لا يختلف الناس في السودان وإن اختلفوا في أشياء كثيرة، إن السودان يمر بمرحلة مفصلية من تاريخه السياسي تتأسس فيها الدولة علي توافق دستوري جديد. والجميع يعلنون انهم يريدون بذلك ارساء قاعدة انطلاق للامة السودانية نحو الارتقاء السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وأن سبيل ذلك هو تحقيق الحرية، حرية الوطن وحرية المواطن وتحقيق القوة، قوة الوطن وقوة المواطن، وتأكيد السيادة سيادة الوطن وسيادة المواطن . وسبيل تحقيق ذلك هو تأكيد الالتزام، التزام الجميع الحاكم والمحكوم الموالي والمناوئ الراضي والكاره التزامهم جميعاً بالديمقراطية الحقة. واقرارهم بأن الحقب الماضية في ظل الاحتراب المستدام حفلت بالكثير من القصور عن الترقي الي مقام الديمقراطية الحقة. وأن بزوغ فجر السلام الذي نرجو ان يكون مستداماً يبشر بعودة الديمقراطية الي معدلات السلام . اي انكماش الاوضاع الاستثنائية واتساع الاوضاع العادية . ويتوجب ان يؤسس الدستور لمعالم الممارسة السياسية في هذه المرحلة المهمة من تاريخ السودان.
الديمقارطية .. الحقيقة والتصورات:-
الديمقراطية نهج في السلوك السياسي اختلفت حوله التصورات والتوقعات . ولا بأس من بعض التفاوت في التصور والتوقع فهذا أمر طبيعي في الادراك الانساني. ولكن لابد من الاتفاق علي معاني جوهرية لما نسميه بالديمقراطية حتي يكون مطلوب الجميع هو الشئ نفسه لا اشياء متعددة ومختلفة. واذا كان لنا ان نعطي تعريفات غير جامعة ولا مانعة ولكنها تجمع أكبر قدر مما اتفق عليه الناس وتنفي أكبر قدر مما رآه الناس مخالفاً للنهج الديمقراطي فاننا سنجمل التعريف العام بالقول: أن جوهر الديمقراطية هي ان تساوي جميع المواطنين بلا أية تفرقه بينهم باي سبب من الاسباب في تولي شأنهم العام او توليته لمن يرونهم صالحين لما يحقق المنافع والمصالح للناس جميعاً Public Good وما يدفع المضار والمفاسد عنهم جميعاً . يعبر القرآن عن ذلك بعبارة قصيرة تعطي المعني بأقوي وأوجز ما يكون "وأمرهم شوري بينهم" فالأمر أمر الناس جميعاً وهو يقضى بشوراهم جميعاً. وباللغة السياسية الدارجة اليوم فان ذلك يشمل المشاركة الفاعلة في السياسات والتشريعات التخطيطية التشريعية والتنظيمية . وفي اصدار القوانين المدنية والجنائية وقبول المعاهدات الثنائية والدولية. فلا يكون ذلك باستحسان فرد او جماعة . وانما بارادة الامة التي تعبر عنها المؤسسات المختارة اختياراً حراً تزيها لا تداخله الشكوك ولا الريب.
والديمقراطية لها أصول حضارية عديدة . ولكن أهم نماذجها القديمة هو الأنموذج الاغريقي . حيث تتكون المفردة من جزئين (Demos) وتعني الناس او الامة (People) والجزء الذي هو (Krotos) وتعني القوة او السلطة (Power) . فجوهر تلك الديمقراطية التي يهوي الناس الانتساب اليها هو اقرار قوة الشعب او سلطة الشعب . اي قدرته في التحكم بما يلي شأنه العام . وقد أوضح الفلاسفة الاغريق هذا المعني بغير لبس. واذا كانت الديمقراطية هي قدرة الشعب علي الامساك بشأنه فهي تعني بالضرورة انماء تلك القوة ليتمكن الشعب من حكم نفسه بنفسه. وبذلك فالديمقراطية لا تعني تسليم السلطة للشعب بل تعني تمكين الشعب وانماء سلطة وقوة الناس العاديين علي الفعل السياسي . بهذا فهي تشمل مفهوم التمكين Empowerment وهو مفهوم يدخل معاني التنمية الثقافية المعرفيه ومعاني التنمية الاجتماعية الاقتصادية ليدرك الشعب حاجته لامتلاك أمره . وضرورة احتياز القدرة والمكنة لفعل ذلك. ولا شك ان الاوضاع الثقافية والمعرفية المتردية والاوضاع الاجتماعية والاقتصادية الخانقة لا تسمح بتحقق التمكين السياسي . ولذلك فأن الديمقراطية الحقة ليست شأنا سياسياً محضا . بل هي قبل ذلك شأن ثقافي معرفي وشأن اجتماعي إقتصادي. ولذلك تتفاوت الشعوب في فهمها وفي قدرتها علي ممارسة الحق الديمقراطي. والنخبة الوطنية الحقة هي التي تجاهد وتناضل لرفع الجهل والأمية والتخلف الاجتماعي والحضاري والعجز المقعد والفقر المدقع لتتحقق للشعب قوته علي النهوض وقدرته علي الفعل . وطاقته للتحرك السريع في مسار التقدم الاجتماعي والاقتصادي. وما التنمية السياسية المفضية للانتظام الديمقراطي الا التنمية اللازمة للترقي الثقافي والاجتماعي.
الديمقراطية .. هي قوة المواطن:-
ولئن كان المعني المراد من الديمقراطية هو تحقيق قوة الجماعة السياسية (الشعب People) فأن قوة الجماعة لا تحقق الا بقوة افرادها . ومتانة الاواصر والوشائج التي تصل بينهم افراداً وفئات. وقوة الشعب مؤداها تحقيق قوة الوطن وعزته ومنعته وإنمائه وإغنائه ليتحقق له الرفاه والظهور بين الأمم. ولكن قوة الوطن ومعني الوطن لا يتحدد بالمكان اي بالجغرافيا . وانما يتحدد بالشعب اي بالديموغرافيا. فاحتشاد مجموعة متنافرة متباغضة في مكان واحد او جغرافيا واحدة لا يعني تحويل تلك الجفرافيا الي وطن . أنما الذى يحول تلك الجغرافيا الي وطن هو التجمع الأنساني المترابط المتوحد باهدافه ومقاصده وبالآمة وآماله . وكلمة (أمة) في اصلها العربي تعنى توجه الجماعة الي قبلة واحدة . اي انهم يمموا انظارهم نحو ما يشدها من مقاصد وآمال . وكلمة (شعب) في اصلها العربي تعني انحياز الناس الي ركن (شعب) دون سائر الأخرين لتعاطف او مصالح تجمعهم . فينشعبون الي جهة او صفة مائزة. فاذا بلغنا الى الاقرار الي ان الوطن لا يعني شيئاً ذا بال الا بالديموغرافيا اي باهله ومواطنيه فأنه لا معني لقوة الوطن او سيادة الوطن إلا بسيادة الشعب وسيادة الأمة . ولا تكون قوة ولا سيادة لأمة الا بقوة المواطن وكرامته وسيادته وارتقاء قدراته بغير حدود. واذا كان هدف الديمقراطية هو قوة الوطن فانما يوؤل ذلك بالضرورة الي قوة المواطن . والي تحقيق مكنة المواطن وسلطته علي التصرف بشأنه والمشاركة بفاعلية في الشأن العام. ولأن القوة والسيادة ليست التحكم في المصير الذاتي ودفع تدخل الآخرين وتحكمهم فحسب بل هي قبل ذلك القوة الذاتية للامة ولافرادها بازاء جميع عناصر الضعف الذاتي والخمول والخمود. ويعني ذلك القدرة علي النهوض والتقدم فجوهر الديمقراطية نهضوي تقدمي . يعمل علي انماء القوة الذاتية للأمة سبيلاً الي تحسين اوضاعها الانسانية والمعاشية . مؤدي ذلك الي الارتقاء الروحي والثقافي والاجتماعي والتقدم المادي والاقتصادي والعمراني . فذلك سبيل الامم الناهضة الي مقاصدها التي لا تنتهي إلا الى مقام رفيع يقودها الي مقامٍ أرفع بغير انتهاء .
ألفباء الديمقراطية:-
واذا كان الناس يتعلمون الأبجدية بالألفباء فأن التمكين الديمقراطي يستلزم التربية والتعلم الديمقراطي ابتداء من الفا بائه. ونعني بذلك أن تنمية قدرة المواطن تستلزم الاعتناء بالتعليم والتربية الديمقراطية . اي التعليم الذي يؤسس لبناء شخصية مقتدره علمياً ونفسياً علي ممارسة الحرية. فالتعليم والتربية والتنشئة وبناء القدرات هي أولي عتبات الديمقراطية . والتعليم الذي يقوم علي القهر والتلقين ومصادرة حرية الفكر الابداعي والتصرف الخلاق تعليم مناوئ للديمقراطية. وحق التعليم الديمقراطي حق يتوجب ان يكفل لجميع ابناء الوطن . وان تزال العوائق والحوائل التى لا تجعله متاحاً للغني والفقير علي حدٍ سواء. فلا يمكن لنا أن نتحدث عن معاني ان يكون الناس سواسية في الحقوق والواجبات وفي القدرة علي المساهمة والمشاركة في الارتقاء الجماعي إلا بالعمل من اجل ذلك ابتداء بالتعليم قبل المدرسي. ولئن كان الفرد يترقي في الاطوار السنية والفكرية والنفسية و والحركية عبر اطوار الطفولة والمراهقة فالرشد والنضوج والكهولة والشيخوخة فأن الديمقراطية ذاتها تمر بجميع تلك الاطوار. لأنها تجسيد لما يكون عليه الناس من احوال واطوار . فهي تمر بمرحلة طفولة ثم مراهقة ثم رشد ونضج وقد تأتي اليها الكهولة والشيخوخة . ولكنها في جميع اطوارها لكي يكون لها استحقاق ذلك الأسم يتوجب ان تحمل ذات الملامح في جميع الاطوار. واهم هذه الملامح القدرة علي الفعل الجمعي المنظم (Pluralism ) والتي يعربها البعض خطأ (للتعددية) . وما هي بالتعددية بل هي الجمعية والتي تعني اجتماع الافراد علي تفردهم علي شأن واحد يجعل من اعدادهم عدداً اكبر. أكبر قدراً وأصلب عوداً ومكسراً او كما قال الآخر :- تأبي الرماح اذا اجتمعن تكسراً... فاذا افترقن تكسرت آحادا . فمراد الاجتماع هو جوهر الديمقراطية ولكنه اجتماع طوعي لا قهري يقوم علي تساوي الجميع في الحقوق والواجبات . وتشمل تلك المعاني حق الجميع في المبادرة وحق التمثيل المتساوي للأمة . فعندما يقول الفرد أنا سوداني فان ذلك يعني انه يمثل السودان الأمة والسودان الوطن. وليس هنالك أحدُ أحق بذلك من إحدٍ آخر. فاذا تجمعت الآحاد المتساوية مثلت بذلك وحدة الامة ووحدة الوطن. والديمقراطية تعني سيادة هذه الجماعة المتوحدة علي مؤسساتها التمثيلية بحق الانتخاب والاختيار الحر لهذه المؤسسات . والسلطة الممنوحة تفويضاً للمؤسسات رئاسية او برلمانات او حكومات او قضاء لا تعني سيادة تلك المؤسسات علي الشعب وأنما تعني سيادتها بالشعب. فالمؤسسات التمثيلية هي وسائل ووسائط لتحقيق المرادات الشعبية . ويجب ان لا تسعي ولا أن تمكن من فرض سيطرتها (خارج التوافق الشعبي) علي الناس . ولا تهيمن علي الدولة والمجتمع بحيث تشغل كل الفضاء المدني. بل علي خلاف ذلك يتوجب ان تضيق وتنكمش مع تقدم الامة المساحة التي تشغلها تلك المؤسسات. ويتسع الفضاء المدني لتحرك المجتمع المدني ليكون المجتمع هو الذي يتصرف بشأنه ويفوض للدولة ومؤسساتها ما يراه مناسباً في الوقت الملائم لذلك التفويض. وقدرة الشعب علي التحرك خارج إطار هيمنة الدولة ركن ركين من أساسات الديمقراطية . فالمجتمع المدني هو الاساس والدولة هي الحاجة الطارئة والأستثناء بحكم الضرورة. ولذلك فلابد في كل الاحوال من علو مقام المجتمع المدني علي مقام الحكومة والمؤسسات التمثيلية جميعاً. فذلك هو السبيل الوحيد لتحقيق المساءلة الجماعية لتلك المؤسسات. سواء كانت هذه المساءلة سياسية او قانونية فالذي يساءل هو الذي يملك القوامة ويعتلي المقام الاعلي . فاذا كانت مؤسسات الدولة فوق المجتمع المدني فان المعني الوحيد لذلك هو نشؤ الدولة (التوتالتارنية) اي الدولة الشمولية التي تعلو فيها ارادة مؤسسات المتنفذة علي الارادة الشعبية. ولكي لا يحدث ذلك فلابد من تعزيز قدرة المجتمع المدني . وتأكيد الفصل بين السلطات وبخاصة السلطة القضائية العادية والدستورية واستقلالها التام عن تدخل السلطات الاخري فيما يقضي فيه القضاء.
الديمقراطية.. تحقيق الحرمات والحريات:-
واذا كان الرأي قد تأكد ان الديمقراطية لا تكون مستحقة لأسمها إلا اذا سعت لتمكين جميع المواطنين من المشاركة في ادارة الشأن العام علي حدٍ سواء . فان تحقق أرقي مراتب ذلك هي تحقيق ديمقراطية توافقية او ديمقراطية الاجماع . وهذه بعيدة المنال لأن التوافق العام لا يتأتي الا في اوقات شحيحة نادرة والتوافق العام او الاجماع مثل لخطة التوازن الحقيقية Equilibrium لا تحقق الا لثوان معدوددات. ثم ما لا تلبث عوامل الجذب من هنا وهناك أن تردها الي ميل لهذه الجهة او تلك الجهة الاخري. ولذلك فأن الصفة الأغلب علي الديمقراطية هي ديمقراطية الأغلبية . والتي ينقسم فيها الناس الي اغلبية واقليه والي موالاة ومعارضة . وعندئذ يتوجب أن لا تكون حقوق الاغلبية مطلقة مما يهدد حقوق الاقليه بالانمحاق التام . فأن ذلك من اكبر مهددات التئام الجماعة والتحامها لانجاز مهمات النهضة والتقدم . والأغلبية التي هي موضع الحديث هي الأغلبيه التي تستظهر بغلبة الراي الحر الذي يؤيدها عبر وسائل اختيار وانتخاب لا بأي شكل أخر من اشكال الغلبة القهرية. سواء كانت استظهاراً بالمال والجاه أو استقواء باجهزة عسكرية او أمنية . فشتان ما بين مفهوم الاغلبية الديمقراطي ومفهوم الغلبة القائم علي فكرة استقواء الشديد علي الضعيف. ولكى لا يحدث ذلك فلابد من ضمان عناصر القوة لجميع المواطنين . وذلك بصيانة حرماتهم فلا تدخل غير مأذون في خصوصياتهم. ولا أكراه للمواطنين لاعتناق عقيدة أو تبني فكرة. وكذلك يجب صيانة حرمات المواطنين وكفالتها في كل الظروف والاحوال . الا استثناء مقيداً في ظروف خاصة طارئة . يقبل فيها الشعب عبر مؤسساته قيداً مشروطاً موقوتاً لا يتعدي الي أية حرية اساسية. ولا يبيح اية حرمة لا تباح إلا بحقها وحقها الوحيد هو خروج صارخ علي القانون الذي يتساوي أمامه الجميع. وقد نظهر اهتماما بالحقوق السياسية المباشرة ولكن حقوقاً مثل حق المعرفة وحق الكسب المشروع وحق الترقي والتطور (الحق بالتنمية) تمثل حقوقاً ضرورية تنتهض عليها الحقوق السياسية الاخري. مثل حرية القول والتعبير وحرية التنقل والتنظيم . وحرية نشر الرأي بكافة الوسائل المتاحة في حدود قانون ديمقراطي لا يمثل عائقاً امام التعبير الفكري والسياسي لكل مواطن. ما لم يشكل ذلك التعبير اعتداء علي الحق الخاص او الحق العام. وجماع الحريات السياسية هو تمكين المواطن من المشاركة الفاعلة في الشأن السياسي العام حتي يعم التراضي الوطني الشامل. لتنعم البلاد بالاستقرار والوحدة المفضية الي السيادة الوطنية والتنمية المتوازنة المستقلة الشاملة التي هي مدرج الشعب للتقدم والارتقاء.
نواصـــــــــــــــــــــــــــــــل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق