الثلاثاء، 31 مايو 2011

نحو كونفدرالية وادي النيل 2-2



        تحدثنا في المقال الأول أن ظروفاً واوضاعاً عديدة تآزرت في الأونة الأخيرة لتتيح سانحة تاريخية للتقدم خطوة كبري باتجاه تعزيز العلاقات بين البلدين بصورة غير مسبوقة. وأن هذه الفرصة ينبغي أن تغتنم للتحرك السريع باتجاه انشاء كونفدرالية وادي النيل التى تهيئ الظروف للارتقاء من عتبة الحريات الاربع الي تكامل سياسي واقتصادي وثقافي حقيقي بين البلدين .  وقد قدمنا من بين يدي ذلك شرحا للحاجة الي انشاء كونفدرالية و تعريفاً للنظام الكونفدرالي وتوصيفاً للفروق بينه وبين النظام الفدرالي . ووعدنا أن نجيب في هذا المقال عن الدواعي والأسباب لتأسيس هذه الكونفدرالية المقترحة . وكيف يمكن ان تؤسس القواعد الراسخة للتكامل الاقتصادي والسياسي بين أثنين من أكبر التجمعات السكانية في العالم العربي وتتكونان من أكثر من ثلث سكان المجموعة العربية باكملها.
الكونفدرالية – البداية المناسبة:-
تعتبر الكونفدرالية التي ندعو اليها بداية مناسبة لمشوار الوحدة وحدة وادي النيل ثم الوحدة العربية الأشمل من بعد ذلك. وهي مناسبة لأنها ممكنة وعملية . لا تسعي لإلغاء الفروق ولا تجاهل المصاعب والمعوقات. ثم أن بعض الدواعي اليها عاجلة لمواجهة تحديات جمة تواجهه السودان ومصر فى مرحلة انتقال مهمة يمر بها البلدان في آن واحد. فعلي مستوي الأمن القومي يواجه السودان عدة تحديات بعد انفصال جنوب السودان الذي ينفصل تحت سلطة حكومة تتحدث كثيراً عن أهمية التواصل والتعاون بين شقي البلد الذي كان واحداً ولكنها تعمل مع دوائر اخري عديدة لاضعاف الشمال . وتهديد أمنه الداخلي توطئة لتدخل تلك الجهات في شأنه الداخلي بما يحقق اجندتها ويخدم قضاياها. ولئن كان السودان قد نجح في ترميم وتحسين علاقاته الاقليمية شرقاً وغرباً وساعدت الثورات العربية في مصر وشمال افريقيا علي ابداله جواراً خيراً من جواره السابق فان خطر التدخل الخارجي من خلال وسائل وذرائع عديدة لا يزال خطراً يتوجب التحسب له. واتصال الأمن الداخلي والقومي السوداني بالأمن القومي المصري لا يحتاج الي سوق الأدلة والبراهين عليه. وأهم تلك الجهات التي تستهدف الأمن القومي السوداني هي اسرائيل . وهي التي تألب علي السودان من خلال نفوذها علي بعض دوائر النفوذ الدولية هذه الحملات المتتالية. وأهم أهداف اسرائيل من اضعاف السودان هو تجريد البلدين السودان ومصر من عناصر القوة المتمثلة في موارد السودان الغنية و أتيان الامن المصري مما تظنه اسرائيل كعب أخيل. ثم أن منع استقرار أي نظام حكم ذي توجهات وطنية في السودان وابداله بأنظمة عميلة او ضعيفة يضع مصر تحت ابتزاز دائم في أمنها القومي وأمنها المائي الذي هو عمود وجودها الفقري، واستهداف السودان من قبل اسرائيل ومن تحرضهم علي السودان يهدف الي اضعاف موقف السودان القومي المؤازر للقضية الفلسطينية . وهو الموقف الذي كان متناقضاً مع موقف النظام المصري السابق ولكنه يكاد يكون متطابقاً الآن مع موقف النظام الثوري الجديد في مصر 25 يناير.
ولئن كان الأمن القومي والأمن المائي مرتكزان مهمان لتأسيس رؤية استراتيجية أمنية موحدة في البلدين فإن الأمن الغذائي لا يقل اهمية عنهما . ولا شك ان تكثيف استثمار ارض السودان واستصلاحها وتحسين غلتها وانتاجها بالاستفادة من استثمارات مصرية وخبرة مصرية سيكون عائده ليس كافياَ لحل مشكلة الغذاء في وادي النيل بل سيفيض انتاجه ليسهم في حل معضلات الغذاء في الجوارين العربي والافريقي. ولا يحتاج احد الي التأمل للتوصل الي نتيجة أن انكماش المساحة القابلة للزراعة في مصر واستهلاكها عبر القرون والصفة الصحراوية للارض المصرية يجعل التكامل  خيار أقرب للبداهة منه للخيار السياسي.  فالسودان رغم انفصال جنوب السودان الذي سحب نحو 28 % من المساحة الكلية للبلد الا أن أثر ذلك علي تقليص الاراضي القابلة للاستصلاح الزراعي أقل من هذه النسبة بكثير . وذلك لأن طبيعة الجنوب الغابية لم تسمح بوجود اراضي زراعية واسعة الا في شمال الاقصي المتاخم للشمال.
التكامل السياسي:-
        قيام كونفدرالية بين بلدين أو أكثر يعني فيما يعنى بناء رؤية موحدة للعلاقات الخارجية للبلدين وتأسيس مؤسسة أو مؤسسات مشتركة لصياغة تلك الرؤية . ولا شك أن توحيد الرؤية السياسية والتحرك الدبلوماسي للبلدين في الساحتين الأقليمية والدولية سيعطي دفعاً قوياً للدور الذي يمكن ان تضطلع به الكونفدرالية الناشئة في الجوار الاقليمي والساحة الدولية. ولقد ظلت مصر تضطلع بدور مهم في الساحتين الاقليمية والدولية ولكن هذا الدور ظل في تراجع مستمر بسبب سياسة التبعية التى اتبعها النظام المصري علي عهد حسني مبارك بل وبدءاً من عهد السادات . والتي جعلت الرؤية الاستراتيجية للسياسة الخارجية المصرية لا تنفك عن الحساسيات الاسرائلية من اتجاهات الممانعة والمقاومة واتجاهات الصحوة الاسلامية والقومية بصورة عامة في العالم العربي. كذلك تراجع الدور المصري القائد للعالم العربي بسبب الانقسام بين دول ما يسمي بالاعتدال ودول الممانعة . وتراجع القوة الناعمة المصرية التي اضطلعت في السابق بدور مهم في توحيد الموقف العربي (علي اختلاف نظمه) ازاء التحديات التي واجهت الأمة العربية وبخاصة علي الساحة الفلسطينية. السودان من الناحية الأخري له دور مهم يمكن ان يضطلع به  ازاء الدول الافريقية في جواره الشرقي والغربي وفي اطار دول حوض النيل وفي الحزام السوداني الممتد من البحر الاحمر حتي سواحل غامبيا والسنغال . وله دور يمكن تنشيطه في اطار التحرك العربي في افريقيا جنوب الصحراء. كذلك فان فرص الاستثمار الواسعة في السودان سوف تعزز قدرة السودان في التحكم بشأنه والمساهمة في التأثير علي جواره الحيوي . ومصر في حاجة ماسة لهذا التماس السوداني بافريقيا. وبالتحام السياستين الخارجية المصرية والسودانية يمكن الاستفادة من الدور السوداني الواصل بين افريقيا العربية شمالاً وافريقيا جنوب الصحراء. وبقيام كونفدرالية وادي النيل سينشأ كيان سياسي سيكون هو الأكبر افريقياً بعوامل السكان والمساحة والموارد. وسيكون لذلك مردوده علي وزنه الدولي بل وأرجحيته لشغل مقعد دائم بمجلس الامن ممثلاً لافريقيا. فمصر كانت من ضمن المرشحين لذلك حتي قبل اكتساب هذه الوضعية الجديدة. ولربما يسأل البعض عن كيفية بناء علاقة خارجية موحدة مع مصر مع التزامها الذي لا ينفك مع اتفاقية السلام مع اسرائيل ولا يخفى أن اتفاق مصر مع اسرائيل اتفاق سابق لهذا الترتيب . وهو لا يلُزم السودان فالسودان وفي ظل الكونفدرالية سيظل دولة ذات سيادة كما أن السلام مع اسرائيل ظل مثل العئب الثقيل علي شعب مصر ولن يشكل مشكلة لتوحيد السياسة الخارجية بين البلدين لأن السلام الذي ظل بارداً مع اسرائيل طيلة ما يربو علي ثلاثين عاماً مرشحٌ للمزيد من البرودة بل والدخول في حقبة جليدية في مصر ما بعد 25 يناير.
ديمقراطية وادي النيل
        والتكامل السياسي لا يشمل العلاقات الخارجية فحسب بل والعلاقات السياسية الداخلية ايضا . مما يعني السعي الي بناء نظامين سياسين متشابهين في البلدين. وقد دخل ذلك حيز الامكان بالثورة المصرية . وتهيؤ كل من السودان ومصر لوضع دستور جديد لحقبة مهمة قادمة . ولذلك فالتنسيق في اختيار الانظمة الدستورية والعمل علي بناء أنظمة قابلة للتكامل سياسياً وقانونياً يجب أن يكون موضع النظر والاهتمام المتزايد. فالسودان المتطلع بعد تجارب عديدة لترسيخ الديمقراطية الحقة في أرضه . ومصر العطشى للديمقراطية و التى حُرمت منها عشرات السنين في حاجه الي بناء نظام ديمقراطي شعبي . يقوم علي تمكين الشعب من تولي السلطة وتحصين الدولة بقوة الشعب من أن تقع فريسه لابتزاز الدول المستكبرة التي لا تسعي الا لتحقيق مصالحها ومصالح حليفتها اسرائيل. والديمقراطية الكبري التي سوف يعمل الطرفان علي احلالها فى الوادي العظيم ستكون باذن الله اكبر ديمقراطية أفريقية وعربية,  وتستطيع ان تكون الأسوة التي تتأسى بها الشعوب والأمم التي تلتمس طريقها نحو الديمقراطية وحكم الشعب. والطريق مفتوحة وسالكة لتوفيق النظم والقوانين بين البلدين لان البنية الثقافية واحدة والمشارب العقدية والفكرية واحدة . والرغبة في تأصيل الحياة لكي لا تنسلخ الأمة العربية المسلمة من هويتها راسخة في طرفي الوادي شماله وجنوبه.
التكامل الاقتصادي
        والكونفدرالية هي الجسم السياسي لكومنولث  اقتصادي يجب ان تتسارع الخطي نحوه لتوسيع الحريات الأربع ثم تطويرها الي سوق موحد للسلع والخدمات.  يتحرك من الاتحاد الجمركي الي السوق الواحدة للاستثمار والعمل ثم الي الاتحاد النقدي.  ويمكن ان يقطع البلدان ذات المسافة التى قطعها الاتحاد الأوربي في عشرات السنوات الي نصفها او ثلثها او أدني من ذلك . فكل الأسباب والعوامل تدفع باتجاه التكامل المتسارع بين البلدين. ومن أهم هذه العوامل المقدرة علي الاستفادة من التجارب الناجحه والفاشلة في تأسيس الكيانات السياسية والاقتصادية. ولربما يحسن بنا مراجعة المحاولات التي وئدت في مهدها .  و أولها الاتحاد المصري السوري علي عهد عبد الناصر الذي انشأ الجمهورية العربية المتحدة.  والتي ربما كانت اجرأ التجارب لمحاولة بناء نظام كونفدرالي بين بلدين عربيين . ولكن التجربة افسدتها شمولية نظام عبد الناصر والضغوط والمؤامرات الدولية من ناحية اخري .  والاتحاد الذي جمع سوريا ومصر يعتبر فدرالية اكثر منه كونفدرالية .  لأنه كان دولة ذات سيادة واحدة وعٌوملت سوريا وكأنها ولاية شمالية تابعة للحكومة فى القاهرة. ثم جاءت تجربة اتحاد الجمهوريات العربية والتي اُجري استفتاء متزامن بشأنها في العام 1972م في كل من مصر ليبيا وسوريا . ولكن بعد اجازة الفكرة اختلفت الدول الثلاث حول شروط تكوين الاتحاد . وظل الاتحاد حبراً علي ورق حتي ألغي في العام 1977م. وكانت فكرة ميثاق طرابلس الذي لم ير النور والذي هدف لجمع السودان ومصر وليبيا (1970-1971) سابقة لتجربة اتحاد الجمهوريات العربية . وجاءت من بعد ذلك اقترحات عديدة عاش معها الناس زمناً ولكنها لم تتبلور الي مشروع محدد المعالم. ومن تلك المقترحات الجمهورية العربية الاسلامية التي وافق عليها الرئيس بورقيبة ومعمر القذافي لتوحيد تونس وليبيا . ولكن كغيرها من الافكار والمشروعات لم تر النور بل ان فشل هذه المشروعات كان يؤدي في الغالب الي نكسه في العلاقات بين الدول التي تندفع لأول وهلة في مثل هذه المشروعات. وكما كان للعرب مشروعاتهم الفاشلة كان لافريقيا نصيبها من ذلك.  ومن اشهر تلك المحاولات الاتحاد وحدة السنغال وغامبيبا فيما عرف بكونفدرالية سانغامبيبيا . وهي تجربة جديرة بالدراسة لأنها كانت مشروع كونفدرالية فضفاضة بين غاميبيا التي هي دولة غرب افريقية محاطه من جميع الجهات بدولة السنغال. كما أن التداخل العرقي بين البلدين مثل التداخل الجغرافي وأمتدت التجربة سنوات من العام 1982-1989 . وقد غلبت الاعتبارات الأمنية علي المعاهدة الكونفدرالية بين البلدين . بيد أن المعاهدة عملت علي تعزيز التكامل الاقتصادي الطبيعي بين البلدين ولكن الاتحاد فشل بسبب الخلافات السياسية والخلاف حول الاتحاد الجمركي بين البلدين.
الكونفدرالية والتشاور الشعبي
        بدراسة التجارب والمشروعات التي لم يكتب لها النجاح فان عدم التجانس السياسي وغياب الاحساس المتكافئ بفائدة الاتحاد هو الذي سبب الفشل النهائي لهذه المشروعات. ولكننا نري أن التحرك الواثق نحو تأسيس كونفدرالية وادي النيل يمكن يجعل من الفكرة واحدة من المشروعات الناجحة التي تتحرك بترتيب محسوب . وبمساندة شعبية كبيرة من خلال التحرك نحو الفكرة بطرحها اولاً  للتشاور الشعبي في البلدين . وطرح فوائدها المتعددة في عواقبها السياسية والامنية والاقتصادية . ثم التحرك من عتبة الحريات الأربع الي المزيد من ربط اقتصادات البلدين من خلال تشجيع الاستثمار المتبادل.  وقيام مشروعات مشتركة بين القطاع الخاص في البلدين.  وتشجيع ذلك من خلال الازالة التامة للحواجز الجمركية والضريبية. وكذلك العودة الي برتوكول التعاون الأمنى بين البلدين توطئة للابعاد الأمنية في معاهدة الكونفدرالية الجديدة.
من ناحية اخري فان احياء برلمان وادي النيل وتشجيع قيام الهيئات الاعلامية المشتركة واحياء لجان التنسيق التشريعي بين البلدين كلها وسائل تمثل التوطئة لما سوف يرد لاحقاً في معاهدة الاتحاد. ويشمل التنسيق التشريعي تنظيم الحياة السياسية والدستورية لأن تشابه النظم وتكاملها واحدة من ضمانات استمرارية الاتحاد. و لأن التشابه السياسي تعزيزٌ للائتلاف.  فالقاعدة المعروفة هي أن ما تشابه ائتلف وما تناكر اختلف. واذا كانت دول الخليح تبسط يدها للاردن والمغرب علي قاعدة تشابه الأوضاع الدستورية والسياسية فانالفرصة سانحة الآن للسودان ومصر لتأسيس دستوريهما علي أسس تجعل من التشاكل الدستوري والتقارب السياسي قاعدة راسخة لاتحاد يرجي ان يدوم لقرون عدداً . ولكى يكون ذلك أول اتحاد يدوم مثل هذا الزمان في تاريخ البلدين الذين وان لم تكن العلاقة بينهما ازلية كما يكرر بعض الناس الا أنها من القدم والعراقة بمكان يجعل منهما مهداً لحضارة هي أقدم حضارات الانسانية جمعاء.


إنتهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي،،،،،

الثلاثاء، 17 مايو 2011

السودان ومصر نحو كونفدرالية وادى النيل 1-2


        تلوح سانحة تاريخية نادرة لاحراز تطور استثنائي في العلاقات السودانية المصرية والانتقال بها الي أفق جديد يتجاوز الأقوال الي الأفعال والكلمات الي التحركات. وأول ذلك هو النظر الموضوعي للفرص الماثلة والمعوقات المنتصبة أمام البلدين. فقد بدأت دول مجلس التعاون الخليجي النظر الاستكشافي لتطوير المجلس عملياً وتوسيعه جغرافياً. وبدأت تلوح فرص لاحياء الأتحاد المغاربي. فالثورات التي اجتاحت شمال افريقيا قد جعلت شعوبها أكثر تقارباً وأقدر علي تجاوز الحواجز السياسية المصطنعة. ويجب أن لا يكون وادي النيل هو الذي يأتي أخيراً لاستكشاف فرص التكامل الحقيقي والمقاربة العملية نحو الحلم الاتحادي الذي كان من أهم الأجندة الوطنية في كلا البلدين السودان ومصر. وقد جاءت الزيارات الرسمية والشعبية المتبادلة بين السودان ومصر مؤشراً علي بزوغ الوعي بحلول فرصة تاريخية لتعزيز العلاقات وتقوية الصلات واشراع الأبواب واسعة لحراك واسع للبشر والسلع صعوداً وهبوطاً عبر امتداد الوادي العظيم.
العلاقات الأزلية أم العلاقات العملية:
ظلت عبارة العلاقات الأزلية تتكرر شمالاً وجنوباً لتوصيف العلاقة بين البلدين. وهى عبارة بما يكتنفها من معني خاطئ يفترض وجوداً أزلياً للبلدين لتكون العلاقات بينهما ازلية فهى تجئ أيضاً من باب القاء الحديث علي عواهنه .  مما يحمل اشارة علي حالة خطابية عاطفية لا نظر علمي لحقيقة تاريخية. ولكن حتي هذه المسالة العاطفية لا تخلو من مبالغة في التعبير.  فالعلاقات التاريخية لم تكن دائماً في أفضل أحوالها . ولا هي في اللحظة الراهنة تخلو من شوائب كثيرة يتوجب علينا الاعتراف بها والتعامل معها برشد المدركين أن العلاقات لاتنشأ وتتواصل بين الأشخاص والجماعات والهيئات خالصة من كل ما يشوب ويعكر . وقديماً قال الحكيم النابغة الذيباني.
وليس بمستبقٍ اخاً لا تلمه
                   علي شعثٍ أي الرجال المهذب
فليس هنالك علاقة حقيقية بين الأفراد والشعوب  ولو كانوا أولو قربى الا وبها من الشعث المشار اليه.  ولكنه النقص الذي يدعو للاجتهاد في توثيق العري وتمتين الاواصر. ويدرك الباحثون في الانثروبولوجيا والاثنولوجيا أنه ما من قوم اوجماعة الا ويحمل بعضهم لبعضهم الآخر توجسات وتحيزات . وربما تورث الألوان والأشكال التحامل والتمييز اللوني والعنصري. ولكن الشعوب الراشدة هي تلك تتجاوز التحيزات والتوجسات الي التعارف الحق والتعايش الانساني النبيل. ومن الشوائب التي تشوب العلاقات المصرية السودانية في أبعادها الاجتماعية والنفسية والثقافية توجسات وتحيزات قد يبددها التواصل المباشر والتعارف المفضي الي معرفة أفضل ما في الشعبين من خلائق وشمائل  تنبثق من تجربة وجودية متشابهة . ومن ثقافة اسلامية عربية هي المشرب الذي يستقي منه أهل الوادي شمالاً وجنوبا كما يستقون من نهر النيل . و كما يتفاعلون مع محيط ثقافي وسياسي افريقي يتصل عبر النيل وعبر امتداد القارة من ساحلها الشمالي الي ساحلها الجنوبي. وقد أثبت الدراسات والتجارب العلمية قوة اتصال الشعوب العربية ببعضها البعض ومتانة أواصرها مع افريقيا جنوب الصحراء . ولكن المسافة النفسية والاجتماعية بين السودان ومصر أخص من ذلك وأقصر بكثير . كذلك فان الاتصال السكاني والحضاري عبر الحقب وتكامل الموارد الطبيعية والبشرية هو الذي جعل شعار اتحاد أهل الوادي أمراً أقرب الي البداهة منه الي الفكرة السياسية. ولئن ظلت طبيعة العلاقة مع السودان واحدة من أهم أجندة الأحزاب والقوي السياسية في مصر فأن السياسة فى السودان نشأت علي فكرة وحدة وادى النيل تكون عاجلاً او آجلاً. فدعاة الاستقلال لم يكونوا مناهضين لفكرة الوحدة بل كانت دعواهم أن الأولوية تكون للاستقلال ثم يقرر الشعب السوانى من بعد التكامل او الوحدة مع مصر. بينما كان دعاة الاتحاد يتحدثون عن وحدة تكون باعلان الانضمام الي مصر . ثم كان ما كان مما يعلمه القاصي والداني وما يكون تفصيله من الاسهاب الزائد عن الحاجة.
خصوصية اللحظة الراهنة
          ولربما يتساءل القارئ لماذا تمثل هذه اللحظة فرصة تاريخية لانجازٍ غير مسبوق في قضية الاتحاد السوداني – المصري . والاجابة أن خصوصية اللحظة سببها ذوبان جدران الثلج الذي زكته برودة العلاقات السياسية بين البلدين علي مدار عقود طويله . وتوجس الانظمة الاستبدادية في مصر من الحالة السياسية في السودان . وتخوف النخبة السياسية في السودان من فقدان ميزات الحرية النسبية المتاحة فيه بالارتباط بنظام شمولي مصري . وتخوفات النخبة  الشمالية ظلت تغذيها باستمرار توجسات النخبة الجنوبية وخوفها من أن تغرق في محيط سكاني عربي يزيد حضورها السياسي تهميشاً علي ما يستشعره من تهميش. وقد جرى استخدام هذا التوجس الجنوبي من قبل أجندات أجنبية لتفتيت السودان الشمالي ومنع تعميق اتصاله بمحيطه العربي عامة والحوؤل دون تحول الفكرة السياسية الوحدوية الي مشروع عمل . ولو ببداية متواضعة مثل محاولات التكامل او حتي اتاحة الحريات الأربع بين البلدين.
عتبة الحريات الأربع:-
          لم يعد خافياً الآن أن السودان كان أكثر تحمساً لإنزال اتفاقية الحريات الأربع الي واقع العلاقات بين البلدين، بينما ظلت الحكومة المصرية تتحفظ علي انفاذ جوانب مهمة من هذه الاتفاقية . بخاصة فيما يتعلق بتنقل المواطنين وحرية العمل في البلدين . ولكننا الآن وبفضل عزيمة حكومة الثورة في مصر نمضي باتجاه التطبيق الكامل للحريات الاربع في البلدين . مما يعني تدفق السكان و السلع والبضائع وقوة العمل والاستثمار بين السودان ومصر.  بيد ان اتفاقية الحريات الأربع يجب أن ينظر اليها بوصفها عتبة مشروع تكامل شامل متسارع.  ومشروع بناء كونفدرالي سياسي يفتح صفحة جديدة في التاريخ السياسي بوادي النيل . ويدفع بأنموذج جديد للوحدة المتنامية بين شعوب الامة العربية . وتدخل به الامة العربية مرحلة المربع الذهبي المكون من عدد من التجمعات ممثلة في مجلس التعاون الخليجي وأتحاد وادي النيل والأتحاد المغاربي وربما في وقت قريب أتحاد الهلال الخصيب الذي يصل العراق بالشام الكبير. وقد يبدو هذا الكلام أقرب الي التمنيات منه الي التوقعات.  ولكننا نري وبخاصة بفعل التحولات الكبري التي تمور بها المنطقة العربية أن المسافة بين التمني والتوقع ما عادت شاسعة كما اعتادت ان تكون.
          ولئن كانت الحريات الأربع تعتبر الآن واقعاً ماثلاً بدأت ثماره تقترب الي أيادي من يجنيها فان التوقف لبدء مرحلة جديدة يجب ان يدخل دائرة الممنوعات. يجب ان نمضي مباشرة وحثيثاً لاعداد مشروعات حقيقية للأتحاد الجمركي والسوق الواحدة تجارة واستثماراً وعمالة ثم الي الاتحاد النقدي. وفي ذات الوقت يجب ان تبدأ مراحل التداول العام ثم التشاور الشعبي نحو بناء كونفدرالية وادي النيل علي الوجه الذي يأخذ جميع التفاواتات والخصوصيات في الاعتبار. لأننا لا نريد مشروعاً يتقدم ليتراجع فان نكسة التراجع عن الوحدة لا تكون خطوة واحدة للوراء بل خطوتان او عدة خطوات.
ماهي الكونفدرالية
          جري تداول مصطلح الكونفدرالية كثيراً في السودان مؤخراً.  بسبب اثارة الحركة الشعبية مسألة تحول العلاقة بين شقي البلاد الي تعاهدية كونفدرالية بدلاً من الطرح الفيدرالي الذي مثله موقف حكومة السودان. وقلما استخدم المصطلح بصورة صحيحة أو فُهم بصورة سليمة. ومرجع ذلك أن الكونفدرالية مصطلح قليل الاستعمال في الواقع التاريخي الراهن.  وهو يستخدم استخداماً فيه تفاوت كبير لوصف أوضاع سياسية يطلق عليها ذات المصطلح ولكنها تتباعد في الأطر والعلاقات وطبيعة النظام السياسي. فبعض الدول التي تستخدم كلمة كونفدرالية لتسمية نظامها الدستوري هي في الواقع نظم فيدرالية مثل سويسرا وكندا . وان كانت بدأت من الناحية التاريخية كونفدرالية ولكنها انتهت في راهنها الي نظم فيدرالية. ولذلك لزم علينا لكي يتعرف القراء مقصودنا من الدعوة لاقامة كونفدرالية وادي النيل أن نوضح الفرق بين النظام الكونفدرالي والنظام الفيدرالي المعمول به في السودان.
والفرق الأساس هو أن الكونفدرالية نظام تعاهدي وليس نظاماً دستوريأ . بمعنى أن الذي ينظم العلاقة بين اطرافه هي معاهدة وليس دستوراً . وان كانت فكرة الدستور غير مستبعدة تماماً ولكن الدستور اذا أتفق عليه فانه يأتي تيعاً للمعاهدة المنشئة للاتحاد. ولأنه نظام تعاهدي فهو يقوم بين دول ذات سيادة وليس بين ولايات. والمعاهدة المنشئة للاتحاد الكونفدرالي تتضمن تنازل هذه الدول عن بعض سلطاتها لمؤسسات مشتركة وبخاصة في مجالات الدفاع الامن القومي والعلاقات الخارجية. وهذا لا يعني انتقال كل هذه السلطات للكونفدرالية بل تحول جزء من هذه السلطات حسب منطوق المعاهدة للمؤسسات المشتركة التي تنشئها المعاهدة. وقد تشتمل المعاهدة على مؤسسات اذت طابع اقتصادي اذا شملت انشاء اتحاد جمركي او اتحاد نقدي بين الأطراف . وفي الأغلب يكون للكونفدرالية رئاسة( تعاقبية علي الأغلب) ذات صلاحيات رمزية وأدبية. وهنالك مساحة تفاوت واسعة بين التجارب المختلفة في المدي الذي تذهب اليه الدول فى التنازل عن سلطاتها او انشاء مؤسسات مشتركة تمثل جميع الاطراف , ولذلك فان بعض الكونفدراليات فضفاضة وهي أشبه بالعضوية في منظمات تعاهدية "اي منظمة تنشئها اتفاقية".  وهنالك كونفدراليات أقرب الي النظام الفيدرالي بسبب كثرة الروابط والمؤسسات المشتركة والسلطات الكونفدرالية. أما النظام الفيدرالي فهو علي تنوعٍ بين فيدرالية موسعة فيها سلطات كثيرة للولايات تمُنح بموجب الدستور وبين فيدرالية مضيقة تحتاز فيها السلطة المركزية سلطات أكثر كما تملك صلاحيات التدخل في شوؤن الولايات في أحوال يصفها الدستور. والفيدرالية لا تكون الا في دولة واحده ذات سيادة علي ترابها الوطني.  بما يشمل السيادة علي الولايات المتحدة. ولا تمارس الولايات أية صلاحيات سيادية في الدفاع او الامن القومي او الشأن الخارجي او تملك حق التعاهد مع الدول الاخري . ولا تملك سلطات في المجالات ذات الطابع القومي مثل العملة والأقتصاد الكلي وشوؤن الهجرة . وكافة الامور التي يصعب ممارسة حق التصرف بشأنها داخل ولاية واحدة. واذا كان الشرح الآنف كافياً ووافياً في توضيح الفروق بين النظام الفيدرالي والكونفدرالي فقد استقر في الفهم أن دخول دولة في كونفدرالية مع دولة اخري لا يؤثر في نظامها الفيدرالي الداخلي. ولا يدعو بالضرورة للتشاكل في الأنظمة الدستورية الداخلية مثل الحال في السودان بنظامه الفيدرالي federal system ومصر بنظامها المتحدunitary system  . وفي الحلقة التالية من هذا المقال سنوضح لماذا ندعو لكونفدرالية سودانية مصرية؟ ماهي فائدتها في شوؤن الدفاع والامن القومي والشأن الخارجي والتكامل الاقتصادي بين البلدين ؟وسوف نبحث باذن الله فى التجارب الدولية في مجال الكونفدرالية والمحاولات التي حدثت في المجالين العربي والافريقي . ولماذا أخفقت تلك المحاولات ؟ وكيف يمكن أن تستدام هذه المعاهدة الكونفدرالية مع كل تلك التجارب الفاشلة.


نواصـــــــــــــــــــــــــــــــــــــل،،

الثلاثاء، 10 مايو 2011

الديموقراطية العودة الى معدلات السلام 2-2

        صارت الديمقراطية ترنيمة في كل فم ولم يبق حزب ولا كائن سياسي الا صار من خُطابِها ولكن هل هم علي استعداد للتخلق باخلاقها والتبدي بثيابها. لكي تكون الالفة والائتلاف معها هي الضمان للسكن والاستقرار والرفاه والعيش الرغيد. لقد تبدت لقوي السودان السياسية سانحة جديدة بعد ان بددوا من قبل فرصاً كثيرة أخري. وتلك الفرصة هي عودة البلاد الي سلام شامل يكتنفها باذن الله من جديد وان كان ثمنه انفصال وشيك لجزء من التراب الوطني. وعودة السلم تعني تراجع الأوضاع الاستثنائية وعودة الحياة المدنية الطبيعية. وقد ذكرنا آنفاً أن العلامة المائزة للمجتمع المدني الديمقراطي هي قوة المواطن وتمكينه من ان يصبح هو المرجعية التي تقاس بها الافكار والمواقف والاحزاب والمنظمات والتشريعات . فما رآه المواطنون حسناً يتوجب ان يكون هو المسار الذي ترتئيه القوي السياسية والحكومة وسائر اجهزة الدولة خطة ومسيرة ومقصداً..
لا تزايدوا علي الناس
المؤمن الحق بالديمقراطية لا يمكن له ان يزايد علي الارادة الشعبية المعبر عنها ديمقراطياً بأية حجه كانت عقديه او فكريه او سياسية. وإلا فان هذه المزايدة تعني انه يفهم بأكثر مما تفهم جمعية المواطنين او انه يُعني بالشأن العام باكثر مما يُعني به عامة الشعب. وهذا الاستعلاء النخبوي علي الارادة العامة هو الذي ظل يسحب بلادنا الي مربع النزاع والحرب ويعطل طاقاتها الدافعة للنهضة والنماء والتقدم. فروح الوصايه الدينية او الايدولوجية او السياسية وشعور نخبة دينية ما او جماعة ايدولوجية او حزب سياسي انه يدرك الخطة الصواب أكثر مما يدركها الشعب او انه يفهم النفع العام ويبصر السبيل اليه اكثر مما يبصر به الشعب هى الذي جعلت المنازعة وعواقبها المرة هي الحائط الذي يسد الأفق أمام شعبنا دون أحلامه وآماله ومقاصده. وعدم المزايدة علي الناس العاديين تعني ان نمتلك القدرة على الاستماع للرأي العامي وللفكرة الدارجة . وان نتعلم كيف نبصر بالحكمة الشعبية من وراء بساطة الفكرة وسذاجة العبارة. وأحزابنا جميعاً يتوجب عليها أن تعتني بقواعدها ففي العقود القليله الماضية أصبحت هذه القواعد بفضل التعليم والهجرة والاعلام أكثر وعياً وأكبر استعداداً للمساهمة في تأمين حاضرها وصياغة مستقبلها. أنتهي زمان المتبركين بملابس الاسياد ومراكبهم وأنتهي زمان التعظيم للقادة والساسة بموجب القيادة والزعامة لا بموجب الريادة والانجاز والافكار النيرة الملهمة. مضى زمان القائد الفرد الملهم وجاء وقت القائد المنصت المستلهم لحكمة الجماعة والشعب. والخيار فى أيدي زعماء الساعة أما ان يؤمنوا بالتغيير ويبذلون استحقاقه او أن يستأذنوا في الانصراف راشدين.
المواطن قبل المؤسسات والأجهزة
والمواطن لم يكن مدفوعاً الي الهامش بثقافة وسلوك أحزابه وقواه السياسية  فحسب بل أن مؤسساته وأجهزته التي كان يتوجب ان تكون أدواته لتيسير وصوله الي المصالح والمنافع ودفع المفاسد والاضرار ما لبثت ان طورت هي الاخري ثقافتها المؤسسية الخاصة التي تعلي رؤية المؤسسة علي رؤية الشعب ومصلحة المؤسسة ومنفعتها فوق مصلحة الشعب ومنفعته. يتوجب علي مؤسسات الدولة وأجهزتها ان تجري مراجعة دقيقه شاملة لكي ما تصبح مؤسسات لدولة ديمقراطية.  فتكون بالحجم الذي يخدم المصلحة الشعبية فلا تتضخم لخدمة مصالحها . وان تبسِط اجراءاتها أمام العامة لكي يسهل عليهم الانفاع بخدماتها بأعجل ما يمكن ان ينال ذلك . وأن تبذل للمواطن الفرد من الاجلال والاحترام بأكثر ما تبذله لرؤسائها . فالرئيس الحق في دولة ديمقراطية هو الشعب ومن وراء الشعب هو المواطن. ولئن كانت محلات البيع بالتجزئه ترفع شعاراً هو "المواطن دائماً علي حق" فان المؤسسات التي يملكها الشعب هي أولي من يعتنق هذا الشعار.  ليكون لها هادياً للاستفادة بأراء المواطنين و  معيناٌ على اجتراح السياسات والاعتناء بمصالح المواطنين عند ارسائها. وفي الدولة الديمقراطية يجب أن تتقلص وتنكمش أدوار أجهزة الضبط وتتوسع وتبسط أدوار أجهزة الدفع والتحريك والتحفيز اتساقاً مع الثقة المتعاظمة في وعي المواطنين وتعزيزاً لمبادراتهم . فما تصلح دولة يكون ديدنها أن المبادرة لا تكون فيها الا برخصة وأن الحركة لا تكون الا باستئذان. الأصل في كل الاشياء الاباحة والاستثناء هو المنع والحجر. ولا يكون منع وحجر الا بضرر واقع او خطر ماثل. والأصل في الناس وفي ذممهم البراءة . فلا يتوجب ان نتوقع الشر من الناس ويكون ديدن الدولة الحوؤل دون ذلك الشر المتوقع. علينا ان نحسن الظن بالشعب وبالمواطن وان نتوقع الخير والالتزام والانتظام منه سجية لا قهراً. فخابت حكومة ودولة تتوقع أن تسوق شعبها سوقاً الي ما تريد كما يساق القطيع من الأغنام.
الاعلام من الناس واليهم
ولئن كان مطلوباً أن نعترف ان أس الحكمة وأساسها هو الشعب وهو مستودع الارث الثقافي والعقائد و الأفكار والابداع والابتكار ، فيجب على أهل السياسه والقيادة والزعامة ان يتتلمذوا في مدرسة الشعب.  و أن يتواضعوا فى حضرته. فلئن وجب عليهم التعزز أمام خصومه وأعدائه فانهم بحلاف ذلك يتوجب عليهم توطئة الاكتاف والاكناف للعامة.  لا أعني بذلك اجتماعياً فحسب بل وفكرياً وثقافياً. فاذا صار ذلك كذلك علمنا ان كل ما نتعلمه من الشعب والناس العاديين هو أهم مما نعلمهم اياه. واذا كانت بضاعتنا أقل من بضاعة الشعب المجتمعة وثروتنا الفكرية والمعلوماتية أقل من ثروة الشعب فمن الطبيعي أن يكون مبتدأ الفكرة والمعلومة من تلقاء الشعب . وأن يكون الرأي العام هو بحيرة الاعلام التى ترفد قنواته وأنهاره بالفكر والابداع والمعلومات. الاعلام الديمقراطي هو الاعلام الذي يفضي الي تعارف الامة من خلال شرائحها وفئاتها وجهاتها وأفرادها . بان يستمعوا لبعضهم البعض وأن يطلعوا علي أحوال بعضهم البعض .  وأن يحسنوا الظن ببعضهم البعض وأن يتعلموا كيف يتحركون فريقاً واحداً متجانساً نحو مقاصدهم في النهضة والعيش الكريم. والاعلام الديمقراطي لا يعني حرية الرأى  وحرية التعبير فحسب  بل أهم من ذلك يعني سهوله وصول كل صاحب رأي راشد وصاحب فكرة مبدعة  الي مسامع الكافة وأبصارهم لكي يسمع ويقرأ ويشاهد . أهم ملامح الاعلام الديمقراطي هو سلاسة تدفق المعلومات دون حوائل وعوائق . وهذا لا يعني أنه اعلام بغير امتثال لقيم او أعراف او أخلاق بل يعني أن هذه القيم والأعراف والأخلاق مثل قواعد المرور السريع . هي ذاتها الأدوات والوسائل والقواعد التي تضمن المرور السريع للراي الجرئ والفكرة المبدعة والفن المستجيش لأرفع مافي الانسان من معاني الانسانية. والاعلام الديمقراطي أعلام لا تحتكره الدولة ولا يحتكره المُلاك لمؤسساته ولا العاملون بمرافقه.  بل هؤلاء جميعاً خلفاء الشعب ووكلاؤه علي فكره وتراثه الثقافي والمؤتمنون علي الرواية الصحيحه لتاريخه والحكاية الدقيقة لواقعه والمبشرون بمستقبله الزاهر. ويتوجب ان تتمظهر هذه المعاني في التشريعات التي تنظمه و التنظيمات التي تؤسسه فلا يمُكن مالك واحد حكومة أو جماعة او فرداً أن يتصرف بالمؤسسة الاعلامية كما يتصرف بسيارته الخاصة فالمؤسسة الاعلامية حافلة  الشعب وليس مركباً حكوميا او شخصياً لايٍ كان.
تأسيس المشاورة الشعبية
واذ تتأهب أحزاب السودان وقواه السياسية وفقهاؤه الدستوريون لاعداد وثيقة دستورية ناظمة للحياة العامة في السودان فان الرأي الشعبي يجب ان يكون محط الانظار.  ليس في الاستناره به عند وضع الدستور ولكن في تأسيس التشاور مع الشعب جزءاً  لا يتجزأ من الدستور. ولئن كان الدستور الانتقالي قد أشار الي الشريعة والتوافق الشعبي مصدرين للتشريع وهو الأمر الذي يوافق مقتضى الشريعة الاسلامية تماماً فيتوجب التقدم في الدستور الجديد خطوات للأمام لادخال التشاور الشعبي وسيلة من وسائل رفع الخلاف السياسي حول القضايا الوطنية المهمة.  فلا يكفي ان تتقدم الأحزاب برؤاها للشعب فيفضل برنامج هذا ويدفع برنامج ذاك. وانما يجب ان يكون الحق محفوظاً للشعب للمراجعة والتدخل بالرأي . وهو أمر لن نبتدعه في السودان فهو الشأن المعمول به في بلاد ليست قليلة . ولكن أشهرها هو الفيدرالية السويسرية التي شرعت للمشاورة الشعبية عبر الاستفتاء وأنشأت مؤسسات دائمة لهذه المشاورة .  فما من جماعة أو طائفة مهمة من الشعب  الا ويحق لها ان تطرح قضية ما للتشاور الشعبي . وتكون من بعد ذلك نتيجة ذلك الرأي ملزمة ليصدر بها التشريع ويكون بها العمل. ولربما يقول البعض وهو محق أن ذلك ربما يكون مأموناً في بلادٍ الثقافة السياسية بها  ناضجة والناس جميعاً متعلمون ولهم خبرة في الالتزام بديمقراطية فترتها قرنٌ ونصف من الزمان.  ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله فبالامكان تعميم المشاورة الشعبية في السودان بما يحترز فيه من أية  أثار سلبية لممارسة البعض للنهج الشعبوي أو التحريض العنصري . ولكننا نؤمن بأنه مهما كان ما يؤمئ اليه المتشائمون من خطر  الجرعة الديمقراطية الزائدة فاننا نؤمن بحكمة شعبنا ونثق في اختياراته  بأكثر من ثقتنا فى اختيارات النخبة السياسية والتي بلونا المر من ثمرات فكرها وصراعاتها وتنازعها علي الحكم والسلطان.

الثلاثاء، 3 مايو 2011

أسامة بن لادن الفكرة والرحلة 2-2



        تحدثنا في المقال السابق عن المشارب الفكرية  والسياسية لأسامة بن لادن من لدن تأثره بالمدرسة الاخوانية الوهابية ثم تأثره بالمدرسة الاخوانية التي أنشاها الامام البنا. وربما كان بالامكان لشاب طامح مثل أسامة وقد ورث نحواً من ثلاثمائة مليون دولار عن أسرته الغنية وبأمتداده الاسري بين اليمن والحجاز والشام ان يدخل دنيا الاعمال حتي يكون فيها علماً ترمقه الأبصار كما فعل الوليد بن طلال الذي وصل بين نجد ولبنان. فوالدة أسامة سورية النسب ووالده يمني الاصل سعودي الولاء والتابعية وكان من أقرب المقربين من الملك عبد العزيز آل سعود ولكن اسامة وبعد أن ذاق عُسلية بعض حلاوات الدنيا مجها وأنصرف الي طريقٍ آخر.
الرحلة الي افغانستان
جاء اسامة أول ما جاء باكستان كما جاءها كثير من الخيرين بدفع من حكومتهم لتقديم العون الانساني للاجئين الافغان . الذين لجأوا الي بيشاور وكويتا داخل حدود باكستان هرباً من الغزو السوقياني لبلادهم. ولربما لم يكن في الحساب ولا الحسبان ان تمتد رحلته الي ما أمتدت اليه. فقد كان الترتيب الذي نظمته جهات سعودية في باكستان ان يري الخيرون من اصحاب الاموال احوال اللاجئين علي الطبيعة . فذلك ادعي الي دفعهم إلي سخاء هو سليقة عند كثيرين منهم. وبعد رحلته الأولي عاد اسامة للمملكة ليحث آخرين علي المسارعة للانفاق فإن ذلك باب واسع من أبواب الجهاد بالمال. بيد ان رحلته الثانية كان لها ما بعدها لأنه التقي فيها شيخ المجاهدين الدكتور عبد الله عزام الفلسطيني الأصل، الاخواني الفكرة، الأردني الجنسية. وكان عبد الله عزام ذا حماسة فائقة للجهاد ليس في فلسطين وافغانستان فحسب بل علي امتداد العالم الاسلامي . وكانت سبقت له مشاركات في انشاء نعسكرات التدريب التي اقامتها فتح في الأردن في سبعينيات القرن الماضي. كان تأثير عزام علي أسامة وعلي الشباب السعودي المتدين تأثيراً قوياً للغاية. واذا كان لأحد ان يعتبر مؤسساً لوجود المجاهدين العرب في افغانستان فان عزام أولي من ينسب له ذلك الفضل. وبتشجيع من عزام دخل أسامة داخل الحدود الافغانية علي المنطقة الشرقية التي يُسيطر عليها مجاهدون تابعون للقائد غلب الدين حكمتيار والذي كان أول من خرج مناجزاً للحكم الشيوعي حتي قبل الغزو السوفياني لافغانستان . وأسس حكمتيار تنظيما أسماه بالحزب الاسلامي. وكان حكمتيارعندما خرج طالبا في السنة قبل النهائية في كلية الهندسة التي يدرس فيها البروفيسور عبد الرسول سياف والبروفيسور رباني .  وكان من زملائه في كلية الهندسة أحمد شاه مسعود والذي بدأ جهاده في الشمال الغربي في جبال بانشير وأصبح من أبرز القيادات الفاعلة والمؤثرة فى تلك الهضاب المجاورة لطاجيكستان. وفيها استطاع أحمد شاه مسعود ان ينشئ الجبهة الشمالية الغربية حيث يسكن رهطه من الطاجيك. وقد سبب قلقا مضاعفا للسوفيات حتي مشت الركبان بأسمه وسيرته . وأصبح يطلق عليه لقب أسد بانشير. كان هؤلاء  اهم القادة للجهاد الاسلامي . وانضم سياف الي هذه المجموعةو التحق بالجهاد بعد خروجه من سجن بلوشرخى المشهور.  كما ضمت من ابناء الباشتون القائد جلال الدين حقاني الذي بدأ جهاده في منطقة خوست ولايزال مرابطاً هنالك.  وأما رباني فكان أقرب اتصالاً بمسعود يجمعهما الاصل الطاجيكي الواحد وعلاقة الاستاذ بالطالب. وتوثقت علاقات أسامة بالقيادات المرابطة في الشمال الشرقي والوسط الشرقي حيث حكمتار وحقاني .  وكانت العلاقة علاقة دعم وامداد ثم ما لبث اسامة وانصاره ان اصبحوا جزءاً لا يتجزأ من الجهاد الأفغاني حين خاضوا المعركة الكبري معركة المأسدة التي تلاقت فيها الارواح واختلطت الدماء . ويومئذ أصبح العرب المجاهدون افغاناً عرباً او عرباً افغاناً . وهكذا بدأت الرحلة التي تطاولت ولربما ما كانت يوماً في صفحة الخاطر ولا مخيلة الذاكر. وتأكدت علاقات أسامة بالجهادالأفغاني . وأصبح وكأنه الأب الروحي للمجاهدين العرب وبخاصة بعد استشهاد عبد الله عزام . والذي نفخ روحاً هائلة في المجاهدين العرب حيا وميتا فتوسعت أعدادهم وبعد ان كانت  مصادرهم منحصرة في السعودية واليمن وبعض بلاد الخليج امتدت لتشمل المجاهدين من الشام ومصر والسودان وليبيا والجزائر بل والصومال ومسلمين أفارقه آخرين جاءوا بغير اللسان العربي فتعربت ألسنتهم ثم تأفقنت حياتهم. وقد توثقت علاقة أسامة بالقائد جلال الدين حقاني وان كان غالب المجاهدين العرب تحركوا في مناطق يسيطر عليها المجاهدون التابعون لحكمتيار. ولم يحظ مسعود لبعد موقعه بالصحبة والدعم العربي كما حظي بها قادة الشرق حكمتيار وحقاني وسياف. ورغم مؤازرة أسامة لهؤلاء فأنه نأي بنفسه عن الخلافات التي أحتدمت بعد خروج السوفيات ثم سقوط النظام الشيوعي فى أيدى مجموعة رباني ومسعود التي دخلت الي كابول . حيث اندلع صراع مريع  بين مسعود وربانى وسياف من جهة وحلف حكمتيار ودستم من الجهة الاخرى و ظل حكمتيارفي ضواحي كابول في جاراسياب يفاوض احياناً ويقصف كابول احياناً أخرى . ولكن أسامة ابتعد عن ذلك الصراع بينما أنقسمت عنه بعض المجموعات العربية لصالح حكمتيار. وكان أسامة علي الرغم من صلته الحسنة بالجميع غاضباً علي الجميع.  لأنهم بددوا مخازن السلاح الهائله والقوة الخارقة التي ورثوها عن سلفهم الشيوعي في الاقتتال المريع بينهم حتي كادت كابول ان تصبح أثراً من بعد عين مما جاءها من راجمات من تلقاء الغرب الذي يرابط فيها قادة الشيعة على مزاري ومحسنى وأكبرى ومن تلقاء الجنوب حيث يستقر حكمتيار في جاراسياب. وعندما تواترت وفود الحركات الاسلامية التي ذهبت للصلح بين الاخوة الاعداء( وقد شاركت لثلاث مرات في جولات الصلح تلك برفقه الأخ الأكبر عافاه الله وأبقاه يس عمر الامام). كان الناس يقولون ان أسامة يمكن ان يصلح بين الفرقاء . ولكن أسامة لم يشأ ان يكون جزءاً من ذلك .  ربما غضباً لأنهم بددوا القوة العسكرية الضحمة للبلاد . وكان يرجو ان تكون كما كان يطلق عليها القاعدة التي ينطلق منها الجهاد الي سائر اطراف العالم الاسلامي. و بخاصة الجمهوريات المسلمة في آسيا الوسطي التي خرجت من الاتحاد السوفياتي ولكنها لم تخرج من هيمنة من تبقي من أسلاف الشيوعين ولا من نفوذ روسيا الجمهورية الكبري. وعاد اسامة الي السعودية وكان العراق في محط إنتباهه الأول . ذلك أن صدام الذي خرج من حربه العشرية مع ايران بمشكلات اقتصادية ومالية كبيرة بدأ يكثف الضغوط علي دول الخليج لاخراجه من ضائقته المالية . وبدأ الحديث القديم يتردد من جديد حول تبعية الكويت للعراق .  وبدأت دول الخليج تستشعر خطر فرانكشتاين الذي ساهمت في صنعه لردع ايران فاذا به يصبح هو مصدر الخطر الداهم. كان أبن لادن يرجو أن يسمح له ولانصاره ببدء حرب جهادية ضد العراق . ولكن طلبه لم يستجب له خاصة وفي الذاكرة مشاركة الاخوان المسلمين في حرب فلسطين ثم حرب السويس . ومساهمة ذلك في صناعة التنظيم العسكري الخاص الذي تحول الي صداع دائم لاهل الحكم في مصر قبل عبد الناصر وبعده. كذلك فأن امريكا التي ذهبت أبان الحرب علي السوفيات الي درجة افتتاح مركز لتجنيد المجاهدين في نيويورك باتت تستشعر خطر ما اصبح يعرف في كل العالم باسم الافغان العرب . والذين اغلقت أبواب بلادهم وغيرها في وجوههم . ولما كانت بوابة السودان مفتوحة بغير مزاليج فقد جاء عدد مقدر منهم للسودان وتسللت مجموعات اخري للجزائر لتشارك فيما تسميه بالجهاد بالجزائر. وقد سبب وجود عدد من الافغان العرب في السودان قلقا للدول التي ينتمي اليها هؤلاء. وما لبث اسامة نفسه ان انضم اليهم بعد ان سمح له نائب وزير الداخلية بالمغادرة بعد ان كان الوزير لا يسمح له بمغادرة المملكة . وجاء اسامة للسودان مستثمراً ولاجئاً في آن واحد. وقد وجد ترحيباً بوجوده و باعماله التجارية والاستثمارية . ولكن كان هناك حذر كبير من اي شكل من وجوه النشاط السياسي لئلا تتعاظم الضغوط علي السودان . وهو الذي ما زال يعاني حالة من الحصار التام عربياً وافريقياً.  ويواجه توالي التصعيد العسكري ومقاطعة الغرب والمؤسسات الدولية، وما كان الرجل لينتظر التماساً بالمغادرة فقد غادر قبله الظواهري . فطلب ترتيب سفره الي افغانستان بالتفاهم مع السعودية ودولة خليجية اخري. وفي افغانستان أصدر اسامة مع أيمن الظواهري بيان اخراج المشركين من جزيرة العرب.  وبدا التفكير في بناء تنظيم اسلامي عابر للدول علي شاكلة التنظيم الاخواني . وهكذا نشأت فكرة القاعدة التي بدأت بافغانستان ثم ما لبث ان اختار اسلوب لا مركزية الاعداد والتحرك.والقليل يمكن الركون اليه مما يتردد من أدوار مباشرة له في العمليات الكبري سواء في الخبر السعودية او سفارات شرق افريقيا او المدمرة كول . ولكن مما لاشك فيه انه ورغم لا مركزية الاعداد والتحرك فأن المعلومات كانت متوفرة لاسامة حيث هو . أحيانا حول النوايا والخطط وأحيانا حول طرائق التنفيذ ونتائجه .  ولكن من الراجح أنه لم يكن له امساك بجميع الخيوط او حتي إخطار بكل التفاصيل.  وعلي الأرجح ان عمليتا نيويورك وواشنطون في 11 سبتمبر وعلي الرغم من أدوار مساعدين مهمين  له فيهما إلا ان أرجح التقديرات ان خلية هامبورج التي قادت العملية كانت تتحرك بقدر كبير من الذاتية وبقدر قليل من التمويل وبتكتم كبير . ولكن امريكا اختارت ان لا تحمل المسئولية الذين قضوا فيها . وكان لابد من الاشارة الي هدف واضح وكان اسامة ذلك الهدف الواضح . وعلي الرغم من أنه لم يقر صراحة بمسئولية حركته عن  عملية 11/9 الا أنه لم يتنصل منها واشاد ببطولة وفدائية من نفذوها. وعلي خلاف ما يعتقد كثيرون فان علاقة اسامه بطالبان لم تكن متينة . ولم يكن مقيماً بينهم بل أقام في ضيافة القائد جلال حقاني الذي يسيطر علي مناطق في وسط شرق افغانستان في خوست . وهو قد صار حليفاً لطالبان والملا عمر وان لم يكن عضواً تابعاً للحركة. وبعد غزو امريكا لافغانستان لم ير اسامة كل الشر في ذلك.  بل رأي ان امريكا جاءت قريباً بحيث يسهل تكبيدها الخسائر الفادحة التي تكبدها السوفيات من قبل . ثم جاء غزو العراق وكانت واحدة من الحجج لتبرير الغزو علاقة صدام بالقاعدة وهي حجة بينها وبين الحقيقة بون كبير.  فما كان من المتصور باية حال من الاحوال ان يرتبط اسامة وانصاره بأي شكل من الأشكال مع نظام صدام الذي يعدونه بعثياً كافراً . بل أنه كان علي استعداد للتطوع مع جماعته للجهاد ضد صدام ونظامه بعد غزو الكويت ولكن لم يؤذن له بذلك . وبعد سقوط نظام صدام اعتبر اسامة ان فرصة ذهبية قد لاحت لمحاربة امريكا وطردها من العراق توطئة لطردها من المنطقة كلها. فلئن كانت القاعدة قد قدمت الي العراق فانما تم ذلك بفضل امريكا نفسها التى استدرجت نفسها للدخول للعراق . وصار للعراق دور كبير في تنشيط عمل القاعدة في جزيرة العرب وبخاصة في اليمن ثم في شمال افريقيا.
مستقبل القاعدة بعد الرحيل
          واليوم بالارتحال المفاجئ لاسامة يتردد السؤال حول مستقبل القاعدة بعده. يتوقع البعض ضعفاً يعتريها حتي يتضاءل دورها تماماً . بينما يتوقع آخرون أن اسامة سيصبح عند انصاره شهيداً يلهم مقتله اتباعه باكثر من الهمتهم حياته وسيضاعف مقتله على النحو الذى جرى به تعاطف المسلمين الآخرين مع القاعده. ولاشك أن المراقب المتابع يعلم ان القاعدة قد أضُعف دورها بدرجة كبيرة في العراق . وذلك بسبب خلافاتها مع الاسلاميين المقاومين الذين اعترضوا علي كثير من افكارها وتصرفات قادتها وافرادها . وكانت تتهم بالتوسع في التكفير المفضى الي استسهال ازهاق ارواح المخالفين والمناوئين . وكذلك فأن الشقة قد اتسعت بينها وبين غالبية الاسلاميين الآخرين الذين نأوا بانفسهم عن منهجها في التفكير وطرائقها في العمل. ثم جاءت الثورات العربية الكاسحة باسلوبها المخالف تماماً لاسلوب القاعدة. ومهما سفكت من دماء في تلك الثورات فقد أثبت ان التغيير ممكن دون دفع الأثمان الباهظة التي يقتضيها اسلوب القاعدة في العمل. ولقد أثبتت التحركات الشعبية السلمية الواسعة نجاعتها في تغيير الزعامات المتواطئة مع المشروعات المناهضة للأمة. كما أنه سوف تثبت مقبلات الايام أن اسلوب المناهضة السلمية لسياسات الهيمنة والسيطرة الأجنبية علي البلاد الاسلامية سيكون له مردود أسرع في تحقيق نتائج ملموسة علي الواقع السياسي في المنطقة. ومما لاشك فيه فأن اسامة كان واحداً من الاسماء التي سوف يحفظها التاريخ في مجال المقاومة المسلحة لمن يعتبرهم اعداء الامة. وسيشهد التاريخ أنه دفع ثمناً باهظاً في مقاومته هذه الا أن التاريخ سيسجل القول المسكوت عنه وهو أنه مهما تعاطف البعض مع الرجل ومع حركته فسيجيب غالبية الناس بلا عن السؤال : هل يمكن لك ان تفعل كما تفعل القاعدة ورجالها؟ لا ريب ان السواد الأعظم  لا يجيز ولا يبررمنهج القتل الجماعى . ولا يزال في النفوس تحفظ كبير علي كثير من الافكار والتفسيرات والتأويلات التي اعتنقتها القاعدة . ولا يزال في النفوس تحسر علي نفوس أزهقت بناء علي هذه التأويلات . ولكن هذه التحفظات لن تخفي التعاطف مع الرجل الذي يعتقد الكثيرون أنه قد اختار الطريق الوعر المسالك فتعب واتعب الكثيرين معه وكان في غير هذه السبيل مندوحة. ولكن اسامة قد اختار وأمضي إختياره وقد مضي لربه الذي هو أعلم به نية وعملاً وجهاداً . وقليل من الناس من يساوره الشك في صدق دوافعه ونواياه. وان اختلفوا مع رؤيته الفكرية وتقديره وتسييره للامور . وهؤلاء جميعاً ستترتفع أكفهم بالدعاء له وهل يشقي أحدٌ من الناس بعد كل هذا الدعاء ؟ أياً كان مرقده في البحر او البر فأن رحمة الله قريب من المحسنين.

الاثنين، 2 مايو 2011

أبو عبد الله اسامة بن لادن.. الفكرة والرحلة 1-2


        لا يختلف اعداءوه وأنصاره أنه كان طوداً شامخاً ملأ الدنيا وشغل الناس. والفرحة الامريكية العارمة كانت شاهداً قوياً علي قوة تأثير الرجل وخطورة تهديده للمصالح الحيوية لمن يعتبرهم اعداءوه وأعداء الأمة. إلتقيت به لأول وهلة عندما جاء زائراً للسودان لأول مرة أبان الفترة التعددية الحزبية في ذلك الوقت كان شاباً في ثلاثينيات العمر ولكن الطريقة التي كان يتحدث بها عن اوضاع العالم الاسلامي وأهمية استعادة فريضة الجهاد لأعادة الأمور الي نصابها  كانت  تشعر المستمع له انه يتحدث حديث الواثق الذي يتوقع أن يكون لكلامه معقبات من الافعال والأحداث الجسام. وكان كما أستمع اليه الناس مرارا عبر التلفزة يتحدث ببطء وفي صوت خفيض ولكنه ملئ بالتصميم الي الدرجة التي تملأ السامعين بالرهبة والترقب.
الفكرة الدينية
كان الرجل يحيط به إجلال كبير من صحبته ومن انصاره لوضعه الاجتماعي ولتأثير شخصيته القوي علي من حوله. وقد كان خافياً بينهم لتواضعه وتأدبه الجم ولكنه كان بارزاً بقامته الفارعة ولهجته الواثقة . وقد يصعب تصنيف افكار اسامة بن لادن في إطار مدرسة فكرية محددة . وإن كانت تقع في قلب التيار السلفي الذي هو امتداد لمدرسة الاخوان "الوهابية" لا مدرسة الاخوان المصرية. والاخوان الذين كانوا مرتكز المناصرة لأبن سعود هم أنفسهم الذين اضطر أبن سعود الي خوض حرب طاحنة معهم فيما بعد. وكان جوهر الاختلاف هو عزمهم علي حتمية استمرار الجهاد الاخواني مما أدخل المملكة الوليدة في خطر داهم عندما بدأ الاخوان في مهاجمة تخوم العراق . وبدأت بريطانيا التي تسمي عظمي آنذاك، وهي المسيطرة علي العراق التهيؤ لكيل الصاع صاعين للمملكة وهي في طور التأسيس. ولم يعدم ابن مسعود من يقف معه في فكرة أولوية المهادنة علي المجابهة . وبذلك نشأ تياران أخوانيان لا يزالان يبرزان الي الواجهة كل حين وآخر. التيار الاول هو التيار الجهادي الذي كانت آخر تبدياته البارزة حركة جهيمان في مطلع القرن الهجري في العام الميلادي 1980 . وظل بعبر عن نفسه في أولئك الفتيان الذين ما سمعوا بهيعة في مكان من العالم الاسلامي الا طاروا اليها طلباً لجهاد يفضي الي تحرير او شهادة تفضي الي جنة عرضها السموات والارض . وأما التيار الثاني فكان تيار الطاعة لولي الأمر. وأهم ملامح الفكرة الاخوانية الجهادية الاسلامية ان الجهاد ليس له حد مكاني ولا زماني ينتهي اليه. فالجهاد عندهم ليس ماضياً الي يوم القيامة بوصفه جهاداً للدفاع عن الارض الاسلامية والشعوب الاسلامية بل هو جهاد لنشر الفكرة الاسلامية بحد السيف او برصاصة البندقية و هو جهاد غزو لا جهاد دفع. ولا يبررون فكرة الغزو كما يبررها البعض باعتباره غزواً وقائياً ضد عدو متربص.  ولكنه لديهم هو غزو لفتح كل دار تأبت علي العقيدة والفكرة الاسلامية. وهم يفسرون آية سورة براءة " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً " تفسيراً لا يرتبط بمفهوم المقاتلة والتي تعني ان تقاتل من يقاتلك وتسالم من يسالمك. فالقتال عند مدارس اخري ليس لنشر العقيدة والفكرة الاسلامية . وقد دافع هؤلاء ضد فكرة المستشرقين أن الاسلام انتشر بحد السيف دفاعاً مجيداً  بل لديهم الجهاد دفع لفتنة الاعتداء علي المسلمين وديارهم ومقدراتهم ومصالحهم. وليس هو قتالُ لأجل نشر الفكرة  بقوة السلاح. لأن القاعدة الأصل في الدين الحق هي "إلا أكراه في الدين" فالأكراه الديني لا يصنع مسلمين بل يصنع مداهنين ومنافقين صاغرين ولكن متربصين. والجهاد لدي الاخوان "انصار أبن عبد الوهاب" ليس له زمان ينتهي اليه فهو ماضٍ الي يوم القيامة . فاذا فتحت جميع اصقاع الارض فيستمر الجهاد دفاعاً عن الارض والفكرة . وأنه وبشاهد الأحاديث النبوية التي يعضد بعضها بعضاً مستمر مع اليهود أو طائفة منهم الي يوم القيامة. ثم أن الاخوان لأ يؤمنون بالمرحلية . والجهاد ليس له مراحل بل هو واجب في حالتي الضعف والقوة.  ولا ينظر الي قوة العدو واستعداده لأن لمجاهد  منصور بالمنظور من الاسباب وغير المنظور. والاخوان كما عبر أسامة بن لادن ذات يوم لا يؤمنون بالحياد بين المسلمين واعدائهم . فالناس في فسطاط الحق او فسطاط الباطل ومن كان في الفسطاط الاول فيتوجب عليه ان يجاهد بقوله وماله ونفسه في كل حال. ومن كان في الفسطاط الثاني فقد برئت منه  ذمة اهل الفسطاط الأول فلا حرمة لماله او نفسه. ومن هذه الفكرة انبثقت أخطر الافكار وأبعدها أثراً . وهو اباحة الاستهداف العام لمن حمل السلاح من الاعداء الكافرين او من ظاهرهم بأي شكل من اشكال المظاهرة بالعمل أو القول أو السكوت .  وهم يستندون الي فكرة الولاء لأهل الإيمان والبراءة من اهل الكفر. وأن العلاقة مع اهل الجحيم من المشركين هي المجانبة والمحاربة في الدنيا والاخرة. وهي تشمل من ظاهرهم بالعمل او القول او السكوت ولو كان من المسلمين . وقد اختلفوا بعض الوقت في أولوية القتال للعدو الأقرب ام العدو الأبعد . وتفسير ذلك هو الأولوية لقتال الفساق من حكام المسلمين وعلمائهم الذين يظاهرون الكافرين وييسرون لهم اختراق دار الاسلام ويمنعون المسلمين من جهادهم ومدافعتهم، أم أن الاولوية لجهاد العدو الأبعد الذي هو المقصود الاول من المجاهده والمدافعة. وفي زمان أبن سعود كان الاخوان يريدون قتال رأس الكفر والطاغوت الأعظم كما يرونه في بريطانيا العظمي. وكانت أقرب آطامها منالاً هي مواقعها في العراق . وعندما حيل بينهم وبين العراق انقلبوا الي مقاتلة مليكهم الذي نصروه بحكم الحلف القديم بين آل سعود وآل الشيخ أبن عبد الوهاب.
الفكرة السياسية
          ولئن كانت أصول الفكرة الدينية لدي ابي عبد الله اسامة بن لادن هي الفكرة الاخوانية "الوهابية" فأنه كان وبأثر الثقافة الاسلامية العامة آنذاك متأثراً بالفكرة الاخوانية "المصرية التي اسسها الامام البنا" ولكن هذه نفسها انقسمت لمدرستين كما فعلت نظيرتها "السعودية" مدرسة تؤمن بالجهاد بالكلمة "الجهاد المدني" وكان اهم اعلامها الامام البنا نفسه الذي لم يجيز الجهاد  إلا دفاعاً عن الارض الاسلامية والشعوب الاسلامية ُم القاضى الهضيبى وهما بخلاف تيار التنظيم الخاص الذي بدا مناوئاً لهذه الفكرة حتي في حياة الامام البنا. وبخاصة في أوساط الشباب العائدين من الجهاد في فلسطين مهزومين بفعل خذلان حكام ذلك العهد لهم . وعلي رأسهم الملك فاروق الذي اشتغل بغزاوت ليلية آخري عن جهاد الليل والنهار. و تأثر اسامة  كان بالمدرسة الاخوانية الجهادية. اي مدرسة الجهاد الاسلامي والتي انقسمت فيما بعد الي تيار مراجعة وتيار مواصلة. وكان من رموز مدرسة الجهاد الاخوانية الدكتور الطبيب أيمن الظواهري . والذي لقي بن لادن لأول مرة في الخرطوم، ثم أخرج الظواهري وخرج من بعده اسامة. وذهب كلاهما الي افغانستان حيث يتعسر علي من يسعون وراءهما ان يجدوا منهماً منالاً . ولقد كانت بين الرجلين لقاءات وتفاهمات تحولت الي حلف في افغانستان. أولي أولوياته تحرير بلاد المسلمين وبخاصة جزيرة العرب وكنانة العرب من الوجود والنفوذ الأجنبى. وكان الخلاف بين اتجاهي الرجل هو ما اذا كان يجب أن يضرب هؤلاء الاعداء حيث هم في ديار المسلمين أم أن تنقل الحرب اليهم في صحن دراهم. ولم يكن الخلاف استراتيجياً بل هو خلاف تكتيكي. فاستهداف الاعداء في ارضهم يدعوهم الي حشد كل قوة لديهم ضد المسلمين . وريما يؤدي ذلك الي مزيد من الاحتلال لبلاد المسلمين. وبينما استهدافهم في ارض المسلمين لا يدعو لمثل الحشد الاول ثم انه يحظي بمناصرة شاملة من الشعوب المسلمة المستضعفة. وان قاد الي صدام محتوم مع الأنظمة المظاهرة للاجانب. وكان تركيز الرجلين علي جزيرة العرب التي لا يعترفان بواقع انقسامها الي دول قطرية. فهي جزيرة رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو قد أوصي باخراج المشركين منها. واما الجهة الثانية فمصر كنانة الله في ارضه ، لما لها من تاثير كبير علي العالمين العربي والاسلامي. وكان أول بيان مشترك واعلان للتحالف بين أبن لادن وانصاره وبين حركة الجهاد الاسلامي بعد التقاء الرجلين في افغانستان بعد الخروج من السودان الذي ومع بدء التحرك السياسي لاسامة لاقى ضغوطاً أجنبية وعربية لاخراج الظواهري اولاً، ثم اسامة لاحقاً . وعقب ذلك البيان الشهير والذي حدد الهدف المرحلي الأول وهو اخراج المشركين من جزيرة العرب.  بدأ اسامة يفكر في تحويل انصاره الي تنظيم علي غرار تنظيم حركة الجهاد . وظهرت كلمة قاعدة الجهاد التي كانت تطلق فيما سبق أبان الجهاد الافغاني علي افغانستان لوحدها.  ثم صارت المفردة لا تنحصر فى أفغانستان بل صاركل العالم الاسلامي وبخاصة الجزيرة العربية ومصر والعراق وارض الشام بفلسطينها المحتلة هو تلك القاعدة .  وأسم القاعدة لم يعد بعد ذلك اسماً لمكان او لبلد بل صار أسم لفكرة . فلم تعد قاعدة الانطلاق هي المكان بل اصبحت قاعدة الانطلاق هي الفكرة . ولذلك يمكن ان تنشأ قاعدة للجهاد في البوسنا والهرسك وقاعدة للجهاد في الشيشان وقاعدة للجهاد في الصومال وقاعدة للجهاد في العراق . واما الجهاد الأكبر والقاعدة الكبري فهي قاعدة الجهاد في جزيرة العرب. ولكن تحديد القاعدة بوصفها قاعدة الانطلاق لا يعني ان يقاتل أهل تلك القاعدة من يلونهم من الكفار فحسب بل ان الجميع يمكن ان يستنفروا لضربات للعدو وراء الحدود وحيث يظن أنه في مأمنه لأنه في مأمنة يؤتي الحذر.


نواصـــــــــــــــــــــــــــــــل

الأحد، 1 مايو 2011

الديمقراطية العودة لمعدلات السلام 1-2







          لا يختلف الناس في السودان وإن اختلفوا في أشياء كثيرة، إن السودان يمر بمرحلة مفصلية من تاريخه السياسي تتأسس فيها الدولة علي توافق دستوري جديد. والجميع يعلنون انهم يريدون بذلك ارساء قاعدة انطلاق للامة السودانية نحو الارتقاء السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وأن سبيل ذلك هو تحقيق الحرية، حرية الوطن وحرية المواطن وتحقيق القوة، قوة الوطن وقوة المواطن، وتأكيد السيادة سيادة الوطن وسيادة المواطن . وسبيل تحقيق ذلك هو تأكيد الالتزام، التزام الجميع الحاكم والمحكوم الموالي والمناوئ الراضي والكاره التزامهم جميعاً بالديمقراطية الحقة. واقرارهم بأن الحقب الماضية في ظل الاحتراب المستدام حفلت بالكثير من القصور عن الترقي الي مقام الديمقراطية الحقة. وأن بزوغ فجر السلام الذي نرجو ان يكون مستداماً يبشر بعودة الديمقراطية الي معدلات السلام . اي انكماش الاوضاع الاستثنائية واتساع الاوضاع العادية . ويتوجب ان يؤسس الدستور لمعالم الممارسة السياسية في هذه المرحلة المهمة من تاريخ السودان.
الديمقارطية .. الحقيقة والتصورات:-
الديمقراطية نهج في السلوك السياسي اختلفت حوله التصورات والتوقعات . ولا بأس من بعض التفاوت في التصور والتوقع  فهذا أمر طبيعي في الادراك الانساني. ولكن لابد من الاتفاق علي معاني جوهرية لما نسميه بالديمقراطية حتي يكون مطلوب الجميع هو الشئ نفسه لا اشياء متعددة ومختلفة. واذا كان لنا ان نعطي تعريفات غير جامعة ولا مانعة ولكنها تجمع أكبر قدر مما اتفق عليه الناس وتنفي أكبر قدر مما  رآه الناس مخالفاً للنهج الديمقراطي فاننا سنجمل التعريف العام بالقول: أن جوهر الديمقراطية هي ان تساوي جميع المواطنين بلا أية تفرقه بينهم باي سبب من الاسباب في تولي شأنهم العام او توليته لمن يرونهم صالحين لما يحقق المنافع والمصالح للناس جميعاً Public Good وما يدفع المضار والمفاسد عنهم جميعاً . يعبر القرآن عن ذلك بعبارة قصيرة تعطي المعني بأقوي وأوجز ما يكون "وأمرهم شوري بينهم" فالأمر أمر الناس جميعاً وهو يقضى بشوراهم جميعاً. وباللغة السياسية الدارجة اليوم فان ذلك يشمل المشاركة الفاعلة في السياسات والتشريعات التخطيطية التشريعية والتنظيمية . وفي اصدار القوانين المدنية والجنائية وقبول المعاهدات الثنائية والدولية.  فلا يكون ذلك باستحسان فرد او جماعة . وانما بارادة الامة التي تعبر عنها المؤسسات المختارة اختياراً حراً تزيها لا تداخله الشكوك ولا الريب.
والديمقراطية لها أصول حضارية عديدة . ولكن أهم نماذجها القديمة هو الأنموذج الاغريقي . حيث تتكون المفردة من جزئين (Demos)  وتعني الناس او الامة (People) والجزء الذي هو (Krotos) وتعني القوة او السلطة (Power) . فجوهر تلك الديمقراطية التي يهوي الناس الانتساب اليها هو اقرار قوة الشعب او سلطة الشعب . اي قدرته في التحكم بما يلي شأنه العام . وقد أوضح الفلاسفة الاغريق هذا المعني بغير لبس. واذا كانت الديمقراطية هي قدرة الشعب علي الامساك بشأنه فهي تعني بالضرورة انماء تلك القوة ليتمكن الشعب  من حكم نفسه بنفسه.  وبذلك فالديمقراطية لا تعني تسليم السلطة للشعب بل تعني تمكين الشعب وانماء سلطة وقوة الناس العاديين علي الفعل السياسي . بهذا فهي تشمل مفهوم التمكين Empowerment وهو مفهوم يدخل معاني التنمية الثقافية المعرفيه ومعاني التنمية الاجتماعية الاقتصادية ليدرك الشعب حاجته لامتلاك أمره . وضرورة احتياز القدرة والمكنة لفعل ذلك. ولا شك ان الاوضاع الثقافية والمعرفية المتردية والاوضاع الاجتماعية والاقتصادية الخانقة لا تسمح بتحقق التمكين السياسي . ولذلك فأن الديمقراطية الحقة ليست شأنا سياسياً محضا . بل هي قبل ذلك شأن ثقافي معرفي وشأن اجتماعي إقتصادي. ولذلك تتفاوت الشعوب في فهمها وفي قدرتها علي ممارسة الحق الديمقراطي. والنخبة الوطنية الحقة هي التي تجاهد وتناضل لرفع الجهل والأمية والتخلف الاجتماعي والحضاري والعجز المقعد والفقر المدقع لتتحقق للشعب قوته علي النهوض وقدرته علي الفعل . وطاقته للتحرك السريع في مسار التقدم الاجتماعي والاقتصادي.  وما التنمية السياسية المفضية للانتظام الديمقراطي الا التنمية اللازمة للترقي الثقافي والاجتماعي.
الديمقراطية .. هي قوة المواطن:-
          ولئن كان المعني المراد من الديمقراطية هو تحقيق قوة الجماعة السياسية (الشعب People) فأن قوة الجماعة لا تحقق الا بقوة افرادها . ومتانة الاواصر والوشائج التي تصل بينهم افراداً وفئات. وقوة الشعب مؤداها تحقيق قوة الوطن وعزته ومنعته وإنمائه وإغنائه ليتحقق له الرفاه والظهور بين الأمم. ولكن قوة الوطن ومعني الوطن لا يتحدد بالمكان اي بالجغرافيا . وانما يتحدد بالشعب اي بالديموغرافيا. فاحتشاد مجموعة متنافرة متباغضة في مكان واحد او جغرافيا واحدة لا يعني تحويل تلك الجفرافيا الي وطن . أنما الذى يحول تلك الجغرافيا الي وطن هو التجمع الأنساني المترابط المتوحد باهدافه ومقاصده وبالآمة وآماله . وكلمة (أمة) في اصلها العربي تعنى توجه الجماعة الي قبلة واحدة . اي انهم يمموا انظارهم نحو ما يشدها من مقاصد وآمال . وكلمة (شعب) في اصلها العربي تعني انحياز الناس الي ركن (شعب) دون سائر الأخرين لتعاطف او مصالح تجمعهم . فينشعبون الي جهة او صفة مائزة. فاذا بلغنا الى الاقرار الي ان الوطن لا يعني شيئاً ذا بال الا بالديموغرافيا اي باهله ومواطنيه فأنه لا معني لقوة الوطن او سيادة الوطن إلا بسيادة الشعب وسيادة الأمة . ولا تكون قوة ولا سيادة لأمة الا بقوة المواطن وكرامته وسيادته وارتقاء قدراته بغير حدود. واذا كان هدف الديمقراطية هو قوة الوطن فانما يوؤل ذلك بالضرورة الي قوة المواطن . والي تحقيق مكنة المواطن وسلطته علي التصرف بشأنه والمشاركة بفاعلية في الشأن العام. ولأن القوة والسيادة ليست التحكم في المصير الذاتي ودفع تدخل الآخرين وتحكمهم فحسب بل هي قبل ذلك القوة الذاتية للامة ولافرادها بازاء جميع عناصر الضعف الذاتي والخمول والخمود.  ويعني ذلك القدرة علي النهوض والتقدم فجوهر الديمقراطية نهضوي تقدمي . يعمل علي انماء القوة الذاتية للأمة سبيلاً الي تحسين اوضاعها الانسانية والمعاشية . مؤدي ذلك الي الارتقاء الروحي والثقافي والاجتماعي والتقدم المادي والاقتصادي والعمراني . فذلك سبيل الامم الناهضة الي مقاصدها التي لا تنتهي إلا الى مقام رفيع يقودها الي مقامٍ أرفع بغير انتهاء .
ألفباء الديمقراطية:-
          واذا كان الناس يتعلمون الأبجدية بالألفباء فأن التمكين الديمقراطي يستلزم التربية والتعلم الديمقراطي ابتداء من الفا بائه. ونعني بذلك أن تنمية قدرة المواطن تستلزم الاعتناء بالتعليم والتربية الديمقراطية . اي التعليم الذي يؤسس لبناء شخصية مقتدره علمياً ونفسياً علي ممارسة الحرية. فالتعليم والتربية والتنشئة وبناء القدرات هي أولي عتبات الديمقراطية . والتعليم الذي يقوم علي القهر والتلقين ومصادرة حرية الفكر الابداعي والتصرف الخلاق تعليم مناوئ للديمقراطية. وحق التعليم الديمقراطي حق يتوجب ان يكفل لجميع ابناء الوطن . وان تزال العوائق والحوائل التى لا تجعله متاحاً للغني والفقير علي حدٍ سواء. فلا يمكن لنا أن نتحدث عن معاني ان يكون الناس سواسية في الحقوق والواجبات وفي القدرة علي المساهمة والمشاركة في الارتقاء الجماعي إلا بالعمل من اجل ذلك ابتداء بالتعليم قبل المدرسي. ولئن كان الفرد يترقي في الاطوار السنية والفكرية والنفسية و والحركية عبر اطوار الطفولة والمراهقة فالرشد والنضوج والكهولة والشيخوخة فأن الديمقراطية ذاتها تمر بجميع تلك الاطوار.  لأنها تجسيد لما يكون عليه الناس من احوال واطوار . فهي تمر بمرحلة طفولة ثم مراهقة ثم رشد ونضج وقد تأتي اليها الكهولة والشيخوخة . ولكنها في جميع اطوارها لكي يكون لها استحقاق ذلك الأسم يتوجب ان تحمل ذات الملامح في جميع الاطوار. واهم هذه الملامح القدرة علي الفعل الجمعي المنظم (Pluralism ) والتي يعربها البعض خطأ (للتعددية) . وما هي بالتعددية بل هي الجمعية والتي تعني اجتماع الافراد علي تفردهم علي شأن واحد يجعل من اعدادهم عدداً  اكبر.  أكبر قدراً وأصلب عوداً ومكسراً او كما قال الآخر :- تأبي الرماح اذا اجتمعن تكسراً... فاذا افترقن تكسرت آحادا .  فمراد الاجتماع هو جوهر الديمقراطية ولكنه اجتماع طوعي لا قهري يقوم علي تساوي الجميع في الحقوق والواجبات . وتشمل تلك المعاني حق الجميع في المبادرة وحق التمثيل المتساوي للأمة . فعندما يقول الفرد أنا سوداني فان ذلك يعني انه يمثل السودان الأمة والسودان الوطن. وليس هنالك أحدُ أحق بذلك من إحدٍ آخر. فاذا تجمعت الآحاد المتساوية مثلت بذلك وحدة الامة ووحدة الوطن. والديمقراطية تعني سيادة هذه الجماعة المتوحدة علي مؤسساتها التمثيلية بحق الانتخاب والاختيار الحر لهذه المؤسسات . والسلطة الممنوحة تفويضاً للمؤسسات رئاسية او برلمانات او حكومات او قضاء لا تعني سيادة تلك المؤسسات علي الشعب وأنما تعني سيادتها بالشعب. فالمؤسسات التمثيلية هي وسائل ووسائط لتحقيق المرادات الشعبية . ويجب ان لا تسعي ولا أن تمكن من فرض سيطرتها (خارج التوافق الشعبي) علي الناس . ولا تهيمن علي الدولة والمجتمع بحيث تشغل كل الفضاء المدني. بل علي خلاف ذلك يتوجب ان تضيق وتنكمش مع تقدم الامة المساحة التي تشغلها تلك المؤسسات.  ويتسع الفضاء المدني لتحرك المجتمع المدني ليكون المجتمع هو الذي يتصرف بشأنه ويفوض للدولة ومؤسساتها ما يراه مناسباً في الوقت الملائم لذلك التفويض. وقدرة الشعب علي التحرك خارج إطار هيمنة الدولة ركن ركين من أساسات الديمقراطية . فالمجتمع  المدني هو الاساس والدولة هي الحاجة الطارئة والأستثناء بحكم الضرورة. ولذلك فلابد في كل الاحوال من علو مقام المجتمع المدني علي مقام الحكومة والمؤسسات التمثيلية جميعاً. فذلك هو السبيل الوحيد لتحقيق المساءلة الجماعية لتلك المؤسسات.  سواء كانت هذه المساءلة سياسية او قانونية فالذي يساءل هو الذي يملك القوامة ويعتلي المقام الاعلي . فاذا كانت مؤسسات الدولة فوق المجتمع المدني فان المعني الوحيد لذلك هو نشؤ الدولة (التوتالتارنية) اي الدولة الشمولية التي تعلو فيها ارادة مؤسسات المتنفذة علي الارادة الشعبية. ولكي لا يحدث ذلك فلابد من تعزيز قدرة المجتمع المدني . وتأكيد الفصل بين السلطات وبخاصة السلطة القضائية العادية والدستورية واستقلالها التام عن تدخل السلطات الاخري فيما يقضي فيه القضاء.
الديمقراطية.. تحقيق الحرمات والحريات:-
          واذا كان الرأي قد تأكد ان الديمقراطية لا تكون مستحقة لأسمها إلا اذا سعت لتمكين جميع المواطنين من المشاركة في ادارة الشأن العام علي حدٍ سواء . فان تحقق أرقي مراتب ذلك هي تحقيق ديمقراطية توافقية او ديمقراطية الاجماع . وهذه بعيدة المنال لأن التوافق العام لا يتأتي الا في اوقات شحيحة نادرة والتوافق العام او الاجماع مثل لخطة التوازن الحقيقية Equilibrium  لا تحقق الا لثوان معدوددات.  ثم ما لا تلبث عوامل الجذب من هنا وهناك أن تردها الي ميل لهذه الجهة او تلك الجهة الاخري. ولذلك فأن الصفة الأغلب علي الديمقراطية  هي ديمقراطية الأغلبية . والتي ينقسم فيها الناس الي اغلبية واقليه والي موالاة ومعارضة . وعندئذ يتوجب أن لا تكون حقوق الاغلبية مطلقة مما يهدد حقوق الاقليه بالانمحاق التام . فأن ذلك من اكبر مهددات التئام الجماعة والتحامها لانجاز مهمات النهضة والتقدم . والأغلبية التي هي موضع الحديث هي الأغلبيه التي تستظهر بغلبة الراي الحر الذي يؤيدها عبر وسائل اختيار وانتخاب لا بأي شكل أخر من اشكال الغلبة القهرية.  سواء كانت استظهاراً بالمال والجاه أو استقواء باجهزة عسكرية او أمنية .  فشتان ما بين مفهوم الاغلبية الديمقراطي ومفهوم الغلبة القائم علي فكرة استقواء الشديد علي الضعيف. ولكى لا يحدث ذلك فلابد من ضمان عناصر القوة لجميع المواطنين . وذلك بصيانة حرماتهم فلا تدخل غير مأذون في خصوصياتهم.  ولا أكراه للمواطنين لاعتناق عقيدة أو تبني فكرة. وكذلك يجب صيانة حرمات المواطنين وكفالتها في كل الظروف والاحوال . الا استثناء مقيداً في ظروف خاصة طارئة . يقبل فيها الشعب عبر مؤسساته قيداً مشروطاً موقوتاً لا يتعدي الي أية حرية اساسية.  ولا يبيح اية حرمة لا تباح إلا بحقها وحقها الوحيد هو خروج صارخ علي القانون الذي يتساوي أمامه الجميع. وقد نظهر اهتماما بالحقوق السياسية المباشرة ولكن حقوقاً مثل حق المعرفة وحق الكسب المشروع وحق الترقي والتطور (الحق بالتنمية) تمثل حقوقاً ضرورية تنتهض عليها الحقوق السياسية الاخري.  مثل حرية القول والتعبير وحرية التنقل والتنظيم . وحرية نشر الرأي بكافة الوسائل المتاحة في حدود قانون ديمقراطي لا يمثل عائقاً امام التعبير الفكري والسياسي لكل مواطن.  ما لم يشكل ذلك التعبير اعتداء علي الحق الخاص او الحق العام. وجماع الحريات السياسية هو تمكين المواطن من المشاركة الفاعلة في الشأن السياسي العام حتي يعم التراضي الوطني الشامل.  لتنعم البلاد بالاستقرار والوحدة المفضية الي السيادة الوطنية والتنمية المتوازنة المستقلة الشاملة التي هي مدرج الشعب للتقدم والارتقاء.

نواصـــــــــــــــــــــــــــــــل