ذكرنا آنفاً أن البطركية السياسية هي بيت الداء في جسد السياسة السودانية . وما لم تقع الثورة داخل الأحزاب جميعاً علي الهيمنة الأبوية المفروضة علي الأجيال الصاعدة في الساحة السياسية فان مطلوبات التجديد السياسي لن تتحقق. ولا بديل للتجديد السياسي إلا الاجترار والتوريث واحتقان الساحة السياسية والتباسها. لذلك فان التماس المعالجات العاجلة قد يشعر بعض الناس بالتحسن أو يشعر كل الناس لبعض الوقت بالتحسن ولكن ما من سبيل إلا أن تبُعث العافية والفاعلية في الجسم السياسي من خلال تجديد سياسي شامل للنظام السياسي في بعده الجزئي المتمثل في كياناته السياسية وأحزابه و منظماته وبعده الكلي المتمثل في الأعراف والدستور الناظم لقوانينه ونظمه وأطره.
مفهوم التجديد السياسي
والتجديد الذي نقصده ونريده هو التجديد المشابه للطرائق العضوية في الصيانة المستمرة للأجسام . والاستبدال التدريجي للخلايا والمكونات . والتغذية المستمرة بالدماء الجديدة النقية التي تبعث القوة والفاعلية . وتحرك الطاقات وتدفع النشاط العام للأعضاء. هو تجديد لا يتنكر للقديم فيزيحه ضربة لازب عن مقاليد القيادة . ولا للأفكار السائدة والخبرات المختزنة فلا يوليها اعتباراً ولا يُعيرها التفاتاً بل هو حالة استمرار وتجدد ثم ما يلبث الجديد ان ترتهنه الوقائع فيتحول الي خبرة ينُتفع بها والي عبرة يعتبر بأمثولتها المتدبرون. وشتان ما بين مفهوم التجديد ومفهوم التحديث او الحداثة . فالاخير يعني استحداث أمر لأ أصل له يستند اليه من الواقع الراهن او الماضي الدابر. لذلك فانه من مأثورنا ان كل (محدثة ضلالة) لأن الإحداث ابتعاد عن مألوف الناس ومعروفهم . ولا يصلح أمر الناس الا بائتلاف بينهم وتعارف واتفاق. وبالعود للأحزاب السودانية فلكم تردد من شعارات الإصلاح والتجديد والتغيير بين ردهات مقراتها وفي منتدياتها وصحائفها وأدى ذلك الي انقسامات وتجزؤ وتهرؤ ولكن ما ان ينفصل جسم عن آخر لدعاوي الإصلاح او التجديد أو التغيير الا ويخرج عليه خارجون جدد بذات الدعاوي حتي كاد الناس ان يستئسوا من شعارات الإصلاح والتجديد والتغيير . فلماذا صار ذلك كذلك؟ ولعل الإجابة تتبدى ببساطة البداهة أن التجديد والإصلاح والتغيير لم يستخدم الا كما أستخدم البعض قميص عثمان تنازعاً علي الرئاسات والمناصب والمغانم. فالذين خرجوا بدعاوي تأخير عقد المؤتمرات العامة التي يرجع فيها الي القواعد ما لبثوا ان تناسوا فكرة الرجعي الي القواعد حتي ان حزباً مثل الحزب الشيوعي السوداني عقد المؤتمر العام (السري) قبل عام او يزيد بعد مرور اكثر من اربعين سنة علي مؤتمر العام 1967 أي أن جيلاً بأكمله لم يراجعه أحد في شؤون الحزب واوضاعه وسياساته بله عن تجديد قياداته الهرمة ومؤسساته البالية . وحزب مثل الحزب الاتحادي الديمقراطي لا يزال يتحدث عن المؤتمر العام بعد مرور اكثر من حقبة سياسية تعددية وغير تعددية . ولئن كان يوجد فى حزب الأمة تياران تيار الأمام والتيار العام فان في حزب السيد الميرغني تياران ايضاً تيار الختميين من أولياء آل البيت وتيار الاتحاديين المواليين والمناجذين. وأما الاحزاب القومية فحدث ولا حرج فكل زمرة اصبحت حزباً وكل طائفة مؤانسه ومجالسه صارت حزباً. وتبحث عن الوجوه الجديدة في هذه الاحزاب جميعاً فلا ترى احداً وتبحث عن الاصوات الجديدة فلا تسمع صوتاً. وان تملكنى العجب فان أعجب العجب سوف يتجه تلقاء المؤتمر الشعبي الذي اعتاد علي أيام الحركة الاسلامية وايام المؤتمر الوطني الموحد علي اجتماعات منتظمة للمؤتمر العام ولمجلس الشوري . والآن تعجز قيادة المؤتمر الشعبي او تتلكأ لحاجة في نفس يعقوب عن عقد المؤتمر العام للحزب . وتتثاقل عن عقد مجلس الشوري . وبخاصة والحزب يتجه لخيارات قد تكون باهظة التكلفة . وها قد مر عقد كامل من الزمان ولكن الوجوه القيادية هي ذات الوجوه . والأصوات التي تعبر عن الحزب هي ذات الأصوات ولا أدري ان كانت قيادة الحزب قد يأست من دعوتها للتجديد كما يأست من مقاصد أخري كثيرة أم أن الرغبة في التمسك بسياسات محددة هي التي تدفع للتمسك بقيادات بعينها لم تجلس لامتحان المصادقة القاعدية منذ حين.
