عندما شق مفهوم "القابلية للاستمرار Sustainability طريقه بقوة في وسط نظريات الحداثة أعتبر فتحاً فكرياً فلسفياً لا نظير له. وما لبثت اللفظة أن تحولت إلى مفهوم راسخ غير قابل للتخطي عند الحديث عن ابتدار خطط أو تنفيذ مشروعات تنموية. ولكن المصطلح أمضى زماناً متطاولاً في إطار المفاهيم الاقتصادية التنموية قبل أن يشق طريقه من التنمية الاقتصادية إلى التنمية السياسية .ومن ثم أصبح عامل القابلية للإستمرار سواء أطلق عليه البعض Sustainability أو Durability واحداً من أهم عوامل نجاح المؤسسات السياسية مثلما هو عامل في نجاح المشروعات الاقتصادية. والمصطلح عريق النسب بمفهوم الثقافة ببعديها المادي والمعنوي . وهذا ما يجعل حديثنا موصولاً مع آخره في المقال السابق عندما تحدثنا أن اشكالات الديمقراطية ومشكلاتها في المجتمع السوداني مردها إلى حالة عدم توافق كامل مع الثقافة السائدة.
مفهوم الاستدامة:
ويُعني بمفهوم الاستدامة مواءمة المشروعات والمؤسسات مع معطيات المجتمع والبيئة . بحيث تكون قادرة على الاستمرار وتلبية احتياجات الحاضر دون التأثير على قدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها من ذات المصادر البيئية والطبيعية والثقافية. ومفهوم الاستدامة لاتصاله بالبيئة والثقافة وجد رواجاً لدى مثقفى
العالم الثالث . وجرى تبني المفهوم رسمياً في قمة الأرض بالبرازيل في العام 1992م . ولأن قمة الأرض كان محورها الحفاظ على البيئة والطبيعة فقد كان قميناً بها أن تتبنى مفهوماً للتنمية متصالحاً مع مفاهيم احترام البيئة والطبيعة وعدم إهدارها. ومفهوم الاستدامة متصل بالمفهوم الحيوي Organic concept ذلك أن الانسان أدرك أن النظم الحيوية قادرة على التكيف مع متغيرات البيئة مع البقاء متنوعة ونامية ومنتجة ومستمرة مع مرور الأوقات. وبمحاكاة النظم الحيوية أدرك الانسان أن أفضل أسلوب للنماء والاستمرار هو محاكاة النظم الحيوية في ارتباطها المتفاعل مع البيئة . وهذا يعني ان حفظ النظم التي ينشئها البشر يمكن يستدعى القدرة الفائقة على التعامل المسئول مع معطيات المحل والوقت. ومهما كان المفهوم تأشيرياً فأنه يجمع بين الاحتياجات المادية والمعنوية للبشر ومعطيات البيئة والطبيعة. ولئن كان ليس من السهل تحديد المفهوم في الجانب الاقتصادي واعتماد مقاييس للاستدامة في نطاق الاقتصاد فإن الأمر يصبح أشد عسراً عندما ينتقل مفهوم الاستدامة أو القابلية للاستمرار إلى نطاق التنمية الاجتماعية والسياسية. ذلك أن التعامل مع البشر لا ينحصر على الناحية الحيوية العضوية وأنما يتعداه إلى نواحٍ نفسية وعقلية أشد تعقيداً . بيد أن ذلك لن يقدح في صحة المفهوم على وجه الإجمال . فان النظم الاجتماعية والسياسية لا تُمنح الاستمرارية إلا بمقدار تلاؤمها مع معطيات الوقت والمحل. والتنمية السياسية لكي تضمن القيام على أسس راسخة لابد لها من مراعاة خصوصية المكان وخصوصية اللحظة التاريخية . وأثار تلك الخصوصيات على معتقدات الانسان وأفكاره وميوله ومزاجه العام.
الديمقراطية القابلة للإستمرار:
والنظم الديمقراطية هي الأخرى نظم ذات طبيعة إجتماعية وثقافية. ومما لاشك فيه أنه لا يوجد شكل واحد للنظام الديمقراطي إلا على وجه التقريب. فللأمم عبر المسافة والزمان تجارب متعددة ونظم متعددة يمكن أن تُحظى باضفاء صفة الديمقراطية عليها. وقد يحتاج البعض إلى إضافة الديمقراطية إلى لفظة أخرى لاعطائها معنىٍ أكثر تحديداً . مثل الحديث عن الديمقراطية الليبرالية أو "الديمقراطية الاجتماعية" . وقد أختلفت تجارب البشر الديمقراطية عبر الزمان. ولا يستطيع أحد بغير الاعتساف ان يسوى بين ديمقراطية أثينا وديمقراطية كميونة باريس وديمقراطية وستمنستر
. والمعاني
المشتركة شديدة العموم وهي نوع من اشتراك الشعب في حكم نفسه مباشرة أو عبر وكلاء
أو وسطاء . ومراعاة مبدأ الأغلبية في ذلك عند الافتقار إلى الإجماع مع ضمان حرية
الاختيار عبر نظام للاقتراع متوافق عليه. ولكن هذه المفاهيم تضيق وتتسع وتحوي
مباديء أخرى قد يختلف عليها الناس . فالديمقراطية الاجتماعية تخالف الديمقراطية
الليبرالية لتركيز الأولى على أولوية حق الجماعة والثانية على أولوية حق الأفراد.
وهنالك سجالات عديدة ذات طابع فكري وفلسفي يدور رحاها في ساحة مصطلح الديمقراطية .
تتأثر إلى مدىٍ بعيد بالايدولوجيات المختلفة. ولكن كل هذه السجالات تدور على مستوى
النظر . وقلما يتركز الانتباه على ما يعتقده الناس العاديون . وما يرونه ناجحاً
وناجعاً وما يحسبونه صالحاً . وما يرونه مفسداً فاسداً وغير ملائم . وقد يعيدنا
هذا الى خواتيم المقال السابق لدى الحديث عن الثقافة والمرجعية لنؤكد على القول أن
تجاهل الواقع الشعبي والثقافة الشعبية والإرادة الشعبية هو أس الداء في عدم قدرة
النظم الديمقراطية للإستمرار في الساحة السياسية السودانية. ذلك أن جميع
الإيدولوجيات الليبرالية واليسارية والمذهبيات الإسلامية تجاهلت مرجعية الشعب وحقه
في الاختيار وقوله الفصل في القرار. وحجة الجميع أنهم أعلم من الناس العاديين
باحوالهم واحتياجاتهم . وأنهم هم العين البصيرة التي ترى الفرق بين الحق والباطل
والصالح والطالح والمناسب وغير المناسب . وكلهم خطاءون وكلهم مخطئون وقليل منهم
التوابون الآوابون.
نواصل،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق