السياسة
كما يقول البعض هي فن الممكن . ولكن الممكن ليس مقاماً واحداً بل هو درجات
تترقي إلي أقصي حدود الإمكان. وقد ختمنا مقالنا السابق بالقول انه ليس ثمة عدو
للتقدم مثل أن يقال "ليس في الإمكان أبدع مما كان" فأين هذا من النفس
التواقة التي ما بلغت مقاماً إلا طمحت إلي مقام أعلي . وأين ذلك من مأثور
الحكمة"لو تعلقت همة أحدكم بالثريا لنالها" . وليس أسوأ في أهل السياسة ممن
يكثر الفرح بما أتى ويحب أن يمُدح بغير مما فعل أو أن يمدح بأكثر مما فعل. لأن ذلك
علامة علي توطن النرجسية في أعماق نفسه الأمارة بالسؤ. وفي زمان مثل زماننا صارت تزكية
الأنفس عبر فنون الدعاية صنوا للسياسة تعظم البلوى من غلبة عاطفة حب حظوظ الأنفس وتتحول
السياسة من مهمة الكدح في جلب المنافع للناس ودرء المفاسد والمساوىء عنهم إلي
مباراة في تعظيم المكاسب المعنوية والمادية لأهلها.
الحكم هو الإحكام:-
الحكم
هو وضع كل شئ موضعه المناسب . وهو معني مطابق لمعني الحكمة والإحكام. والحكم أصالة
لله لان الله وحده هو الحاكم والحكيم . وهو الذي الذي خلق كل شئ ويعرف مقدار كل شئ
وموضع كل شئ بما يناسبه . والقرآن
الكريم يستخدم مفردة حكم ليصف بها حالة
الاتصاف بالحكمة وحسن التقدير "واتيانه الحكم صبياً"مريم 12 كما يصف به
التمكين بالسلطان للحكم بين الناس "يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ" ص آية 26 وسبيل الله هو الحكمة المطلقة
وهو إعطاء كل ذي حق حقه. "وشددنا ملكة واتيناه الحكمة وفصل الخطاب" ص12
. فالتمكين الذي أوتي له كان بسبب اكسابه القدرة علي وضع كل شئ موضعه الصحيح . وقول
كل قول في مكانه وزمانه. ويدرك كل الناس ان ايما عمل او حرفه تقتضي الدقة والإحكام
فلابد لصاحبها من قدرة فائقة علي حمل النفس علي الهدؤ والثبات وضبط اضطراب النفس
وتلجلج الأعضاء. وليس ثمة ما يقتضى ذلك مثل التصرف بالسلطان للفصل بين الناس . ولجلب
المنافع ودرء المفاسد والمساوىء. وطغيان المشاعر والعواطف هو علامة الزيغ عن صراط القسطاس
المبين. فالقاضى حين يقضي لا يجوز له أن يقضي وهو غاضب . ولا مائلاً بقلبه لتصديق
طرف من المتنازعين دون الأخر . والحاكم حين يحكم لا ينبغي ان يجرمه الغضب والشنآن
والبغض أن يعطي صاحب الحق حقه ولو كان خصماً معانداً. (ولا يجرمنكم شنآن قوم أن
تعدلوا، أعدلوا هو اقرب للتقوى" 8 المائدة . ولا يأتى العدل إلا من تلقاء اعتدال
الطبع وحسن السجية . وعدم إتباع أهواء النفس فيما تحب وتكره. ولئن كان المرجو من
الحاكم والمطلوب منه هو القيام لله والتجرد للحق وعدم اتباع الهوي فإن اهل
السياسة ممن يوالي أو يعارض مفروض عليهم ايضاً
أن يتقوا الله وان يقولوا قولاً سديداً عادلاً "وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا
قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون" 52 الإنعام فلا يشهدوا
بغير الحق لصالح قريب او حسيب أو صاحب مودة . ولا يشهدوا بالباطل علي من يخاصمون
يدفعهم لذلك السخط والغضب والشنآن. وأسباب احتشاد ساحة السياسة بالمغاضبات والمضاغطات
وفقرها إلي المقاربات والموافقات وغلبة الموجدة علي الفكرة هو طغيان التفكير
العاطفي علي التفكير الايجابي البناء.
عندما يطغى اللون الأحمر
لا
شك أن للعاطفة دور مهم في تطور وتبلور الفكرة. ذلك إن الانتباه الضروري لعمل
الحواس ولشحذ التذكر والتدبر لا يعمل إلا بواسطة مثير عاطفي يتزايد أثره وتتغاير
شكوله بحسب الحال . بيد أن هذه العاطفة
المهمة لعمليات التفكير مثلها مثل منقيات الماء إذا وضعت بمقدار صفا الماء وراق .
واذا أُسرف في وضعها أصبح الماء سماً زاعفاً فتاكاً . وصار الماء الذي هو أصل الحياة
سبباً لافناء الحياة . ونعود إلي قبعة دي بونو الحمراء أي ما رمز به للتفكير العاطفي
. ودي بونو عندما يتحدث عن العاطفة في التفكير يقصد لها الاحاسيس والمشاعر والحدس.
ونحن كما يقول لسنا مطالبون باستضاح او تفسير لعواطفنا . فهى شعور داخلي عميق مبني
علي الخبرات والتجارب والتحيزات المختزنة. وكل شعور يمتد بين الرضا والسخط وما
بينهما . ولقد صدق الامام الشافعي إذ يقول
وعين
الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن
عين السخط تبدي المساويا
والآفة الكبري في كل عملية تفكير ان تطغى مشاعر
الرضا او مشاعر السخط على عملية التفكير . ولأنه حينئذ يتملك الشخص شعور قوى بأنه
ليس في حاجه الى مواصلة التفكير . لأنه قد وجد ما يريده أو أنه لا يريد ما وجده.
هذه الظاهرة يسميها دي بونو ظاهرة العجرفة . ويقول أن خطأ العجرفة هو الخطأ
المؤكد. وهو خطأ لا يكون في ذات الفكرة بل في التوقف عن التفكير وعدم السماح
للفكرة بالتطور. فقد تكون المعلومات التي تقود الي الصواب حاضرة . ولكن الخطأ يحدث
عند تتحكم العاطفة المنعجرفة والتى هى الرضا عن المتوفر عن الاشياء او عدم الرضا
دون الارتقاء والتطور المتتالى للفكرة . لأن العجرفة تقول بلسان الحال أنه لا حاجه
لمزيد . وأن أيما تطور لن يحسن نوعية الفكرة او نوعية النتائج المترتبة علي اعتناقها
. وكما منع طغيان العاطفة تطور الفكرة يمنع ايضا وصول الافكار الأخرى . ليس لأنها غير مناسبة بل لان الفكرة المتلبسة
بالرضا قد تبدو مناسبة أكثر . والقرآن الكريم عبر بوضوح عن هذا المعني في سورة
النمل " وَجَحَدُوا بِهَا
وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا " فهم
أدركوا صحة الفكرة الي درجة التيقن بصوابها . ولكنهم ردتهم عجرفتهم وغمطهم للحق عن
الأخذ بها . ذلك أنهم أقنعوا أنفسهم بأن
ما هم عليه أجلب لحظوظ أنفسهم واحفظ لمصالحهم
ولو كان ذلك افتئاتاً علي حقوق الآخرين واستعلاء وعجرفة. ولو أنهم أعطوا أنفسهم
فرصة للاهتمام بالبدائل والافكار الأخرى لربما فاقت فوائدها فوائد الوضع الراهن
الذين يرضون عنه ويرفضون التزحزح عن موضعه. أن ما يسميه دي بونو الخطأ المؤكد في
التفكير إنما ينجم من التمسك بالتقليدية . والتمترس باسلوب نعم او لا المطلقتين فإما
الرفض واما القبول . وفكرة معسكر الخير الخالص ومعسكر الشر الخالص. ان التعجل في
الحكم الذي يسببه طغيان العاطفة هو الذي لا يسمح للشخص بالبحث عن الصورة الكاملة .
والمضى قدماً لاستكمال عملية التفكير للتوصل للصواب. وكما يضرب دي بونو مثلاً فإن
الشخص المتحيز ضد الشرطة أو الحكومة قد يستخدم صورة شرطي يضرب رجلاً بهراوة دليلاً
علي وحشية الشرطة كما يبدو في الصورة. لكنه
لا يمعن النظر فى الصورة ليرى أن الرجل الملقى علي الأرض يحمل سكيناً في يده كان
قد هاجم بها الشرطي قبل برهة . وقد لا يكون ذلك غير واضح في الصورة ولكن التحيز
العاطفي يحول دون رؤية كاملة للصورة لأن المتعجرف المتحيز قد وجد ضالته التي تثبت
وحشية الشرطة والحكومة من ورائها. ويعرض دي بونو عدة خيارات لموقف الشخص الذي قد
يرى جزءاً من المعطيات فلا تكتمل لديه الصورة فيقول.
"حتي لو ساورك الشك بأن هنالك صورة كاملة
للموقف في مكان ما فقد لا تستطيع العثور عليها فوراً وتبقي امامك خيارات"
1.
رفض النتيجة لانها
مبنيه علي جزء من الصورة.
2.
رفض النتيجة لانك لا
ترضى عنها وتبرر ذلك بانها تعكس جزءاً من الحقيقة.
3.
قبول النتيجة مع
التحفظ عليها والاستمرار في البحث عن التكملة.
4.
قبول النتيجة لانك
سعيد بها وتقرر أن هنالك ما يكفى للحكم.
5.
لانك لن تجد باقي
الصورة تقرر ان الصورة الكاملة غير موجودة ويجب عدم الحكم حتي الحصول عليها.
ولن يتردد أحد فى التقرير أن الأمر السائد في
ساحتنا السياسية والإعلامية وساحاتنا العامة هو الموقف المتعجل بالقبول والرفض . وذلك
بسبب موقف العجرفة الفكرية الذي يمليه الاصرار علي إصدار الإحكام العاطفية
الاعتباطية علي كل شئ وكل حدث.
نواصـــــــــــــــــــــــــــــــــل،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق