الأربعاء، 26 أكتوبر 2011

شريعة الأسواق (3)


ما من كلمة حق أريد بها باطل واجترح بها الباطل فى أسواقنا مثل كلمة التحرير . وما يبدو لى من استخدام مفردة التحرير فى أسواق المال والسياسة أنها باتت تعنى الظلم والتعدى واستحلال دماء الناس وأموالهم بأدنى ذريعة. حتى أصبحت المفردة إذ تقال نذيراً بشر مستطير. ومما لا يجب أن يظنه  أهل المظنة أننا ضد حركات التحرير أو سياسات التحرير بل نحن أشد الناس حماسة للتحرر من الظلم والقيود والامتهان . ولكننا ضد التزييف والتزوير للمعانى والمفاهيم. ولو تركنا جانبا حركات التحرير المزعومة فان موضع نظرنا مرة وقباً ومرة ثالثة هى الأسواق التى غدت معركة للشيطان يرفع فيها راياته ويسرح فيها بخيله ورجله ويتخذها ساحة للغش وأكل أموال الناس بالباطل وبالربا والاحتكار الخاطئ والغبن الفاحش والغرر والاستغفال.

أسواقنا ما بالها : 
فوجئ الناس بالأسعار المسعورة والغلاء الفاحش يُبرران بشتي التبريرات وغالبها ليس بكاف ولا صحيح. فالقول أن ندرة العملات الحرة التى تستورد بها السلع هى السبب ليس بتبرير صحيح و لا كاف لأن هذه الندرة سببها ليس النقص الذي طرا مؤخراً بل اتخاذ هذه العملات الحرة نفسها سلعة تجري المضاربة فيها والا فما معنى ان يرتفع سعر العملة الاجنبية في يوم واحد بمقدار الخُمس ثم ينخفض فى اليوم الذي يليه بشائعة بنفس المقدار. لقد كانت أسواقنا مقارنة بالأسواق فى المنطقة شديدة الغلاء حتى والعملات الاجنبية متوفرة . فكل معروض فيها يباع بأغلى مما يباع فى أسواق المنطقة العربية . لأن اسواقنا لا تشتري فى الغالب من المنتجين بل من تلك الاسواق العربية . فتصبح تلك الاسواق وسيطا يغُلى الأسعار على جمهور الشارين فى اسواقنا وكان يجب إلزام من يجلب البضائع أن يجلبها من المنشأ لا من أسواق الأغنياء ليبيعها للفقراء . وآفة أخري من أسباب غلاء أسواقنا هى الجهالة بحجم الطلب للسلع  فالعلم بحجم الطلب ضرورى لئلا تجفف السوق على المشترين فيعلو السعر ولا تغرق على البائعين فيخرجون من السوق و فى كل غبن على الشاري والبائع. فيتوجب على السلطات الاتحادية والولائية الإحاطة بحاجة الجمهور للسلع لمنع التجفيف والإغراق. وأما آفة الآفات ومستجمع الموبقات فهو الاحتكار بشتى أصنافه . فالاحتكار هو اكبر الأسباب لغلاء الأسعار فى اسواقنا . واوسع ثغرات التفريط لحكوماتنا الاتحادية والولائية هو تقصيرها فى محاربة الاحتكار. وليس من شر أفدح ضررا بالناس بعد الربا مثل الاحتكار. 
الاحتكار الملعون: 
والاحتكار هو حبس السلع الضرورية لحاجة الناس إرادة الغلاء . وعرفه الأحناف بالقول : أشتراء الطعام ونحوه وحبسه الى الغلاء وقال المالكيون: رصد الاسواق انتظارا لارتفاع الأثمان .وقال الشافعية : أشتراء القوت وقت الغلاء وإمساكه وبيعه باكثر من ثمنه للتضييق. وقال الحنابلة: اشتراء القوت وحبسه انتظارا للغلاء. ولا خلاف بين الفقهاء جميعا على حظر الاحتكار وحرمته. ذلك أنه ضرر والقاعدة فى الشرع انه لا ضرر ولا ضرار. ولانه غمط للحق فكل ما يباع فى الاسواق حق للعامة فان امتنع البائع عن البيع عند شدة حاجة الناس اليه فقد منعهم حقهم.ومنع الحق عن المستحق ظلم وحرام. وغالب الفقهاء عده من الكبائر وذلك من ظاهر الأحاديث كقوله صلي الله عليه وسلم من احتكر فهو خاطئ. وفى رواية مسلم  لا يحتكر الا خاطئ ومن رواية احمد من احتكر الطعام اربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه ومما  رواه ابن ماجة الجالب مرزوق والمحتكر ملعون  وقوله صلى الله عليه وسلم من رواية ابن ماجة من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس.  وفى الحديث مما روي الطبرانى (من دخل فى شئ من اسعار المسلمين ليغليه  عليهم كان حقا على الله ان يقعده بعظم من النار يوم القيامة ). ورغم التشديد علي الطعام فان الاحتكار يدخل فى كل صنف للناس فيه حاجة ماسة . يقول ابو يوسف كل ما أضر بالعامة حبسه فهو احتكار .  ويقول سحنون صاحب مالك رضي الله عنهما جميعا سمعت مالكا يقول: الحكرة فى كل شئ في السوق من الطعام والزيت والقماش وجميع الاشياء وكل ما أضر بالسوق  . وليس كل الاحتكار بالحبس والتخزين بل ان اكثر الاحتكار في زماننا يأتى من التواطؤ لإغلاء الأسعار ورفعها اتفاقا بين ثلة قليلة ممن يحتكرون الصنف. ففي أحوال كثيرة فاشية فى اسواقنا يجري حصر استيراد الصنف فى طائفة محدودة يسهل بل يقع تواطؤها  علي الافحاش فى السعر.  ولذلك لزم على القائمين على الأمر استنان السياسات التى تمنع حصر الاستيراد وتحرم التواطؤ وتمنع الاشتراك والاندماج بين البائعين اذا كان مفضيا للحصر والاحتكار. والمتابع لأحوال السوق يجد ان غالب الغلاء انما يحدث من لاحتكار والتواطؤ ان لم يكن بالاتفاق فبالتسامع والتنافس بين البائعين ليس علي البيع ولكن علي أغلاء الأسعار. 

المشتري المغبون: 
وإغلاء الأسعار فوق المعتاد المعروف يدخل فى باب البيع بالغبن الفاحش. والبيع بالغبن الفاحش محرم. فإنما شُرع البيع لتبادل المنافع لا للتخادع والتظالم. والشارع الذي أحل البيع وحرم الظلم والربا لم يمنع من الربح ولم ينه عنه فى البيع والشراء. والغبن هو نوع من اكل مال الناس بالباطل لأنه تربح بغير المعروف واستغفال للشارين .  وكل بيع قام على التجهيل والغرر فهو باطل وعجبا لمن لا يري رد المبيع بالغبن الفاحش بحجة واهية لأن الشاري كان يتوجب عليه ان يكون حذرا يقظا ولا يدفع فى سلعة أضعاف ثمنها ولا يكون مغفلا يخدعه البائعون . فمتي كانت غفلة الغافل سببا لجعل الخطأ صحيحا والباطل حقا. وبعض ممن لا يرى رد المبيع بالغبن الفاحش يستثنى حالات كأن يكون الشاري وكيلاً ليتيم أو وصياً لصغير ومنها ان يستأمنه البائع فيطلب منه ان يبيعه بسعر السوق فان أدعى أنه باعه بسعر السوق ثم ظهر الغبن فله الرد . ولكننا نقول ان الغبن الفاحش استجهال واستغفال وكل بيع قام على الجهالة فهو مردود وباطل. وقد اختلف الناس فى تحديد الغبن الفاحش . فقيل ان الغبن الفاحش هو ما لا يدخل فى تقدير المقدرين من أهل الخبرة والصنعة فإذا قدره بعضهم على سبيل المثال بثلاثمائة وبعضهم بأربعمائة ولم يقدره البعض الآخر باكثر من ذلك فيكون اذا زاد على تقدير المقدرين غبنا فاحشاً . وقال آخرون كل ربح زاد على الثلث فهو غبن فاحش. وأفتى بعض المالكية بأن الربح اذا زاد على الثلث فسخ البيع بشرط ان يكون البائع عالماً بالغبن لأنه فى هذه الحالة يكون مغرراً بالمشتري والغرر يبطل البيع . 

التسعير لدرء المفاسد: 
ما من كلمة بغيضة للتجار مثل كلمة التسعير ويزعمون انه مخالف لسياسة التحرير ومجانب للسنة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسعر عندما طُلب منه الصحابة ذلك وقال ان المسعر هو الله. وليس قولهم هذا بصحيح . فتدخل ولى الأمر بحق السياسة لدرء مفسدة الظلم ورفع الغبن ليس بالأمر المخالف للسنة المطهرة بل هو عين السنة ونهجها وسمتها. والتسعير الذى نقصده هنا هو اعلان القيمة التى يشيع البيع عليها فى الاسواق . ولا نعنى ثمنا يحدده ولى الأمر تشهيا أو تعسفاً دون معرفة السعر السائد فى السوق على ان لا يكون فى هذا السعر تواطؤاً بين البائعين يوقع الغبن الفاحش على المشترين . وكره جماعة من الفقهاء التسعير من الحاكم مطلقا ولكن عند التحقيق نعلم أن الذى كرهوا ليس الأخذ على يد التجار ليمتنعوا عن ايقاع الغبن الفاحش على الشارين وانما عنوا منع التسعير الادارى الذى لا يضع اعتباراً للكلفة والوفرة والتنافس. وذهب المالكية الى جواز التسعير وبخاصة فى الأقوات . وذهب شيوخ اهل المدينة مثل سعيد بن المسيب وربيعة الى جواز التسعير مطلقا أى فى الأقوات وغيرها . وما نراه حقاً أن التسعير نوعان : أولهما تدخل الحاكم لمنع الظلم المتأتى من الاحتكار او تواطؤ الباعين على اغلاءالاسعار بغير مبرر سوى الاسترباح القائم على الغبن الفاحش. وأما النوع الآخر فهو التسعير الاشارى المعمول به فى كل البلدان حتى الرأسمالية منها . وهو إلزام الغرف التجارية ووكالات ومحلات التجزئة للتعريف بالأسعار السائدة . ويمكن أن يقع التوافق فى بلادنا بين الغرف التجارية بين الفينة والأخرى على التعريف باسعار السلع وإلزام البائعين بإبراز أسعار البيع على السلع دون تدخل السلطات فى تحديد الأسعار . وانما يُكتفى بإلزام البائعين بالتعريف بالسعر الشائع للسلعة. وسوف يمنع ذلك الترتيب أغلاء السلع  بتمنى وتشهى بعض البائعين ثم متابعة الآخرين لهم لتغلو الأسعار بغير مبرر ولا سبب. وليس فى هذا الضرب من التسعير الاشارى مخالفة لسياسة التحرير بل هو على خلاف ذلك . فهو الأمر المعروف فى كل أسواق العالم الذى نسميه حراً . وختاما نقول يا تجار الأسواق اتقوا الله فان الظلم ظُلمات يوم القيامة . وتجنبوا الاحتكار لئلا يصيبكم الله بالجذام والافلاس . ويا شراة الأسواق والمنفقين فيها أموالهم اتحدوا فى وجه المستغفلين إياكم فلستم من أهل الغفلات . ولا تقبلوا الفاحش من الغبن ولا تواطؤ البائعين على أكل أموالكم بالباطل . فأنتم من سيشفى الأسعار من سعارها . فالمستهلك هو السيد وهو دائماً على صواب ولو كره الكارهون.


إنتهــــــــــــــــــــــــــــــــي،،،

الاثنين، 17 أكتوبر 2011

شريعة الأسواق (2)


تحدثنا في حلقة ماضية عن الأسواق في بلادنا وحظ المتعاملين فيها من الاحتكام إلى الشريعة. وكسبهم في الفقه  بمعاملات السوق امتثالا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (لا يبيع في سوقنا إلا من تفقه الدين). ولكن الناظر إلي أسواقنا لا يكاد يرى في إبل المائة راحلة واحدة بل أن نسبة الفقهاء بما يخوضون فيه أقل من نسبة الواحد في المائة. وهم على جهل عظيم بخطر المسعى في السوق الذي يحذر منه رسول الله صلي الله عليه وسلم فيقول (لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منه فإنها معركة للشيطان وبها ينصب رايته).  فانظر إلى أي صنف تنحاز فإن أي كسب لم يتقيد بالحل والحرمة يدخل في قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (ولا يكسب مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يتركه وراء ظهره إلا كان زاده إلي النار).
والفقه يبدأ باستدامة النية الصالحة . وذلك أن ينوي أن يكون ضربه في السوق وسعيه فيها عملاً يقصد به وجه الله سبحانه وتعالي . وأن يتحرى فيه الحلال ويتجنب الحرام، ثم من بعد النية الاجتهاد في تعلم الحلال والحرام فيما يأخذ وما يدع . فالحرام يدخل على البائع من أبواب متعددة . وأوسع هذه الأبواب جميعاً باب الربا وباب ما شابه الربا من التفاضل و خلط البيع بالسلف ثم باب البيوع الفاسدة المنهي عنها .
والناظر في أسواقنا يجد ذلك جميعا.  فالربا يدخل على التجار من كل باب، فهم إن تركوا التعامل الربوي مع المصارف فإن التعامل الربوي في الأسواق أكبر كثيراً مما في المصارف . ولئن كانت النسيئة فيما مضى من زمان في بيع الذهب والفضة  أو في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة وذلك بتأخير المبادلة أو بعدم الاستواء فإن نسيئة زماننا هذا في الشيكات التي يحتاج أمرها إلى تأصيل واجتهاد كبير.  فمن المعلوم أن الفقه الإسلامي يقسم البيع إلى ثلاث أنواع: بيع عين بعرض وذلك هو البيع المعروف والعين هنا يقصد بها الذهب أو الفضة وأما العرض فما سوى هذين المعدنين من السلع الأخرى، والضرب الثاني من البيع هو بيع عرض بعرض وهذه هي المعارضة أو إن شئت فالمقايضة وأما النوع الثالث فهو بيع عين بعين كبيع الذهب بالفضة أو بيع نوع من الذهب بنوع من الذهب أو نوع من الفضة بنوع آخر من الفضة وهذا الضرب الثالث من البيع هو الصرف.  ولكن هذا التقسيم يحتاج إلى مراجعة جذرية في ظل التطورات الاقتصادية الراهنة، فلم يعد معيار الذهب والفضة هو المعيار الثابت . وأصبحت الأوراق المالية هي العين وأصبح الذهب وأصبحت الفضة عرضاً من الأعراض وسلعه من السلع .
ونقصد بالأوراق المالية الأوراق النقدية (العملات المطبوعة) كما نقصد بها الصكوك (الشيكات والأوراق المالية) التي تصدرها البنوك والشركات المالية .  بل إن التطورات الحديثة جعلت النقود التقليدية في حالة تراجع مستمر لتحل محلها (الشيكات) وبطاقات الائتمان . وهذه التطورات الخطيرة في آليات التعامل في الأسواق تحتاج إلى جهد مضاعف في تأصيل المعاملات التجارية التي تتأثر بها .
ولئن كان عامة الناس في بلادنا لا يتعاملون كثيراً بشيكات وبطاقات الائتمان فإن التعامل بالشيكات صار هو الأمر الغالب في أسواقنا . والتعامل بالشيكات في الأسواق يتم في صور معقدة ومركبة . كذلك فان صرف النقود بالنقود والشيكات بالشيكات يحمل الكثيرين من المتعاملين على الخوض في الربا خوضاً، وذلك أنها تفتقر لعنصر الثبات الذي كان يميز الذهب ويميز الفضة . واحتفاظ هذين المعدنين بقيمة ثابتة جعل الفقهاء في ما سبق يطلقون على الذهب والفضة مصطلح عين.  والعين هي الأصل والمرجع لذلك، فالعين هى عنصر الثبات في المعاملات.  بينما العروض (والعرض هو الحال المتغير) تمثل عنصر التغير في المعاملات ولكن بدخول الأوراق المالية والشيكات وبطاقات الائتمان وسقوط معيار الذهب فإن (العين) المتمثلة في النقود قد تحولت إلى (عرض) متغير . وهذا الأمر يقتضي المزيد من الحذر من المتعاملين في الأسواق حتى لا يتسرب الربا إلى ما يكتسبون من أموال، فهل يتحلى المتعاملون في أسواقنا بهذا الحذر المطلوب؟ لا والله ما يفعلون فالربا يدخل على المتعاملين بالشيكات من كل باب . فحركة الشيكات بين التجار بغير قبض فعلي للبضائع تجعل البضاعة رمزاً للتبادل الفعلي بين الشيكات . وتظل البضاعة قابعة في مخزنها بينما يجري تبادل الشيكات بين المتعاملين ولربما عادت البضاعة لمن تقبع في مخزنه.
ولربما دفع بعضهم شيكاً مؤجلاً ليستلم شيكاً يمكن صرفه في الحال . وكل ذلك وغيره مما يعرفه التجار من معاملاتهم يدخل في الربا من باب تأخير القبض أو من باب التفاضل , فهو إما ربا نسيئة أو ربا فضل. كذلك فان التجارة في الأقوات والأطعمة والمعاوضة والمقايضة فيها تُدخل الكثير من المتعاملين في الربا . لأن جلهم لا يعرف الأصناف الربوية من الأصناف غير الربوية من المطعومات . ولا يكادون يفرقون بين المقتات المدخر الذي يدخل في الأصناف الربوية فيحرم التفاضل فيه مثل الحبوب والتمور واللحوم والألبان وما يدخل في بابها، والناس يتعاملون في ذلك بغير فقه ليحصنهم من الربا وغبار الربا. كذلك يدخل الحرام علي التجار من البيوع الفاسدة مثل بيع الغرر وأصنافه التي تمارس في أسواقنا في صور عديدة . فمنها الجهالة في وقت التسليم وأحيانا الجهالة بوصف البضاعة فيكتفي بوصف عام لا يرفع الإبهام ولا الغموض عن البضاعة . وبيع الغائب أمر شائع في أسواقنا فكم من بضاعة انتقلت من تاجر إلى تاجر ثالث ولم تقع عليها عين واحد من المتبايعين . وقد صح في الحديث النهي عن(إن يبيع الرجل طعاماً حتى يستوفيه فقلت لابن عباس كيف ذاك قال: ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجي) وفي الحديث( من اشترى طعاماً فلا يبيعه حتى يستوفيه).  وغير الطعام مثل الطعام ( قلت يا رسول الله إن الرجل ليأتيني فيريد مني البيع وليس عندي ما يطلب أفأبيع منه ثم ابتاع من السوق؟ قال لا تبع ما ليس عندك).  وشبيه ببيع الغرر في أسواقنا كبيع المنابذة والملامسة المنهي عنه . وذلك كأن يقول التاجر عندي (قماش دمورية) فيقول الآخر اشتريت بغير نظر في الصنف أو أن يقول ثمناً فيقول الآخر اشتريت بغير نظر في الصنف . فهذه النوع من البيع يتضمن قدراً من الجهالة يدخله في بيوع الغرر المحرمة. كذلك يسود في أسواقنا بيع المضطر( لتغطية شيك أو غيره) وهو من البيوع التي نهى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم لأن فيه غبناً.
ولعل أظهر ما في أسواقنا من مخالفة لأمر الرسول صلي الله عليه وسلم وهديه هو بيع الوسطاء الذين لا يملكون الثمن ولا المثمون ولكنهم يبيعون ويشترون . فيغلون الأسعار بغير منفعة تعود على المسلمين وغالبية هؤلاء يتفق مع المصانع بأن يدفع شيكات مؤخرة ثم يقوم ببيع البضاعة لتغطية هذه الشيكات أو ممن يتلقى الركبان وهي السمسرة المعلومة والتي تسبب ضرراً عظيماً للمستهلكين والمنتجين معاً . وقد نهي الرسول صلي الله عليه وسلم(أن يبيع حاضر لباد وأن كان أخاه أو أباه يقول أنس لا يبع حاضر لباد كلمة جامعة لا يبيع له شيئاً و لا يبتاع له شيئاً).  فأي قاعدة عظيمة مضيعة هذه القاعدة بل أن الفقهاء قد كرهوا كراهية تحريم أن يتلقى الناس السلع على فراسخ بل ذهب  بعضهم إلى مسيرة يوم ما لم يكن جالباً إي أن البضاعة لم تكن لتأتي إن لم يجلبها . فأما إن كانت لا محالة واصلة للسوق فان تلقيها على الطريق منهي عنه . لأنه يرفع الأسعار على أهل السوق وقد رأى جمهور الفقهاء أن يؤدب من يفعل ذلك.
كذلك فان من البيوع في أسواقنا بيع وشرط . كأن يقول التاجر للتاجر أبيعك ذرة على ألا تبيع الآن . وكل بيع كهذا البيع باطل( قاله أبو حنيفة والشافعي) وقال آخرون البيع صحيح والشرط باطل. كذلك يدخل في البيوع الفاسدة الرائجة في أسواقنا بيع وصرف كأن يشتري التاجر بضاعة بالدولار مع صرف الدولار في نفس الوقت وتحديد سعر الصرف . وكذلك يمنع الجمع بين البيع والقراض وكذلك البيع والجهالة وهو أمر مشهور في بلاد الغرب كأن يقول التاجر( اشتر أربع صابونات بمائة جنيه والخامسة لك) فان هذا لا يجوز على المشهور بين الفقهاء. ونحن في هذا السياق لا نريد أن نستوفي كل أنواع المعاملات الفاسدة . لأننا لسنا من أهل العلم بوقائع الأسواق ولكننا أردنا أن نضرب ذلك مثلاً لننبه به إلى ضرورة الاهتمام بتعلم فقه المعاملات الصحيحة في الأسواق . ولعلنا نعين بذلك أهل التشريع والتنظيم للقيام بدورهم الذى لا يستغنى عنه فى تنظيم الاسواق والمبادلات. فسياسة التحرير الاقتصادى لا تعنى فوضى الاسواق ولا تعنى اطلاق العنان للصالح والطالح ليفعل فى أرزاق الناس ما يشاء.

الاثنين، 10 أكتوبر 2011

شريعة الأسواق (1)


ما أشبه الليلة بالبارحة. وكأن بعض أحوالنا تدور فى حركة دائرية تستعاد أحداثها مرة من بعد مرة. ففى العام 1994 عندما كانت البلاد تشهد شحاً شديد فى موارد النقد الأجنبى وقبل دخول ايرادات البترول لتدعم موارد الدولة تفاقمت المضاربة على الموارد المتاحة وانعكس ذلك ارتفاعا فجائيا فى الأاسعار وعلى الرغم من أن فاقد العملات الصعبة لا يتجاوز فى  هذه المرحلة 15% اشتد الطلب على العملات الحرة بفعل تسرب مئات الملايين من الجنبهات  للاستبدال بالشمال وضغط الطلب الجنوبى بالشمال لتحويل الاستحقاقات ومتطلبات موسم الحج ثم الآثار النفسية للانفصال واحجام البائعين فى انتظار استقرار الاسعار مما قلص المعروض و تضاعفت آثار كل ذلك  بالمضاربات . وكنت فى العام 1994 قد كتبت  مقالين حول فقه الاسواق ولما كنت أهم بالكتابة عن حال الاسواق عندما اطلعت فى موقع awraqonline.net/index.php على ما كنت كتبته آنذاك  فاذا هو ما أريد أن أكتب بمناسبة ما أشهده وأراه اليوم فرأيت اثباته قبل الاستطراد فى قضايا الاسواق والاسعار  

       حدثنى بعض المسوؤلين فى القاع الاقتصادى أنه دخل السوق بعد سياسات التحرير ( التي ألغت التراخيص و أزالت الحواجز ) من الناس أعداد تفوق كل من دخلها منذ الاستقلال . فقد لمس كثير من الناس أن تسعة أعشار الرزق في التجارة فهبوا إليها زرافات ووحدانا . فيا بشرانا وبشراهم لو أنهم دخلوها بحقها ويا بؤسنا وبؤسهم لو أنهم دخلوها جاهلين وجاحدين بحقها. فقد علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم:" أن شر البلاد أسواقُها "..وقد لقن أصحابه دعاء الاستعاذة من السوق عند الدخول إليها بائعا أو مبتاعا . ونقرأ في الكتاب المجيد: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً }الإسراء16 |أي أمرناهم بالاستقامة على أمر الله فخرجوا عليه طغيانا وجحودا . وقد قسم بعض العلماء فترة الرسالة إلى مكية هي مرحلة العقيدة ومدنية هي مرحلة الشريعة فإن أول ما نزل بالمدينة من قرآن كان سورة المطففين: (ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا علي الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) . والويل وادٍ من أودية العذاب في جهنم يحل فيها الذين يبخسون الناس أشياءهم . كما يحل فيه أولئك الذين يضيعون الصلاة .خطر لي هذا الكلام وأنا استمع في اليوم الخاتم من رمضان لأخ صديق فنان تشكيلي وأديب مهذب اضطرته غلواء الحياة للدخول إلي سوق الله اكبر (وليته كان سوقاً لله الأكبر) . شكا لنا هذا الصديق من أحوال السوق وأهلها والمتعاملين معهم من أهل الاحتساب وانقبض قلبي لحديثه . لأنه حديث أهل مكة وأهل مكة أدرى بشعابها(ننزه مكة عن أسواقنا تنزيهاً عظيماً ) . ولأن الأخ الصديق كان يتحدث بلهجة الصدق التي ما داخلتها مداراة التجارة وتدليسها وقد أخبرنا كيف تتضاعف أسعار الأشياء . وذكر منها جملة من الأشياء يدخل جلها في تعريف (قوت المسلمين) حدثنا عن كيف تتضاعف الأسعار ولم تخرج البضاعة إلا من مخزن تاجر إلى مخزن تاجر آخر . ولربما تباع لأربعة أو خمسة من التجار بأثمان متزايدة، وهي لم تحرك ساكناً من مكانها الأول . ولربما عادت بسعر أعلي جديد . حدثنا الأخ الصديق كيف أن التاجر الذي لا يجاري هذه السوق العقور مصيره الخروج السريع منها، ذلك أنه إذا لم يبع بسعر السوق لن يتمكن من شراء البضاعة الجديدة بسعرها الجديد . فلو صمم على أن يبيع بالسعر القديم دون مغالاة في الأسعار فان هذا يعني أن الثمن الذي يتقاضاه لن يمكنه من شراء نفس الكميات السابقة التي تعرض بأسعار أعلى . فستظل قدرته على الشراء في تناقض مستمر حتى يخرج من السوق خاسراً . وحدثناً من أمر السوق حديثاً لا نستطيع أن نجهر به ونسود به الصحائف والأوراق حتى لانحرك شراً من حيث نشدان الخير . وقد سألت الآخر عن حال السوق ومثواها و متقلبها و(قلبها) و (مقالبها) . وكان اقل صدقاً فحاول أن يبرر غلواء السوق وغلائها بسعر الدولار . قلت له ولماذا يرتفع سعر الدولار يا أخي أليس لأن بعضكم قد اتخذه سلعة حراماً تفعلون به كما تفعلون بالصابون وبالزيت وبالبسكويت . قال لا ولكن لأن الطلب على الدولار أكثر من المعروض، قلت قد درست بعضاً مما تقول ولكن كم مرة يرتفع الدولار بسبب التفاوت بين المعروض والمطلوب وكم مرة بسبب المغامرة والمضاربة . قال أصدقك القول أنه يرتفع بالمضاربة أكثر . ولكن الجميع متورطون في هذه اللعبة وقد تعود التجار على قراءة بورصة الدولار على طريقتهم الخاصة . فسعر تحدده الصرافة وسعر هو سعر السوق المتوقع عند الاحتياج إلى استخدام الموارد، وهكذا فإن الثمن يقبع دائماً في المجهول . يا بؤس هؤلاء ويا بؤس أقوامنا منهم ومعهم ، قلت يا أخي أي شريعة هذه التي إليها تحتكمون ؟ وأي فقه هذا الذي بموجبه تعملون ؟ أم تظنون أن الشريعة هي للحكومة فقط لتطبقها في محاكمها على اللصوص والنهاب من عساس الليل وقطاع الطرق؟ أم تحسبون أن الشريعة هي للحكومة تردونها إليها وتحاكمونها بها إذ اقتضت منكم حقا سوى الزكاة أو أشتدت في طلب مال الله الذي في ذمتكم ؟ أولا تظنون أنكم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين وأنكم علي الشريعة محاسبون ؟ وأنكم عن الفقه بها مسئولون ؟ وأنكم بجهالتكم وظلمكم مدينون ؟ فأين ساعتئذ تذهبون؟
حدثني فقلت يا ويل ولاج الأسواق من شرورها . ويل لهم من رقها وورقها ونضارها و نضارتها ،ويل لهم من بضائعها وعروضها ، ويل لهم من استهانتهم بشريعتها وجهلهم بفقهها، وويل لنا من فقههم وفسقهم ونذير الكتاب المجيد: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً }الإسراء16 حدثني من التجار من أهل السترات والقمص ومن أهل الجلابيب والأوشحة والعمائم ومن أهل السراويل والصديريات من منهم سأل نفسه عن شريعة السوق ؟ ومن منهم طلب أن يتعلم فقهها وأراد الاستقامة عليه؟ إن مثل هؤلاء كمثل من أراد أن يعبر النهر المضطرب سباحة ولما يتعلم العوم أو يحسن السباحة ، أتراه يجسر على تضييع حياته بالسباحة بغير فهم ولا دراية ؟ أفلا يظن هؤلاء وأولئك أن غشيان السوق بغير تعلم فقهها وبغير استعانة بالله واستعاذة به على شرها كمن يرد النهر الهائج ولما يتعلم السباحة ؟ أفلم يعلموا السوق أضيع للدين واقرب إلى الهلاك المبين من النهر الكاسح الغاضب ؟ إنهم لا يضيعون دينهم فحسب بل يضيعون دنيا غيرهم من الناس كثير ويفتنونهم بالفقر والحاجة والفاقة. يا معشر أهل الأسواق تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن نتناصر في طلب شريعة الأسواق وفى طلب الفقه، فخير الفقه ما كان زاداً للحياة والمؤمن كيس فطن ومن الفطانة أن يحتاط الإنسان لنفسه الا يهلك ولئن كنا نحتاط لحياتنا الدنيا فان الآخرة هي الحيوان لو كنا من العارفين، ولقد حدثتني نفسي بأن أكتب هذه المقالة ومن بعد وأثنين أو ثلاث في فقه الأسواق، فلعلها حدثتني هذه المرة بخير يصيبنا جميعاً والله المستعان على كل حال وعليه قصد السبيل.


نواصـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل،،،

Search

Search:

'via Blog this'

الثلاثاء، 4 أكتوبر 2011

الأحزاب والتجديد السياسي 2-2



ذكرنا آنفاً أن البطركية السياسية هي بيت الداء في جسد السياسة السودانية . وما لم تقع الثورة داخل الأحزاب جميعاً علي الهيمنة الأبوية المفروضة علي الأجيال الصاعدة في الساحة السياسية فان مطلوبات التجديد السياسي لن تتحقق. ولا بديل للتجديد السياسي إلا الاجترار والتوريث واحتقان الساحة السياسية والتباسها. لذلك فان التماس المعالجات العاجلة قد يشعر بعض الناس بالتحسن أو يشعر كل الناس لبعض الوقت بالتحسن ولكن ما من سبيل إلا أن تبُعث العافية والفاعلية في الجسم السياسي من خلال تجديد سياسي شامل للنظام السياسي في بعده الجزئي المتمثل في كياناته السياسية وأحزابه و منظماته وبعده الكلي المتمثل في الأعراف والدستور الناظم لقوانينه ونظمه وأطره.
مفهوم التجديد السياسي
        والتجديد الذي نقصده  ونريده هو التجديد المشابه للطرائق العضوية في الصيانة المستمرة للأجسام . والاستبدال التدريجي للخلايا والمكونات . والتغذية المستمرة بالدماء الجديدة النقية التي تبعث القوة والفاعلية . وتحرك الطاقات وتدفع النشاط العام للأعضاء. هو تجديد لا يتنكر للقديم فيزيحه ضربة لازب عن مقاليد القيادة . ولا للأفكار السائدة والخبرات المختزنة فلا يوليها اعتباراً ولا يُعيرها التفاتاً بل هو حالة استمرار وتجدد ثم ما يلبث الجديد ان ترتهنه الوقائع فيتحول الي خبرة ينُتفع بها  والي عبرة يعتبر بأمثولتها المتدبرون. وشتان ما بين مفهوم التجديد ومفهوم التحديث او الحداثة . فالاخير يعني استحداث أمر لأ أصل له يستند اليه من الواقع الراهن او الماضي الدابر. لذلك فانه من مأثورنا ان كل (محدثة ضلالة) لأن الإحداث ابتعاد عن مألوف الناس ومعروفهم . ولا يصلح أمر الناس الا بائتلاف بينهم وتعارف واتفاق. وبالعود للأحزاب السودانية فلكم تردد من شعارات الإصلاح والتجديد والتغيير بين ردهات مقراتها وفي منتدياتها وصحائفها وأدى ذلك الي انقسامات وتجزؤ وتهرؤ ولكن ما ان ينفصل جسم عن آخر لدعاوي الإصلاح او التجديد أو التغيير الا ويخرج عليه خارجون جدد بذات الدعاوي حتي كاد الناس ان يستئسوا من شعارات الإصلاح والتجديد والتغيير . فلماذا صار ذلك كذلك؟ ولعل الإجابة تتبدى ببساطة البداهة أن التجديد والإصلاح والتغيير لم يستخدم الا كما أستخدم البعض قميص عثمان تنازعاً علي الرئاسات والمناصب والمغانم. فالذين خرجوا بدعاوي  تأخير عقد المؤتمرات العامة التي يرجع فيها الي القواعد ما لبثوا ان تناسوا فكرة الرجعي الي القواعد حتي ان حزباً مثل الحزب الشيوعي السوداني عقد المؤتمر العام (السري) قبل عام او يزيد بعد مرور اكثر من اربعين سنة علي مؤتمر العام 1967 أي أن جيلاً بأكمله لم يراجعه أحد في شؤون الحزب واوضاعه وسياساته بله عن تجديد قياداته الهرمة ومؤسساته البالية . وحزب مثل الحزب الاتحادي الديمقراطي لا يزال يتحدث عن المؤتمر العام بعد مرور اكثر من حقبة سياسية تعددية وغير تعددية . ولئن كان يوجد فى حزب الأمة تياران تيار الأمام والتيار العام فان في حزب السيد الميرغني تياران ايضاً تيار الختميين من أولياء آل البيت وتيار الاتحاديين المواليين والمناجذين. وأما الاحزاب القومية فحدث ولا حرج فكل زمرة اصبحت حزباً وكل طائفة مؤانسه ومجالسه صارت حزباً. وتبحث عن الوجوه الجديدة في هذه الاحزاب جميعاً فلا ترى احداً وتبحث عن الاصوات الجديدة فلا تسمع صوتاً. وان تملكنى العجب فان أعجب العجب سوف يتجه تلقاء المؤتمر الشعبي الذي اعتاد علي أيام الحركة الاسلامية وايام المؤتمر الوطني الموحد علي اجتماعات منتظمة للمؤتمر العام ولمجلس الشوري . والآن تعجز قيادة المؤتمر الشعبي او تتلكأ لحاجة في نفس يعقوب عن عقد المؤتمر العام للحزب . وتتثاقل عن  عقد مجلس الشوري  . وبخاصة والحزب يتجه لخيارات قد تكون باهظة التكلفة . وها قد مر عقد كامل من الزمان ولكن الوجوه القيادية هي ذات الوجوه . والأصوات التي تعبر عن الحزب هي ذات الأصوات ولا أدري ان كانت قيادة الحزب قد  يأست من دعوتها للتجديد كما يأست من مقاصد أخري كثيرة أم أن الرغبة في التمسك بسياسات محددة هي التي تدفع للتمسك بقيادات بعينها لم تجلس لامتحان المصادقة القاعدية منذ حين.
المؤتمر الوطني والتجديد السياسي
        يعكف المؤتمر الوطني منذ حين علي مدارسة خمسة أوراق تهدف الي اجراء مراجعات شاملة لهياكل  و سياسات الحزب وأولوياته . وتهدف لتجديد قياداته وتصعيد كوادره للمراكز القيادية . وقد أجاز المؤتمر الوطني تلك الوثيقة التى جمعت هذه الأوراق الخمس . وهي بأنتظار المؤتمر العام في نوفمبر المقبل لاعتمادها. ولا شك أن القناعة أتسعت  داخل المؤتمر الوطني في أوساط قيادته العليا بأهمية تجديد الهياكل والسياسات والقيادات علي المستويين الحزبي والرسمي . بيد أن ترجمة هذه القناعة الي سياسات معتمدة وقرارات نافذة قد  تستغرق زمناً أطول مما يتوقع المتعجلون الي رؤية تغييرات ظاهرة للعيان . يعود ذلك لأسباب بعضها موضوعي والبعض الآخر بداعي غلبة الحذر التي تكاد تكون ثقافة عامة سائدة في مجمل الثقافة العامة والثقافة السياسية علي وجه الخصوص. بيد أنه وعلي الرغم من ذلك فأن تحولاً ملحوظاً لتمكين الشباب والمرأة سوف يشهده الناس في دورة الحزب القادمة وفي الحكومة القادمة والتي سوف تؤثر المشاركة الحزبية فيها علي حجم ومشهد التغيير في تشكيلها. وما اتوقعه حكومة أقل عدداً بنسبة الخمس علي الأقل في الوزراء المركزيين وبأعلي من هذه النسبة في وزراء الدولة والمستشارين غير أن التجديد في الرؤية والموجهات والسياسات للحكومة هو الأكثر أهمية ولن يتحقق ذلك الا بموالاة تفعيل قطاعات المؤتمر الوطني  للتداول حول السياسات ومردودها وكذلك فتح الحوار الوطني الواسع حول نجاعة هذه السياسات ومناسبتها للمرحلة التي اختطت من اجلها. فالمزيد من الشوري والتداول لا يحقق رشداً للسياسات فحسب وانما اعداداً للقيادات المتخصصة وابرازاً لها. ولقد نشأ المؤتمر الوطني أول نشأته حزباً للقواعد تضطلع فيه المؤتمرات القاعدية بدور مقدر في اقتراح السياسات او مناقشتها كما ان تكويناته القطاعية كانت فاعلة وناشطة . ولكن هذا الحال تبدلت حتي لم تعد القطاعات جزءاً من الهيكل الفاعل للمؤتمر الوطني. ولابد لنا اذا قويت الرغبة في تعزيز الشوري والديمقراطية الداخلية من جعل القطاعات جزءاُ من مستويات صنع القرار والتهيئة له داخل الأطر التنظيمية للحزب.
لاشك أن المتعجل لرؤية تحول سريع في الساحة السياسية باتجاه تجديد الأطر والهياكل والخطط والبرامج الحزبية وتوليد وتجديد القيادات لن يحظي بما يتمني. ولكن علي الرغم مما وصفنا من أحوال فإن حراكاً قلقاً داخل الأحزاب يُوشك ان يدفعها الي تحرك نحو تغيير طال الحديث عنه أو ربما الي مزيد من الانقسام والتفتت إذا تعسر علي الأباء القابضين علي المقاليد ان يرفعوا قبضتهم البطركية علي زمام الأمور.


إنتهــــــــــــــــــــــــــــــــــي،،،