الأحد، 16 يونيو 2013

نحن والديموقراطية حوار أهل السمع والبصر 6

الديمقراطية كونها مفردة معربة وتجربة ذات علاقة وشيجة بتجارب الحكم في العالم الغربي لا ينفي أن قيمها وربما بعض اعرافها ومؤسساتها معروفة معهودة في تجاربنا الحضارية الماضية والماثلة. ونسخة الديمقراطية الأوفق لنا هي تلك النسخة التي تحمل أكبر قدر من هذه القيم الحضارية المعهودة لدينا، وتلك المؤسسات التي عرفنا محاسنها ونقائصها . فليس ثمة شيء أدعى لضمان أستمرارية ممارسة ما مثل ارتباطها بالتجربة المتصلة حضارياً والمستمدة من جذور الثقافة والممارسات المتعارف عليها بين اهلها. ولأن مفهوم الاستدامة مفهوم متصل بالثقافة والبيئة فقد أصبح من المستقر في التجربة المعاصرة أن يكون للديمقراطية نسخ متعددة لتوائم مفهوم النسبية الثقافية وتعدد البيئات والظروف والأحوال الإجتماعية والاقتصادية.
ديمقراطية أهل السودان:
        وكان ينبغي لديمقراطية أهل السودان أن تشبه أهل السودان . وأن تلائم وتوائم عقيدتهم وثقافتهم وعرفهم بل وأمزجتهم . فهي تكون بذلك أكبر قابلية للإستمرار. ولكننا أغرمنا بنقل تجارب الآخرين بما لها وما عليها، وسواء انسجمت مع أفكارنا واعرافنا ومزاجنا العام أم اختلفت، ولذلك لم تُكتب الاستدامة لتجاربنا السياسية والدستورية. وما لم نتوافق على نظام سياسي يراعى الخصوصية والعبقرية السودانية بل يحتاط للنقائص والعيوب السودانية في التفكير والمزاج العام فلن تمكث الديمقراطية بيننا الا قليلا. وديمقراطية أهل السودان ينبغي أن تكون لعموم أهل السودان لا للخاصة دون العامة . ولا للصفوة دون سائر الناس بل أنها لن تكون مستحقة لأسمها ووصفها ما لم تشابه العامة من الناس . وأن تستلهم حكمتهم وتجربتهم الحضارية الممتدة عبر القرون والأجيال. وديمقراطية أهل السودان يتوجب ان تكون ديمقراطية شعبية Popular Democracy  . وأعني بمفردة شعبية أن ترتقي القيادات من أسفل إلى أعلى . وأن تبتدر السياسات والاتجاهات من أسفل إلى أعلى. ولن يكون ذلك إلا بالتركيز على فكرة ديمقراطية القاعدة من خلال نظام للجان الشعبية . والشورى الشعبية التي تصف الأحوال وتؤمىء للمعالجات وتترك الصياغة الفنية للسياسات للفنيين والخبراء من بعد. كذلك ينبغي أن تُؤسس الأحزاب على أساس الأحزاب الشعبية فلا يُسمح لحزب بالدخول إلى المعترك الإنتخابي ما لم يؤسس حضوراً شعبياً مقدراً . سواء على مستوى الولاية أو المستوى الأتحادي. ولا يعني ذلك منع الأحزاب وجماعات الرأي من الحضور في الساحة السياسية والتعبير عن رؤاها وأفكارها . فلن تتجدد الحياة السياسية ما لم يسمح للأحزاب الجديدة والأفكار الجديدة بالنشؤ والتوسع . ولكن السماح بالممارسة السياسية شيء والسماح بادعاء تمثيل الشعب شيء آخر . ولذلك فإن أفضل أشكال الانتخابات هي الانتخاب بالقوائم النسبية بنسبة مائة بالمائة على أن تكن نسبة الاستحقاق للتمثيل البرلماني عالية كالشأن المعمول به في تركيا حيث تبلغ تلك النسبة 10% . ولذلك فأن من يوجد بالبرلمان يمثل كتلة شعبية حقيقية وليس مجرد لافتات متعددة وأصوات مرتفعة وضجة مفتعلة.
ديمقراطية سيادة القانون:
        وديمقراطية أهل السودان ينبغي أن تكون ديمقراطية سيادة حكم القانون وذلك بالتوسع في التشريع أنطلاقاً من الشريعة الإسلامية والأعراف المعروفة المستقرة بين أهل السودان . والتوسع في التشريع هو الأسلوب الأمثل لترسيخ الثقافة الحقوقية التي تعاني ضعفاً ظاهراً في تجاربنا في السودان. والثقافة الحقوقية تعني ترقية احساس المواطن بالاحساس بالواجب . والعزم على عدم التنازل عن حقوقه إذ تستلب أو كرامته ان تهان . لقد ترقى هذا الاحساس لدى بعض الأمم حتى أن المواطن يذهب ليبلغ عن تجاوزه لقانون المرور مثلاً وإن لم يره أحد أو تصوره آلة فيدفع الغرم الذي عليه راضياً عن نفسه. وهذا المواطن نفسه هو الذي لا يقبل من أهل السياسة أو أهل الخدمة العامة ان يستهينوا بحقوقه ولا يتردد أو يعجز عن المطالبة بها بكل سبيل ممكن. ونحن  إذ نتحدث اليوم عن صناعة الدستور يتوجب علينا ان نعلم أن أهم أبواب هذا الدستور هو باب الحقوق والواجبات والحرمات . تلك التي يجب أن تفصل تفصيلاً دقيقاً . وأن تًوصف آليات تحقيقها على أرض الواقع . وكيفيات تحصينها وصيانتها في مواجهة كل متجاوز أو متنفذ أو متسلط. والتدقيق في هذا الأمر غاية في الأهمية فنحن نعلم أن التجاوز فطرة في الإنسان لم يؤدب نفسه بآداب الدين والخلائق الكريمة . وما لم تحول الحوائل دون تجاوزه وطغيانه "إن الانسان ليطغى ، إن رآه استغنى" فالزيادة في المال مظنة الطغيان والزيادة في السطان مظنة الطغيان. ولذلك فلابد من آليات حقيقية تمنع أن يكون المال دائراً دولة بين حفنة من الأغنياء المحتكرين أو ان تكون السلطة دولة بين ثلة قليلة أو صفوة مترفعة عن سائر الناس. ولتحقيق مبدأ حماية الحقوق والحرمات فلابد من نظام دقيق يمنع طغيان أيما سلطة من سلطات الحكم . وذلك من خلال نظام دقيق للتكابح فكل سلطة تكون متميزة وقادرة على كبح تجاوز السلطات الأخرى . وان لا يُمكن فرد واحد بتقديره الشخصي أن يقضي في أمر تعم به البلوى على الناس. وكذلك لابد من آليات فاعلة تمنع تجاوز أصحاب الصلاحيات الإدارية والمالية أو الأمنية وتراقب قصورهم . فإن كان لابد للسلطات الأعلى من كابح يكبح طغيانها فإن أيما تصرف في شأن الناس لابد للمخول به من كابحٍ يكبح تجاوزه وطغيانه . وما أكثر هؤلاء المتجاوزين على استحقاق المواطنين في الخدمة الجيدة أو المعاملة الكريمة اللائقة للمواطن العادي الذي هو الدافع من خلال الضريبة أجور هؤلاء المتعجرفين وامتيازاتهم جميعاً. فالديمقراطية الحقة هي تلك التي ترد الحق لصاحبه . وصاحب الحق هو المواطن العادي فتمكينه بالقانون وبالوسائل والآليات من نيل تلك الحقوق هو المعيار الذي يقاس به نجاح الديمقراطية . وحظها من الرضا العام وحظها بالتالي من القابلية على الإستمرار.

أنتهى ،،،،

الخميس، 6 يونيو 2013

التفكير العاطفي..آفة السياسة الكبرى(5)

جوهر السياسة هو التدبير ولا يكون تدبير الا بتفكر وتدبر ثم نقل هذه الافكار الى الآخرين عبر توصيف أدوار محددة لتتحول الفكرة الى مشروع  و الى عمل له نتائج تفضي الى تحسين الوضع قيد المعالجة.   والتعريف   الأدق للسياسة كما تقول القاعدة الفقهية المستقرة (أن التصرف بالسياسة منوط بالمصلحة ) فالمصلحة وتحقيقها من خلال جلب منفعة  أو درء مفسدة هو ما يعطي السياسة شرعيتها . أما اذا تحولت السياسة الى استحسان شخصي أو تشهى او تلهي لصاحب أمرها فإنها سياسة باطلة والباطل مردود على أهله في كل حال. ولا يكون جلب المنافع ودرء المفاسد  الا ناتجاً عن فكرة سديدة وهمة عتيدة  لا ترضى بالكسل الفكري ولا بالفشل والعجز عن مواصلة الكدح الي المقاصد المرغوبة.
الفكر والخطاب السياسي ..... والاستمالات العاطفية 
الخطاب السياسي مرحلة لاحقة للتفكير السياسي . و هو توصيل الأفكار للآخرين للانفعال بها والتفاعل معها ومن ثم التحرك لتنزيلها على واقع ما لتحسينه وترقيته بدرء المفاسد غير المرغوبه وجلب المنافع المرغوبة . وقد يستطيع المرء أن يتعرف على رصانة الفكر السياسي من خلال رصانة الخطاب السياسي. ولذلك كم يسهل علينا ان نستنتج فجاجة الفكر السياسي وسطحية تعاطيه مع المسائل من خلال ما تحتشد به الساحة من كلام السياسه وخطابها العام. وهم أهل السياسة الأول هو درء المقاومة والممانعة لمرادتهم اياً كانت  . وجلب الموافقة والتأييد لاتجاهاتهم ومشروعاتهم. وهو أمر مطلوب مشروع لو أن هذه المطلوبات والمرادات السياسية منوطه بالمصلحة العامة لا بالمصلحة الشخصية أو المصلحة الحزبية. وللوصول الى تحقيق المصالح والمنافع طريق واحد هو بذل الوسع في النظر الموضوعي المتجرد لتحرى وجه النفع والضرر في كل مسألة. ويمكن البدء بالتساؤل عن كيفية طرح المسائل أمام النظر السياسي. فهي إما حاجة معلومة يُسعى الى تلبيتها أو مشكلة منظورة يُسعى الى حلها . وهذا هو الشأن في المعتاد من الأمور . ولكن الى جانب ذلك هنالك النوازل والجوائح والطوارق التي تطرق على غير ترقب وتجئ من غير انذار . وهذا الضرب الأخير هو الذي يكثر في أوضاع عدم الاستقرار.  فيكون هو الشاغل لغالب الهم وغالب التفكير . ولربما يكون هو الصارف عن معالجة المعتاد من الأمور والمسائل فيغلب فكر معالجة الأزمات على التخطيط البعيد للواقع المعتاد.
وفي كل الاحوال الطارئة والمعتادة فإن الحاجة تمس الي التباعد عن الجزع والفزع والتعرف المتعجل الهلوع (( واذا جاءهم أمر من الأمن اوالخوف أذاعو به ولو ردوه الى الرسول وإلي أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)) النساء (83)   والاستنباط هو معرفة الشئ من أصوله وهذا هو الأمر القمين الحري بأولي الأمر. وهو أن لا تستخفهم النوازل بالجزع ولا الانجازات بالفرح . وأنما يضعون كل مسأله موضعها ويدبرون لكل حال تدبيره. وأول ذلك عند النظر في كل أمر تعم به البلوى أو الفائدة هو ذكر الله لقمع هوي النفس وميلها لما تحب ونفورها عن ما تكره . ومهما بدا هذا الأمر غير  يسير لكنه العسير الذى الذى لا يُستغني عنه . فلن يتيسر الفهم الصحيح للنازلة أو المسألة ما لم يكون المبتدأ من قمع غطرسة النفس وعجرفتها  وادعائها الاستحواذ على الحكمة والنظر السديد .
فما لم يشك المرء في قدرته على التوصل لوجه الحق والصواب من كل مسألة فإنه يفوت على نفسه سانحه مواتية وفرصة غالية للتوصل في الصواب الذي به تجلب المصالح وتدرأ المفاسد. والصواب كما ذكر ((دي بونو)) له وجوه عديده فهنالك الصواب العاطفي وهو الفخ الذي يسقط في شراكه غالب اهل السياسة ونعنى بالصواب مطابقة التفكير للواقع وهذه التشابه يمكن أن يكون لميل النفس ولهواها وهو الصواب العاطفي ويمكن ان يكون نتيجه اتساق المقدمات والنتائج فيكون صواباً منطقيا ويمكن أن يكون بعد الفحص والنظر في البدائل الأمر المطروح العملى والملائم الوحيد فيكون صواباً فريدا والصواب يمكن أن يكون صوابا من خلال المقارنه والتمييز ويكتسب ذلك  بالمعرفه والألفه والخبرة مثلما يتعرف الطبيب على الأمراض من خلال أعراضها المتميزة عن أعراض أمراض أخرى.
وهذا النوع الرابع من الصواب مزلقه الأكبر هو الاغترار بالمعرفة او الخبرة ذلك لأن الشخص الذى يشعر بالثقة الزائدة في حكمه لن يبذل غاية الوسع في التقصي  والجمع المزيد من السمات والمميزات التي تؤكد له ما توصل اليه من نتيجه. ولا شك أن الفهم السديد يقتضي الاستعانة بكل القدرات العاطفية التي تعين على جمع الهم والتركيز والقدرات المنطقية التي ترفض التعارض والتناقض وتتحرى الانسجام والاتساق للأفكار والقدرات التي تستقصي كل البدائل الممكنة لتنتقي أكثرها ملائمه ونفعا والقدرات والخبرات التي تعين على التمييز الدقيق للظروف والموافقات والقدرة على التفريق بين الأمور المشتبهات شكلاً المختلفات فعلاًوأثراً.
لا شك أن حظ أهل السياسة في زمننا هذا من ذلك كله قليل . ثم أنهم يعيشون حالة أنكار فيزعمون أنهم أهل الفكر السديد والتدبير الرشيد من خلال التمشدق باطروحات إيدولوجية ورؤى فكريه يزعمون أنها هي التشخيص الدقيق لادواء المجتمع . وهي العلاج الناجع لتلكم الادواء والتوازل. ومما لا شك فيه أن الحديث عن الفكر في سياق السياسة قد تعاظم في العقود الأخيرة . وتداخلت الفلسفه مع الخطاب السياسي العمومي . وحدث ذلك بأكثر مما كان مألوفا في الماضي . بيد أن الفكر والفلسفه دخلا علي السياسة لا وسيله للتحليل والتشخيص ولا ذريعه لاجتراح الحلول العملية الناجزة ، بل أداة من أدوات تزيين الخطاب فصار لا يعدو كونه استمالة عاطفية لجذب استحسان الجمهور مثلما تجذب الحسناء الأنظار بتبرجها ومجوهراتها. نقول ذلك وندرك الحاجة لاستثناء حالات قليله أضطلع  فيها الفكر بدوره في توجبه السياسه الى سبيلها الرشيد القويم. ويمكن أن ندرك ضآلة أثر التفكير  في هداية السياسة أذا أحطنا علماً بالدور الكبير الذي أطلع به الفكر الأداري والتنظيمي في ترشيد وترقية القدرات المؤسسية والفردية على الصعيد الأداري . ومما يثير العجب أن عدداً غير قليل من أهل السياسة قد أكتسب قدرات مقدرة في المجالات التنظيميه والادارية من خلال العمل في المؤسسات المختلفه ولكن عندما ينتقل اولئكم الى معاقد القيادة السياسية فإن ثقافة التطفيف الفكري تكون هي الأمر المعتاد المعتمد لديهم. ولرب سائل يسأل عن سبب ذلك ولعل الاجابه سهلة ويسيرة . وهي أن الشأن الغالب في السياسة في عالمنا الراهن هو مخادعة جمهور الناس ومداهنتهم لاستدامة المسايرة منهم واجتناب المغايرة والممانعة والمقاومة. ولذلك صار الأفكار المزجاة السهلة هي بضاعة أهل السياسة . وصار الخطاب السياسي مثل كعكة الزبيب كما يقول دي بونو.  تلك الكعكة التي يكون الخبز فيها هو اللحمة التي تصل بين حبات الزبيب حلوة الطعم والمذاق. فالأمر المطلوب ليس هو الوصول الى استحسان الجمهور لما يطرح عليه بل هو فهم ما يطرح عليه والانفعال به والتفاعل به لتغيير ما بالحال نحو أوضاع أحسن وأفضل.


نواصـــــــــــــــــــــــــــــــــل،،،