المؤتمر الوطني والتجديد السياسي
يعكف المؤتمر الوطني منذ حين علي مدارسة خمسة أوراق تهدف الي اجراء مراجعات شاملة لهياكل و سياسات الحزب وأولوياته . وتهدف لتجديد قياداته وتصعيد كوادره للمراكز القيادية . وقد أجاز المؤتمر الوطني تلك الوثيقة التى جمعت هذه الأوراق الخمس . وهي بأنتظار المؤتمر العام في نوفمبر المقبل لاعتمادها. ولا شك أن القناعة أتسعت داخل المؤتمر الوطني في أوساط قيادته العليا بأهمية تجديد الهياكل والسياسات والقيادات علي المستويين الحزبي والرسمي . بيد أن ترجمة هذه القناعة الي سياسات معتمدة وقرارات نافذة قد تستغرق زمناً أطول مما يتوقع المتعجلون الي رؤية تغييرات ظاهرة للعيان . يعود ذلك لأسباب بعضها موضوعي والبعض الآخر بداعي غلبة الحذر التي تكاد تكون ثقافة عامة سائدة في مجمل الثقافة العامة والثقافة السياسية علي وجه الخصوص. بيد أنه وعلي الرغم من ذلك فأن تحولاً ملحوظاً لتمكين الشباب والمرأة سوف يشهده الناس في دورة الحزب القادمة وفي الحكومة القادمة والتي سوف تؤثر المشاركة الحزبية فيها علي حجم ومشهد التغيير في تشكيلها. وما اتوقعه حكومة أقل عدداً بنسبة الخمس علي الأقل في الوزراء المركزيين وبأعلي من هذه النسبة في وزراء الدولة والمستشارين غير أن التجديد في الرؤية والموجهات والسياسات للحكومة هو الأكثر أهمية ولن يتحقق ذلك الا بموالاة تفعيل قطاعات المؤتمر الوطني للتداول حول السياسات ومردودها وكذلك فتح الحوار الوطني الواسع حول نجاعة هذه السياسات ومناسبتها للمرحلة التي اختطت من اجلها. فالمزيد من الشوري والتداول لا يحقق رشداً للسياسات فحسب وانما اعداداً للقيادات المتخصصة وابرازاً لها. ولقد نشأ المؤتمر الوطني أول نشأته حزباً للقواعد تضطلع فيه المؤتمرات القاعدية بدور مقدر في اقتراح السياسات او مناقشتها كما ان تكويناته القطاعية كانت فاعلة وناشطة . ولكن هذا الحال تبدلت حتي لم تعد القطاعات جزءاً من الهيكل الفاعل للمؤتمر الوطني. ولابد لنا اذا قويت الرغبة في تعزيز الشوري والديمقراطية الداخلية من جعل القطاعات جزءاُ من مستويات صنع القرار والتهيئة له داخل الأطر التنظيمية للحزب.
لاشك أن المتعجل لرؤية تحول سريع في الساحة السياسية باتجاه تجديد الأطر والهياكل والخطط والبرامج الحزبية وتوليد وتجديد القيادات لن يحظي بما يتمني. ولكن علي الرغم مما وصفنا من أحوال فإن حراكاً قلقاً داخل الأحزاب يُوشك ان يدفعها الي تحرك نحو تغيير طال الحديث عنه أو ربما الي مزيد من الانقسام والتفتت إذا تعسر علي الأباء القابضين علي المقاليد ان يرفعوا قبضتهم البطركية علي زمام الأمور.
إنتهــــــــــــــــــــــــــــــــــي،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق