الديمقراطية
كونها مفردة معربة وتجربة ذات علاقة وشيجة بتجارب الحكم في العالم الغربي لا ينفي أن قيمها وربما بعض اعرافها ومؤسساتها
معروفة معهودة في تجاربنا الحضارية الماضية والماثلة. ونسخة الديمقراطية الأوفق
لنا هي تلك النسخة التي تحمل أكبر قدر من هذه القيم الحضارية المعهودة لدينا، وتلك
المؤسسات التي عرفنا محاسنها ونقائصها . فليس ثمة شيء أدعى لضمان أستمرارية ممارسة
ما مثل ارتباطها بالتجربة المتصلة حضارياً والمستمدة من جذور الثقافة والممارسات
المتعارف عليها بين اهلها. ولأن مفهوم الاستدامة مفهوم متصل بالثقافة والبيئة فقد
أصبح من المستقر في التجربة المعاصرة أن يكون للديمقراطية نسخ متعددة لتوائم مفهوم
النسبية الثقافية وتعدد البيئات والظروف والأحوال الإجتماعية والاقتصادية.
ديمقراطية أهل
السودان:
وكان ينبغي لديمقراطية أهل السودان أن
تشبه أهل السودان . وأن تلائم وتوائم عقيدتهم وثقافتهم وعرفهم بل وأمزجتهم . فهي
تكون بذلك أكبر قابلية للإستمرار. ولكننا أغرمنا بنقل تجارب الآخرين بما لها وما
عليها، وسواء انسجمت مع أفكارنا واعرافنا ومزاجنا العام أم اختلفت، ولذلك لم تُكتب
الاستدامة لتجاربنا السياسية والدستورية. وما لم نتوافق على نظام سياسي يراعى
الخصوصية والعبقرية السودانية بل يحتاط للنقائص والعيوب السودانية في التفكير
والمزاج العام فلن تمكث الديمقراطية بيننا الا قليلا. وديمقراطية أهل السودان
ينبغي أن تكون لعموم أهل السودان لا للخاصة دون العامة . ولا للصفوة دون سائر
الناس بل أنها لن تكون مستحقة لأسمها ووصفها ما لم تشابه العامة من الناس . وأن
تستلهم حكمتهم وتجربتهم الحضارية الممتدة عبر القرون والأجيال. وديمقراطية أهل
السودان يتوجب ان تكون ديمقراطية شعبية Popular
Democracy . وأعني بمفردة شعبية أن ترتقي القيادات من أسفل
إلى أعلى . وأن تبتدر السياسات والاتجاهات من أسفل إلى أعلى. ولن يكون ذلك إلا
بالتركيز على فكرة ديمقراطية القاعدة من خلال نظام للجان الشعبية . والشورى
الشعبية التي تصف الأحوال وتؤمىء للمعالجات وتترك الصياغة الفنية للسياسات للفنيين
والخبراء من بعد. كذلك ينبغي أن تُؤسس الأحزاب على أساس الأحزاب الشعبية فلا يُسمح
لحزب بالدخول إلى المعترك الإنتخابي ما لم يؤسس حضوراً شعبياً مقدراً . سواء على
مستوى الولاية أو المستوى الأتحادي. ولا يعني ذلك منع الأحزاب وجماعات الرأي من
الحضور في الساحة السياسية والتعبير عن رؤاها وأفكارها . فلن تتجدد الحياة
السياسية ما لم يسمح للأحزاب الجديدة والأفكار الجديدة بالنشؤ والتوسع . ولكن
السماح بالممارسة السياسية شيء والسماح بادعاء تمثيل الشعب شيء آخر . ولذلك فإن
أفضل أشكال الانتخابات هي الانتخاب بالقوائم النسبية بنسبة مائة بالمائة على أن
تكن نسبة الاستحقاق للتمثيل البرلماني عالية كالشأن المعمول به في تركيا حيث تبلغ
تلك النسبة 10% . ولذلك فأن من يوجد بالبرلمان يمثل كتلة شعبية حقيقية وليس مجرد
لافتات متعددة وأصوات مرتفعة وضجة مفتعلة.
ديمقراطية سيادة
القانون:
وديمقراطية أهل السودان ينبغي أن تكون
ديمقراطية سيادة حكم القانون وذلك بالتوسع في التشريع أنطلاقاً من الشريعة
الإسلامية والأعراف المعروفة المستقرة بين أهل السودان . والتوسع في التشريع هو
الأسلوب الأمثل لترسيخ الثقافة الحقوقية التي تعاني ضعفاً ظاهراً في تجاربنا في
السودان. والثقافة الحقوقية تعني ترقية احساس المواطن بالاحساس بالواجب . والعزم
على عدم التنازل عن حقوقه إذ تستلب أو كرامته ان تهان . لقد ترقى هذا الاحساس لدى
بعض الأمم حتى أن المواطن يذهب ليبلغ عن تجاوزه لقانون المرور مثلاً وإن لم يره
أحد أو تصوره آلة فيدفع الغرم الذي عليه راضياً عن نفسه. وهذا المواطن نفسه هو
الذي لا يقبل من أهل السياسة أو أهل الخدمة العامة ان يستهينوا بحقوقه ولا يتردد
أو يعجز عن المطالبة بها بكل سبيل ممكن. ونحن
إذ نتحدث اليوم عن صناعة الدستور يتوجب علينا ان نعلم أن أهم أبواب هذا الدستور
هو باب الحقوق والواجبات والحرمات . تلك التي يجب أن تفصل تفصيلاً دقيقاً . وأن تًوصف
آليات تحقيقها على أرض الواقع . وكيفيات تحصينها وصيانتها في مواجهة كل متجاوز أو
متنفذ أو متسلط. والتدقيق في هذا الأمر غاية في الأهمية فنحن نعلم أن التجاوز فطرة
في الإنسان لم يؤدب نفسه بآداب الدين والخلائق الكريمة . وما لم تحول الحوائل دون
تجاوزه وطغيانه "إن الانسان ليطغى ، إن رآه استغنى" فالزيادة في المال
مظنة الطغيان والزيادة في السطان مظنة الطغيان. ولذلك فلابد من آليات حقيقية تمنع
أن يكون المال دائراً دولة بين حفنة من الأغنياء المحتكرين أو ان تكون السلطة دولة
بين ثلة قليلة أو صفوة مترفعة عن سائر الناس. ولتحقيق مبدأ حماية الحقوق والحرمات
فلابد من نظام دقيق يمنع طغيان أيما سلطة من سلطات الحكم . وذلك من خلال نظام دقيق
للتكابح فكل سلطة تكون متميزة وقادرة على كبح تجاوز السلطات الأخرى . وان لا يُمكن
فرد واحد بتقديره الشخصي أن يقضي في أمر تعم به البلوى على الناس. وكذلك لابد من
آليات فاعلة تمنع تجاوز أصحاب الصلاحيات الإدارية والمالية أو الأمنية وتراقب
قصورهم . فإن كان لابد للسلطات الأعلى من كابح يكبح طغيانها فإن أيما تصرف في شأن
الناس لابد للمخول به من كابحٍ يكبح تجاوزه وطغيانه . وما أكثر هؤلاء المتجاوزين
على استحقاق المواطنين في الخدمة الجيدة أو المعاملة الكريمة اللائقة للمواطن
العادي الذي هو الدافع من خلال الضريبة أجور هؤلاء المتعجرفين وامتيازاتهم جميعاً.
فالديمقراطية الحقة هي تلك التي ترد الحق لصاحبه . وصاحب الحق هو المواطن العادي
فتمكينه بالقانون وبالوسائل والآليات من نيل تلك الحقوق هو المعيار الذي يقاس به
نجاح الديمقراطية . وحظها من الرضا العام وحظها بالتالي من القابلية على
الإستمرار.
أنتهى ،،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق