الاثنين، 10 أكتوبر 2011

شريعة الأسواق (1)


ما أشبه الليلة بالبارحة. وكأن بعض أحوالنا تدور فى حركة دائرية تستعاد أحداثها مرة من بعد مرة. ففى العام 1994 عندما كانت البلاد تشهد شحاً شديد فى موارد النقد الأجنبى وقبل دخول ايرادات البترول لتدعم موارد الدولة تفاقمت المضاربة على الموارد المتاحة وانعكس ذلك ارتفاعا فجائيا فى الأاسعار وعلى الرغم من أن فاقد العملات الصعبة لا يتجاوز فى  هذه المرحلة 15% اشتد الطلب على العملات الحرة بفعل تسرب مئات الملايين من الجنبهات  للاستبدال بالشمال وضغط الطلب الجنوبى بالشمال لتحويل الاستحقاقات ومتطلبات موسم الحج ثم الآثار النفسية للانفصال واحجام البائعين فى انتظار استقرار الاسعار مما قلص المعروض و تضاعفت آثار كل ذلك  بالمضاربات . وكنت فى العام 1994 قد كتبت  مقالين حول فقه الاسواق ولما كنت أهم بالكتابة عن حال الاسواق عندما اطلعت فى موقع awraqonline.net/index.php على ما كنت كتبته آنذاك  فاذا هو ما أريد أن أكتب بمناسبة ما أشهده وأراه اليوم فرأيت اثباته قبل الاستطراد فى قضايا الاسواق والاسعار  

       حدثنى بعض المسوؤلين فى القاع الاقتصادى أنه دخل السوق بعد سياسات التحرير ( التي ألغت التراخيص و أزالت الحواجز ) من الناس أعداد تفوق كل من دخلها منذ الاستقلال . فقد لمس كثير من الناس أن تسعة أعشار الرزق في التجارة فهبوا إليها زرافات ووحدانا . فيا بشرانا وبشراهم لو أنهم دخلوها بحقها ويا بؤسنا وبؤسهم لو أنهم دخلوها جاهلين وجاحدين بحقها. فقد علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم:" أن شر البلاد أسواقُها "..وقد لقن أصحابه دعاء الاستعاذة من السوق عند الدخول إليها بائعا أو مبتاعا . ونقرأ في الكتاب المجيد: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً }الإسراء16 |أي أمرناهم بالاستقامة على أمر الله فخرجوا عليه طغيانا وجحودا . وقد قسم بعض العلماء فترة الرسالة إلى مكية هي مرحلة العقيدة ومدنية هي مرحلة الشريعة فإن أول ما نزل بالمدينة من قرآن كان سورة المطففين: (ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا علي الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) . والويل وادٍ من أودية العذاب في جهنم يحل فيها الذين يبخسون الناس أشياءهم . كما يحل فيه أولئك الذين يضيعون الصلاة .خطر لي هذا الكلام وأنا استمع في اليوم الخاتم من رمضان لأخ صديق فنان تشكيلي وأديب مهذب اضطرته غلواء الحياة للدخول إلي سوق الله اكبر (وليته كان سوقاً لله الأكبر) . شكا لنا هذا الصديق من أحوال السوق وأهلها والمتعاملين معهم من أهل الاحتساب وانقبض قلبي لحديثه . لأنه حديث أهل مكة وأهل مكة أدرى بشعابها(ننزه مكة عن أسواقنا تنزيهاً عظيماً ) . ولأن الأخ الصديق كان يتحدث بلهجة الصدق التي ما داخلتها مداراة التجارة وتدليسها وقد أخبرنا كيف تتضاعف أسعار الأشياء . وذكر منها جملة من الأشياء يدخل جلها في تعريف (قوت المسلمين) حدثنا عن كيف تتضاعف الأسعار ولم تخرج البضاعة إلا من مخزن تاجر إلى مخزن تاجر آخر . ولربما تباع لأربعة أو خمسة من التجار بأثمان متزايدة، وهي لم تحرك ساكناً من مكانها الأول . ولربما عادت بسعر أعلي جديد . حدثنا الأخ الصديق كيف أن التاجر الذي لا يجاري هذه السوق العقور مصيره الخروج السريع منها، ذلك أنه إذا لم يبع بسعر السوق لن يتمكن من شراء البضاعة الجديدة بسعرها الجديد . فلو صمم على أن يبيع بالسعر القديم دون مغالاة في الأسعار فان هذا يعني أن الثمن الذي يتقاضاه لن يمكنه من شراء نفس الكميات السابقة التي تعرض بأسعار أعلى . فستظل قدرته على الشراء في تناقض مستمر حتى يخرج من السوق خاسراً . وحدثناً من أمر السوق حديثاً لا نستطيع أن نجهر به ونسود به الصحائف والأوراق حتى لانحرك شراً من حيث نشدان الخير . وقد سألت الآخر عن حال السوق ومثواها و متقلبها و(قلبها) و (مقالبها) . وكان اقل صدقاً فحاول أن يبرر غلواء السوق وغلائها بسعر الدولار . قلت له ولماذا يرتفع سعر الدولار يا أخي أليس لأن بعضكم قد اتخذه سلعة حراماً تفعلون به كما تفعلون بالصابون وبالزيت وبالبسكويت . قال لا ولكن لأن الطلب على الدولار أكثر من المعروض، قلت قد درست بعضاً مما تقول ولكن كم مرة يرتفع الدولار بسبب التفاوت بين المعروض والمطلوب وكم مرة بسبب المغامرة والمضاربة . قال أصدقك القول أنه يرتفع بالمضاربة أكثر . ولكن الجميع متورطون في هذه اللعبة وقد تعود التجار على قراءة بورصة الدولار على طريقتهم الخاصة . فسعر تحدده الصرافة وسعر هو سعر السوق المتوقع عند الاحتياج إلى استخدام الموارد، وهكذا فإن الثمن يقبع دائماً في المجهول . يا بؤس هؤلاء ويا بؤس أقوامنا منهم ومعهم ، قلت يا أخي أي شريعة هذه التي إليها تحتكمون ؟ وأي فقه هذا الذي بموجبه تعملون ؟ أم تظنون أن الشريعة هي للحكومة فقط لتطبقها في محاكمها على اللصوص والنهاب من عساس الليل وقطاع الطرق؟ أم تحسبون أن الشريعة هي للحكومة تردونها إليها وتحاكمونها بها إذ اقتضت منكم حقا سوى الزكاة أو أشتدت في طلب مال الله الذي في ذمتكم ؟ أولا تظنون أنكم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين وأنكم علي الشريعة محاسبون ؟ وأنكم عن الفقه بها مسئولون ؟ وأنكم بجهالتكم وظلمكم مدينون ؟ فأين ساعتئذ تذهبون؟
حدثني فقلت يا ويل ولاج الأسواق من شرورها . ويل لهم من رقها وورقها ونضارها و نضارتها ،ويل لهم من بضائعها وعروضها ، ويل لهم من استهانتهم بشريعتها وجهلهم بفقهها، وويل لنا من فقههم وفسقهم ونذير الكتاب المجيد: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً }الإسراء16 حدثني من التجار من أهل السترات والقمص ومن أهل الجلابيب والأوشحة والعمائم ومن أهل السراويل والصديريات من منهم سأل نفسه عن شريعة السوق ؟ ومن منهم طلب أن يتعلم فقهها وأراد الاستقامة عليه؟ إن مثل هؤلاء كمثل من أراد أن يعبر النهر المضطرب سباحة ولما يتعلم العوم أو يحسن السباحة ، أتراه يجسر على تضييع حياته بالسباحة بغير فهم ولا دراية ؟ أفلا يظن هؤلاء وأولئك أن غشيان السوق بغير تعلم فقهها وبغير استعانة بالله واستعاذة به على شرها كمن يرد النهر الهائج ولما يتعلم السباحة ؟ أفلم يعلموا السوق أضيع للدين واقرب إلى الهلاك المبين من النهر الكاسح الغاضب ؟ إنهم لا يضيعون دينهم فحسب بل يضيعون دنيا غيرهم من الناس كثير ويفتنونهم بالفقر والحاجة والفاقة. يا معشر أهل الأسواق تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن نتناصر في طلب شريعة الأسواق وفى طلب الفقه، فخير الفقه ما كان زاداً للحياة والمؤمن كيس فطن ومن الفطانة أن يحتاط الإنسان لنفسه الا يهلك ولئن كنا نحتاط لحياتنا الدنيا فان الآخرة هي الحيوان لو كنا من العارفين، ولقد حدثتني نفسي بأن أكتب هذه المقالة ومن بعد وأثنين أو ثلاث في فقه الأسواق، فلعلها حدثتني هذه المرة بخير يصيبنا جميعاً والله المستعان على كل حال وعليه قصد السبيل.


نواصـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل،،،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق