السبت، 8 أكتوبر 2016

الترابى .حياة الأفكار 17

الترابى .حياة الأفكار 17

كثير من الناس صدمتهم أحكام الدكتور الترابى القاسية على تجارب الصحوة الإسلامية فى العالم وبخاصة تجربتها فى السودان . فأحكامه التى ركزت على السلبيات والعلل وضخمتها  وعممتها لم تكن كلها بسبب حالة السخط والخيبة التى تعتريه من إبتعاد قيادات الحركة فى السودان من الإستهداء برأيه وتوخيهم منهجا فى التغيير مخالفا لمنهجه يتسم بالحذر والإحتياط،بل ربما لإعتقاده أن التركيز على ذكر الأخطاء هو ما يصنع الرغبة فى التصحيح والأصلاح . وهو كان قد استخدم ذات المنهج عند كتابه عن تاريخ الحركة الاسلامية ، وإن كانت روح التعاطف لم تتلاشى فى ذلك الكتاب كما أختفت فى شهاداته الأخيرة. بيد أن الدكتور الترابى وهو يشهد قوة ومدى الإستهداف للصحوة الإسلامية قد إستدرك منهجه السابق فى المجانبة والمواجهة مع قيادات الحركة من تلاميذه الى منهج الحوار والتفاهم . وذلك للتوصل إلى رؤى مشتركة لفهم الواقع والتقدم منه الى مستقبل تتواصل فيه حركة الإحياء الإسلامى ولا تنتكس.وهو قد استدرك غلوه فى الحكم القاسى على التجربة بذكر محاسنها فى آخر كتاباته عن المنظومة الخالفة حيث يقول (والحق كذلك أن الحركة الاسلامية بتمكنها فى السلطان وبسط نفوذها فيه قد رفعت درج تحرير المرأة ومساواتها وسلطتها وقد كثفت التعليم وبسطت اللغة العربية ودعوتها وقد زكت شئيا من مشاعر التآخى والمساواة بين الناس وأحيت ذكرى الدين وأشاعت ممارسة شعائره وإعمار المساجد وذكرت بالقرآن وزودت بقليل من التفقه فى الدين ، وروجت مبدأ الإيمان بالشريعة فى الحكم وفى معاملات المال وأباحت حرية الكسب وفتحت أفقاً للتجاوب مع إبتلاءات الأمة المسلمة) فهذه بعض شهادته للحركة الإسلامية بعدما كان أغلظ عليها فى بعض تسجيلاته المرئية والمسموعة إبان عهد المخاصمة والمفارقة. وقد عكف فى أخريات أيامه لتقديم فكرته حول المنظومة التوحيدية  الخالفة والتحاور حولها مع القيادات الاسلامية والوطنية .وتبنى بقوة وعزيمة لا يغشاها الفتور المنافحة عن الحوار الوطنى الذى دعا إليه الحزب الحاكم رغم ما أكتنف الدعوة من جدال وتحديات وريب وشكوك. وكانت آخر وصاياه للمحيطين به أن يمضوا فى طريق التحاور والتسامح والتراضى والتوافق.
الترابى والمنظومة الخالفة المتجددة :
موقف الترابى فى الدعوة للتوالى والتوحد  ليس أمرا جديدا حادثا لديه بل هو مؤسس على رؤيته التوحيدية والتى أسس عليها كل أشكال التوالى الإسلامى التى أسسها إبتداء من الجبهة الاسلامية للدستور التى جمعت النخبة الاسلامية المثقفة من الاسلاميين الجامعيين إلى جماعات المتصوفة إلى حركة أنصار السنة السلفية .وكذلك كان الشأن فى جبهة الميثاق الاسلامى ثم الجبهة الاسلامية القومية والتى ضمت بعضا من القوميين الاسلاميين إلى جنب أولئك الآخرين . وتوسع أكثر فى الفكرة بعد نجاح حركة التغيير فى يونيو1989 لينشىء المؤتمر الوطنى الذى ضم قطاعات أوسع من المثقفين من القوميين وقدامى اليساريين ممن فارقوا الحزب الشيوعى أو الإتحاد الإشتراكى.وضم قاعدة واسعة من الجنوبيين وعددا مقدرا من المسيحيين. وكان المؤتمر الوطن  يؤشر بإسمه وتنظيمه وفكرته العامة على الرغبة فى تأسيس تحالف سياسى إسلامى وطنى. ولكن ظروف نشأة التنظيم فى مناخ مجانبة  ومغالبة مع قوى وطنية مقدرة مثل الاحزاب الوطنية التقليدية وبعض الجماعات القومية  واليسارية لم تسمح بتحقق الفكرة كما أحب الدكتور الترابى . ولم تتسع  منظومته كما أراد  لها بل أنها تفككت بعض الشىء بإنسلاخ أفراد وتيارات منها ثم بالمفاصلة المعلومة .وأدى هذا الانحسار الى بذل المؤتمر الوطنى جهودا لكسب ولاءات جديدة .ولما إستيأس من الاحزاب طلب ولاء القبائل والعشائر بديلا عنها . ولا شك أن مثل هذا النوع من الولاء المؤسس على عصبية الجهة والقبيلة لايخلو كما وصفه الترابى من من (نفاق فى إبداء الولاء ولاسيمافى رفع شعارات الدين وهتافاته العامة) كما  أنه يجعل الارتباط بالسلطة مدفوعا بالرغبة فى حظوظ تنال أو كسب مال ، وإيثار للمتاع العاجل،  ثم أنه يدخل الحزب فى صراعات ومنازعات لا  تؤسس على تفاوت فى الافكار وإنما تنافساً بين القبائل والعشائر.والترابى نفسه يتحمل جزءا من ذلك الوزرفقد بدأ إبان زعامته للمؤتمر، لكن أمر إستقطاب العشائر والقبائل إتسع بالمفاصلة وأصبح الأمر  فى كثير من الأحيان كأنه أمر توازنات بين هذه القبائل والعشائر فلا تفضيل بين الكفاءات أو تفاضل بين الرؤى والسياسات وإنما إسترضاء وكسب ولاء .وقد رأى الناس حتى فى قيادة المؤتمر الوطنى نفسه كيف إحتدم التنافس القبلى بغير ورع ولا تقوى وأحتدت الحمية للقبيلة وأشتد التنابذ والتفاخر بل وأستعرت النزاعات القبلية . وتفاقمت رغبة القبائل فى تولى مناصب السلطة فى المركز والولايات حتى إضطرت القيادة للتدخل فى جعل أمر التعيينات الولائية مركزيا، لكن حتى تلك التعيينات الإتحادية المركزية لم تبرأ من ملاحظة الموزانات القبلية . وقد أدرك الجميع أنه لابد لهذا الأمر من إصلاح فقامت طائفة كبيرة داخل المؤتمر الوطنى داعية لإصلاح الحزب والدولة وترافقت هذه الدعوة مع تغير المناخ إيجابا مع المؤتمر الشعبى الذى يقوده الدكتور الترابى فإلتقت الإرادات على إنجاح الحوار وتوسيعه وجعل مخرجاته مدخلا لإصلاح شامل ليس لنظام الحكم بل لنظام السياسة والشأن العام بإسره وأجمعه.
المنظومة الخالفة ماهى ؟
ومثلما تعود الدكتور الترابى فقد مهد لرؤيته السياسية برؤية فكرية .وبدأ بذكر دواعى الإنتظام الوطنى فقال (إن العظات والعبر فى تجارب العالم الإسلامى وفى سيرة السودان خاصة تهدى اليوم إلى رؤية هادفة نحو منظومة خالفة يتوالى الناس فيها طوعا وعفوا فى محورها تتواد نفوسهم فيها إخلاصا لا بإغراءات العطاء المرغوب بل لدواع تتواتر اليوم منها أن يُتقى دفع عواطف جياشة تهم بإهلاك النظام الحاكم والقضاء عليه ولو بالمعانفة والمغالبة والمقاومة أو المحاربة ) (أو ممن هم خارج السودان وعلى غير ملته لا يريدون فيه ظهورالمنهج إسلامى أصيل يثمر واقعا قد تمتد آثاره مجاهدة لنفوذهم ومعرضة مصالحهم ومشروعاتهم العالمية للخطر ) ويمضى للقول ( والدواعى للمنظومة المتجددة ذات المقصد الجليل هى أن يقام الدين وفقا لهواديه الى الحق الربانى، وتصويبا لقصور تقاليد تطبيقه الحاضر،وبشرى لمسير حياة فى الدنيا أقوم وأرشد وأصلح فى خصوص المسلم ومجتمعه وفى عموم شأن معاشه وسلطانه فى السودان وصلاته بالعالم وكذلك فى سبيل حياة أخرى تترتب نعيما وسعدا خالدا ورضوانا من الله.) وأطراف هذه المنظومة هى فئات وأحزاب وجماعات وأفراد ممن ( كل من كانت له سابقة توجه إسلامى أو من كان غافلا عن الدين معتزلا عنهلكنه يتذكر اليوم ويقبل وكل من يواطن المسلمين وماهو فى فى ملتهم لكنه يطمئن لسماحتهم وعدلهم وجدوى مساعيهم فى الدنيا) وهؤلاء هم ذات من توجه إليهم الدكتور الترابى ليؤسس بهم المنتظم الوطنى الاسلامى فى حزب المؤتمر الوطنى ولكنه هذه المرة يقبل بمنظومة تتكون من تنظيمات متوالية بدلا من تنظيم يتكون من تيارات ومنابر فى حزب واحد . والترابى ذو أمل كبير أن ظواهر التحولات الحاضرة فى كل بلاد المسلمين (تكاد تبشر قطعا بأن دعوة الإسلام وحركته المتجددة هى هى التوجه الأغلب المنظور مستقبلا)
أما كيف تبنى هذه المنظومة فهى (تمضى وتتكثف بالمشاورات والتداعيات تناجيا أو تفاكرا ) وهو يأمل ان يتيح إنفراج الأحوال بإنفاذ مخرجات الحوار الوطنى وما يتيحه من حريات وروح توافق مناخا ومهادا لإئتمار بين أولى القناعة بالفكرة لاسيما الفريقين المتفاصلين ليؤسس لهذا التكتل المنظومى وهو ( لاينحصر فى من هو فى مواضى المتوالين فى تنظيم إسلامى سابق بل يتبارك بحضور كل من يرجى فيه التهيؤ الأوفق للمبادرة )
وأهداف هذا الإنتظام أنه (يصوب نحو مقاصد شاملة فى الحياة مؤصلة على إحياء الدين فى إحياء الحياة بعد مواته فى مجتمع ينتسب إليه هوية تقليدية ) وذلك بالإجتهاد والتجديد والذى لن ينطلق تماما حتى يتحرر تماما من كل القيود . ولذلك فإن المنظومة تهذف لتهيئة الظروف لما يسميه الترابى فتحاً مبينا فى تحرير المواطن والإنسان حرية عقيدة وحرية فكر وحرية تنظيم وتوالى ، وحرية تحرك وتعبير . وهى حريات لا يحدها الا الضوابط التى يتراضى عليها المجتمع فى توزان دقيق فلا تحبس الحريات ولا تحجر بأسم الصالح العام ، ولا يسمح لها أن تطغى (فتصبح بغياً وعدواناً على الآخرين مما يثير رد الفعال وقد يجر الى الصراع والفوضى والضراء) والدكتور الترابى يفصل فى رؤيته صورة لحكم فيدرالى للسودان تتوازن فيه السلطة بين التشريع والتنفيذ ، وبين المركز والولايات . ويخص الحكم المحلى بمزيد إهتمام وهو مستوى دستورى ينتخب التنفيذيون فيه والتشريعون ، ويعطى من الصلاحيات المالية والموارد ما يمكنه من تولى (الهموم الفرعية والخدمات المباشرة ) . وهو يجمل أهداف هذا المنتظم الوطنى بأن توجهاته أصولية وإنسانية . وهو مشروع إصلاح للمجتمع أوضاعاً وأخلاقاً ومنهجاً .  والمؤسسون له هم المسؤولون عن تحرير الأهداف وبيانها وفق ما يتوافقون عليه . وهو يتفاءل بأن مخرجات الحوار الوطنى سوف تعبد الطريق وتهيىء المناخ لهذا الوفاق الفكرى والتوالى التنظيمى. وهو ينفى أن تكون المنظومة حزباً همه التنافس على السلطة ولكنها تحالف وطنى يسعى لاصلاح الحياة بصورة شاملة وبخاصة فى شؤونها العامة التى تعم بها البلوى .
