الأحد، 16 يونيو 2013

نحن والديموقراطية حوار أهل السمع والبصر 6

الديمقراطية كونها مفردة معربة وتجربة ذات علاقة وشيجة بتجارب الحكم في العالم الغربي لا ينفي أن قيمها وربما بعض اعرافها ومؤسساتها معروفة معهودة في تجاربنا الحضارية الماضية والماثلة. ونسخة الديمقراطية الأوفق لنا هي تلك النسخة التي تحمل أكبر قدر من هذه القيم الحضارية المعهودة لدينا، وتلك المؤسسات التي عرفنا محاسنها ونقائصها . فليس ثمة شيء أدعى لضمان أستمرارية ممارسة ما مثل ارتباطها بالتجربة المتصلة حضارياً والمستمدة من جذور الثقافة والممارسات المتعارف عليها بين اهلها. ولأن مفهوم الاستدامة مفهوم متصل بالثقافة والبيئة فقد أصبح من المستقر في التجربة المعاصرة أن يكون للديمقراطية نسخ متعددة لتوائم مفهوم النسبية الثقافية وتعدد البيئات والظروف والأحوال الإجتماعية والاقتصادية.
ديمقراطية أهل السودان:
        وكان ينبغي لديمقراطية أهل السودان أن تشبه أهل السودان . وأن تلائم وتوائم عقيدتهم وثقافتهم وعرفهم بل وأمزجتهم . فهي تكون بذلك أكبر قابلية للإستمرار. ولكننا أغرمنا بنقل تجارب الآخرين بما لها وما عليها، وسواء انسجمت مع أفكارنا واعرافنا ومزاجنا العام أم اختلفت، ولذلك لم تُكتب الاستدامة لتجاربنا السياسية والدستورية. وما لم نتوافق على نظام سياسي يراعى الخصوصية والعبقرية السودانية بل يحتاط للنقائص والعيوب السودانية في التفكير والمزاج العام فلن تمكث الديمقراطية بيننا الا قليلا. وديمقراطية أهل السودان ينبغي أن تكون لعموم أهل السودان لا للخاصة دون العامة . ولا للصفوة دون سائر الناس بل أنها لن تكون مستحقة لأسمها ووصفها ما لم تشابه العامة من الناس . وأن تستلهم حكمتهم وتجربتهم الحضارية الممتدة عبر القرون والأجيال. وديمقراطية أهل السودان يتوجب ان تكون ديمقراطية شعبية Popular Democracy  . وأعني بمفردة شعبية أن ترتقي القيادات من أسفل إلى أعلى . وأن تبتدر السياسات والاتجاهات من أسفل إلى أعلى. ولن يكون ذلك إلا بالتركيز على فكرة ديمقراطية القاعدة من خلال نظام للجان الشعبية . والشورى الشعبية التي تصف الأحوال وتؤمىء للمعالجات وتترك الصياغة الفنية للسياسات للفنيين والخبراء من بعد. كذلك ينبغي أن تُؤسس الأحزاب على أساس الأحزاب الشعبية فلا يُسمح لحزب بالدخول إلى المعترك الإنتخابي ما لم يؤسس حضوراً شعبياً مقدراً . سواء على مستوى الولاية أو المستوى الأتحادي. ولا يعني ذلك منع الأحزاب وجماعات الرأي من الحضور في الساحة السياسية والتعبير عن رؤاها وأفكارها . فلن تتجدد الحياة السياسية ما لم يسمح للأحزاب الجديدة والأفكار الجديدة بالنشؤ والتوسع . ولكن السماح بالممارسة السياسية شيء والسماح بادعاء تمثيل الشعب شيء آخر . ولذلك فإن أفضل أشكال الانتخابات هي الانتخاب بالقوائم النسبية بنسبة مائة بالمائة على أن تكن نسبة الاستحقاق للتمثيل البرلماني عالية كالشأن المعمول به في تركيا حيث تبلغ تلك النسبة 10% . ولذلك فأن من يوجد بالبرلمان يمثل كتلة شعبية حقيقية وليس مجرد لافتات متعددة وأصوات مرتفعة وضجة مفتعلة.
ديمقراطية سيادة القانون:
        وديمقراطية أهل السودان ينبغي أن تكون ديمقراطية سيادة حكم القانون وذلك بالتوسع في التشريع أنطلاقاً من الشريعة الإسلامية والأعراف المعروفة المستقرة بين أهل السودان . والتوسع في التشريع هو الأسلوب الأمثل لترسيخ الثقافة الحقوقية التي تعاني ضعفاً ظاهراً في تجاربنا في السودان. والثقافة الحقوقية تعني ترقية احساس المواطن بالاحساس بالواجب . والعزم على عدم التنازل عن حقوقه إذ تستلب أو كرامته ان تهان . لقد ترقى هذا الاحساس لدى بعض الأمم حتى أن المواطن يذهب ليبلغ عن تجاوزه لقانون المرور مثلاً وإن لم يره أحد أو تصوره آلة فيدفع الغرم الذي عليه راضياً عن نفسه. وهذا المواطن نفسه هو الذي لا يقبل من أهل السياسة أو أهل الخدمة العامة ان يستهينوا بحقوقه ولا يتردد أو يعجز عن المطالبة بها بكل سبيل ممكن. ونحن  إذ نتحدث اليوم عن صناعة الدستور يتوجب علينا ان نعلم أن أهم أبواب هذا الدستور هو باب الحقوق والواجبات والحرمات . تلك التي يجب أن تفصل تفصيلاً دقيقاً . وأن تًوصف آليات تحقيقها على أرض الواقع . وكيفيات تحصينها وصيانتها في مواجهة كل متجاوز أو متنفذ أو متسلط. والتدقيق في هذا الأمر غاية في الأهمية فنحن نعلم أن التجاوز فطرة في الإنسان لم يؤدب نفسه بآداب الدين والخلائق الكريمة . وما لم تحول الحوائل دون تجاوزه وطغيانه "إن الانسان ليطغى ، إن رآه استغنى" فالزيادة في المال مظنة الطغيان والزيادة في السطان مظنة الطغيان. ولذلك فلابد من آليات حقيقية تمنع أن يكون المال دائراً دولة بين حفنة من الأغنياء المحتكرين أو ان تكون السلطة دولة بين ثلة قليلة أو صفوة مترفعة عن سائر الناس. ولتحقيق مبدأ حماية الحقوق والحرمات فلابد من نظام دقيق يمنع طغيان أيما سلطة من سلطات الحكم . وذلك من خلال نظام دقيق للتكابح فكل سلطة تكون متميزة وقادرة على كبح تجاوز السلطات الأخرى . وان لا يُمكن فرد واحد بتقديره الشخصي أن يقضي في أمر تعم به البلوى على الناس. وكذلك لابد من آليات فاعلة تمنع تجاوز أصحاب الصلاحيات الإدارية والمالية أو الأمنية وتراقب قصورهم . فإن كان لابد للسلطات الأعلى من كابح يكبح طغيانها فإن أيما تصرف في شأن الناس لابد للمخول به من كابحٍ يكبح تجاوزه وطغيانه . وما أكثر هؤلاء المتجاوزين على استحقاق المواطنين في الخدمة الجيدة أو المعاملة الكريمة اللائقة للمواطن العادي الذي هو الدافع من خلال الضريبة أجور هؤلاء المتعجرفين وامتيازاتهم جميعاً. فالديمقراطية الحقة هي تلك التي ترد الحق لصاحبه . وصاحب الحق هو المواطن العادي فتمكينه بالقانون وبالوسائل والآليات من نيل تلك الحقوق هو المعيار الذي يقاس به نجاح الديمقراطية . وحظها من الرضا العام وحظها بالتالي من القابلية على الإستمرار.

أنتهى ،،،،

الخميس، 6 يونيو 2013

التفكير العاطفي..آفة السياسة الكبرى(5)

جوهر السياسة هو التدبير ولا يكون تدبير الا بتفكر وتدبر ثم نقل هذه الافكار الى الآخرين عبر توصيف أدوار محددة لتتحول الفكرة الى مشروع  و الى عمل له نتائج تفضي الى تحسين الوضع قيد المعالجة.   والتعريف   الأدق للسياسة كما تقول القاعدة الفقهية المستقرة (أن التصرف بالسياسة منوط بالمصلحة ) فالمصلحة وتحقيقها من خلال جلب منفعة  أو درء مفسدة هو ما يعطي السياسة شرعيتها . أما اذا تحولت السياسة الى استحسان شخصي أو تشهى او تلهي لصاحب أمرها فإنها سياسة باطلة والباطل مردود على أهله في كل حال. ولا يكون جلب المنافع ودرء المفاسد  الا ناتجاً عن فكرة سديدة وهمة عتيدة  لا ترضى بالكسل الفكري ولا بالفشل والعجز عن مواصلة الكدح الي المقاصد المرغوبة.
الفكر والخطاب السياسي ..... والاستمالات العاطفية 
الخطاب السياسي مرحلة لاحقة للتفكير السياسي . و هو توصيل الأفكار للآخرين للانفعال بها والتفاعل معها ومن ثم التحرك لتنزيلها على واقع ما لتحسينه وترقيته بدرء المفاسد غير المرغوبه وجلب المنافع المرغوبة . وقد يستطيع المرء أن يتعرف على رصانة الفكر السياسي من خلال رصانة الخطاب السياسي. ولذلك كم يسهل علينا ان نستنتج فجاجة الفكر السياسي وسطحية تعاطيه مع المسائل من خلال ما تحتشد به الساحة من كلام السياسه وخطابها العام. وهم أهل السياسة الأول هو درء المقاومة والممانعة لمرادتهم اياً كانت  . وجلب الموافقة والتأييد لاتجاهاتهم ومشروعاتهم. وهو أمر مطلوب مشروع لو أن هذه المطلوبات والمرادات السياسية منوطه بالمصلحة العامة لا بالمصلحة الشخصية أو المصلحة الحزبية. وللوصول الى تحقيق المصالح والمنافع طريق واحد هو بذل الوسع في النظر الموضوعي المتجرد لتحرى وجه النفع والضرر في كل مسألة. ويمكن البدء بالتساؤل عن كيفية طرح المسائل أمام النظر السياسي. فهي إما حاجة معلومة يُسعى الى تلبيتها أو مشكلة منظورة يُسعى الى حلها . وهذا هو الشأن في المعتاد من الأمور . ولكن الى جانب ذلك هنالك النوازل والجوائح والطوارق التي تطرق على غير ترقب وتجئ من غير انذار . وهذا الضرب الأخير هو الذي يكثر في أوضاع عدم الاستقرار.  فيكون هو الشاغل لغالب الهم وغالب التفكير . ولربما يكون هو الصارف عن معالجة المعتاد من الأمور والمسائل فيغلب فكر معالجة الأزمات على التخطيط البعيد للواقع المعتاد.
وفي كل الاحوال الطارئة والمعتادة فإن الحاجة تمس الي التباعد عن الجزع والفزع والتعرف المتعجل الهلوع (( واذا جاءهم أمر من الأمن اوالخوف أذاعو به ولو ردوه الى الرسول وإلي أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)) النساء (83)   والاستنباط هو معرفة الشئ من أصوله وهذا هو الأمر القمين الحري بأولي الأمر. وهو أن لا تستخفهم النوازل بالجزع ولا الانجازات بالفرح . وأنما يضعون كل مسأله موضعها ويدبرون لكل حال تدبيره. وأول ذلك عند النظر في كل أمر تعم به البلوى أو الفائدة هو ذكر الله لقمع هوي النفس وميلها لما تحب ونفورها عن ما تكره . ومهما بدا هذا الأمر غير  يسير لكنه العسير الذى الذى لا يُستغني عنه . فلن يتيسر الفهم الصحيح للنازلة أو المسألة ما لم يكون المبتدأ من قمع غطرسة النفس وعجرفتها  وادعائها الاستحواذ على الحكمة والنظر السديد .
فما لم يشك المرء في قدرته على التوصل لوجه الحق والصواب من كل مسألة فإنه يفوت على نفسه سانحه مواتية وفرصة غالية للتوصل في الصواب الذي به تجلب المصالح وتدرأ المفاسد. والصواب كما ذكر ((دي بونو)) له وجوه عديده فهنالك الصواب العاطفي وهو الفخ الذي يسقط في شراكه غالب اهل السياسة ونعنى بالصواب مطابقة التفكير للواقع وهذه التشابه يمكن أن يكون لميل النفس ولهواها وهو الصواب العاطفي ويمكن ان يكون نتيجه اتساق المقدمات والنتائج فيكون صواباً منطقيا ويمكن أن يكون بعد الفحص والنظر في البدائل الأمر المطروح العملى والملائم الوحيد فيكون صواباً فريدا والصواب يمكن أن يكون صوابا من خلال المقارنه والتمييز ويكتسب ذلك  بالمعرفه والألفه والخبرة مثلما يتعرف الطبيب على الأمراض من خلال أعراضها المتميزة عن أعراض أمراض أخرى.
وهذا النوع الرابع من الصواب مزلقه الأكبر هو الاغترار بالمعرفة او الخبرة ذلك لأن الشخص الذى يشعر بالثقة الزائدة في حكمه لن يبذل غاية الوسع في التقصي  والجمع المزيد من السمات والمميزات التي تؤكد له ما توصل اليه من نتيجه. ولا شك أن الفهم السديد يقتضي الاستعانة بكل القدرات العاطفية التي تعين على جمع الهم والتركيز والقدرات المنطقية التي ترفض التعارض والتناقض وتتحرى الانسجام والاتساق للأفكار والقدرات التي تستقصي كل البدائل الممكنة لتنتقي أكثرها ملائمه ونفعا والقدرات والخبرات التي تعين على التمييز الدقيق للظروف والموافقات والقدرة على التفريق بين الأمور المشتبهات شكلاً المختلفات فعلاًوأثراً.
لا شك أن حظ أهل السياسة في زمننا هذا من ذلك كله قليل . ثم أنهم يعيشون حالة أنكار فيزعمون أنهم أهل الفكر السديد والتدبير الرشيد من خلال التمشدق باطروحات إيدولوجية ورؤى فكريه يزعمون أنها هي التشخيص الدقيق لادواء المجتمع . وهي العلاج الناجع لتلكم الادواء والتوازل. ومما لا شك فيه أن الحديث عن الفكر في سياق السياسة قد تعاظم في العقود الأخيرة . وتداخلت الفلسفه مع الخطاب السياسي العمومي . وحدث ذلك بأكثر مما كان مألوفا في الماضي . بيد أن الفكر والفلسفه دخلا علي السياسة لا وسيله للتحليل والتشخيص ولا ذريعه لاجتراح الحلول العملية الناجزة ، بل أداة من أدوات تزيين الخطاب فصار لا يعدو كونه استمالة عاطفية لجذب استحسان الجمهور مثلما تجذب الحسناء الأنظار بتبرجها ومجوهراتها. نقول ذلك وندرك الحاجة لاستثناء حالات قليله أضطلع  فيها الفكر بدوره في توجبه السياسه الى سبيلها الرشيد القويم. ويمكن أن ندرك ضآلة أثر التفكير  في هداية السياسة أذا أحطنا علماً بالدور الكبير الذي أطلع به الفكر الأداري والتنظيمي في ترشيد وترقية القدرات المؤسسية والفردية على الصعيد الأداري . ومما يثير العجب أن عدداً غير قليل من أهل السياسة قد أكتسب قدرات مقدرة في المجالات التنظيميه والادارية من خلال العمل في المؤسسات المختلفه ولكن عندما ينتقل اولئكم الى معاقد القيادة السياسية فإن ثقافة التطفيف الفكري تكون هي الأمر المعتاد المعتمد لديهم. ولرب سائل يسأل عن سبب ذلك ولعل الاجابه سهلة ويسيرة . وهي أن الشأن الغالب في السياسة في عالمنا الراهن هو مخادعة جمهور الناس ومداهنتهم لاستدامة المسايرة منهم واجتناب المغايرة والممانعة والمقاومة. ولذلك صار الأفكار المزجاة السهلة هي بضاعة أهل السياسة . وصار الخطاب السياسي مثل كعكة الزبيب كما يقول دي بونو.  تلك الكعكة التي يكون الخبز فيها هو اللحمة التي تصل بين حبات الزبيب حلوة الطعم والمذاق. فالأمر المطلوب ليس هو الوصول الى استحسان الجمهور لما يطرح عليه بل هو فهم ما يطرح عليه والانفعال به والتفاعل به لتغيير ما بالحال نحو أوضاع أحسن وأفضل.


نواصـــــــــــــــــــــــــــــــــل،،،

الثلاثاء، 21 مايو 2013

نحن والديمقراطية حوار أهل السمع والبصر3



لماذا فشل المجتمع المدني في السودان في تجسيد إرادته العامة في نظامه السياسي؟ لماذا يحدث ذلك رغم المفارقة البارزة في كون أن درجة الاهتمام بالشأن السياسي في السودان تفوق مثيلاتها في جواره العربي والإفريقي؟ لماذا يفشل مجتمع مدني متحضر مفعم بالنشاط عن تأسيس نظام سياسي ينال الرضا من غالب إفراده؟ هذه بعض الأسئلة التي ربما مقاربة الإجابة عن بعضها قد يلقى شعاعاً من الضوء يعين علي الفهم وربما يدفع للتحرك في الاتجاه الصحيح.
ما هو النظام السياسي؟
لعلنا قد أجبنا  ببعض الإجابات الضمنية فيما تقدم من قول . ومن ذلك أن النظام السياسي هو تلك الشبكة من العلاقات البينية والتراتبية التي تستند إلي السلطة وتعمل على تقسيمها وترتيبها في المجتمع بغرض إدارة الموارد العامة وتحصيل المصالح وتحقيق الأمن والسلامة ودرء وفض النزاعات في المجتمع. والنظام السياسي يصف السلوك والأدوار المرغوبة وغير المرغوبة من الإفراد والجماعات والمؤسسات . ويقنن ذلك في شكل أعراف أو تشريعات . وهو بالضرورة لابد له أن يؤسس مؤسسات اجتماعية وهيكلية للتعبير عن قيمة ومقاصده . ولإصدار القرارات المنظمة للمرور السياسي . وهذه إما منظمات مجتمع مدني مثل الأحزاب وجماعات المصالح والعمل الطوعي أو مؤسسات دولة مثل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية . وكلمة نظام كيفما استعملت فهي كلمة تصف أو تؤسس الأوضاع القياسية فيما يجب أن يفعل أو يترك. وعندما نتحدث عن النظام السياسي يكون الحديث عن منظومة لا عن منظمات أو مؤسسات منثورة تتواجد علي صعيد واحد ولكنها عاجزة عن التواصل أو التفاعل بما ينشئ وضعاً اعتبارياً جديداً . يكون فيه كل جزء بعضاً من كل . فالنظام الحزبي علي سبيل المثال ليس عدداً من الأحزاب علي صعيد واحد بل هو في الأساس جمعية متكونة من أحزاب متعددة . تتصرف أحيانا بالروح الجمعية وأحيانا تتعدد استجابتها للقضايا قيد النظر أو التفاعل أو التنافس أو النزاع. والكلمة الانجليزية التي أعطيت للنظام الحزبي أفضل تعريفاً وتوصيفاً للمطلوب منه . وهي كلمة pluralism  وتعني الجمعية . والجمع لا يكون إلا لأعداد  اجتمعت فإذا وقفت فرادي قلت قيمها العددية . وإذا تراصت إلي جانب بعضها البعض عظُمت القيمة والفائدة منها . ولكن المعرب السياسي اختار أن يستخدم كلمة تعددية لوصف النظام الحزبي  . واختار بذلك القيمة الأدني ووأختار الفصل دون الوصل والشتات بديلاً للاجتماع. فالنظام الحزبي في بلادنا قائم علي فكرة الافتراق علي فكرة الاجتماع. ولذلك فالاحزاب تحرص اكثر الحرص علي ابراز المفارقات اكثر من حرصها علي ابداء الموافقات . والتوافق الحزبي لفظة لا تقترن الا بالازمات . وتستخدم حينها لتهدئة الخواطر لا لتطوير بدائل وفاقية لمواجهة الاوضاع المتأزمة. وهنالك خلط مريع بين معني التوافق والتحالف. فالوفاق يفهم وكانه ائتلاف بين القوي الحزبية للحكم . وليس لتحقبق التقاء للوصول الي حلول للقضايا الشائكة. والحال مع منظمات المجتمع المدني الاخري سواء اكانت جماعات مصالح او جماعات عمل طوعي ليس بافضل من هذا الحال . فهي اما ان تستظل بمظلة القوي السياسية او تنحو نحوها . و فكرة التشبيك التي أصبحت هي شعار العمل الطوعي او عمل منظمات الضغط غائبة عن الثقافة التنظيمية . فان حضرت فلا تكون إلا صورة شكلية لا يُعبر عنها في الرؤي ولا اقتسام الموارد ولا تحديد الادوار بله عن القيادة الفاعلة الموحدة. ثم أن هذه الانظمة المقسمة منذ الانشاء تخضع لتقسيمات جديدة متكاثرة بسبب التحيزات الجهوية والقبلية والفئوية . فيقسم المقسم اصلاً ويجزءاً المجزأ . وأنظر الي حال الاحزاب السياسية من داخلها. هل تري اجتماعاً علي رؤية او اتفاقاً علي مقصد او قبولاً بزعامة إلا ان يكون تسليماً لطائفة. وانظر الي اسباب الخلاف والنزاع وبؤره وكيفية ادارته فستعلم حينئذ أن نظامنا السياسي معلول حتي نخاعه الغظمي ....فماالعمل؟
الثقافة السياسية هي السبب
إن علة النظام السياسي في السودان او علة عدم القدرة علي انشائه علة ثقافية بادئ الرأي. وقد أشرنا الي فقر الثقافة الحقوقية في المجتمع السوداني . وهذا أمر يدعو للعجب في مجتمع يتحلي افراده بحساسية عالية تجاه الكبرياء والكرامة الشخصية. وهذه الخصلة خصلة الكبرياء الذي يتجاوز المعدل يمكن ان تكون أحدي المناقب التي تدفع النهضة السريعة والتقدم . لأنها ستكون من أقوى محفزات استفراغ الوسع في ترفيع شأن الذات . ولكنها يمكن أن تكون من الوجهة الأخرى واحدة من منقصات المسعي المتسارع الي التقدم والرقي الاجتماعي. والكبرياء الزائدة رغم أنها قد تحفز صاحبها للتعلم السريع بصورة ذاتية الا أنها تقلل من قدرته على التعلم من الآخرين .  ذلك ان هاجس الكبرياء يقول له من هذا حتي يتسنم هذا المقام العالي, مقام الاعنراف له بالتفوق . فالاعتراف للآخرين بالتفوق العلمي او بالبراعة والمهارة أمرُُ يشق علي المرء شديد الكبرياء. وكما يتمظهر ذلك في مسألة تلقى العلم يبرز ايضاً في قبول سلطة الآخرين . وعدم قبول مبدأ التراتبية في السلطة معوق رئيس دون بناء أية مؤسسة فاعلة في المجتمع او الدولة. والكبرياء الزائد يتجه بالضرورة الي غمط الناس أشياءهم . ولذلك يشق علي بعض الناس الاعتراف بفضل الآخرين فضلاً يترتيب عليه التسليم لهم بسلطان او نفوذ. أن المجتمع السياسي لن يتطور مالم يكن الاعتراف بالقانون ويمن ينفذ القانون من أول أولياته وأعلي أولوياته. وتشريع القوانين وتنفيذها يقتضي وجود مجتمع مدني يؤمن بالتراتبية وبوجوب التسليم لسلطة القانون . ولمن أعطي سلطان تنفيذه . ومجتمعنا يعاني مشكلة شائكة في هذا المطلوب. فالقانون نفسه ظل موضعا للنزاع في أصول اشتتراعة . ومؤسساته التشريعية والتنفيذية ظلت هي الأخري موضع التجاذب والتخاصم . ولذلك فان مسألة الشرعية تقع في مركز المحور من بناء النظام السياسي. ونعني بلفظة  الشرعية اولاً الاتفاق علي اصول الاشتراع أي علي مرجعيات استنباط الشرائع والقوانين. ولا شك ان الشريعة الدينية والاعراف الاجتماعية هي اصول الاشتتراع في كل انحاء الدنيا حتي في تلك البلاد التي تزعم انها علمانية تفصل بين الدين والسياسة . ولكن الدين متلبس بالثقافة ولا يمكن ان تفصل بين الثقافة والسياسة إلا اذا تصور البعض إمكانية الفصل بين الانسان وجلده. فالثقافة متمكنة في اعتقادات المجتمع وامتثالاته وتصرفاته . وما السياسة الا جلب المنافع التي تراها ثقافة المجتمع منفعه ودرء المفاسد التي تراها ثقافة المجتمع مفسده . سواء اكانت تلك المصالح والمفاسد مادية او معنوية. وفي بلادنا ظلت قضية المرجعية عالقة بين القوي السياسية . رغم ان غالب الاحزاب الاكبر تزعم انها تسلم بان الشريعة الاسلامية والعرف المعروف بين اهل السودان هي المرجعيات . ولكن لأن الاصل لديها هو ابراز المختلف عليه واخفاء المؤتلف حوله فقد ظلت قضية المرجعية التشريعية موضعاً للخلاف حتي بين الاحزاب التي تنادي بالصحوة الاسلامية والجمهورية الاسلامية والشريعية الاسلامية . ومرجع ذلك الي ضعف الاتصال والحوار الفكري بين فرقاء السياسة . فقلما يجتمع هؤلاء في منابر الحوار والتفكير الجماعي هذا ان وجد وجوه القوم وقتاً لشئون التفكير او شجونه . ومسألة الشريعة لها وجه آخر غير شرعية الاستنباط وهو شرعية الاختيار . فمن يقرر أن ها الأمر شرعي او إسلامي او مقبول او غير مقبول. هل هى بيوتات طائفية او نخب علمية شرعية او جماعات اسلامية ناشطة او تجمعات قومية او يسارية او مثل هذا او غير هذا. لا تزال قضية الشرعية قائمة . لأنه يشق علي الجميع التسليم بسلطة الشعب العلمية . فالمثقفون والمتعلمون والزعامات الدينية والنخب العلمية لا تري أن الخيار يجب أن يترك للشعب ليحدد ما هو الإسلامي وغير الإسلامي . وما هو المقبول لديه وغير المقبول في أوساطه. ولئن كان الدين والشرع قد سلم بالشرعية العلمية للشعب في مبادئ الإجماع والعرف فكيف لا يسلم بذلك من يزعمون انهم مهتدون بهداه؟ ونعني بالشرعية العلمية للشعب تحكيم العرف المعروف في التحسين والتقبيح والتخطئة والتصحيح . وسوف يسارع البعض للزعم أن التسليم بذلك يعني اعلاء شرعية العامة والدهماء العلمية علي شرعية العلماء والخبراء والفقهاء وليس هذا بصحيح. فعامة الناس أحكم من ذلك بكثير . ولذلك فقد ظلت الأعراف تهتدي بعلوم العلماء وخبرات الخبراء ولكنها تثبت ما تراه صادراً عن ثقة مؤتمن وتراه جالباً للخير والنفع والصلاح . وتترك جانباً ما تراه بخلاف ذلك . وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم في هذا المعني "ما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن" . أن الاسلام الذي تختلف عليه رجال الاحزاب لا تختلف علي جوهرة ولا أصوله ولا محكمات احكامه عامة الناس.  ولذلك فان شرعية الاختيار هي لعامة الناس . والاجماع الذي يُعتد به هو اجماعهم . والعرف الذي يُعمل هو عرفهم . وهم علي شروطهم كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم "إلا شرطاً احل جراماً أو حرم حلالاً".

نواصــــــــــــــــل

نحن والديمقراطية حوار أهل السمع والبصر 4



عندما شق مفهوم "القابلية للاستمرار Sustainability طريقه بقوة في وسط نظريات الحداثة أعتبر فتحاً فكرياً فلسفياً لا نظير له. وما لبثت اللفظة أن تحولت إلى مفهوم راسخ غير قابل للتخطي عند الحديث عن ابتدار خطط أو تنفيذ مشروعات تنموية. ولكن المصطلح أمضى زماناً متطاولاً في إطار المفاهيم الاقتصادية التنموية قبل أن يشق طريقه من التنمية الاقتصادية إلى التنمية السياسية .ومن ثم  أصبح عامل القابلية للإستمرار سواء أطلق عليه البعض Sustainability   أو Durability واحداً من أهم عوامل نجاح المؤسسات السياسية مثلما هو عامل في نجاح المشروعات الاقتصادية. والمصطلح عريق النسب بمفهوم الثقافة ببعديها المادي والمعنوي . وهذا ما يجعل حديثنا موصولاً مع آخره في المقال السابق عندما تحدثنا أن اشكالات الديمقراطية ومشكلاتها في المجتمع السوداني مردها إلى حالة عدم توافق كامل مع الثقافة السائدة.
مفهوم الاستدامة:
        ويُعني بمفهوم الاستدامة مواءمة المشروعات والمؤسسات مع معطيات المجتمع والبيئة . بحيث تكون قادرة على الاستمرار وتلبية احتياجات الحاضر دون التأثير على قدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها من ذات المصادر البيئية والطبيعية والثقافية. ومفهوم الاستدامة لاتصاله بالبيئة والثقافة وجد رواجاً لدى مثقفى العالم الثالث . وجرى تبني المفهوم رسمياً في قمة الأرض بالبرازيل في العام 1992م . ولأن قمة الأرض كان محورها الحفاظ على البيئة والطبيعة فقد كان قميناً بها أن تتبنى مفهوماً للتنمية متصالحاً مع مفاهيم احترام البيئة والطبيعة وعدم إهدارها. ومفهوم الاستدامة متصل بالمفهوم الحيوي Organic concept  ذلك أن الانسان أدرك أن النظم الحيوية قادرة على التكيف مع متغيرات البيئة مع البقاء متنوعة ونامية ومنتجة ومستمرة مع مرور الأوقات. وبمحاكاة النظم الحيوية أدرك الانسان أن أفضل أسلوب للنماء والاستمرار هو محاكاة النظم الحيوية في ارتباطها المتفاعل مع البيئة . وهذا يعني ان حفظ النظم التي ينشئها البشر يمكن يستدعى القدرة الفائقة على التعامل المسئول مع معطيات المحل والوقت. ومهما كان المفهوم تأشيرياً فأنه يجمع بين الاحتياجات المادية والمعنوية للبشر ومعطيات البيئة والطبيعة. ولئن كان ليس من السهل تحديد المفهوم في الجانب الاقتصادي واعتماد مقاييس للاستدامة في نطاق الاقتصاد فإن الأمر يصبح أشد عسراً عندما ينتقل مفهوم الاستدامة أو القابلية للاستمرار إلى نطاق التنمية الاجتماعية والسياسية. ذلك أن التعامل مع البشر لا ينحصر على الناحية الحيوية العضوية وأنما يتعداه إلى نواحٍ نفسية وعقلية أشد تعقيداً . بيد أن ذلك لن يقدح في صحة المفهوم على وجه الإجمال . فان النظم الاجتماعية والسياسية لا تُمنح الاستمرارية إلا بمقدار تلاؤمها مع معطيات الوقت والمحل. والتنمية السياسية لكي تضمن القيام على أسس راسخة لابد لها من مراعاة خصوصية المكان وخصوصية اللحظة التاريخية . وأثار تلك الخصوصيات على معتقدات الانسان وأفكاره وميوله ومزاجه العام.
الديمقراطية القابلة للإستمرار:
        والنظم الديمقراطية هي الأخرى نظم ذات طبيعة إجتماعية وثقافية. ومما لاشك فيه أنه لا يوجد شكل واحد للنظام الديمقراطي إلا على وجه التقريب. فللأمم عبر المسافة والزمان تجارب متعددة ونظم متعددة يمكن أن تُحظى باضفاء صفة الديمقراطية عليها. وقد يحتاج البعض إلى إضافة الديمقراطية إلى لفظة أخرى لاعطائها معنىٍ أكثر تحديداً . مثل الحديث عن الديمقراطية الليبرالية  أو "الديمقراطية الاجتماعية" . وقد أختلفت تجارب البشر الديمقراطية عبر الزمان. ولا يستطيع أحد بغير الاعتساف ان يسوى بين ديمقراطية أثينا وديمقراطية كميونة باريس وديمقراطية وستمنستر .  والمعاني المشتركة شديدة العموم وهي نوع من اشتراك الشعب في حكم نفسه مباشرة أو عبر وكلاء أو وسطاء . ومراعاة مبدأ الأغلبية في ذلك عند الافتقار إلى الإجماع مع ضمان حرية الاختيار عبر نظام للاقتراع متوافق عليه. ولكن هذه المفاهيم تضيق وتتسع وتحوي مباديء أخرى قد يختلف عليها الناس . فالديمقراطية الاجتماعية تخالف الديمقراطية الليبرالية لتركيز الأولى على أولوية حق الجماعة والثانية على أولوية حق الأفراد. وهنالك سجالات عديدة ذات طابع فكري وفلسفي يدور رحاها في ساحة مصطلح الديمقراطية . تتأثر إلى مدىٍ بعيد بالايدولوجيات المختلفة. ولكن كل هذه السجالات تدور على مستوى النظر . وقلما يتركز الانتباه على ما يعتقده الناس العاديون . وما يرونه ناجحاً وناجعاً وما يحسبونه صالحاً . وما يرونه مفسداً فاسداً وغير ملائم . وقد يعيدنا هذا الى خواتيم المقال السابق لدى الحديث عن الثقافة والمرجعية لنؤكد على القول أن تجاهل الواقع الشعبي والثقافة الشعبية والإرادة الشعبية هو أس الداء في عدم قدرة النظم الديمقراطية للإستمرار في الساحة السياسية السودانية. ذلك أن جميع الإيدولوجيات الليبرالية واليسارية والمذهبيات الإسلامية تجاهلت مرجعية الشعب وحقه في الاختيار وقوله الفصل في القرار. وحجة الجميع أنهم أعلم من الناس العاديين باحوالهم واحتياجاتهم . وأنهم هم العين البصيرة التي ترى الفرق بين الحق والباطل والصالح والطالح والمناسب وغير المناسب . وكلهم خطاءون وكلهم مخطئون وقليل منهم التوابون الآوابون.
نواصل،،،