. وكيف يُرجى لدعوة الإسلام ان تنتشر ان كان حكم الكافر ان يقتل لكفره لا لعدوانه وحرابته . وتستشهد جماعات الغلو بآيات مقيدة باحداث معينة وأهل شرك معلومين هم مشركو العرب الذين تربطهم أواصر النسب بكثير من المسلمين حتى يكاد البعض يواليهم على حساب ولاء الاسلام ، وعندما يستشهد أهل الغلو العنيف بأية سورة براءة "فاذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم واحصروهم وأقعدوا لهم كل مرصد فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلو سبيلهم" . أو آية "يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليحدوا فيكم غلظة" فكأنهم لم يقرأوا "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" . يقول صاحب التفسير : وأمرهم تعالى ذكره بقتال من كان منه قتال من مقاتلة أهل الكفر دون من لم يكن منه قتال، لأنه أباح الكف عمن كف فلم يقاتل من مشركي أهل الأوثان والكافرين عن قتال المسلمين ومن كفار أهل الكتاب.
وقد صارت عقيدة البراءة من الكفر التي بلورها الأمام أبن تيمية فيما أسماه الولاء والبراء أصبحت عقيدة لبعض أهل الغلو والتشدد . فكأنها أصل من أصول الايمان وعلا مقدارها عندهم أكثر من مقدار وجوبية الدعوة لله التي هي ثلث الايمان. فكيف تجانب الكافر المُسالم وتحاربه ثم تزعم أنك تستجيب لنداء الله " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن" . وهل ينفتح أصلاً باب للجدل إذا سبقه في الانفتاح باب الكراهية والاقتتال . ان سكوت جمهور العلماء عند مجادلة أهل الغلو في ما يسمونه عقيدة الولاء والبراء هو واحد من اسباب تعاظم ارتباك الشباب وبخاصة وهم يرون في كل يوم الظلم والتحامل الذي يقع على المسلمين. وقد اتسعت نزعة المجابنة والمحاربة لغير المؤمنين لتشمل بعضاً من أهل الايمان الذين توسع أهل الغلو والتشدد في تكفيرهم بسبب الآراء الاجتهادية . فبعد أن أحال هؤلاء كل رأي اجتهادي للسلف إلى أمر قطعى وجعلوا كل ناقش ذلك الرأي أو ناقضه فاسقاً أو منافقاً أو كافراً ، جاءوا من بعد ذلك بفتوى عجيبة يوسعون بها القتل لأهل الايمان وهي أن وصموا من خالف رأى من أراء السلف بالردة والكفر وزعموا أنه أولى أن يحارب قبل الكافر الأصيل. وهكذا ينقص الايمان بايقاف الدعوة واعلاء القتال كما ينقص بتكفير المؤمنين بأوهى سبب وأدنى تعلة فلا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
نواصل
الإرهاب ... معضلات التعريف والمواجهة (5)
د/ أمين حسن عمر
ظاهرة ما يسمى بالإرهاب هي ظاهرة فوضى فكرية تتمظهر في فوضى ذات أبعاد إجتماعية وسياسية وأمنية خطيرة، باتت دول عريقة تنهار بآثارها وتفكك مجتمعات كانت بالأمس آمنة ومستقرة، وتكاد منطقة الشرق الأوسط بأثرها يعاد تشكيلها جغرافياً وديموغرافياً بالتحولات العظمى التي تنشئها هذه الزلزلة وتوابعها في المنطقة . بيد أن القليل من الجهد هو المبذول لفهم الظاهرة في أبعادها الفكرية والنفسية لتدبير مواجهة شاملة تبدأ بالإحتواء ولا تنتهي بالملاحقات الأمنية والعسكرية بل بالحصانة الفكرية ضد كل فكرة متفجرة.
المناجزة الفكرية للإرهاب
يكاد الجميع يدرك ويقرر أن الحرب على الإرهاب يجب أن لا تقتصر على المواجهة العسكرية الأمنية . وقد إنتظمت قمة لمكافحة الإرهاب دعا لها الرئيس الأمريكي باراك أوباما في واشنطن شهدتها سبعون دولة وكان التركيز فيها على مواجهة الإرهاب في الشبكة الدولية والإعلام . كذلك فإن الجهود التي تقودها المملكة العربية السعودية في إطار التحالف الإسلامي ضد الإرهاب قد قررت إقامة مؤسسة فكرية للحرب على الإرهاب. لكن الجميع يقر أنه ومنذ أن أعلنت الولايات المتحدة حربها على ما تسميه الإرهاب أثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2011م فإن الفكر التكفيري المستقطب لآلاف الشباب من شتى أنحاء العالم بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها قد توسع توسعاً عريضاً. وأن حربي أمريكا في أفغانستان والعراق كانتا اثنتين من أسباب تحفيز إنتشار الفكر التكفيري وتوسع ثقافة الكراهية فى العالم بأسره. فلئن كان الشباب المسلم الحانق قد دفعه الغضب واليأس تلقاء مزيد من التجاوب مع الخطاب التكفيري ، فإن ثقافة التحيز ضد المسلمين في الغرب وبخاصة في أوساط الإعلام والسياسة قد توسعت هي الأخرى . وتضاعفت جرائم الكراهية ضد المسلمين أضعافاً مضاعفة . ويدرك العقلاء جميعا إلى أين ستقود ثقافة وخطاب الكراهية العالم بأسره. لذلك فالحملة الفكرية للتعامل مع ظواهر الإرهاب وتوابعها يجب أن تشتمل على جهود منسقة شاملة تنظم تنتظم كل العالم يتوجه بعضها للشباب المسلم المتأثر بالتأويل الخاطيء للنصوص الإسلامية وبالصورة الشائهة للآخر . وكذلك يجب أن تتوجه إلى أولئك المتأثرين بثقافة الكراهية للإسلام والمسلمين . فإن أقوالهم وأعمالهم تصب الوقود على الظاهرة بدلاً من أن تعين على التعامل الرشيد معها . ولا شك أن محتوى خطاب الجماعات الغالبة الضيقة يُعطي صدقية عندما تمكنه الإشارة إلى توسع ظاهرة الإسلاموفوبيا وإنتشار جرائم الكراهية ضد المسلمين في المجتمعات الغربية.
بيد أن الاجماع حول ضرورة الحرب ضد الغلو العنيف لم تثمر إلا النذر القليل. ذلك أنها لا تهتدي برؤية موحدة شاملة للظاهرة، بل لا تتفق حتى على تعريف ما يسميه الغرب الإرهاب ونؤثر تسميته (الغلو العنيف) ولا تقارب أبحاثها الجذور الفكرية والمحاضن المذهبية لأفكار الغلو العنيف . وقد قادني الإطلاع الواسع على هذه الجهود الفكرية إلى خلاصة هي - أن جميع هذه الجهود لن تنجح في إقناع قطاعات واسعة من الشباب – لأنها لا تبدو مؤهلة لكسب ثقته من ناحيتي الموثوقية العلمية والأمانة الأخلاقية العلمية. وقد إنهمكت بعض الدوائر السياسية ودوائر الجماعات الدينية بتبادل الإتهامات كلً يرمي الآخر بأنه منبع أصيل للفكر الغلو. وأصبحت هذه التهمة متبادلة بين الطائفتين السنية والشيعية. فالسنة يتهمون الشيعة ومخابرات دولة إيران بصناعة أو اختراق هذه الجماعات المتشدده . والشيعة يزعمون أن المحضن الفكري والمذهبي لهذه الجماعات هي الرؤية المذهبية السائدة في المملكة العربية السعودية والشيعة أنشط في السعي بهذه الدعاية في الأوساط الغربية التي تتجاوب معها بسالفة التحيز الفكري والإسلاموفوبيا.. وكذلك فإن بعض الجماعات السلفية ترمي الجماعات الإخوانية بالتهمة ، وبعض الجماعات الإخوانية ترمي الجماعات السلفية بالتهمة . والجميع لا يقتربون من التشخيص الصحيح للقضية، فالظاهرة في بعدها الفكري مثلما هي أية ظاهرة فكرية نتاج تفاعل وتداخل أفكار متعددة منها ما هو متأثر بأفكار موروثة وأخرى معاصرة ، بعضها يعود للفكر السلفي ، وبعضها للرؤية السياسية الإخوانية للواقع المعاصر، وبعضها متأثر حتى بأفكار غربية ذات طابع ثوري شمولي، فلا فائدة من المبارزه الجانبية بين المذاهب والجماعات . وإنما يجب التركيز على فهم المشارب الفكرية لظاهرة الغلو المعاصر . وهي وإن أشبهت بعض ظواهر نشوء جماعات متشددة في الماضي مثل الخوارج أو القرامطة، فإن إعتبارها إمتداداً لذات الأفكار وكأنها سليلة لتلكم الجماعات خطأ ينأى بنا عن التشخيص السليم للحالة الراهنة.
دراسة المحتوى الخطابي للغلو المعاصر
يفتقر الخطاب المنتسب لجماعات الغلو العنيف بالفروعية وغياب الرؤية الكلية الأصولية . فهو مجموعة فتاوي وتفاسير لآيات وأحاديث متناثرة لا تنتظم في رؤية شاملة لمراد الدين في تفسير ظاهرة من الظواهر أو علاقة من العلاقات بين الأفراد والجماعات. وهي بذلك تبرز واحدة من أزمات الفكر الإسلامي المعاصر ، وهي فروعيته وجزئيته. ويصبح الدين لدى هؤلاء الشباب جمهرة فتاوي وأحكام آمرة ناهية مثلها مثل صيحات الآمر العسكري الذي يصرخ في جماعته أفعلوا أولا تفعلوا . وبذلك لا تفهم الجماعات من خلال هذه الأوامر إلى أين يمضي المسار بها وإلى أي مقصد أو غاية ينتهي. وهذه الفروعية والجزئية في الفهم تقود إلى ظاهرة فكرية أخرى هي الظاهرية، أي أن الأوامر الدينية والأحكام تبدو وكأنها لا تحتاج إلى تفسير أو تأويل، وإنما تفهم على ظواهرها. بينما الأصل في كل شيء وفي كل خطاب أن له ظاهر وباطن . وهؤلاء يقرأون آية سورة آل عمران ويمرون عليها مرور العابرين " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وآخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إبتغاء الفتنة وإبتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا ألو الألباب" يقول ابن كثير في تفسير الآية آيات محكمات أي بينات واضحات الدلالة لا إلتباس فيها على أحد من الناس، ومنه آيات أخر فيها إشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن رد ما إشتبه عليه إلى الواضح منه وحكم محكمه على متشابهه عنده فقد إهتدى. وهو يقول أن التأويل الذي هو عمل الراسخين في العلم ، إنما يكون بجعل الآيات المحكمات مراجع لفهم ما تشابه من الآيات. والتشابه في اللغة أمر لا معدى عنه ، لأن اللغة تعمل بوسائل الإشارات والدلالات والإيماءات ويتطور المفهوم فيها بتغير الأحوال والانساق والمساقات. وقد خاض المفسرون وأهل اللغة في موضوعات التشابه اللغوي المتأتية من إستخدام التشبيهات والكنايات ودلالة العبارة ودلالات الإشارة ودلالة الوقف والإتصال . وتوسعت تلكم العلوم في زماننا هذا توسعاَ هائلاَ ، فأصبح للغة علوم لسانيات تتوسع يوماَ بعد يوم، وتمكن بتوسعها الدارسين من فهم غوامض دلالات التعابير اللسانية والنفسية على حدٍ سواء.
الآفة الظاهرية :
والظاهرية في الدين هي أكبر إنحرافات الفهم له، ذلك أنها تحيل الدين إلى طقوسية بلا معنى ولا مقاصد . فيكون إعتبارها للمباني لا المعاني ، وتعويلها على الألفاظ لا على دلالة الألفاظ ، وعلى قوالب ومظاهر العبادة لا على نياتها التعبدية ونفعها العاجل والآجل. ولا شك أن حفظ النصوص المتعلقة النازلة واستظهار الآيات والأحاديث أمر يسير لا يحتاج إلى أن يكون المرء راسخاً في العلم كما هو الشأن في الفقه والتأويل . ولذلك فقد تكاثر أهل الفتوى في تلكم الجماعات وما يُشابهها، ، فكل حافظ للقرآن ومستظهر لطائفة من الأحاديث عارفٍ ببعض أخبار سيرة مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنف عاجلاَ من أهل الرسوخ في العلم ، وهو لا يعدو سابحاً في طافيا في سطحه محروم من أدوات الغوص في أعماقه لاستجلاء غوامضه وسبر أغواره واستخراج لؤلؤات المعاني منه.
وكذلك ان عاهة الفكر الظاهري وآفته الكبرى هي افتقاره للأصولية والمقاصدية . ولابد لكل فكرة من أصل كلي ترجع إليه ، فيكون مرجعيتها ، وإلى مقصد تتجه إليه فيكون غايتها التي يُنتفع بها في العاجلة والآجلة. ومع إفتقار الظاهرية الجديدة للفهم الأصولي والمقاصدى إفتقرت للوعي الديني الشامل . والأصل في الدين أنه وعي بالواقع يتصل بالمرجعيات والمقاصد . وإلا صار تقليداً أعمى مثل تقليد الشيعة لمراجعهم بغير فهم أو بصيرة ، أو تقليد غلاة السلفيين للسالفين من أهل العلم بغير فهم ولا إدراك. وكلا الطرفين يحسب أن كل فكرة متجددة في تأويل النصوص كيما يفهمها فهماً معاصراً متصلاً بالواقع هي بدعة وفتنة إن لم يذهبوا في تعجلهم إلى تكفير صاحبها أو أصحابها وإخراجهم من الملة ضربة لازب.
ومما مكن وسهل وساعد على إنتشار هذه الفوضى الفكرية من الأسباب هو غياب المؤسسات العلمية ذات المرجعية . فقد صار أمر السلطات العلمية إما إلى تماهي مع السلطة السياسية، وهذا غالب الحال وهى سلطة لا تحظى بثقة ولا مقبولية الجمهور من شعبها كذلك فى غالب الحال ، أو إلى معارضة ومناجزة تُخشى عقابيلها. وقد صار شأن مؤسسات مثل الأزهر والزيتونة والقرويين إلى أن صارت توابع علمية للنظام السياسي وفقدت صدقيتها العلمية لدى الجمهور . ونشأت في مقابلها جماعات دينية مستقلة أو معارضة يُفتي كلَ منها حسب ما تعتمده الجماعة فصارت وكأنها مذاهب جديدة . ولكن بغير المعايير الضابطة المضطردة التي تتميز بها المذاهب المعلومة. والأنكى من ذلك أن هذه الجماعات قد تحولت إلى ما يشبه الأحزاب السياسية في علاقتها التنافسية ببعضها البعض، ومنعها التعصب الذي يبديه البعض منها تلقاء البعض الآخر من أن تحوز على ثقة الجمهور الواسع ، بل أصبحت وكأنها مذاهب خاصة بأعضائها وحدهم، وأدى ذلك إلى تبعثر الأطروحات وتشتت المبادرات الفكرية، بل وتناقضها في كثير من الأحيان مما أدخل الشباب الناشيء في قدر غير يسير من الحيرة والإرتباك.
نواصل......
الإرهاب ... معضلات التعريف والمواجهة (4)
د.أمين حسن عمر
تعيين الشيء وتعريفه يسبق النظر في تشخيص مشكلاته، وتشخيص مشكلاته يسبق المعالجة، ولكن هذه المنطق المستقيم لم يكن هودائماً الأمر المتبع عند التعامل مع ظاهرة الإرهاب، وبخاصة في منطقة الشرق الأوسط. فقد كان ما يسمى الإرهاب يفتقر إلى إصطلاح الفرقاء حول تبدياته وتعريفاته وجماعاته وطبيعة مشكلاته وجذور هذه المشكلات وأسلوب التعاطي والتعامل معه . فكثير من الأطراف تعاملت مع الظاهره تأثراً بالتحيزات السابقة ، وبإمكانات التوظيف الوقتي أو الإحتواء المرحلى ، فاختلفت الأجندات وتباينت التصرفات وتقاطعت الرسائل، حتى خرج الأمر عن سيطرة كل من ظن أنه قابل للحصر والإحتواء أو التوظيف.
الفكرة هي الخطر الأعظم:
آفة المعالجة لقضية ما يسمى بالإرهاب هى تعجله إلى الحل الأمني واقتصاره عليه، ولا شك أن المعالجة الأمنية مثل كل معالجة لكل داء لا تكون إلا آخراً، ولا يمكن لأحد أن يوقن أنها سوف تؤتي إلى النتيجة المأمولة تماماً . فالأصل هو التصرف الوقائي وهو يتمثل في درء خطر الفكرة المتفجره التي ما تلبث أن تتحول إلى تخطيط وتدبير ثم تكفير وتفجير ، فحينئذ تعظم البلوى إن وقعت المواجهه لها أم لم تقع . والمعضلة الماثلة أمام من يواجهون ما يسمونه "داعش" إنهم إن تركوها تمددت، وإن حاربوها إنتشرت في أصقاع الأرض تنقل إنتقامها ممن هدم دولة "الخلافة" إلى صحن داره . وأوروبا التي أبتليت بعد الشرق الأوسط بظاهرة الإرهاب متمظهراً في موجات الهجره العارمة إليها أو في التفجيرات التي امتدت من باريس إلى بروكسل إلى ألمانيا، لا يبدو أنها تنطوي على رؤية إستراتيجية واضحة للخروج من هذا المأزق . ذلك أنه يعجز مراكز البحث والتفكير فيهاأن يبصروا بطبيعة الأزمة . فهم لا يدركون كيف يفكر هؤلاء الذين يواجهونهم . ذلك أن أوروبا ومراكز بحثها تريد أن تفهم الظاهرة في إطار طرائق تفكيرها وأساليب تقويمها هى للأمور. ولن تُفهم إيما ظاهرة إلا في إطارها المرجعي فكرياً وإجتماعياً. وبروز التيار السلفي الجهادي كما يسمي نفسه والتيار الإرهابي كما يسميه الغربيون مرجعه إلى فكرة جوهرية، تمثل تأويلا معيناً لنصوص من القرآن والسنة، وهو تأويل وإن خاطئاً فإن له عمق في التاريخ البعيد وله تبديات في التاريخ المعاصر وله مظاهر في راهن العصر.
ولن يجدي أحداً أن يهرع إلى الإدانات والتصنيفات كما حدث مؤخرا في مؤتمر غروزني الذي صنف التيارات السلفية والإخوانية خارج أهل السنة . وهؤلاءالمخرجون من دائرة أهل السنة هم غالب علماء أهل السنة إن لم يكونوا غالب جمهورها. والتيار السلفي الجهادي بتأويله المخصوص لفكرة الجهاد ليس مختصراً في جماعة بعينها ولا مقتصرا على إتجاه بعينه بل هو فكرة منتشرة في جماعات سلفية وأخرى أخوانية بل وفي بعض الجماعات الصوفية أيضاً . والناظر إلى خلفيات المهاجرين للدولة الإسلامية في العراق والشام يجد أن جميع المهاجرين يأتون من كل هذه الخلفيات بل ويجد عدداً مقدراً منهم من الأفراد الذين لم ينتظموا في يوم من الأيام في جماعة أيما تكون هذه الجماعة، بل أن عدداً مقدراً منهم غير يسير إنما هو قريب عهد بالتدين، ولكنهعندما ولجه ولجه من باب التأويل والتفكير الذي تنشره السلفية الجهادية. وغالب هؤلاء أولو عقيدة راسخة فيما يؤمنون به ، ويرون أن الأنموذج الأصلح هو الأنموذج الذي جسده السلف الصالح ليس في كلياته فحسب بل وفي تفاصيله وأن أسلوب نشره الأوحد هو قوة الجهاد.
الجهاد...تأويلات الغالين :
قد يصعب تصنيف افكار المدرسة الجهادية السلفية التى أنتجت القاعدة وتنظيم الدولة وبوكو حرام وأبو سياف في إطار مدرسة فكرية محددة . وإن كانت جميعها ذات تأثر كبير بالتيار السلفي الذي هو امتداد لمدرسة الاخوان "الوهابية" لا مدرسة الاخوان المصرية والتى هى الأخرى تأثرت بالمدرسة السلفية التى نشر أفكارها محمد عبده ورشيد رضا. والاخوان الذين كانوا مرتكز المناصرة لأبن سعود هم أنفسهم الذين اضطر أبن سعود الي خوض حرب طاحنة معهم فيما بعد. وكان جوهر الاختلاف معهم هو عزمهم علي استمرار الجهاد الاخواني وقولهم بحتمية إنتصاره ، مما أدخل المملكة الوليدة في خطر داهم . وذلك عندما بدأ الاخوان في مهاجمة تخوم العراق . وبدأت بريطانيا التي تسمي عظمي آنذاك، وهي المسيطرة علي العراق التهيؤ لكيل الصاع صاعين للمملكة وهي في طور التأسيس. وأنحازت الأغلبية مع ابن مسعود الذى تبنى موقف أولوية المهادنة علي المجابهة. فالجهاد عنده باب من أبواب السياسة الشرعية وهى تخضع لتقدير ولى الأمر للمصلحة والمفسدة من كل تصرف فى أيما شأن يؤثر على مصالح الأمة . وبتلك المفاصلة نشأ تياران أخوانيان لا يزالان يبرزان الي الواجهة كل حين وآخر.كلاهما سلفى ولكنهما يقفان موقفان متمايزان ، التيار الاول هو التيار الجهادي الذي كانت آخر تبدياته البارزة حركة جهيمان في مطلع القرن الهجري في العام الميلادي 1980 . وظل بعبر عن نفسه في أولئك الفتيان الذين ما سمعوا بهيعة في مكان من العالم الاسلامي الا طاروا اليها ،طلباً لجهاد يفضي الي تحرير او شهادة تفضي الي جنة عرضها السموات والارض . وأما التيار الثاني فكان تيار الطاعة لولي الأمرالذى هو صاحب التقدير لواجب الوقت والمصلحة العامة فلا جهاد يصح لديهم إلا جهاد يعلنه ويقوده ولى الأمر . وأهم ملامح الفكرة الاخوانية الجهادية الاسلامية ان الجهاد ليس له حد مكاني ولا زماني ينتهي اليه. فالجهاد عندهم ليس ماضياً الي يوم القيامة فحسب بوصفه جهاداً للدفاع عن الارض الاسلامية والشعوب الاسلامية بل هو جهاد لنشر الفكرة الاسلامية بحد السيف او برصاصة البندقية و هو جهاد غزو لا جهاد دفع. وهم لا يبررون فكرة الغزو كما يبررها البعض باعتباره غزواً وقائياً ضد عدو متربص. ولكن الجهاد لديهم هو غزو لفتح كل دار تأبت علي العقيدة والفكرة الاسلامية. فأنه أسلوب نشر الفكرة وإكراه المتأبين على قبولها بحد السيف أو ذخيرة البندقية . وهم يفسرون آية سورة براءة " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً " تفسيراً لا يرتبط بمفهوم المقاتلة والتي تعني ان تقاتل من يقاتلك وتسالم من يسالمك. فالقتال عند مدارس اخريتمثل الجمهور ليس لنشر العقيدة والفكرة الاسلامية فالسيف قد يؤدى إلى الإستسلام ولكنه لن يجلب الإسلام الحق النابع من نفس راضية ، ولن يحقق الإيمان الصادق ، وإنما المكره منافق يبدى خوفاً أو طمعاً ما لا يضمره . والمنافقون هم فى الدركة الأسفل من النار والكافر المظهر كفره خير من المنافق . وقد دافع جمهور المفكرين المحدثين ضد فكرة المستشرقين أن الاسلام انتشر بحد السيف دفاعاً مجيداً وردوا شبهتها وبينوا أن الجهاد الإسلامى هو دفع لفتنة الاعتداء علي المسلمين وديارهم ومقدراتهم ومصالحهم. وليس هو قتالُ لأجل نشر الفكرة بقوة السلاح. لأن القاعدة الأصل في الدين الحق هي "إلا أكراه في الدين" فالأكراه الديني لا يصنع مسلمين بل يصنع مداهنين ومنافقين صاغرين ولكن متربصين. والجهاد لدي الاخوان "انصار أبن عبد الوهاب" ليس له زمان ينتهي اليه فهو ماضٍ الي يوم القيامة . فاذا فتحت جميع اصقاع الارض فيستمر الجهاد دفاعاً عن الارض والفكرة . ويقولون أنه وبشاهد الأحاديث النبوية التي يعضد بعضها بعضاً مستمر مع اليهود أو طائفة منهم الي يوم القيامة. ثم أن الاخوان لأ يؤمنون بالمرحلية ولا بالفقه الإنتقالى. والجهاد ليس له مراحل بل هو واجب في حالتي الضعف والقوة. ولا ينظر الي قوة العدو واستعداده لأن لمجاهد منصور بالمنظور من الاسباب وغير المنظور. والاخوان كما عبر أسامة بن لادن ذات يوم لا يؤمنون بالحياد بين المجاهدين واعدائهم . فالناس في فسطاط الحق او فسطاط الباطل ومن كان في الفسطاط الاول فيتوجب عليه ان يجاهد بقوله وماله ونفسه في كل حال. ومن كان في الفسطاط الثاني فقد برئت منه ذمة اهل الفسطاط الأول فلا حرمة لماله او نفسه إلا من أكره. ومن هذه الفكرة انبثقت أخطر الافكار وأبعدها أثراً . وهو اباحة الاستهداف العام لمن حمل السلاح من الاعداء الكافرين او من ظاهرهم بأي شكل من اشكال المظاهرة بالعمل أو القول أو السكوت . وهم يستندون الي فكرة الولاء لأهل الإيمان والبراءة من اهل الكفر. وأن العلاقة مع اهل الجحيم من المشركين هي المجانبة والمحاربة في الدنيا والاخرة. وهي تشمل من ظاهرهم بالعمل او القول او السكوت ولو كان من المسلمين . وقد اختلفوا بعض الوقت في أولوية القتال للعدو الأقرب ام العدو كما إختلف الإخوان من قبل . وتفسير ذلك هو هل الأولوية لقتال الفساق من حكام المسلمين وعلمائهم الذين يظاهرون الكافرين وييسرون لهم اختراق دار الاسلام ويمنعون المسلمين من جهادهم ومدافعتهم، أم أن الاولوية لجهاد العدو الأبعد الذي هو المقصود الاول من المجاهده والمدافعة. وفي زمان أبن سعود كان الاخوان يريدون قتال رأس الكفر والطاغوت الأعظم كما يرونه في بريطانيا العظمي. وكانت أقرب آطامها منالاً هي مواقعها في العراق . وعندما حيل بينهم وبين العراق انقلبوا الي مقاتلة مليكهم الذي نصروه بحكم الحلف القديم بين آل سعود وآل الشيخ أبن عبد الوهاب لأنه فى فهمهم أصبح يحول دون قتال الكافر الظاهر.أما مدرسة تنظيم الدولة فقد ذهبت إلى أبعد من ذلك وهو ترجيح قتال المسلمين أولاً لأنهم يصنفون من ناوأهم من المسلمين كفارا مرتدين، وعندهم إن قتال المرتد أولى من قتال الكافر الذى لم يؤمن ولم يرتد ولو كان عدوا ظاهرا وكل كافر لديهم هو عدو إلا أن يدخل تحت سلطان خلافته ويسلم لشروطها.
الفكرة السياسية :
ولئن كانت أصول الفكرة الدينية لدي التيار السلفى الجهادى هي الفكرة الاخوانية "الوهابية" فأن أعضاء التيار وبأثر الثقافة الاسلامية العامة آنذاك تأثروا وخاصة سياسياً بالفكرة الاخوانية "المصرية التي اسسها الامام البنا" ولكن هذه نفسها انقسمت لمدرستين كما فعلت نظيرتها "السعودية" مدرسة تؤمن بالجهاد بالكلمة "الجهاد المدني" وكان اهم اعلامها الامام البنا نفسه الذي لم يجز الجهاد إلا دفاعاً عن الارض الاسلامية والشعوب الاسلامية ثم القاضى الهضيبى الذى كتب رسالته المشهورة (دعاة لا قضاة ) وهما بخلاف فكر تيار التنظيم الخاص الذي بدا مناوئاً لهذه الفكرة حتي في حياة الامام البنا. وبخاصة في أوساط الشباب العائدين من الجهاد في فلسطين مهزومين بفعل خذلان حكام ذلك العهد لهم . وعلي رأسهم الملك فاروق الذي اشتغل بغزاوت ليلية آخري عن جهاد الليل والنهار. و تأثر السلفيون الجهاديون كذلك بالمدرسة الاخوانية الجهادية. اي مدرسة الجهاد الاسلامي والتي انقسمت فيما بعد الي تيار مراجعة وتيار مواصلة. وكان من رموز مدرسة الجهاد الاخوانية الدكتور الطبيب أيمن الظواهري . والذي لقي أسامة بن لادن لأول مرة في الخرطوم، ثم أخرج الظواهري من السودان وخرج من بعده اسامة بن لادن . وذهب كلاهما الي افغانستان حيث يتعسر علي من يسعون وراءهما ان يجدوا فيهماً منالاً . ولقد كانت بين الرجلين لقاءات وتفاهمات تحولت الي حلف في افغانستان. أولي أولوياته تحرير بلاد المسلمين وبخاصة جزيرة العرب وكنانة العرب من الوجود والنفوذ الأجنبي. وكان الخلاف بين اتجاهي الرجل هو ما اذا كان يجب أن يضرب هؤلاء الاعداء حيث هم في ديار المسلمين أم أن تنقل الحرب اليهم في صحن دارهم. ولم يكن الخلاف استراتيجياً بل هو خلاف تكتيكي. فاستهداف الاعداء في ارضهم يدعوهم الي حشد كل قوة لديهم ضد المسلمين . وربما يؤدي ذلك الي مزيد من الاحتلال لبلاد المسلمين. وبينما استهدافهم في ارض المسلمين لا يدعو لمثل الحشد الاول ثم انه قد يحظي فى حسبانهما بمناصرة شاملة من الشعوب المسلمة المستضعفة. ولكن هذا الإتجاه الأخير ربما قاد الي صدام مع الأنظمة المظاهرة للاجانب أو الساكتة على عدوانهم . وكان تركيز الرجلين علي جزيرة العرب التي لا يعترفان بواقع انقسامها الي دول قطرية. فهي فى فهمهم جزيرة رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو قد أوصي باخراج المشركين منها. واما الجهة الثانية فمصر كنانة الله في ارضه ، لما لها من تاثير كبير علي العالمين العربي والاسلامي. وكان أول بيان مشترك واعلان للتحالف بين أبن لادن وانصاره وبين حركة الجهاد الاسلامي بعد التقاء الرجلين في افغانستان بعد الخروج من السودان الذي ومع بدء التحرك السياسي لاسامة لاقى ضغوطاً أجنبية وعربية لاخراج الظواهري اولاً، ثم اسامة لاحقاً . وعقب ذلك البيان الشهير والذي حدد الهدف المرحلي الأول وهو اخراج المشركين من جزيرة العرب. بدأ اسامة يفكر في تحويل انصاره الي تنظيم علي غرار تنظيم حركة الجهاد . وظهرت كلمة قاعدة الجهاد التي كانت تطلق فيما سبق أبان الجهاد الافغاني علي افغانستان لوحدها. ثم صارت المفردة لا تنحصر فى أفغانستان بل صاركل العالم الاسلامي وبخاصة الجزيرة العربية ومصر والعراق وارض الشام بفلسطينها المحتلة هو تلك القاعدة . وأسم القاعدة لم يعد بعد ذلك اسماً لمكان او لبلد بل صار أسم لفكرة . فلم تعد قاعدة الانطلاق هي المكان بل اصبحت قاعدة الانطلاق هي الفكرة . ولذلك يمكن ان تنشأ قاعدة للجهاد في البوسنا والهرسك وقاعدة للجهاد في الشيشان وقاعدة للجهاد في الصومال وقاعدة للجهاد في العراق . واما الجهاد الأكبر والقاعدة الكبري فهي قاعدة الجهاد في جزيرة العرب. ولكن تحديد القاعدة بوصفها قاعدة الانطلاق لا يعني ان يقاتل أهل تلك القاعدة من يلونهم من الكفار فحسب بل ان الجميع يمكن ان يستنفروا لضربات للعدو وراء الحدود وحيث يظن أنه في مأمنه لأنه في مأمنة يؤتي الحذر.ولكن القاعدة مهما عد أناس فكرها متطرفاً إلا أنها لا تؤمن بإكراه غير المؤمنين على الإيمان بحد السيف ولا تؤمن كذلك بالتوسع فى تكفير المسلمين بمجرد عدم المناصرة أو بمظاهرة العدو مظاهرة المضطر ولذلك لا عجب أن إعتبرت أن فكر تنظيم الدولة فكرا غاليا وذهبت حتى لمناجزته بالسلاح .
نواصل
الإرهاب ... معضلات التعريف والمواجهة (3)
ما من شك إن نسبة جرائم الإرهاب والترويع للإسلام بإسم الإرهاب الإسلامي هي جزء من خطاب الكراهية الذى هو أصل الغلو العنيف. فالعنف هو المولود البكر لخطاب الكراهية ، ولا سبيل للقضاء على ظاهرة العنف المرتبط بالغلو الفكرى والعقدى والعرقى إلا بالتجانف والتباعد عن خطاب الكراهية. والمسلمون المسالمون يغضبون عندما يُنسب دينهم لما يسمى بألإرهاب . فهم يعلمون أن دينهم مشتق من السلام والمسالمة . وهو الآمر لهم بأن يدخلوا في السلم كافة ، ثم يسمعون من بعد ، في كل لحظة وآونة إتهاماً لدينهم بأنه الأب الشرعي لما يسمى بالإرهاب . وحق للمسلمين أن يغضبوا عندما يعرفون أن موجات الإرهاب ومنظماته التي نشأت أول ما نشأت في أوروبا شرقيها وغربيها لم تسم بالإرهاب الأرثوذكسي أو الكاثوليكي أو الإنجيلي، بل سُميت بأسمائها . فعلى سبيل التمثيل فإن منظمة (إرادة الشعب) في روسيا التي إغتالت القيصر واستهدفت الطبقة السياسية في روسيا في خواتيم القرن التاسع عشر وقد صنفت منظمة إرهابية ولم تسم إرهاباً أرثوذكسياً . وعندما ناوأت منظمة آي آر أيه في أيرلندا حكم الأغلبية البروتستانية وكان الخلاف والنزاع مذهبياً دينياً بين البروتستانت والكاثوليك فصنفت منظمة إرهابية فى المملكة المتحدة ولم يطلق عليها أسم إرهاب كاثوليكي . وعندما برزت منظمة بادر مانهوف الألمانية وصنفت إرهابية لم يقل عنها أنها إرهابا بروتستانتي ، وعندما صنفت مجموعة أيوم شنريكيو اليابانية إرهابية لم يُوصف إرهاباً بوذياٌ، ، وغالب هذه المنظمات تنطلق من تأويل خاص لمنطلقات دينية أو أيدولوجيه، ولكنها لم تنسب للمسيحية ولا البوذية ولا الإشتراكية، ولكنها نسبت إلى ما تسمي به نفسها ، ولكن جماعات والعنف في الحوض العربي الإسلامي هي وحدها ما يُنسب للإسلام فيقال الإرهاب الإسلامى والتطرف العنيف الإسلامى.
ومما لاشك فيه أن مرجع ذلك هو إلى خطاب الكراهية الذي تتناول به كثير من دوائر الإعلام، والسياسة بل وبعض مؤسسات التعليم الغربية الديانة الإسلامية . والتحيز ضد الإسلام أو التخوف منه الذي يعرف بالإسلاموفوبيا أمر ليس بالمحدث في أوروبا والغرب عامة ، فمرجعه يسبق الحروب الصليبية التى إجتاحت فيها أوربا عالم الإسلام بإسم الصليب لادفاعاً عن الصليب بل عن ممالكها الصليبية. ورغم أن العلمانية واللادينية فى أوربا وأمريكا فقد تعاظم أمر الإسلاموفوبيا مؤخراً بالحديث المكرر عن الإرهاب الإسلامي والخطر الإسلامي، فعظمت بلوى الطوائف المسلمه من ذلك ، وبخاصة تلكم التي تعيش في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية . فقد تضاعفت جرائم الكراهية ضد المسلمين في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية . وهي في تصاعد مستمر يؤجج إلتهابها خطاب الكراهية الذي أصبح سياسيون مرموقون في الغرب لا يتوانون عن توظيفه في معتركاتهم الإنتخابية ، حتى بلغ بعضهم مثل دونالد ترامب مبلغاً يكاد يصفه على مصاف دعاة إدارة التوحش والكراهية ، ولا يتوقف خطاب الكراهية العلني أو المستخفي عند دوائر السياسة والإعلام ، بل إنه يتدثر بدثار البحث العلمي الأكاديمي والدراسات الأمنية والإستراتيجية.
فالمراجعه الدقيقة لكثير من النقاشات الأكاديمية والبحوث في مؤسسات البحث الغربية تكشف التحيز الفكري والثقافي مغلفاً بمهارة بغلاف اللغة البحثية الموضوعية . ومما يؤسف له أن كثير من هذه البحوث والنقاشات حول صلة الفكر الإسلامي بالتأويلات المتطرفة العنيفة التي تتبناها المجموعات الماضوية المنسوبة إلى أسمه لا يشارك فيها المنتسبون للفكرة الإسلامية . وإنما يقتصر البحث والتداول على الباحثين الغربيين ، وربما المشاركة المتواضعه لمنتسبين للإسلام ، وتقتصر التمثيل على أولئك الذين لا يرون الإسلام مرجعية فكرية لهم ، بل مرجعيتهم هو الفكر الغربي بمختلف مدارسه . ولذلك فإن حقيقة الصلة بين أصول الإسلام الحقة والتأويلات الخاطئة لمبادئة لن تتبدى أبداً لأولئك الباحثين . فهم محجبون بحجاب الغربة الفكرية سواء أكانوا من غير ملة الإسلام أو بعض أبنائه ممن فقدوا إيمانهم بمرجعيته لهداية الحياة المعاصرة.
تسميات الإرهاب في الإعلام الغربي
وأشهر هذه التسميات هي الإرهاب الإسلامي Islamic terrorism والتسمية قد تكشف موضع الخطأ منها حقيقة واحدة ، وهى أن ضحايا جماعات الإرهاب المسلمة من المسلمين هم أضعاف مضاعفة لضحاياها من غير المسلمين . ولكن عيوناً تغشيها الكراهية ويعميها التعصب هي وحدها التي لا ترى هذه الحقيقة البارزة الساطعة . ولا يثور الإعلام الغربي ولا ينتفض غضباً عندما يُقتل المئات فى الكرادة في بغداد أو العشرات في الضاحية فى بيروت أو العشرات في أنقرة، ولكنه ينتفض غضباً عندما يقتل عدد من الضحايا مهما قل في عواصم أوربا . وربما يجد أهل الإعلام في الغرب ذلك مبرراً لديهم بأن خطابهم موجه لجمهور غربي ، ولكنهم يتناسون أن إعلامهم هو الذي يقود الإعلام التابع في كل العالم ، فالصورة التي يراها سائر الناس والإنطباع الذى ينطبع لديهم أن القيمة الإنسانية للإنسان الغربي أكبر وأعظم من قيمة الإنسان في الشرق الأوسط.
وأسوأ من تسمية الإرهاب الإسلامي هي تسمية جماعات العنف بالإسلاميين هكذا فحسب ، وبذلك يتماهي التطرف العنيف بالإسلام . وكذلكم وتستخدم تسمية السلفية أو السلفية الجهادية، ورغم أن هذه الجماعات جميعاً تنسب نفسها للسلفية وتصف أعمالها المريعة بأنها إحياء لطريقة السلف الصالح ،إلا أن غالب الجماعات السلفية التي نشأت في مصر والسعودية وسوريا لا ترى رأيها ولا تقر عملها، ويكفي مثالاً أن أكبر المنظمات المصنفة إرهابية لدى الغرب (القاعدة) لا ترى سبيل الإفراط في العنف والتوحش وإستهداف الأبرياء إلا إنحرافاً عن الإسلام الصحيح.
ومما لا شك فيه أن للتأويلات الخاطئة للمبادىء الإسلامية والنصوص والتاريخ الإسلامي هي المنطلق الذي تنطلق منه هذه الجماعات الغالية العنيفة . بيد أنه ليس من مصلحة أحد أن يضم إلى هذه الدائرة جماعات سلفية عديدة لا تقر هذه التأويلات ولا تقبل تلكم التصرفات. والإعلام الغربي يستخدم تسمية الجهاديين أو الحركة الجهادية على هذه الجماعات وهي تسمية خاطئة ، فالجهاد ليس هو ما تقوم به هذه الجماعات ، بل أن ما تقوم به هو تأويل خاطيء لفكرة الجهاد، فالجهاد معنى مركزي في العقيدة الإسلامية وهو لا يقتصر على القتال، وإن كان القتال لتحقيق العزة والمنعة للأمة الإسلامية ، هو ذروة سنامه إلا أنه لا يقتصر على ذلك، فالجهاد لا يتنافى فحسب مع ما يسميه الإعلام الغربي إرهاباً بل هو عين التضاد لتلكم الفكرة.
الجهاد والإرهاب تضاد أم تناص :
إن فكرة الجهاد هى الجوهر التنفيذى للعقيدة الإسلامية . فحياة المرء والمرأة كلها جهاد فى سبيل الحق . و الله (سبحانه وتعالى) وصف الجهاد بأنه يكون باليد واللسان والقلب فأنزل فى الكتاب : (وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)، أى جاهدهم بالقرآن فكراً وقولاً . فالجهاد ليس مجرد الإصطفاف والقتال ، إنما الجهاد أوسع من ذلك وأعم . فالجهاد أن تكون ربانيا قرآنيا ويكون نسكك وصلاتك ومحياك ومماتك لله سبحانه وتعالى وعلى مراده الإلهى الذى هو سبيل ملاقاته على طريق الحق . فكل حياة الانسان جهاد لا ينقطع وكدح لا يتوقف. وهكذا يجب ان تكون حياة الإنسان (يأيها الإنسان أنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه ) وهو كدح عقلى يتدبر فيه الأنسان أيات الأنفس والأفاق والأكوان ويتدبر آيات الوحى ليترقى علمه وفهمه عن نفسه وعالمه والأكوان المحيطة به . وإنما العلم هو مدرج لكل سارب وكل سارى وعارج الى مراقى الحق من كل شىء . وبذل غاية الوسع للتوصل للحق من كل شىء يُسمى لما يبذل فيه من جهد إجتهاداً . ثم أن العلم بالشىء لا يراد إلا لإستقامة التصرف بشأنه ، ولذلك فإن حمل النفس على الإستقامة على الحق يُسمى لما يبذل فيه من جهد مجاهدة . ثم إن إستقامة المرء أو المرأة فردا على الحق ليست كافية ولا قابلة للإكتمال ولا الإستدامة ما لم يتسع صف أهل الإستقامة . ولذلك فإن الدعوة للإستقامة على الحق المبين المستبين تُسمى جهادا . والجهاد درجات ، وكل صعود درجات وكل هبوط وإنحدار دركات ، وفى ٍ كلٍ صعود وسفول. والجهاد فى تعريف السان العربى مصدرٌ من الجهد ، والجهد بفتح الجيم وضمها وهما بذل الطاقة وإحتمال المشقة ، والاجتهاد : بذل الوسع والمجهود الذهنى والمجاهدة بذل الجهد فى إستجماع الإرادة للترقى . والناس يعرفون من مكابدتهم الشخصية أن الصعود فيه كلفة وجهد وربما نصب ، وأما السفول والنزول فيسهل على كل كائن . وكلما زاد الصعود زاد الجهد . ولذلك فإن القتال مدافعة عن الحق وممالأة لإهله هو ذروة هذا الصعود. والجهاد المقصود هو الجهاد الذى هو مدافعة وذب عن الحق وليس هو العدوان بإسم الجهاد فذلك قتال محرم فكل عدوان محرم لأن الله لايحب المعتدين . وحتى إن بارز المسلمين عدو متهجم أو متربص فواجبهم أن يبازروه ويطالعوه على سواء لا أن يغدروا به . (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ) فقد جاءت الشريعة بالتحذير من الخيانة والترهيب منها، وبيان سوء عاقبتها في الدنيا والآخرة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ) كما جاء في الحديث الصحيح أن من خصال المنافق أنه: (إِذَا عَاهَدَ غَدَرَ) ولأنهم مطلوب من المسلمين قبل كل قتال إن يدعو العدو بدعوة الإسلام ، فإن لم يستجب دعوه بدعوة المتاركة والمسالمة فإن لم يستجب لهم فقد نالوا الإذن بقتاله (أُذن للذين يُقاتلون بأنهم قد ظُلموا وأن الله على نصرهم لقدير ). والجهاد الذى هو قتال هو الجهاد الأفضل . لأنه أعلى درجات بذل الجهد والمال بل النفس ولكنه كذلك الجهاد الأصغر ، لأنه لا يكون إلا إستثناء على المعتاد . فالأمر الراتب المعتاد هو حالة السلم ، والحرب لا ترد إلا من قبيل رد الفعل لفعل الآخر الذى يجبرك أن تتفاعل معه كارهاً . والجهاد الأكبر هو جهاد الإستقامة على الحق ، لأنه مطلوب فى وقت ، فهو متواصلٌ فى زمان السلم ، ولا يتوقف بل ربما عظُمت الحاجة إليه فى زمن الحرب ..والحرب هى حالة المكره ، وهى وزركلها وحمل ثقيل على الأنفس وعلى أوضاع الناس . والاسلام لا يُمجد الحرب بل يُمجد الجهاد . والجهاد هو بذل الجهد فيما تفعل إن كان فى حالة السلم أو حالة الحرب . وقد إختلط على بعض من أخلت التأويلات الفاسدة بعقولهم الفرق بين تمجيد الجهاد الذى هو تمجيد لفعل الصدق فى القتال وبين تمجيد الحرب. فالاسلام لا يُمجد الحرب بل أن القرآن يصفها بأنها عئب وحمل ثقيل إذ يقول ( حتى تضع الحرب أوزارها) وأوزار الحرب تكلفة باهظة فى الأنفس والأموال بل حتى على الأخلاق . وتمجيد فعل القتال هو ما أنزلق بكثير من الجماعات إلى التوحش الذى يفضى إلى التنصل من الأدمية والإنحدار إلى البهيمية الضارية . وأسوأ ما تكون الحرب وأبغض وأكره ما تكون عندما تستحل بإسمها الحرمات ، فتنهب الأموال ويهلك الحرث والنسل ، ويقتل النساء والأطفال والصبيان ، وكل ذلك محرمٌ حُرمةٌ مطلقة لا تجُبها حالة الحرب بحال من الأحوال. فحالة الحرب لاتحل قتال غير المقاتلين ولا أذيتهم ، فالنساء والصبيان والشيوخ الكبار وكل مسالم لا يقاتل،فهؤلاء جميعاً لا يجوز قتالهم ، ولا يعد قتالهم من الجهاد فى شىء بل هو أدخل شىء فى الظلم والعدوان . وقد وجد النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته امرأة مقتولة ، فقال صلى الله عليه وسلم: (مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ فِيمَنْ يُقَاتِلُ) . وقد حاول البعض إستحلال قتال غير المقاتلين بالإدعاء أنهم مظاهرين ومعاونين للمجهود الحربى للعدو . وهى حجة باطلة مدفوعة ، فوجود المدنيين فى حماية العدو وشراءهم وبيعهم معه ومعاملتهم السلمية معه لا تُعتبر مُظاهرةٌ له إلا أن أن يكون الفعل دعماً مباشراً للعمل الحربى ، وحتى فى هذه الحالة لا يُقتل الأطفال والصبيان ،لأن من سنة الشرع أن لا يؤاخذ غير المكلف صغيراغير مُميز أو مجنوناً.وكل ميثاقبين الأمم يحمى المدنيين والنساء والأطفال أثناء الحرب لوضع أوزارها عنهم يجدر بالمسلمين أن يلتزموا به و أن يدعوا إليه فهم أحق به وأولى .إن الآفة الكبرى فى زماننا هذا ليس هو غياب الجهاد وإنما غياب الفقه به ، وهى آفة وجهالة عظمت بها البلوى ، حتى إعتاد الناس على أنباء القتل للمسلمين وغيرهم المسالمين فى كل صباح ومساء ، وكثر الهرج والمرج والقتل والإغتيال ، وصار قتل الناس بالجملة بالتهمة ، وإخراجهم من أرضهم بالشبهة ، هو الأمرُ الدراج المعتاد ، وكل ذلك بإسم الجهاد ، والجهاد منه فى الضفة الأخرى منه وهما فى خطان متوازيان فى تضاد لا يلتقيان ، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
نواصل
الإرهاب معضلات التعريف والمواجهة 2
د. أمين حسن عمر
المفردة المصاحبة لمفردة الإرهاب هى مفردة التطرف وهى الأخرى تستخدم إستخداما خاطئاُ وهو إستخدام مجانب أيضا للإستخدام العربى المتعارف عليها قبل إستعمالها مقابلاً عربيا للمفردة الإنجليزيةExtremism بل وأحيانا لمفردة Radicalism وهذا وحده ينبيك عن الإفتقار للدقة عند التعريب .فبرغم التشابه فى المعنى لغويا فإن الإستعمال الإنجليزى للمفردة إستعمال سلبى يجعلها مرادفة للتعمق والتكلف بينما الإستخدام العرفى العربى إستخدام محايد فمجرد إتخاذ موقف مباعد للوضع الراهن ليس أمراً سلبيا فى ذاته إلا أن يكون الوضع الراهن هو الوضع المرضى شرعياً أو عرفياً . والتطرف أو النزعة اليسارية فى التاريخ الغربى يعتبران نزوعاَ ضد الوضع الراهن status quo وهو الأمر الذى يعتبر سلبياً لتهديده لحالة الإستقرار. فالمجتمعات الغربية تميل فى الغالب للمحافظة على الإستقرار ومؤشر ذلك أن التغير فى الطبقة السياسية بطىء بعامل ما يسمى Incumbency Factor فالوجود فى وضع ما يضمن فى الغالب الإستمرار فيه ما لم يمنع ذلك القانون بتحديد دورات تعاقبية معلومة .
تطرف أم غلو :
التطرف فى لسان العرب هو إتخاذك موقفا أو رأياً على تباعد من الوضع الراهن أو الرأى المطروح وهو أمر لايذم لذاته إلا أن يكون الوضع الرأهن أوالرأى المطروح شرعاً معلوماً أو عرفا معروفا والكلمة التى تستخدم ذما هى كلمة الغلو والتى تعنى التزيد والتنطع والتشدد وأقرأ إن شئت ( يا أهل الكتاب لا تغلو فى دينكم ولا تقولوا على الله غير الحق )النساء 171 قال الطبرى فى تفسير الآية ( لا تجاوزوا الحق في دينكم فتفرطوا فيه، وأصل الغلو في كل شيء مجاوزة حده الذي هو حده، يقال منه في الدين قد غلا فهو يغلو غلواً . و ههنا التزيد على الشرع المعلوم يعتبرتشددا. وتقول غلا الماء اذا ارتفع وزاد بأثر الحرارة .يقول صاحب لسان العرب (وغلا في الدين والأمر يغلو غلوا : جاوز حده . وفي التنزيل : لا تغلوا في دينكم وقال الحارث بن خالد :
خمصانة قلق موشحها رؤد الشباب غلا بها عظم
وفى التهذيب : وقال بعضهم غلوت في الأمر غلوا وغلانية وغلانيا إذا جاوزت فيه الحد وأفرطت فيه ؛ قال الأعشى : أنشده ابن بري :
أو زد عليه الغلانيا
وفي التهذيب : زادوا فيه النون ؛ قال ذو الرمة :
وذو الشنء فاشنأه وذو الود فاجزه على وده وازدد عليه الغلانيا
زاد فيه النون . وفي الحديث : إياكم والغلو في الدين أي التشدد فيه ومجاوزة الحد ، كالحديث الآخر : إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ؛ وقيل : معناه البحث عن بواطن الأشياء والكشف عن عللها وغوامض متعبداتها ؛ ومنه الحديث : وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه ؛ إنما قال ذلك لأن من آدابه وأخلاقه التي أمر بها .ويختم أبن منظور بقوله
وكلها من الإرتفاع والتجاوز وجمعها غلوات ) وقال الزبيدي في تاج العروس : " غلا في الدين غلوا تشدد وتصلب حتى جاوز الحد . وقال صاحب الصحاح: وأفرط في الأمر: أي جاوز فيه الحد. فالغلو فى كل ما ذكر هو التزيد والتشدد .وفى الحديث الذى رواه أبو داؤد ( ألا هلك المتنطعون ) يقول صاحب اللسان ( والتنطع في الكلام : التعمق فيه مأخوذ منه . وفي الحديث : هلك المتنطعون . هم المتعمقون المغالون في الكلام الذين يتكلمون بأقصى حلوقهم تكبرا ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون . وكل منها مذكور في موضعه ، قال ابن الأثير : هو مأخوذ من النطع وهو الغار الأعلى في الفم ، قال : ثم استعمل في كل تعمق قولا وفعلا . وفي حديث عمر رضي الله عنه : لن تزالوا بخير ما عجلتم الفطر ولم تنطعوا تنطع أهل العراق . أي تتكلفوا القول والعمل) والتعمق التنطع تكلف بالزيادة على المطلوب سواء كان قولاً أو فعلاً ,هو التجذر المسمى عند الغربيين بالراديكالية.
مما سبق قد نرى إن الإستخدام الأمثل لوصف حال التزيد أو التعمق والتكلف هو كلمة الغلو التى إستخدمها القرآن الكريم وإستخدمتها السنة المطهرة أو هى كلمة التنطع والتعمق فى حالة التكلف فى فهم المراد أو إنفاذه . وآفة كل ملة أو نحلة إنما هى التقصير عن مطلوباتها أو التزيد فيها أو التنطع تكلفا ولكن أهل القصد هم أهل الحق الذين لا يقصرون ولا يغالون على مطلوبات الدين . والغلو فى الدين أكبر خطراً وأبعد أثراً من التقصير فيه . ذلك أن التقصير نقص فى العمل بينما الغلو تحريف للدين قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبن عباس وأورده النسائى فى سننه ( بأمثال هؤلاء بأمثال هؤلاء و إياكم والغلو فى الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو فى الدين ) وفى سنن البيقهى من رواية أبى هريرة (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وإنتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ) وما من فكرة ولا ملة ولا نحلة إلا وأصابها ما أصابها من تحريف الغلاة وانتحال وكذب أهل الباطل وتأويلات وتفاسير أهل الجهالة بالفكرة أو الملة أو النحلة . لذلك كان من سنن الدين أن أهل العلم به المؤتمنين عليه بصدق إيمانهم يجددون الفهم به كلما تأثرت الفهوم بالتحريف والإضافات الزائفة أو بالتأويلات والتفسيرات الساذجة الجاهلة .
التطرف والوسطية :
الفهم الحسابى لمفردتى التطرف والوسطية فهم خاطىء . فالتطرف لا يعنى الغلو إلا إذا كان تطرفا من المعلوم شرعا أى إتخاذ موقف مباعد من الموقف الذى أمر به الدين أو الموقف المعتمد فى الأخلاق التى يمارى فيها أحد. وكذلك العرف معيار آخر لمعرفة الحق . والمعروف فى الدين مشروع إلا أن ينفى . وما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن. ولكن هذا لا يعنى إعتماد مبدأ الأغلبية فحسب لتقرير وجه الحق من المسائل إلا أن تكون الأغلبية قائمة على مرجعية شرع معلوم أو عرف معروف .فمجرد إتخاذ موقف طرفى مما هو مطروح لا يعنى الغلو ولا التشدد . ولذلك فالأمر ليس حسابيا ولا جغرافيا، وكذلك مفردة الوسطية ما هى حسابية ولا جغرافية . وأعنى أن أتخاذ موقف الوسط بين موقفين أو بين رأيين ليس أمراً ممدوحاً فى ذاته ، بل قد يكون مذموما فى غالب الأحوال لأنه لو تحرى ذلك طوال الوقت لا يكون إلا أمعة يتحدد رأيه برأى جهتين عن اليمين واليسار . وقد أشكل على الناس القول أن الوسطية هى حد بين الإفراط والتفريط وهذا صحيح . وفيه يقول أبن قيم الجوزية ( ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان ؛ إما إلى تفريط وإضاعة ، ودين الله وسط بين الجافى عنه والغالى فيه والغالى فيه ) ولكن الوسطية تحيل الى شرع معلوم فلا تغلو وتتزيد فيه ولا تقصر عنه أوهى وسطية مرجعيتها شرع معلوم أو عرف معروف فلا تغلو فيه ولا تقصر عنه . فالوسطية الحسنة هى التوسط والإعتدال فى الفهوم والأفعال وفقاً لمرجعية صحيحة.يقول أبن منظور فى شرح مفردة وسط (وسط الشيء وأوسطه : أعدله وقال الجوهري: "وَسَطتُ القوم أسِطهم وَسْطًا وَسِطَة: توسطْتُهم، وفلان وَسِيط في قومه، إذا كان أوسطَهم نسبًا، وأرفعَهم محلاًّ، والوسطُ من كلِّ شيء: أعدله، ويُقال أيضًا: شيء وسَط؛ أي: بين الجيد والرَّديء، وواسطةُ القِلادة: الجوهر الذي في وسطها، وهو أجودها ) وقال الراغب الأصفهاني "الوسط: ما له طرفان متساويا القدر، و تارة يقال فيما له طرفان مذمومان؛ يقال: "هذا أوسطهم حسبا، إذا كان في واسطة قومه، وأرفعهم محلا، كالجود الذي هو بين الإسراف والبخل، أما الفيروز ابادي فيعرف الوسط بأنه "العدل فيقول: الوسط، من كل شيء هو أعدله وهكذا فإن الوسطية ترد بمعنى الاعتدال و العدل و التيسير و التوازن بين أمر وأمر وشىء وشىء . فهذا هو المعنى المراد من إستخدام مفردة وسطية وهو ما يدل عليه الفهم الصحيح لأيات الكتاب العزيز (قال الله تعالى " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا")
قال ابن جريرفى تفسير الآية: "إنَّما وصفهم بأنَّهم وسط؛ لتوسُّطهم في الدِّين، فلا هم أهل غلو فيه - غلوَّ النصارى الذين غالوا بالتَّرهب، وقيلِهم في عيسى ما قالوا فيه - ولا هم أهل تقصير فيه - تقصير اليهود، الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم وكفروا به - ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه")
وقال الزمخشري: "(وَسَطًا): أي: (خيارًا)، هي صفة بالاسم الذي هو وسط الشيء، وقيل للخيار: وسط؛ لأنَّ الأطراف يتسارع إليها الخلل، والأغوار والأوساط محميَّة محوطة، أو عدولاً؛ لأنَّ الوسط عدل بين الأطراف، ليس إلى بعضها أقرب من بعض ) فالإبتعاد مما يسميه الناس وسطاً وإتخاذ طرف قصى عنه لايعنى بالضرورة التفريط ولا الغلو ما لم يكن ذلك الوسط هو أعدل الأمور ولا يكون أعدل الأمور إلاتكون بينته شرع معلوم أو عرف معروف أو معلوم بالضرورة من حقائق الكون والحياة .
التعمق والتطرف العنيف والإرهاب:
الرائج فى دوائر الإستخبارات الغربية والدراسات والإعلام أنها تستخدم مفردات مثل راديكالزم(التعمق أو التجذر ) فايلونت إكستريزم(التطرف العنيف ) ترورزم (الإرعاب والترويع والمفردة المشتهرة هى الإرهاب ) وهى تستخدم هذه المصطلحات وكأنها يمكن أن ينوب بعضها عن بعضها الآخر . بينما يتوجب التفرقة بين معانيها لتحديد المراد من المفردة تعييناً.وعندما يجرى تعريب هذه المفردات تزداد غموضا على غموضها الأصلى لأن المفردة العربية تأتى هى الأخرى بظلال إستعمالاتها وإيحاءاتها. وعبارة التطرف العنيف عبارة مستحدثة فى دوائر الأمم المتحدة . وهى تقارب التدقيق بالتفريق بين مجرد التطرف الذى لا يخلو منه أحد أو جهة ما فى موقف من المواقف على أقل تقدير، وبين إستصحاب النزعة العنيفة فى التعبير أو الفعل . فالتطرف لايعنى أكثر من إتخاذ موقف أو رأى على مبعدة من الوضع الراهن أو الموقف الراهن أو الرأى المقبول رسمياً أو شعبيا . فهو لا يحمل معناه إلى بنسبته لرأى آخر أو موقف آخر قد يسمى المعتاد أو الوسطى أو العرفى أو الرسمى أو الرائج . ولا يننبغى أن يكون هناك مشاحة فى حرية إتخاذ المواقف السلمية أو التعبير عن الأراء السلمية ، لكنه على الرغم من أن الجميع يقر بذلك أو على الأقل يجاهر بالقول بذلك ، فإن الأراء والمواقف غير الشعبية أو التى تناهض المواقف الرسمية أو تلك التى تحاول إفتكاك ثغرة فى رأى سائد أو عرف مستقر ، دائما ماتواجهه موقفا عدائياً من السواد الأعظم من الناس . لذلك اضطبغت كلمة التطرف دائما بصبغة غير مستحبة لدى جمهور الناس ، وبخاصة لدى الحكام والرسميين ومن يظاهرهم . والإضافة الجديدة فى المصطلح الذى تتبناه الأمم المتحدة وقد إعتمده الإتحاد الأفريقى مؤخرا لا تزيل الغموض تماما عن معناه . فما يمكن أن يسمى أو يصنف عنفاً أمرٌلا يزال عليه الناس يختلفون ، و تختلف حوله كثير من التشريعات والقوانين ، كذلك فإن البعض يعتقد أن ما يسمى بالتطرف يكتنز فى باطنه بذرة العنف فهو تطرف بالقوة لا بالفعل و لم يصر تطرفا عنيفا بعد ، ولكنه قد يكون بسبيله إلى ذلك .وهذه وجهة نظر يحملها ويجاهر بها للطرافة اليمنيون المتطرفون الذى لا يرون التطرف إلا فى الضفة الأخرى من حيث يقفون . ومفردة عنف هى الأخرى ليست بالوضوح الذى يعتقده كثير من الناس . فالعنف هو إستخدام القوة المادية للتوصل إلى نتيجة مرغوبة وسريعة . ولكننا لايمكننا الإستغناء عن مفردة قوة لشرح معنى مفردة عنف . فالقوة هى أداة العنف والفرق بين إستخدام القوة وإستخدام العنف لا يختلف فى الوسيلة وإنما فى الهدف والغاية . فإستخدام الدولة للقوة لا يعتبر عنفاً عند عامة الناس ، لأنه يُنظر إلى أن الهدف والغاية منه هى حفظ السلم العام من خلال القوة التى يوجهها القانون . بيد أن ذلك لايكون إلا تبريرا لفظيا فى غالب الحال ،عندما يكون القانون نفسه إرادة مستبد أو وسيلة لإمضاء الظلم لا ذريعة لتحقيق العدل . وهكذا يتداخل معنى التطرف ومعنى العنف بالوسائل والغايات . وما أسهل على الإنسان الذى هو أكثرالخلق جدلاً أن يبرر الوسائل والغايات.أما كلمة الراديكالية التى أحب أن أعربها بمفردة تعمق بأكثر من المصطلح الرائج الذى يتركها كما هى فى اللغة الانجليزية ،أو يعربها بالنزعة للتجذر أو الجذرية ، فهى حالة من الرغبة فى رؤية صورة مغايرة للوضع الراهن بإعتباره غير كاف لتحقيق الغاية . فلربما لا يختلف الراديكاليون مع غايات الوضع الراهن ، ولكنهم لا يرون وسائله مفضية لتحقيقها. فهم يتشددون ويبالغون ويرون التشدد والمبالغة وسيلة ناجعة لتحقيق الغاية سواء إن كانت هى إسعاد المجتمع أو الوصول إلى الرضا الإلهى أو تحقيق مساواة الجنس الانسانى. فالرهبانية كما يراه الإسلام نوع من التعمق والراديكالية فى مكابدة إرضاء الإله بحرمان النفس مما أباحه الإله نفسه . والراديكالية الأوربية المعاصرة هى نزعة( إيغالتيرانية ) إى نزعة تدعو للمساواة التامة من خلال تغيير الأوضاع الراهنة بصورة جذرية . والراديكالية بهذا المعنى إنتقلت إلى المشرق إنتقالاًمن أوربا ولم تنشأ فيه ، وإن نشأت نزعات فى المشرق تدعو إلى تغيير شامل من خلال مقاربات تجديدية تريد تغيير الراهن من خلال إحياء أصول درست من ذات التراث الفكرى ، فهذه حركات إحيائية ، ومثال لهؤلاء المفكر المصرى سيد قطب الذى يدعو للإنقلاب الإسلامى ، وهو يعنى لديه تغييراً جذرياً للوضع الراهن الذى يسميه جاهلية القرن العشرين . وذلك الإنقلاب قابل للتحقق بإحياء أصول فى التراث الإسلامى نُسيت أو درست أو إستبعدها الإستعمار. والنزعات الراديكالية مثلها مثل التطرف يمكن أن تكون راديكالية عنيفة مثل راديكالية الخوارج . ويمكن أن تكون راديكالية مسالمة يرى تعمقها فى كون غايتها على مبعدة من المعتاد أو المعتمد أو الراهن ، ولكن وسائلها شرعية وسلمية . بيد أن التيارات المتطرفة إلى اليمين لا ترى فى أية دعوة للتغيير الجذرى إلا دعوة للعنف فهوإن لم يكن العنف الحال فهو العنف المحتمل .أما الكلمة الأكثر إشتهاراً فهى مفردة إرهاب وهى كما سبق إن ذكرنا تعريب سىء لمفردة تيرورزم . وهى كلمة تثير معان مختلفة عند ذكرها لدى المسلم الذى لا يراها كلمة سيئة بما يقرأ ويفهم من نصوص القرآن والسنة ، بل هى عنده متصلة بمعان الخشية والإنابة ودرء العدوان لا إرتكابه . بينما يراها المفتقر للفهم للمصطلح والمفهوم الاسلامى مفردة تدعو للعدوان والمبالغة فى العنف والترويع بتبريرات أيدولوجية أو مذهبية أو دينية ، أو حتى بسبب مظلومية لا يخطىء رؤيتها بصر المنصف .فالترويع والإرعاب الناجم عن تأويل خاطىء للدين أو المبرر بسبب رغبة فى الإنتقام العارم ليس من الإسلام فى شىء ، وهو ليس له نسبة إلى أية ديانة حقة فى مقربة أو مبعدة . وكلمة إرهاب قد إكتسبت بكثرة الإستعمال فى الأعلام الغربى والتابع ، نسبة الى الإسلام وهو منها براء. فالإرعاب والترويع والقتل العنيف وبالجملة لا علاقة له بإلإسلا م ونسبته فى التاريخ القديم والحديث لمن ينسبونه للإسلام أقوى من نسبته للإسلام . فالإسلام عندما غزا أرضاً خارج محيطه الأصلى ضم أهلها سلماً إلى جماعته فصاروا فيها أصلاء حتى لم تعد نسبة من بدأ بهم الدين إلى نسبة القادمين إليه من شتى أطراف الارض إلا نسبة لاتكاد تذكر، ثم تداخلت الشعوب وأنصهرت بآصرة الدين فلم تعد الأنساب القديمة إلا ذكرى باهتة ، ولكن أناساً آخرين ذهبوا إلى أطراف الأرض غزاة فأبادوا أهاليها بالجملة ، ثم لم يبق من أهل الأرض القدامى إلا بقية متحفية للعرض الأنثربولوجى يسمونهم الأصلاء. والإسلام كذلكم لم يكن هو الدين الملهم لإختراع أسلحة الدمار الشامل ، ولا أهله هم من أقدموا على إستخدامها لتفنى المدنى المسالم والمرأة المرضعة و الطفل الرضيع والشيخ المهيض الجناح.من فعلوا هذا هم المارقون من كل ديانة بأسم الدهرية المحدثة التى هى لا دينية لا يمليها إلا هوى الأنفس والشهوات الجامحة الجانحة .
نواصل
الإرهاب معضلات التعريف والمواجهة (1)
د. أمين حسن عمر
يعقد الملتقى العربى للتصدى لظاهرة الإرهاب ندوة بالخرطوم للنظر فى كيفية التصدى لظاهرة ما يسمى بالإرهاب . ولا شك أن تبادل الأفكار والتجارب أمر مفيد ونافع ، ولكن المعضلة مع مسألة الإرهاب هذه هى إختلاط المصطلحات والمفاهيم والتصورات بشأنها . وقديما قال الإصوليون من علماء الشرع الاسلامى (الحكم على الشىء فرع من تصوره ) وهى قاعدة فقهية شرعية مستلة من قوله تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم( فالعلم بالشىء والإحاطة بإمره سابق للتصرف بشأنه .ولكن الأمر فى واقع الحياة أن الناس يتعجلون التصرف قبل التدبر. وما من مسألة تستبين فيها هذه الآفة مثل ظاهرة ما تشيع تسميته بالإرهاب فمثلما يتصرف من يقومون بتلكم الأعمال المريعة بغير تعقل ولا تدبركذلك يتصرف من يتصدون لهذه الظاهرة بغير تعقل ولا تدبر ، لذلك يتفاقم الأمر بسوء التصورات وسوء التصرفات .
الإرهاب ماهو ؟
وأول الأسئلة هو هل إستخدام هذه المفردة لوصف تلكم الأفعال المروعة صحيح وبليغ؟والإجابة ولاشك ان إستخدام هذه المفردة لتعريب مفردة terrorism إستخدام غير صحيح وغير بليغ. ومما يؤسف له أن هذا هو الشأن فى غالب المعربات عن اللغات الأجنبية ، لأن المعربون يفشلون فى نقل المفردة من سياق لغوى حضارى إلى سياق لغوى حضارى آخر. ذلك ان اللغات ليست إشتقاقا محضاً ولامفردات جامدة بل هى ألفاظ متطورة بتطور سياق الحياة وتبدل إستعمالاتها حسب مقتضى الحال . لذلك من الضرورى عند تعريب أيما مصطلح عن لغة أجنبية أن يستوعب المصطلح الأجنبي بادىء ذى بدء استيعاباً تامًا فى سياقه اللغوى والإجتماعى والحضارى ، ثم يراعى كل خصوصيات السياق اللغوى والإجتماعى والحضارى العربى عندما ينتخب الممفردة المناسبة لتعريبه.
وفي جميع المصطلحات العلمية و الفكرية يحتاج المعرب إلى مراجعة الأصول المنهجية والفكرية لمعرفة معنى المصطلح . كما يحتاج إلى معرفة السياق التاريخى، وتطور استعمال المصطلح عبر الحقب لتصور الأمر على وجه التدقيق ، فالسياق الزماني والمكانى والظرف التأريخى هى المحددات لنقل مصطلح من لغة إلى لغة أخرى . فالأمر لايتعلق بحرفية ماوضعت له المفردات إبتداء لأول وهلة بل ويتعلق إيضا بتطور الإستعمالات والمفاهيم للمفردة حسب الأزمان والأوضاع . إن الاستخدام المعاصر الشائع فى الإعلام بخاصة لمادة ( رهب ) وما اشتق منها، مخالف للاستخدامات العربية والقرآنية السابقة لتعريب مصطلح إرهاب عن اللغات الأجنبية واللغة الإنجليزية على وجه الخصوص رغم مايشى به المعنى القاموسى من معنى مقارب للشائع من معنى مضاف للمفردة . فقد ورد فى لسان العرب فى مادة "رهب" (رهب بالكسر، يرهب رهبة ورهباً، بالضم، ورهباً أى خاف ورهب الشئ رهباً ورهبه:خافة و الاسم الرهب و الرهبى ،والرهبوت، و الرهبونى، ورجل رهبوت يقال: رهبوت خير من رحموت ، أى لأن تُرهب خير من أن تُرحم . وترهب غيره إذا توعده ، كما يقال :هالك وهلك إذا ترهبا :إذا توعدا . وقال الليث : الراهب جزم لغة فى الرهب .قال : الرهباء أسم من الرهب نقول الرهباء من الله و الرغباء إليه. وفى حديث الدعاء رغبة ورهبة إليك .الرهبة :الخوف و الفزع جمع بين الرغبة و الرهبة. وقال أبن الأثير : هكذا جاء فى رواية، أى من أجل رهبته وهو منصوب على المفعول له . وأرهبه رهبة : أى أخافه وفزعه واسترهبه :استرعى رهبته حتى رهبه الناس ،وبذلك فسر قوله عز و جل ( واسترهبوهم و جاءوا بسحر عظيم) أى أرهبوهم والارجح فى الإستعمال هو الهيبة والخشية وترسخ معنى الخشية والهيبة من معانى الاستعمال القرآنى فالرهبة من الله وهى الخشية وهى أولى من أ، نقول الفزع منه سبحانه وتعالى والخشية باب من أبواب عبادات القلوب وأشغالها الإيمانية قال سبحانه فى وصف الأنبياء( أنهم كانوا يسارعون فى الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين ) ويشرح المعنى دعاؤه صلى الله عليه وسلم (ربى أجعلنى لك شكارا لك ذاكارا لك رهابا إليك خاشعا منيبا)
وأما الإستخدام الآخر فهو الوارد فى سورة الأنفال وهو المتصل بإعداد القوة والمنعة لردع نية العدوان لدى العدو الذى يُخاف عدوانه وربما أعداء آخرين قد يغريهم ضعف الفئة المؤمنة أن يباغتوها بالعدوان ( وأعدوا لهم ما أستطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلموه الله يعلمهم)
وإرهاب العدو المحارب بالإعداد هو ما يعرف الآن بنظرية الردع . وقد برزت نظرية الردع بعد ظهور السلاح النووى وإدراك الجميع أنه سلاح ردع . ولا يمكن إستخدامه لأنه إن أستخدم ضد عدو يملكه فهو يعنى الدمار المتبادل . فإنتقلت نظرية الردع من إعداد القوة التقليدية إلى إعداد القوة النووية . ولاشك أن الإستخدام ههنا يعنى إدخال الرهبة والمهابة فى قلوب قادة العدو الذى يُخشى عدوانه لردعه عن العدوان . وهو معنى بعيد النجعة عن تسبيب الفزع والترويع بالإسراف فى القتل والتمثيل بالناس سواء كانوا محاربين أو غير محاربين . لذلك لزم ضبط المصطلح بإستخدام المصطلح القرآنى والسنى فى وصف حالة الإسراف فى القتل والترويع والإفزاع والإرعاب الناتج عن ذلك. بيد أن الجهة التى عربت المصطلح كانت أكثر تأثرأ بالتاريخ الغربى ، ولاعجب فى ذلك فإن المناخ السياسى والثقافى العام شديد التأثير على إختيارات المعربين ويضاف إلى ذلك تحيزاتهم الثقافية والأيدولوجية ، وقل من يبرأ من التحيز تماما فى عمل مثل التعريب والترجمة يتدخل فيه بقوة فهم المرء للمصطلح فى اللحظة الراهنة ويتداخل مع تحيزاته المفاهيمية . ومصطلح إرهاب برز بقوة مرتبطاً بما بعديات الثورة الفرنسية بل بحقبة تاريخية كاملة من تاريخ فرنسا بعد الثورة سميت بعهد الارهاب . وبدأت بتصفية عشرات الآلاف وأعتقال مئات الآلاف من أتباع العهد الملكى وأنتهت بتصفية زعماء الثورة لبعضهم البعض عبر الإغتيالات والمحاكمات الصورية ، وكان كل ذلك يبرر بأسم حماية الثورة. ، ثم أعيد المصطلح بقوة من جديد إلى الذاكرة بالثورة الروسية التى أعادت إنتاج أدبيات الثورة الفرنسية . فأستحل من يسمون أنفسهم ثواراً قتل الخصوم بالجملة وأغتيال القيادات وإستخدام ما يسميه الشيوعيون بالعنف الثورى الذى أصبح جزءاً لا يتجزأ من أيدولوجية اليسار الثورى على وجه العموم . من ناحية أخرى أسرفت الحكومات الغربية فى إستخدام مصطلح إرهاب ضد كل من تواجهه أو يواجهها بالسلاح حتى وإن كان مقاتلا ضد العدوان على أرضه ووطنه . واستخدمت السلطات الفرنسية المصطلح بقوة ضد الجهاد الجزائرى من أجل حرية واستقلال الجزائر وصار من دأب الحكومات جميعا وصف كل مقاومة عنيفة ولو كانت شرعية بحكم القانون الدولى بأنها إرهاب.
معضلة تعريف الإرهاب:
ولاتزال معضلة تعريف ما يمكن أن يُسمى إرهابا محورا لنقاشات وحوارات لا تنتهى بين السياسيين والباحثين الأكاديميين . وإن شئنا مراجعة التعريف اللغوى للكلمة فإن قاموس أكسفورد يعرفها بأنها: ( سياسة، أو أسلوب يعد لإرهاب، وإفزاع المناوئين، أو المعارضين لحكومة ما، والكلمة ( إرهابي) تشير بوجه عام إلى أي شخص يحاول أن يدعم آراءه بالإكراه أو التهديد أو الترويع) ولا شك أن للتاريخ الأوربى وبخاصة الفرنسى الأثر الأكبر فى إختيار هذا التعريف . وكلمة إرهاب العربية لمقابلة الكلمة الإنجليزية ليست دقيقة ,وأنا افضل إستعمال إرعاب أو ترويع لتحرى دقة الوصف والتعبير. وعندما عظُمت البلوى بآفة الإرعاب والترويع إضطرت الأمم المتحددة إلى مقاربة التعريف فوصفت فى العام 1999ما تسميه بالإرهاب بأنه (كل عمل إجرامي دون سبب وجيه، حيثما تم فعله ومهما كان الفاعل فهو يستحق الشجب) ولاشك أنه تعريف فضفاض يجعل إستخدام المصطلح سلاحا معنوياُ بيد كل حكومة لوصف كل من يناهضها بأنه إرهاب . وفي عام 2004، خرج الفريق الدولي الذي شكله الأمين العام للأمم المتحدة في نهاية عام 2003 لتقييم التهديدات التي يتعرض لها السلم والأمن الدوليين والذي ترأسه رئيس وزراء تايلند و ضم من بين أعضائه الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى خرج بتعريف للإرهاب على الوجه التالي: (أنه أي عمل إلى جانب الأعمال المحددة فعلاً في الاتفاقيات القائمة بشأن جوانب الإرهاب، واتفاقيات جنيف، وقرار مجلس الأمن 1566 لعام 2004، يراد به التسبب في وفاة مدنيين أو غير محاربين أو إلحاق إصابات جسمانية خطيرة بهم، عندما يكون الغرض من هذا العمل، بحكم طابعه أو سياقه، هو ترويع مجموعة سكانية أو إرغام حكومة أو منظمة دولية على القيام بأي عمل أو الامتناع عنه(. وتجاهلت تعريفات الأمم المتحدة دائما النظر من زوايتين زواية الفعل الإجرامى بدوافع فكرية وسياسية من قبل معارضين وزاوية إستخدام الحكومات لسياسة الإفزاع والترويع ضد المعارضين بدواع فكرية أو وسياسية . وأما الإتحاد الأوربى فيزيد الإرتباك بتبنى تعريفين للإرهاب أحدهما في توصية غير ملزمة من البرلمان الأوروبي عام 1997 ثم عاد وعدل عليه تعديلات بعد أحداث سبتمر عام 2001، حيث عرف البرلمان الأوروبي الإرهاب بأن: "كل فعل يرتكبه الأفراد أو المجموعات يلجأ فيه إلى العنف أو التهديد باستخدام العنف ضد دولة، أو مؤسساتها، أو شعبها بصفة عامة، أو ضد أفراد معينين، ويهدف إلى خلق مناخ من الرعب بين السلطات الرسمية، أو بين أفراد أو مجموعات معينة في المجتمع، أو بين عامة الجمهور لأسباب انفصالية أو معتقدات ايدلوجية متطرفة أو أصولية دينية، أو رغبة في الحصول على منفعة". وظلت وثائق الأمم المتحدة ووثائق المنظمات الإقليمية والدولية تتعدد وتتناقض فى تعريف الجريمة إلى حد مسبب للإرتباك والفوضى الفكرية والإصطلاحية. فمعاهدة منظمة المؤتمر الاسلامى ( التعاون الاسلامى)عرفت الإرهاب بالإرهاب كما يُعرف الماء بالماء ، فنصت المعاهدة فى باب التعريفات أن الإرهاب هو (الجريمة الإرهابية: هي أي جريمة أو شروع أو اشتراك فيها، ترتكب تنفيذاً لغرض إرهابي في أي من الدول الأطراف أو ضد رعاياها أو ممتلكاتها أو مصالحها أو المرافق والرعايا الأجانب المتواجدين على إقليمها مما يعاقب عليها قانونها الداخلي. )وإن كانت تحفظت على إعتبار حق الشعوب فى المقاومة الشرعية إرهابا (لا تعد جريمة إرهابية حالات كفاح الشعوب بما فيها الكفاح المسلح ضد الاحتلال والعدوان الأجنبيان والاستعمار والسيطرة الأجنبية من أجل التحرر أو تقرير المصير وفقاً لمبادئ القانون الدولي.)أما المعاهدة العربية لمكافحة الإرهاب فقد عرفته بأنه (كل فعل من أفعال العنف أو التهديد به، أيا كانت بواعثه أو أغراضه، يقع تنفيذ لمشروع إجرامي فردي أو جماعي، ويهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس، أو ترويعهم بإيذائهم، أو تعريض حياتهم أو حرياتهم أو أمنهم للخطر، أو إلحاق الضرر بالبيئة، أو بأحد المرافق او الأملاك العامة أو الخاصة، أو احتلالها أو الاستيلاء عليها، أو تعريض أحد الموارد الوطنية للخطر)والجامعة العربية حذت حذو منظمة التعاون الإسلامى فأستثنت المقاومة المشروعة فذكرت الاتفاقية في بند منفصل "لا تعد جريمة، حالات الكفاح بمختلف الوسائل، بما في ذلك الكفاح المسلح ضد الاحتلال الأجنبي والعدوان من أجل التحرير وتقرير المصير" ولكنه فى كل الأحوال فإن الغموض هو السمة المائزة للتعريفات الإقليمية والدولية للمصطلح فكيف يتحدث أحد من الناس عن تفاهم أو إصطلاح على ما يمكن أن يفيد به إستخدام الكلمة من أى طرف من الأاطراف.
التعريفات الأمريكية للإرهاب :
ونحن نخصها بالذكر لأن التعريف الأمريكى للإرهاب له نفوذ هائل على كافة التعريفات الدولية والإقليمية والوطنية للإرهاب بقدر ما للولايات المتحدة الأمريكية من نفوذ وبقدر تعاظم الإهتمام الأمريكى بالإرهاب الذى يهدد المصالح الأمريكية المشروعة وغير المشروعة عبر العالم.ورغم كل هذا الإهتمام فإنه لا يوجد إتفاق بين المؤسسات الأمريكية لتعريف الإرهاب بالإضافة إلى اختلاف التعريف بين فترة وأخرى، وذلك تبعاً لتطور الأوضاع الدولية والداخلية . عرّف القانون الأمريكي الصادر عام 1984 الإرهاب بأنه: "كل نشاط يتضمن عملاً عنيفاً أو خطيراً يهدم الحياة البشرية، ويمثل انتهاكاً للقوانين الجنائية في الولايات المتحدة، أو أية دولة أخرى أو يمثل انتهاكاً جنائياً فيما إذا ارتكب داخل الولايات المتحدة، أو أية دولة أخرى، ويهدف إلى نشر الرعب والذعر بين السكان المدنيين أو التأثير على سياسة دولة بممارسة الرعب أو الذعر، أو التأثير على سلوك حكومة عن طريق الإغتيال أو الخطف(.
ثم عاد قانون آخر فى عام 1987، فعرّف الإرهاب بأنه: (تنظيم أو تشجيع أو مشاركة، في أي عمل عنف أو تخريب، يحتمل أن ينتج عنه أو يتسبب في موت أو إحداث أضرار خطيرة وجسيمة لأشخاص أبرياء ليس لهم أي دور في العمليات العسكرية(.
أما وزارة الخارجية الأمريكية فلها تعريفها الخاص وهو (عنف متعمد ذو باعث سياسي يرتكب ضد غير المحاربين من قبل مجموعات وطنية منشقة ، أو عملاء دولة سريين، ويقصد به عادة التأثير السلبى على جمهور ما)
ووزارة الدفاع الأمريكية لها تعريفها وهو:(إستخدام مقصود للعنف أو التهديد به لإثارة الخوف والفزع و يقصد منه ترويع، أو إجبار الحكومات أو المجتمعات، لتحقيق أهداف سياسية في الغالب، أو دينية، أو أيدلوجية)، أما وزارة العدل الأمريكية فتعرف الإرهاب بأنه: ( لاستخدام غير المشروع للقوة، أو العنف ضد الأشخاص، أو الممتلكات، من أجل ترويع أو إجبار الحكومة، أو الشعب المدني، أو أية طائفة منه، لتحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية)
وأما مكتب التحقيقات الفدرالية الجنائية الأمريكي، فيعرّف الإرهاب بأنه: (أفعال العنف، أو أفعال ذات خطورة على حياة الإنسان، تنتهك القوانين الجنائية للولايات المتحدة الأمريكية، أو أي دولة، يظهر منها أنها تهدف إلى ترويع، أو إجبار شعب مدني، أو التأثير على سياسة حكومة بالترويع والإجبار، أو التأثير على سلوك حكومة ما من خلال الاغتيال، أو الخطف، وتنفذ خارج الولايات المتحدة الأمريكية، أو إذا كانت الوسائل التي تمت بها، أو كان الأشخاص الذين قصد ترويعهم أو إجبارهم، أو كان المكان الذي عمل منه مرتكبوها، أو طلبوا اللجوء إليه يتعدى حدود الدولة)
والكونغرس هو الآخر عرف الإرهاب الدولي بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر في قانونه المعروف باسم أالقانون الوطنى ( بأنه فعل يرتكب خارج الولايات المتحدة الأمريكية ويتضمن أفعال خطيرة على حياة الإنسان تشكل انتهاكاً للقوانين الجنائية للولايات المتحدة أو أية دولة، ويبدو منه قصد ترويع، أو إجبار شعب مدني، أو التأثير على سياسة حكومة بالترويع والإجبار، أو التأثير على سلوك حكومة ما من خلال الدمار الشامل، أو الاغتيال، أو الخطف)
بينما تعريف قانون الجيش الأمريكي ينص على أن الإرهاب هو(الاستخدام المحسوب للعنف، أو التهديد باستخدام العنف، لتحقيق أهداف سياسية أو دينية، أو أيدلوجية، في الأساس من خلال التخويف وإدخال الذعر والإجبار)
والملاحظة العامة على هذه التعريفات جميعا أن العامل المشترك بينها جميعاً هو عدم ذكرإرهاب الدول المحتلة أو المستبدة ضد الشعوب . لكن أمريكا على طريقة المعايير المتعددة لاتنسى تصنيف بعض الدول التي لا تتوافق سياساتها مع سياسات الولايات المتحدة الأمريكية ونظرتها نحو العالم دولاً إرهابية . فقد إستخدمت الولايات المتحدة الأمريكية عبارة وتصنيف "الدول الراعية للإرهاب" لتبرير سياساتها ضد تلك الدول . وهووصف وتصنيف يفتقر للمعايير الضابطة . ولاغرو حيث أن وضع معايير محددة وواضحة لوصف دولة ما بالإرهاب، قد يصم الولايات المتحدة الأمريكيةنفسها أو بعض حلفائها المقربين مثل إسرائيل بوصمة الإرهاب. ومما يثير الأسف فقد إرتبط إستخدام كلمة الإرهاب دائما سواء كان الإستخدام فعلاً أو قولاً بخدمة مقاصد سياسية أو أيدولوجية دون مراعاة لمعايير الإنصاف والعدالة أو حقوق الإنسان.
نواصل
الحوار الوطنى.....ثم ماذا بعد ..
د.أمين حسن عمر
لايزال الحوار حول الحوار هو حديث الساعة وآخر ماكان محل الإهتمام من رواة الأخبار هو أعلانات أطراف المعارضة الخارجة بأنهم باتوا على إستعداد للتوقيع على خارطة الطريق.ورغم ما أكتنف هذه الأعلانات من تفسيرات وتبريرات بل ومغالطات فإن تأتى أخيرا خير من ألا تأتى . بيد ان الهاجس الذى يساورنى هو أننا لا نزال على مبعدة من إنفراج سياسى حقيقى، تلتئم به الساحة السياسية على توافق يسمح بإبتدار مرحلة سياسية ودستورية جديدة . ما يهحس فى بالى إن كل طرف من أطراف الساحة السياسية يُغنى على ليلاه ، وأما ليلى تلك المريضة بالعراق فلا تزال مريضة حيث تكون . فالمعارضون المجانبون يعتقدون أن فى الوقت فسحة لمناورات جديدة تحت عناوين سئمها المكان ومجها السكان ، وتجاوزها الزمان . وموالون سواهم يحسبون أن الحوار صفقة يراد إبرامها مع معارضة لتهدأ الثائرة ويستقر الوطن ، ولئن كان ذلك من المقصود فإنه أقل المطلوب والمقصود .
الحوار لماذا ؟؟
إطلقت دعوة الحوار وإنبثقت من شعور قوى داخل أوساط الحزب الحاكم بالحاجة الى إصلاح لايمكن تأجيله . وقناعة راسخة إن إستمرار الأمر على مساقه المعتاد لا يمكن إستدامته ولا تؤمن عواقبه. فالسودان فى حاجة إلى أن يجنى ثمرة تضحياته التى قدمها للسلام، الذى يريد له البعض أن لا يتحقق واقعا فى أرض السودان. والسودان فى حاجة إلى بناء كتلة سياسية متضامنة من أجل تحقيق العدالة وتسريع التنمية . وهما المقصدان الذان كانا يجب أن يكونا الثمرة الدانية لتحقيق المشروع الإسلامى فى السودان .وصحيح أن قوى عالمية ومحلية إستفرغت الجهد لإبطال كل مسعى يحقق هذين الهدفين تحت عنوان المشروع الاسلامى ، ولاتزال تلك الجهود تبذل لنقض كل غزل يغزل بإسم الإسلام ، بيد أن المؤمن الحق ليس له أن يبرىء نفسه الأمارة بالسوء، فتبرير كل فشل عن المواصلة وكل إخفاق عن تحقيق المراد بمايكيد الكائدون هو إقرار بالعجز المستدام . فإن الغرماء والخصماء لن يتوقفوا عن المكر وعن الكيد ، فهل حينئذ سيقول القائلون ألا إلى تحقيق المقاصد من سبيل ؟؟إن أول ما يتوجب الإعتراف به أننا فى حاجة الى إستعادة روح العمل المشترك من أجل الوطن وأن نقر أن هذه الروح كادت تتبدد وسط التحالفات الآنية والتسويات الذرائعية . ولن تُستعاد الحماسة للشراكة الوطنية الحقة إلا على أساس حزمة من الأفكار الأساس التى يتوافق عليها الناس تراضيا لا تغاضيا وأقتناعا لا أنصياعا . وثانى ما يجب الإعتراف به أن المساومات والتسويات خاصة تلك القبلية والجهوية وأحيانا الشخصية لم تجلب أفضل الكفاءات لتحقيق أنسب المرادات . وأن مفهوم الملائمة السياسية والصواب السياسى غلب على مفهوم مطلق الملائمة ومطلق الصواب . لا شك أن الحزب الحاكم ومن يواليه يحتاج إلى مراجعات أقرها وأعتمدها عندما تبنى شعار قيادة الإصلاح وإستكمال النهضة للحملة الانتخابية . ويا لها من مهمات جليلة وأعباء باهظة لايمكن إنجازها بمضى الأمور على معتادها . فالاصلاح لن يصبح شعارا إلا إذا أحس الناس أن التحركات خرجت عن المسارات أو أن التحولات تجاوزت المجهودات ، فحينئذ يصبح الوضع إستثنائيا ولا يُصلح للمعضلة الإستثنائية إلا حلولاً إستثنائية . وأما تهوين الأمور فدلالة على العجز مثل تهويلها تماما . إن المؤتمر الوطنى طرح خمسة عناوين للحوار الوطنى على لسان رئيس الجمهورية ، وعندما طرحها قصد أن يطرحها لأن الخلاف حولها هو ما يصنع حالة الرحى الدائرة تطحن كثيرا ولا يخرج من فوهتها إلا النذر اليسير. وأول هذه المسائل هى النظام السياسى بإسره لا نظام الحكم فحسب . فلا شك أن النظام السياسى الذى يشتمل على الفاعلين السياسيين جميعا وعلى المنظمات والمؤسسات السياسية والإعلامية والدستورية بات معطوبا غير قادر على تهيئة مناخ للتساجل السياسى والتداول السلمى . وأعطابه التى لم تصلح وأبعاضه التى لم تستبدل أعطبت هى الأخرى جوانب كثيرة من الحياة الإجتماعية والثقافية والسياسية. فالسياسة دخلت مثل الضباب على كل شىء فأفقدته الرؤية الثاقبة والحركة الدائبة .ومن أجل ذلك طرح المؤتمر الوطنى قضايا التشارك السياسى وقضايا الحريات والواجبات أول ما طرح فمن غير إصلاح سياسى سيصبح كل إصلاح آخر محتاج إلى إصلاح .
السياسة والمعاش:
وكذلك طرح المؤتمر الوطنى فى الرتبة الثانية قضية معاش الناس .لأنه يدرك أن جوهر السياسة هى تحقيق مصالح العامة . وأول هذه المصالح الإطعام من جوع والتأمين من خوف . وقد أدى النظام السياسى المعطوب حكماً ومعارضة الى آثار كثيرة ضارة بالجهود المبذولة لتحسين المعاش وتأمين الحياة . وأدى فى أحيان كثيرة إلى إنعدام الخيار أمام المخططين لإنعدام البديل قدامهم . فإنه لا يصح إستخدام مفردة خيار إلا إذا تعددت إمام الناظر البدائل. وفى ظروف الصراع والإحتراب تبدد البدائل فتبدد الموارد بتبددها .وتعلو الأولويات الأمنية الضيقة على كل أولوية أخرى . ويعتكر مناخ الإستثمار فتتتناقص المشروعات وتتناهى الطموحات ، وتصبح السياسات سياسات معالجات لا سياسات تحفيز وتفعيل وإنجاز. ومهما كُتب فى الأوراق من أفكار صائبة فهى لن تكون ناجعة فاعلة فى مناخ لا يؤاتى إفتراضاتها. وصحيح إن جزءا من مشكلة ضيق المعاش مصنوع بالتضييق المقصود على المشروع المرفوع ، ولكن هذا التضييق يجد مبرراته فى فشل النخب الحاكمة والمعارضة فى التراضى والتوافق على الحد الذى يسمح برفع الضرر عن الناس برفع الضرار بين المتخاصمين المتحاربين . ولا أحد يلاحى فى الإمكانية الهائلة التى يكتنزها السودان من الموارد البشرية والمادية ، ولا يقع كثير جدال حول صوابية الخيارات والسياسات ولكن ثقافة الإقصاء المتبادل هى التى تقتل فرص التشاور الحق بين وجهات النظر وإتجاهات التفكير. والناظر إلى ما خرج به الحوار فى قضايا الإقتصاد يرى كيف وقع الحافر على الحافر فى كل التوجهات والسياسات . فلم يبق إلا ان تتوافر العزائم على أعلاء السياسة التى هى إصلاح على السياسة التى هى تنازع وصراع.
الهوية ما هى ؟
وطرح المؤتمر الوطنى قضية الهوية ليس لأنها غامضة أو خفية ، فالشخص لا يكون الا نفسه ، والجماعة الثقافية والوطنية لا تكون إلا كما ترى نفسها. والأصل فى الجماعة أيما جماعة أنها جماع هويات فردية متعددة متنوعة ، والتنوع هو المغزى لإجتماعها فلو أنها كانت متطابقة لتوحدت شخصا واحدا فلم يزد ما بها شئيا بالإجتماع . وإنما باعث الاجتماع هو تعئبة الطاقامت المتعددة وتجميع الموارد المتنوعة . ولذلك فلا معنى للجدل العقيم الذى يريد أن يلغى التنوع أو أن يحتفظ به تنوعاً متجاورا لا متمازجا متفاعلا . وقد جاء طرح قضية الهوية لمناقشة سياسة إدارة التنوع لا لتقرير ماهو مقرر أصلاً بموجب واقع الحال . وقد نُفثت أنفاس حارة وأبخرة غير عاطرة فى فضاء قاعة الصداقة ، ولكن توصيات اللجنة خرجت فى خواتيم تداولها بوفاق كبير حول ما يجب أن يؤتى وما يجب أن يتجنب فى سياسات إدارة التنوع الثقافى والإثنى والجهوى . وكذلك وقع ذلك وأثره على قضايا التدبير السياسى والتنموى فى البلاد.ولاشك أن توجهات السودان فى سياساته الخارجية هى واحدة من تمظهرات رؤيته لهويته ، والتوازن فى تلكم الرؤية لا شك سوف يحدث التوازنات فى سياساته الخارجية . يدخل فى ذلك حقائق ووقائع ملموسة ومحسوسة فى تفاعل أهل السودان ودولة السودان مع الأمم والدول الأخرى. فالحديث عن الهوية ليس حديث نظرى وإنما هو وصف لواقع الحال. فنحن فى واقع الحال ننتمى إلى أفريقيا بالجغرافيا والديموغرافيا وبالثقافة المادية فى جلها ، وننتمى للعروبة لسانا وثقافة غير مادية فى جل ذلك ، ولكن التضامن والتفاعل الحقيقى هو ما سيجعلنا أقرب إلى هؤلاء أو إلى أولئك ، دونما قطيعة مع أحد.فالأرحام بين الأمم مثل الأرحام بين أفراد الناس يسعد الناس بوصلها ويشقون بفصلها وقطعها .
الدستور للإتئلاف أم الإختلاف؟
الأصل فى وثيقة الدستور أنها تسجيل لما يتوافق عليه الناس لتنظيم حياتهم العامة وأحيانا الخاصة ، ولكن الدستور فى السودان صار مثل قميص عثمان يُرفع لتكريس الخلاف لا لتسريع الوفاق . وقد آن الأوان لكى يكون الدستور كما أريد له بوابة التراضى والإتفاق . وأول بنود ذلكم الإختلاف هو إصرار البعض على تسمية المنتظم الذى سيناقش الأمور الدستورية بالمؤتمر الدستورى ، بينما ينص الدستور الانتقالى الذى أنجز بوفاق تام من جميع القوى السياسية أن الدستور سوف يناقش فى المفوضية المنصوص عليها فى بنوده . وقديما قال العقلاء لا مشاحة فى التسميات والإصطلاحات . ولا شك أن مفردة مفوضية أقوى من حيث تقوية صلاحيات ذلك المنتظم الدستورى من كلمة مؤتمر ، ولكن الأمر بإسره لا يجب أن يكون سبباً فى تعطيل إجتماع قوى المجتمع المدنى والأهلى بأحزابها ومنظماتها وعلمائها وخبرائها لإبرام عقد رشد لمرحلة سياسية جديدة ، يُوطد فيه الاتفاق على أسس النظام السياسى وعلى ركائزه وأعمدته وأسقفه. فالسياسة لاتصلح إلاعلى إتفاق على الإتفاق فى أمور ، وعلى إتفاق على نظام الأختلاف فى المختلف عليه .وإنما يكون الاتفاق على الأصول التى يحب البعض أن يسميها ثوابت ولا أحب التسمية ، ويقع الاتفاق على قواعد الحركة والسكون والفعل والإمتناع ، فأنه مع الإفتقار إلى ذلك لا يكون الأمر إلا فوضى تسمى بغير إسمها. وإنما يكون الإتفاق على نظام الإختلاف عاصماً من الانزلاق من التنوع إلى التنازع ، فالتنازع مؤذن بذهاب الريح ، والريح إن هى ذهبت فقد يطول الإنتظار حنى تؤاتى من جديد. ولقد شهدت قاعة الصداقة حوارا مستفيضا حول قضايا الحكم والدستور . وقارب الإتفاق حولها أن يكون إجماعا إلا فى أمور محدودة ، لا يؤذى التنازل عن الرأى فيها من هذا الطرف مرة ومن الطرف الآخر تارة أخرى . وأما أولئك الذين يتحدثون عن المؤتمر الدستورى من الخارج فإنهم يعلمون أنه ما من فكرة فطيرة أو خطيرة قالوا بها إلا وقيلت وسُمعت فى أبهاء قاعة الصداقة . فالأمر لايتعلق بالإفصاح عن رأى بل بالقدرة على الإقناع به . ويتوجب على هؤلاء إن ساعفتهم الروح الوطنية أن يقبلوا صادقين على النظر فى مخرجات الحوار وجعلها مادة لحوار منتج ، يخرج به الفرقاء من ضيق المنازعة الى سعة التوافق والتشارك . ولا شك أن السودان يحتاج الى فترة نقاهة من أدواء الصراع والنزاع تجسدها ديموقراطية توافقية تفضى إلى ديموقراطية تنافسية ، تنتهض على أسس راسخة من المبادىء المكرسة لوحدة الوطن وتكاتف أبنائه على النهوض به إلى أعلى ما يبتغون. ولأجل ذلك لابد للدستور أن يهيىء لذلك بمراجعات للقواعد والتشريعات التى تنظم الحياة السياسية بما يوافى متطلبات الواقع لا مشتهى هذا الحزب أو مبتغى الحزب الآخر.
حوار الفرصة الراهنة :
ولا أقول كما يقول البعض حوار الفرصة الأخيرة فلا يعلم الغيب إلا الله , ولكن بلادنا بددت فرصاً لا حصر لها لتلتئم الجراح وتهدأ الأنفس ويقر قرار البلاد والعباد . ومن واجب كل واحد منا أن يبذل غاية الوسع لئلا تفوت هذه السانحة الماثلة . والواجبات تتنزل حسب الصلاحيات فمن كان الأصلح لأداء واجب ما تنزل عليه ذلك الواجب بأرجح مما يتنزل على الآخرين ، دون أن يقلل ذلك من مسؤوليتاهم من شىء. والمؤتمر الوطنى الذى طرح الحوار الوطنى من موقع إحساس بالمسؤولية الباهظة ، عليه أن يكون أشد الأطراف حرصا على إنجاحه وألا تحثه رؤيته لخطل التقدير فى هذه التوصية أو تلك أن يجعلها متكأ يتكىء عليه الراغبون فى أفشال الحواروتبديد فرصة التوافق والتراضى . لأن خطتهم إنما هى أن يسقط المعبد على كهنته ولو تهاوت أسقفه على الجميع . ولكم نرى من أمثال هؤلاء الحمقى فيما نرى ونشاهد فى مجريات الأحداث والأخبارهذه الأيام .بيد أن الحارس اليقظ لمجريات الحوار ولمخرجاته هو الشعب السودانى الذى يجب أن يعلم أن الشأن هو شأنه وأن الأمرهو أمره وانه يجب ان لا يترك الأمر لوكيل غير مؤتمن ولا لمخاصم خارج لا يخشى فى الناس إلاً ولا ذمة .

سؤالات لحزب البرجوازيين الصغار الأحمر


المدونة السياسية :
سؤالات لحزب البرجوازيين الصغار الأحمر
كان الحضور الأقوى من نصيب الرآيات الحمراء التى إستطاعت التورية على الحضور المتواضع للحشد الذى يلتئم على هذا النحو لأول مرة منذ العام 1967وذلكم هوالمؤتمر العام للحزب الشيوعى السودانى . وضيوف المؤتمر أنفسهم علموا أن الحاضر الأهم هو اللون الأحمر فجاءوا بالجلابيب الحمراء والثياب الحمراء . فهذا كل ما تبقى من حزب الطبقة العاملة السودانية.وإذا تعاظم الشعار تقزمت الفكرة . وهل يحتاج أحد أن يقيم دليلاً على تقزم الفكرة الشيوعية حتى كاد ينساها الناس ، إلا من أناس دخلوا كهف التاريخ ولم يخرجوا منه بعد.ولئن كان للمناسبة من فضل فإنها دليل ساطع على المناخ الحر الذى مكن لكل الفاعلين السياسيين أن يظهروا فيه نشاطهم وأن يعرضوا بضائعهم ، وإن كانت بضاعة بائرة غير نافقة ولا مزجاة.وكذلك كشفت المناسبة النادرة مدى تلهف الأعلام والرأى العام لنشاط سياسى يبرز فيه تنوع الساحة السياسية السودانية مهما يكن حجمه أو وجهته. كذلك أظهرت المناسبة أن الحزب الذى أعتاد البقاء فى القبو قد أضطرته المنازعات بين فرقائه إلى الخروج إلى السطح بما يعنى التعرض لفحص ورقابة المجتمع المدنى على مسارات عمله وأوجه نشاطه. وقد ظهر للجميع أنه خلف تلكم الرآية الحمراء يقبع حزبان فى رداء واحد. أحدهما هو حزب المصابين بالنوستالجيا لأمجاد ماضية متخيلة ، وحزب آخر ربما بات يؤمن أن المراجعة الجذرية أصبحت قدرا مقدورا. بيد أن هذا التوأم السيامى لايملك فكاكأ من راهن الحال ، ولكنه مهما يكن فإن هذا أمر يدعو للإستبشار . ففى الماضى لم يكن ليُسمح للرأى آخر أو تيار آخر أن يظهر أو يتبلور ، ولم يكن الرأى الآخر يجد سبيلاً سوى مغادرة الحزب أو الانتحار. وقد آن لعقلاء الحزب إن وجدت منهم طائفة أن ينفضوا عن أنفسهم غبار السنوات السبعين التى آضت بالحزب الماركسى اللينينى إلى أرذل الحال.فالحزب الذى سجل فى تأريخه إعتراضه على الحكم الذاتى فى 1953 ،ثم سجل على نفسه تحطيم الخدمة العامة بتسييسها لأول وهلة بشعار التطهير واجب الوطنى لإحلال كوادر الحزب من محازبيه ومناصريه فى محل شاغلى مناصب الدولة حتى صار التسييس هو الأمر الواقع الذى تتسابق عليه الأحزاب قديمها ومحدثها. وهو الحزب الذى سجل لأول وهلة تسييس القوات المسلحة فزرع كوادره بدعوى القوى الثورية والضباط الأحرار فى الجيش الوطنى حتى صار التنافس بين الأحزاب فى زرع محازيبها هو السنة الجارية الراتبة . وهو الحزب الذى باء بوزر تحطيم القطاع الإقتصادى الخاص بدعوى التأميم والمصادرة فإنقطع تواصل النمو الإقتصادى من وقتذاك. بيد أنه ورغم كل هذه الجرائر فإن شعب السودان على عادته فى التسامح والتناسى لا يزال يبسط أياديه بفرصة جديدة لحزب شائخ أنساه الزهايمر السياسى أن يذكر ماضيه وأعجزته غشاوة الماء الأبيض والأسود أن يبصر بالأشياء قدامه وبين يديه.
سؤالات مهمة للحزب البرجوازى:
وبغض النظر عن أن الجميع يدرك أن دعوى الحزب بأنه حزب الطبقة العاملة هى دعوى مكذوبة ، يكذبها أولاً عدم وجود هذه الطبقة المفترضة ، وكذلك يكذبها إنفضاض جماهير العمال وإنصرافهم عن دعوته ودعواه منذ تأسيسه . فهو تأسس على أكتاف مناضلين من ذات الطبقة التى يزعم أنه يعمل على إبعادها من مركز السيطرة الذى تتسنمه. ولئن كان مفهوماً أن يشتمل الحزب الشيوعى على طائفة من المناضلين الخارجين على طبقتهم المنحازين للمستضعفين كما فعل ماركس وأنجلز فإن أحداً لم يتصور أن يكون وجود العمال فى حزب البروليتاريا هو الإستثناء وليس القاعدة. فالحزب الشيوعى أنشأه منذ سبعين سنة ثلة من البرجوازيين الصغار ، وظل يتوسع فى ذات الطبقة المفترضة ، بينما يعرض عنه إلى اليمين المفترض وإلى الوسط السواد الأعظم من العمال والفلاحين ، الذين هم ملح الأرض بما يسيل من جباههم من عرق الكد والكدح . لذلك فأول السؤالات هل لايزال الحزب الشيوعى هو حزب الطبقة العاملة ؟ وهل يسعى بالفعل إلى التمكين الإقتصادى والسياسى للطبقة العاملة بله من تكريس السلطان كله بين يديها بدعوى ديكتاتورية البوليتاريا؟ وكيف سيتحقق ذلك التمكين ؟ هل يتحقق بسلوك سبيل الديموقراطية البرجوازية الليبرالية أم عن طريق بناء الجبهة الوطنية الديموقراطية التى هى حكر للتقدميين دون سواهم ولا مكان فيها لأمثال الأمام الصادق وأبنته المنصورة من بقايا أحزاب الرجعية الطائفية الدينية؟ وهل يعنى إفتتاح المؤتمر بتلاوة آيات من القرآن الكريم وظهور بعض كادرات الحزب بالزى الإسلامى ، مراجعة لموقف الماركسية من الدين ، الذى هو لدى الماركسيين بنية فوقية صنعتها البرجوازية الصغيرة والأرستقراطيات العتيقة من قبلها لتخدير الشعوب ، أم أن التلاوة المباركة لا تعنى أكثر من ذر الرماد على العيون كى لا تبصر بالموقف الفكرى والسياسى الثابت للحزب من مناهضة لا تفتر لخطة تخدير الشعب بأفيون العواطف الدينية ؟ وهل يعنى ذلك أن الحزب الشيوعى السودانى له موقفه الخاص إزاء الدين أم أن الدين فى السودان ليس مخدراً بل منشطاً للشعب ، يجوز للحزب أن يستخدمه لحث الشعب للنضال كى ما ينال حقوقه التى يسرقها البرجوازيين الصغار؟وإذا كان ذلك الموقف من الدين مراجعة حقيقية لا مناورة آنية ، فهل تشمل هذه المراجعات الموقف الفلسفى الذى تأسس عليه الموقف من الدين ؟ أى هل تعنى مراجعة المادية الجدلية ومن ثم مراجعة التفسير المادى الجدلى للتاريخ؟ وإن كان ذلك كذلك ألا يجعل هذا التحول الكبير حزب الرفاق الحمرخارجاً من دائرة الإشتراكية العلمية الحتمية ، وداخلا إلى دائرة الأحزاب الإشتراكية الطوباوية غير العلمية؟وإذا كانت الإشتراكية ليست بالضرورة حقيقة علمية وهى بالتالى غير حتمية فمن يضمن صوابية سائر التحليلات والتنبؤات الأخرى التى شكلت أحلام المناضلين دهرا طويلا ؟ أن سبيلهم للإشتراكية سبيل إنما رصفته حتمية التاريخ وأنهم إذ يناضلون يسبحون مع تيار لا يتصور أن ينقلب القهقرى إلى الوراء أبداً ، إلا أن يُتصور أن نهر النيل سينبع من المتوسط ليصب فى تانا وفكتوريا؟
المنظور الديالكتيكى للحالة السودانية :
وسؤال آخر للأصوليين والمراجعين فى الحزب ما هى قراءتهم لواقع الحال السودانى بمنظار الماركسية؟ وماهى القوى الرجعية الظلامية إلى جانب المؤتمر الوطنى والإتحادى الأصل اللذين لم يشرفهما الحزب بالدعوة الى منتظمه السياسى؟ولربما ذكروا أنه فى العام 1967 كان حزب الأمة الذى يقوده السيد الأمام على رأس القوى الرجعية الظلامية ؟ فهل تغير حزب الأمة فأصبح تقدميا ؟ وهل يكفى ثوب مريم المنصورة الأحمر لتحقيق ذلك؟ أم الدعوة تكريم للإمام على زواج الملاءمة السياسى الذى عقد به مصاهرة وقتية مع الحزب التقدمى العتيق؟ وهل التصنيف للقوى بين رجعية وتقدمية سياسى أم إقتصادى؟ وأين موقع الرأسمالية الوطنية إن كانت لاتزال باقية وموقع الرأسمالية الحقيقية والطفيلية إن كانت متوافرة فى آخر نسخة فى التحليل الماركسى لواقع الحال فى السودان ؟ وهل يشمل هذا التحليل تفسيرا لتحالف الحزب مع ممثلى جهويات وأثنيات وقبليات لا على أساس طبقى بل على أساس التحشيد لاسقاط نظام الحكم ؟ أم هى مراجعة مبتكرة لرؤى لينين حول كيفية تفجير الثورة فى الشرق غير المكمل لشروط التطور الرأسمالى المحقق لتنبؤات النظرية العلمية التى تخطىء أبدا فى تفسير الظاهرة الإجتماعية التاريخية؟ ولئن كان ذلك كذلك فهل لكم بإسعاد فضولنا العلمى بإطلاعنا على هذه النظرية السودانية فى تفسير تفجير الثورة فى الجنوب بطىء النمووالغارق فى نزاعات إثنية وجهوية وقبلية؟ وهل تحالف باريس الأثنى الطائفى اليسارى و الذى تتم رعايته من قبل أريك ريفز ومسيو بيلارد هو شكل الجبهة الوطنية الديموقراطية الجديد؟وإذا وقع التأمين على هذا التحالف فهل هو تحالف لإسقاط النظام الحاكم أم هو لبناء نظام الجبهة الوطنية الديموقراطية التقدمية ؟ وإلى أين تتقدم هذه الجبهة الجديدة ؟وسؤالات أخرى متصلة بهذه السؤالات وأولها إلى أى مدى حقق الحزب أهدافه المرسومة منذ آخر مؤتمر علنى فى العام 1967 ؟ وماهى هذه الأهداف؟ وهل لاتزال الاهداف هى ذات الأهداف أم تبدلت ؟ وإذا كانت هى ذات الأهداف فهل تصلح الجبهة الجهوية الإثنية الطائفية اليسارية لتحقيق ذات الأهداف ؟ أم أنه يجوز تبديلها دون تبديل الأسماء على الطريقة الأورولية فى مزرعة الحيوانات؟وإذا تركنا الجبهة العريضة للتنظيم الداخلى للحزب هل سيلتزم الحزب بالديموقراطية الليبرالية فى تنظيمه الداخلى ؟ وهل يعنى هذا هجران المركزية الديموقراطية طيبة الذكر؟ أم أن الحزب سيلتزم المركزية الديموقراطية داخليا ويلبس لبوس الليبرالية للبرجوازيين الصغار بالخارج ؟وهل سوف يسعى الحزب لتوسيع تنظيمه الداخلى أم أنه سيظل حلقة منطوية على نفسها ويبنى حلقة من الديموقراطيين بأسم الحزب للعرض الخارجى كما هو واقع الحال الراهن؟ وهل سينجح أم يخفق و يعجز عن حماية حلقته الداخلية المحكمة الإغلاق من الغواصات والدلالين والدلاليات الذى يبيعون أقدس أسرار الحزب؟ وهل إستيأس الحزب من قيادة قوى اليسارالتاريخى ؟ وماهى المعادلة الجديدة لتجميع اليسار تحت قيادته ؟ وأى يسارالذى سوف يقوده الحزب الأحمر؟ هل هم الناصريون والبعثيون واللجان الثورية أم أنهم تغيروا هم الآخرون ؟ وأى الفصائل من فصائل الناصريين والبعث واللجان سيتحالف معه الحزب ؟وهل سيفلح فى توحيدهم تحت قيادته بعد أن عجزوا عن تحقيق توحدهم بأنفسهم ؟ وهل من يزعمون أنهم يسار جديد يدخلون فى هذا التحالف ؟ هل ما يتسمى بالمؤتمر السودانى يسار؟ وهل اللذين خرجوا على الحزب فى الماضى بأسم القوى الجديدة أوحق أو أى أسم آخر سيكونون من أعضاء هذا النادى اليسارى؟وماذا لو شكل المطردون من الحزب حزبا تقدميا جديدا هل سيتم قبول عضويتهم؟ وكيف سيجرى التوفيق بين هذا النادى اليسارى وبين التحالف الباريسى الإثنى الطائفى الجهوى واليسارى أيضاً؟ وكيف ستكون علاقة الحزب مع الحركة الشعبية إن هى صالحت وعادت هل سيقبل بها عضوا فى تحالفه اليسارى ؟ أم هل يقبل بها قائدا للتحالف كما هو الحال معها فى تجمع باريس ؟ وهل سيقبل حزب الطبقة العاملة أن يُقاد ولا يقود ؟ وكيف يصنف الحزب الحركة الشعبية هل تصلح قيادة لنضال الطبقة العاملة أم أنها لا تصلح إلا جهوية قبلية؟ وكيف يمكن المصالحة بين النضال الطبقى والنضال الجهوى والإثنى؟
لاشك أن السؤالات لن تنفد عندنا ولكنا سوف ننتظر الإجابات إن لم يتكرموا بها علينا فيجديهم أن يتجشموا بعض الإجابات عليها لأنه دون ذلك سيبقى الجزب العتيق أحجية فى فضاء السياسة فى السودان .

النظام الرئاسي المعدل ... رؤى مقارنة

النظام الرئاسي المعدل ... رؤى مقارنة
د أمين حسن عمر

التوصية التي رفعتها لجنة الحكم والادارة بمؤتمر الحوار الوطني باستحداث منصب لرئيس الوزراء تستوجب وقفه للتوضيح والمقارنة ليكون المطلب معقولاً وذا مردود ايجابي في مسيرة تطور نظام الحكم في السودان. اولاً يجب أن نتذكر ان ذات اللجنة قد أقرت بالاجماع المحافظة علي النظام الرئاسي في السودان وبذلك فانها منطقياً تستبعد خياري الحكم البرلمانى والحكم شبه الرئاسى الذى يطلق عليه البعض النظام البرلماسى. والنظام الرئاسي يمكن ان تكون له تبديات عديدة وأحدي هذه التبديات تفويض رئيس الجمهورية لسلطاته التنفيذية في مجالات محددة لكبير وزراء او وزير أول يرأس مجلساً للوزراء ,ويكون الوزراء محاسبين أمامه ويكون هو ووزراؤه مساءلين ومحاسبين امام البرلمان . ويجوز للبرلمان التقدم بتوصية بعد استجواب الوزير الأول أو أي وزير آخر بالتقدم بتوصية لرئيس الجمهورية بعزل الوزير الأول أو أى من الوزراء المعنيين بالاستجواب.
النظام الرئاسي ملامحة ومعالمه:-
النظام الرئاسي الكامل هو وريث الملكية الدستورية . ويلاحظ ان جميع البلاد التي احتفظت .بنظام ملكي دستوري ذهبت للنظام البرلماني بينما ذهبت غالبية الجمهوريات للنظام الرئاسي او النظام شبه الرئاسي. والمثال الأنموذجي للنظام الرئاسي هو النظام الامريكي وقد ارتبط بملامح مهمة . أولها منح السلطة التنفيذية الكاملة لرئيس منتخب من قبل الشعب عن طريق كلية انتخابية تشكل وفق عدد الأصوات التي حصل عليها المرشح في كل ولاية من الولايات المكونة للاتحاد. والملمح الثاني هو استخدام مبدأ الفصل بين السلطات بصورة صارمة, فالسلطات التشريعية يحتفظ بها للبرلمان بمجلسيه بما في ذلك تشريع الموازنة المالية للاتحاد. بينما تذهب السلطة القضائية لتكون مستقلة تماماً ويعين أعضاء المحكمة الأعلي لمدى الحياة . ويتقاسم الرئيس السلطة في التعيين للمحكمة مع المجلسين من خلال اختيار الرئيس للمرشحين واقرارهم بواسطة البرلمان. ومن خلال نظام الفصل بين السلطات هذا فان التكابح بينها والتوزن بينها يظل مستمراً لمصلحة عدم قدرة طرف من الاطراف الاستبداد بتسيير الأمور منفرداً . وفي النظام الرئاسي تخول السلطة التنفيذية كاملة للرئيس ولا يكون معه وزراء . وإنما الوزراء يُعتبرون مساعدون للرئيس ويشكل من بعضهم مجلساً Cabinet ولكن بعضهم الآخر يبقي وزير خارج المجلس او قد يكونون مستشارين للرئيس. ولا يوجد في الولايات المتحدة الامريكية رئيس للوزراء سوي الرئيس نفسه وهو يملك الحق في نقض أي قرار يصدره أياً من الوزراء وكذلك الحق في تغيير أيما سياسة لا يراها مناسبة في أي مجال من المجالات التنفيذية.
النظام الرئاسي محوراً:-
هذا النظام الرئاسي الأصل اقتبسته بعض الدول الأخرى، وخاصة تلكم الدول في العالم النامي والثالث. ولكنه نقل محوراً بذهاب أهم عناصره الضابطه لدينامية مسيره وهو مبدأ الفصل بين السلطات. فبالرغم من أن كثير من الدساتير تقر مبدأ الفصل بين السلطات مع النظام الرئاسي، إلا أنها لا تلتزم بهذا الفصل، ومن ذلك دساتير السودان 1974م و1998م و 2005م فالمبادرة التشريعية عند السلطة التنفيذية بصورة شبه كاملة . ولا ينبغي للبرلمان إلا أن يقر بتشريعات السلطة التنفيذية، أو أن يتحفظ عليها ولكنه في غالب التشريعات التي تصدر بمراسيم مؤقتة لا يملك حق التعديل للمرسوم (دستور 2005) وذلك بخلاف دستور1998 ) ولكن حتى في دستور 1998م ظلت المبادرة التشريعية لدى السلطة التنفيذية ، بل أنه عبر التاريخ التشريعي للسودان ظلت السلطة التنفيذية هي التي تقود التشريع كما تملك التنفيذ، أما من خلال إستخدام الولاء الحزبي في إقرار تشريعات الحكومة أو تقييد سلطة البرلمان بالدستور أوعدم قدرة اللجان التشريعية على المبادرة بالتشريع لفقدان مبدأ الشفافية الكاملة في عمل السلطة التنفيذية. وانعدام الشفافية الكاملة في أعمال السلطة التنفيذية تؤدي بالضرورة إلى عدم إحاطة أعضاء البرلمان بأوليات السياسات والتشريعات المطلوبة لتحسين آداء الدولة. كذلك فإن النظام الرئاسي المحور قد أثر على الإستقلال الكامل للسلطة القضائية، فالقضاة ورؤساء القضاة يعينهم رئيس الجمهورية منفرداً دون شراكة برلمانية. وأهمية هذه الشراكة هو جعل القضاء محايداً بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، كما أنها تشكل حصانة له من ممارسة أي نفوذ للسلطة التنفيذيه عليه، كذلك فإن المحكمة الأعلى لا يُعين أعضاؤها لفترات طويلة أو لمدى الحياة بل هم يخضعون للمعايير العادية للخدمة المدنية، وهذا يجعلهم عرضة للتفكير في إسترضاء سلطة التعيين والتمديد للبقاء في المنصب، وهذا الوضع إيضا هو حال النظام الرئاسي في بلدان أخرى سوف نتطرق إليها في هذه المداخلة منها مصر وأندونسيا . ففي مصر على عهد الرئيس مبارك كان النظام نظاماً رئاسياً مطلقاً، يسيطر فيه الرئيس على كل مقاليد السلطات بالدولة تشريعياً وقضائياً على الوجه الذي أشرنا إليه، ولكن دستور ثورة 25 يناير جاء بنظام شبه رئاسي تميل كفته لصالح البرلمان . فيما جاء دستور 30 يونيو الجديد للعام 2014م بنظام حاول إستدراك الميل الظاهر لصالح النظام البرلماني، وفي الدستور الجديد يحتفظ الرئيس بغالبية الصلاحيات التنفيذية بما في ذلك إختيار رئيس للوزراء ويشارك في إختيار حكومته ويعرض رئيس الوزراء والوزراء للمصادقة البرلمانية ، فإن فشل البرلمان في منح المصادقة خلال ثلاثين يوما يقدم الرئيس مرشحاً جديداً ، وإن فشل البرلمان منح المصادقة خلال شهرين يحل مجلس النواب ويدعو إلى إنتخابات جديدة. وفي هذا الدستور فإن حق إختيار وزراء الدفاع والخارجية والداخلية محفوظ للرئيس وحده، كما يحق له إجراء تعديل وزاري متى شاء ويقوم بعرض التعديلات على النواب بذات الطريقة الذي أجيزت بها الحكومة أولاً، أما النظام الرئاسي السائد في أندونسيا وهلي بلد فيدرالي فهو أيضا نظام رئاسي محور، ووفق دستور 1945 المعدل 2002م فإن سلطة الرئيس تشمل قدرا غير يسير من التدخل في السلطتين التشريعية والقضائية إلى جانب كونه المسؤول عن إدارة الحكم المحلي بالبلاد وصانع السياسات الداخلية والخارجية، والرئيس له الحق في المبادرة بالتشريعات (يحق لرئيس الجمهورية رفع مشاريع القوانين إلى مجلس النواب الشعبي) المادة ( 5-1) ورئيس الجمهورية هو الذي يعين منفردا وزراء الدولة ويقيلهم، وهذا حقه الكامل في السلطة التنفيذية، بينما يشارك وفق الدستور مناصفة في التشريع حسب المادة (20) التي تفيد – يناقش مجلس النواب كل مشروع قانون مع رئيس الجمهورية للحصول على موافقة مشتركة عليها (أي من الرئيس والمجلس) يوقع الرئيس أي مشروع للقانون الذي حصل على موافقة مشتركة مما يعني أن البرلمان لا يملك إصدار تشريع لا يوافق عليه رئيس الجمهورية.
أما في السلطة القضائية فإن الرئيس هو الذي يعين القضاة بعد موافقة مجلس النواب الشعبي عليهم، وأعضاء المحكمة الأعلى هم من يختارون رئيس المحكمة ونائبه بالإنتخاب، والأعضاء ترشحهم لجنة قضائية يعينها رئيس الجمهورية بالتشاور مع مجلس النواب الشعبي والقضاة يخضعون لمعايير الخدمة العامة ، ويملك الرئيس حق إقالتهم حسب القانون.
عيوب النظام الرئاسي المحور:-
أشرنا إلى ثلاثة نماذج للنظام الرئاسي المحور في السودان ومصر وأندونيسيا، وعيوب هذا النظام هو تركيز غالب الصلاحيات في يد السلطة التنفيذية التي يملكها رئيس الجمهورية، ومبدأ التمييز بين السلطات القائم على مبدأ التكابح المتبادل أو الفصل بين السلطات على الطريقة الأمريكية شديد الوهن فى هذا النظام المحور ويكرس تركيز السلطات في يد السلطة التنفيذية. التي تسيطر علي قدرِ كبير من الصلاحيات والتشريعات . وتملك منفردة الحق في تعيين قيادة السلطة القضائية وبذلك تؤثرعلي المبدأ المطلق لاستقلال السلطة القضائية ويجعل من كونها تقف محايدة بين السلطات أمراً مشكوكاً بشأنه. وفي النماذج الثلاثة فان لرئيس الجمهورية الحق في تعيين وإقالة الوزراء والوزير الأول ان شاء ان يفوض بعضاً من سلطاته لوزير اول . وفي الدستور المصري لعام 2014 فان الرئيس ملزم بتعيين رئيس للوزراء يتشاور بشأنه مع مجلس النواب . ولكنه يملك حق اقالته والتقدم بتعديل جديد لمجلس النواب والذي يُعرض نفسه للحل اذا لم يوافق علي التعديل في المرة الثانية في فترة لا تتجاوز الشهرين من اقتراح الرئيس للتعديل. وهذا الأمر من اثار ثورة 25 يناير فهو لم يكن موجوداً في الدستور علي عهد الرئيس مبارك والذي كان يملك مطلقا حق تعيين الوزراء ورئيسهم واقالته واقالتهم متي شاء.وتحمل الكتلة الموالية للرئيس فى البرلمان الحالى تعديلا قد يغير وشيكاً الوضع الذى يعطى البرلمان هذا الحق فى المصادقة على الحكومة .
بيد أنه وفي حال تكليف وزير اول فان ذلك لا ينقص من سلطة الرئيس في المبادرة بالسياسات الكلية وهو يكاد بنفرد بالشؤون الدفاعية والأمن الداخلي والشؤون الخارجية والتي يملك هو وحده حق اختيار وزرائها دون التشاور مع رئيس الوزراء أو اية جهة أخري.
النظام شبه الرئاسي:-
والأنموذج الأصل للنظام شبه الرئاسي هو النظام الرئاسي الفرنسي . وقد تطور بتغيير النظام البرلماني الذي كان سائداً في فرنسا قبل العام 1958 . والرئيس فيه يتمتع بصلاحيات واسعة في الأمور الدفاعية والخارجية والأمن الداخلي والتخطيط الكلي . ذلك علي رغم من أن الاحتمال يرد بأن تكون الحكومة ذات أغلبية برلمانية من خارج حزبه كما حدت بين الرئيس ميتران وشيراك . والرئيس ينتخب مباشرة من قبل الجمهوروهو يحتكر السياسة الداخلية والدفاع والأمن. وهو المسؤول عن تعيين الطاقم الحكومي فهو يعين رئيس الوزراء ويقيله ويعين الوزراء بناء علي اقتراح رئيس الحكومة الوزير الاول ويقيلهم . ويرأس مجلس الوزراء ان شاء حضور جلساته . ويوقع المراسيم والاتفاقيات والتشريعات وللرئيس حق طرح مشاريع قوانين للاستفتاء العام وله المبادرة في مراجعة الدستور وله حق دعوة الجمعية الوطنية الي دورة استثنائية . وهو مخول بحل الجمعية الوطنية وهو أيضاً رئيس مجلس القضاء الاعلي. والوزير الاول هو من يرأس في المعتاد مجلس الوزراء ويقوم بتوجيه الوزراء وتنسيق اعمالهم سواء ان تعلق الامر باقتراح السياسات او التشريعات او أية برامج اخري. ويقوم بكذلك بما يتماشي لتوجيهات رئيس الجمهورية. والبرلمان يتكون من الجمعية العمومية ومجلس الشيوخ واختصاصات الجمعية الوطنية التشريعية واسعة وفق المادة 37 من الدستور. أما السلطة القضائية فمستقلة والتعيين فيها مشاركة بين الجمعية الوطنية والرئيس ولا تخضع للاجراءات المعتادة في الخدمة العامة.
والنظام شبه الرئاسي مطبق في البرتغال والنمسا وفلندا. وقد أخذ به الدستور التونسي الجديد والذي يخول لرئيس الجمهورية صلاحيات غير منتقصة في مجالات الدفاع والخارجية والأمن . وهو يتولي التعيينات والاعفاءات في كل الوحدات التابعة لهذه الدوائر. كذلك يعين رئيس البنك المركزي بترشيح من رئيس الحكومة . ويقوم بجميع التعيينات المتعلقة ايضاً بهيئات رئاسة الجمهورية . بينما يعين رئيس الوزراء في دوائر الوزارات الأخري وعليه اخطار الرئيس باعماله في هذا المجال . ويرشح رئيس الحكومة وزراءه بعد التشاور مع الرئيس.
والجمهورية التركية علي الرغم من سيادة النظام البرلماني فانها تتوجه توجهاً حثيثاً نحو النظام شبه الرئاسي . وذلك بعد اكتمال الخطوة الأولي في هذه المرحلة باختيار رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب. والتوجه نحو احداث هذا التغيير بدأ في عهد الرئيس سليمان ديميريل ثم الرئيس تورغوت أوزال لكن الخطوة العملية اُتخذت باختيار الرئيس اردوغان مباشرة من الشعب التركي . وكان يُرجي أن تتسارع خطوات تعديل الدستور لولا التطورات الانتخابية والامنية التي اكتنفت الجمهورية التركية في الأونة الاخيرة . أولاً بفقدان حزب العدالة والتنمية الاغلبية في الانتخابات الأولي واستعادته لها في انتخابات نوفمبر الماضي ثم التطورات الأمنية المتسارعة والمهددات الأمنية الخارجية والداخلية في الجمهورية. ولكن علي الرغم من عدم اجراء التعديلات المطلوبة فان الرئيس أردوغان وبسبب مُكنة حزبه في السلطة التنفيذية والتشريعية يمارس مهام غاية في الاهمية في مجالات الخارجية والامن القومي والدفاع . وهو الأمر المراد تكريسه باجراء التعديلات الدستورية المطلوبة لانشاء نظام شبه رئاسي في تركيا وكما يقال في حزب العدالة والتنمية فان تركيا قوية تحتاج الي نظام سياسي قوي وراسخ.
الفروق بين النظامين الرئاسي وشبه الرئاسي:-
اولاً فان النظام الرئاسي يوفر قدراً من الاستقرار في البلاد التي لم يتطور فيها النظام الحزبي الي ما يؤدي لاستقرار التجربة البرلمانية وبالتالي استقرار السلطة التنفيذية أيضا . والنظام شبه الرئاسي جاء ليعالج مشكلات الحكم البرلماني . وهو يتيح انشاء مؤسساته بالتخويل او التفويض من رئاسة الجمهورية ليكون لها الحق في ابتدار السياسات واتخاذ القرارات.بيد أنه فى النظام الرئاسى المطلق فان السلطة تتركز فى يد الرئيس وقد لا تتقيد بموافقة مجلس الوزراء الذي يعين هو جميع وزراءه ويقيلهم متي شاء ودون الرجوع للبرلمان ألا في الحالات التي ينص عليها الدستور وهو إستثناء يؤكد سلطة رئيس الجمهورية الواسعة.
والنظام الرئاسي المطلق لم بستقر الا فى فى الولايات المتحدة الأمريكية حيث يعمل نظام الفصل الصارم بين السلطات بكفاءة عالية . والنظام البرلماني المطلق لم ينجح إلا في البلدان المستقره سياسياً مثل بريطانيا والسويد والنرويج والدنمارك وغالبية الملكيات الدستورية في اوروبا.
اما عيوب النظام الرئاسي المطلق فهي تتمثل في تركيز السلطة الذي يؤدي الي نشؤ مراكز قوة غير مرئية وغير معرضه للمحاسبة من خلال الاستظلال بمظلة سلطة رئيس الجمهورية غير الخاضعة للمحاسبة البرلمانية . ولا تخضع للمراجعة الشعبية الانتخابية إلا بعد دورة قدرها خمسة اعوام واحياناً سته وسبعه اعوام في بعض البلاد مثل السنغال.
ختاماً:-
وبالعود علي بدء القول فإن اختيار مؤتمر الحوار الوطني للنظام الرئاسي مع اقتراح اختيار رئيس وزراء يعني الأتي:-
1. إن النظام في السودان ليس نظاماً برلمانياً بل هو رئاسي والبرلمان يملك فيه التشريع والرقابة ولا يملك حق الشراكة في إنشاء السلطة التنفيذية إلا في بعض مواقع من باب الاستثناء مثل تعيين المراجع العام والمحكمة الدستورية ومفوضية قسمة الموارد بالتشارك مع الرئيس .
2. إن اختيار النظام الرئاسي يعني استبعاد النظام شبه الرئاسي الذي تتم فيه المقاسمة في السلطة بين الرئاسة والحكومة الخاضعة للبرلمان والمؤسسة بموافقته والتي يملك حق سحب المصادقة عليها وبالتالي اسقاطها متي حظى ذلك بالاغلبية الكافية لذلك .
3. إن اختيار النظام الرئاسي يعنى أن لرئيس الجمهورية تجاوباً مع الاتجاه الغالب في الحوار الوطني أن يختار رئيساً للوزراء قد يكون نائباً له او قد لا يكون . وان يفوضه ببعض سلطاته التنفيذية خارج مجالات الدفاع والأمن القومي والتخطيط الكلي وهذا أمر يحدث فى غالب الانظمة الرئاسية وفى هذه الحال يكون اقتسام الصلاحيات بالتفويض من الرئيس وتجوز فيه المراجعة للرئيس متى شاء .
4. اذا أختار رئيس الجمهورية رئيساً للوزراء فسوف يكون مساءلاً لدي رئيس الجمهورية ومسؤولاً أيضاً أمام البرلمان. ويحق للبرلمان ان يوصي لدي رئيس الجمهورية باستبداله بعد استجوابه أمامه واخفاقه فى الحظوة برضا البرلمان ..
5. يكون لرئيس الوزراء سلطات مفوضه في مجال كافة السياسات التنفيذية والتعيينات والقرارات المتصلة باداء الوزارات . وعليه اخطار رئيس الجمهورية بهذه السياسات والقرارات والتعيينات. ويكون الوزراء مسؤولون أمام رئيس الوزراء مباشرة ويجوز لرئيس الجمهورية مساءلتهم عبر رئيس الوزراء . ويجوز له اعفاؤهم من مناصبهم بالتشاور مع رئيس الوزراء. ولا يجوز للوزراء تجاوز رئيس الوزراء لتلقي التوجيهات مباشرة من الرئيس ولا رفع تقاريرهم مباشرة إليه بل الي رئيس الوزراء.
6. يكون رئيس الوزراء من الحزب صاحب الاغلبية في البرلمان لضمان إستقرار الحكومة لقدرة الأغلبية فى تأييد سياساته ، وفي كل الاحوال سيجري تعيينه واقالته بواسطة الرئيس طالما بقي النظام رئاسياً بالبلاد