وهو لا يتوقع أن يندرج فيها الجميع وسيبقى بلا شك من يخالفها ويعارضها ، ونهج المنظومة بازائهم هو أنها (تؤثر الحوار والمجادلة والمعاملة الحسنى وتجتنب المنابذة والمهاترة وأنها ترد أيما تحية بأحسن منها والسيئة من قول الآخر بالتى هى أحسن ) وهى منفتحة للتعاون والإئتلاف مع الآخرين .والترابى يؤثر التحرك ابتداء من ديمقراطية توافقية الى ديمقراطية تنافسية متى كان المناخ مهيأ لتنافس يحقق أهداف الأمة ولا يهدم الإستقرار والأمن . والدكتور الترابى يريد لهذا المنتظم الوطنى أن يستصحب الصفة الاسلامية فتكون (مستصحبة غير مستغربة) دون حاجة أن تظهر فى الإسم . وهو لايريد لها ان تحمل اية إشارة لحزب ولو صار جزءاً من مكوناتها مثل الوطنى والشعبى . وهو يصف المنظومة بكونها أقرب للتكتل الجبهوى فهى أوسع من كونها حركة أو تياراً . وهو يفضل أن يرد فى إسمها إشارة لهدف عام مثل الإصلاح والعدالة أو النهضة ولكن التسميه حقٌ للمؤسسين بيد أن الأسماء تحمل إشارة للمغزى من تأسيس هذا التكتل الوطنى.
هل من سبيل:
ولعل السؤال الذى يخاطر بال القارىء هل من سبيل لتحقيق هذا الرجاء الأخير للدكتور الترابى ففى بناء جبهة وطنية تأسس على الفكرة والأخلاق الدينية وتتوحد على الرابطة والآصرة الوطنية وتترقى بالعلم والتطور المتواصل فى مراقيه ، وتتقوى بالتنمية وتتماسك بالمساواة والعدالة والتكافل والتناصر. ولا شك أن الإجابة عندى  أن التفاؤل أولى من التشاؤم . وأن الثقة لدى متوفرة برشد أهل السودان قيادة وقاعدة ان يتعظوا بما يجرى فى جوارهم من أمم تتخطف ودول تتداعى وتتهالك وشعوب تشرد فى أنحاء الأرض ، فيقلوا من التعصب الحزبى والقبلى والجهوى الذى لم يزد الناس إلا خبالا . وأن يقبلوا على مرحلة جديدة لا يصر فيها المتمكن بالسلطان أن يفرض إرادته بغير وفاق مع الآخرين ولا يسعى معارضوه إلى المعانفة والإستنصار بالغريم  للوطن لإقصاء المتمكن والتمكين لإستبدادهم بالأمر. لقد شهد السودان ائتلافات واندماجات سياسية صمد بعضها وتهاوى البعض الآخر، ولكنما إذا أدرك الجميع أن واجب الوقت يقتضى ترك التشرذم والتفتت وبناء الوحدة والتوافقات السياسية والوطنية فإن شكلا من أشكال المنظومة  الخالفة يمكن تحقيقه . وهوبناء يرسم ملامحه قادة وزعماء يكون ولاؤهم للدين والوطن فوق كل ولاء ، حينئذ لن يخرج السودان من مضيق الازمات إلى سعة الاستقرار والنماء فحسب وإنما سيكتب فصلاً مهماً فى سفر تاريخ أمة الاسلام التى ستظل طائفة منها ظاهرة فوق الأمم بإذن الله الى يوم القيامة،والله غالب على أمره ولو كره الكافرون .

أنتهى 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق