تحدثنا في المقال السابق عن المشارب الفكرية والسياسية لأسامة بن لادن من لدن تأثره بالمدرسة الاخوانية الوهابية ثم تأثره بالمدرسة الاخوانية التي أنشاها الامام البنا. وربما كان بالامكان لشاب طامح مثل أسامة وقد ورث نحواً من ثلاثمائة مليون دولار عن أسرته الغنية وبأمتداده الاسري بين اليمن والحجاز والشام ان يدخل دنيا الاعمال حتي يكون فيها علماً ترمقه الأبصار كما فعل الوليد بن طلال الذي وصل بين نجد ولبنان. فوالدة أسامة سورية النسب ووالده يمني الاصل سعودي الولاء والتابعية وكان من أقرب المقربين من الملك عبد العزيز آل سعود ولكن اسامة وبعد أن ذاق عُسلية بعض حلاوات الدنيا مجها وأنصرف الي طريقٍ آخر.
الرحلة الي افغانستان
جاء اسامة أول ما جاء باكستان كما جاءها كثير من الخيرين بدفع من حكومتهم لتقديم العون الانساني للاجئين الافغان . الذين لجأوا الي بيشاور وكويتا داخل حدود باكستان هرباً من الغزو السوقياني لبلادهم. ولربما لم يكن في الحساب ولا الحسبان ان تمتد رحلته الي ما أمتدت اليه. فقد كان الترتيب الذي نظمته جهات سعودية في باكستان ان يري الخيرون من اصحاب الاموال احوال اللاجئين علي الطبيعة . فذلك ادعي الي دفعهم إلي سخاء هو سليقة عند كثيرين منهم. وبعد رحلته الأولي عاد اسامة للمملكة ليحث آخرين علي المسارعة للانفاق فإن ذلك باب واسع من أبواب الجهاد بالمال. بيد ان رحلته الثانية كان لها ما بعدها لأنه التقي فيها شيخ المجاهدين الدكتور عبد الله عزام الفلسطيني الأصل، الاخواني الفكرة، الأردني الجنسية. وكان عبد الله عزام ذا حماسة فائقة للجهاد ليس في فلسطين وافغانستان فحسب بل علي امتداد العالم الاسلامي . وكانت سبقت له مشاركات في انشاء نعسكرات التدريب التي اقامتها فتح في الأردن في سبعينيات القرن الماضي. كان تأثير عزام علي أسامة وعلي الشباب السعودي المتدين تأثيراً قوياً للغاية. واذا كان لأحد ان يعتبر مؤسساً لوجود المجاهدين العرب في افغانستان فان عزام أولي من ينسب له ذلك الفضل. وبتشجيع من عزام دخل أسامة داخل الحدود الافغانية علي المنطقة الشرقية التي يُسيطر عليها مجاهدون تابعون للقائد غلب الدين حكمتيار والذي كان أول من خرج مناجزاً للحكم الشيوعي حتي قبل الغزو السوفياني لافغانستان . وأسس حكمتيار تنظيما أسماه بالحزب الاسلامي. وكان حكمتيارعندما خرج طالبا في السنة قبل النهائية في كلية الهندسة التي يدرس فيها البروفيسور عبد الرسول سياف والبروفيسور رباني . وكان من زملائه في كلية الهندسة أحمد شاه مسعود والذي بدأ جهاده في الشمال الغربي في جبال بانشير وأصبح من أبرز القيادات الفاعلة والمؤثرة فى تلك الهضاب المجاورة لطاجيكستان. وفيها استطاع أحمد شاه مسعود ان ينشئ الجبهة الشمالية الغربية حيث يسكن رهطه من الطاجيك. وقد سبب قلقا مضاعفا للسوفيات حتي مشت الركبان بأسمه وسيرته . وأصبح يطلق عليه لقب أسد بانشير. كان هؤلاء اهم القادة للجهاد الاسلامي . وانضم سياف الي هذه المجموعةو التحق بالجهاد بعد خروجه من سجن بلوشرخى المشهور. كما ضمت من ابناء الباشتون القائد جلال الدين حقاني الذي بدأ جهاده في منطقة خوست ولايزال مرابطاً هنالك. وأما رباني فكان أقرب اتصالاً بمسعود يجمعهما الاصل الطاجيكي الواحد وعلاقة الاستاذ بالطالب. وتوثقت علاقات أسامة بالقيادات المرابطة في الشمال الشرقي والوسط الشرقي حيث حكمتار وحقاني . وكانت العلاقة علاقة دعم وامداد ثم ما لبث اسامة وانصاره ان اصبحوا جزءاً لا يتجزأ من الجهاد الأفغاني حين خاضوا المعركة الكبري معركة المأسدة التي تلاقت فيها الارواح واختلطت الدماء . ويومئذ أصبح العرب المجاهدون افغاناً عرباً او عرباً افغاناً . وهكذا بدأت الرحلة التي تطاولت ولربما ما كانت يوماً في صفحة الخاطر ولا مخيلة الذاكر. وتأكدت علاقات أسامة بالجهادالأفغاني . وأصبح وكأنه الأب الروحي للمجاهدين العرب وبخاصة بعد استشهاد عبد الله عزام . والذي نفخ روحاً هائلة في المجاهدين العرب حيا وميتا فتوسعت أعدادهم وبعد ان كانت مصادرهم منحصرة في السعودية واليمن وبعض بلاد الخليج امتدت لتشمل المجاهدين من الشام ومصر والسودان وليبيا والجزائر بل والصومال ومسلمين أفارقه آخرين جاءوا بغير اللسان العربي فتعربت ألسنتهم ثم تأفقنت حياتهم. وقد توثقت علاقة أسامة بالقائد جلال الدين حقاني وان كان غالب المجاهدين العرب تحركوا في مناطق يسيطر عليها المجاهدون التابعون لحكمتيار. ولم يحظ مسعود لبعد موقعه بالصحبة والدعم العربي كما حظي بها قادة الشرق حكمتيار وحقاني وسياف. ورغم مؤازرة أسامة لهؤلاء فأنه نأي بنفسه عن الخلافات التي أحتدمت بعد خروج السوفيات ثم سقوط النظام الشيوعي فى أيدى مجموعة رباني ومسعود التي دخلت الي كابول . حيث اندلع صراع مريع بين مسعود وربانى وسياف من جهة وحلف حكمتيار ودستم من الجهة الاخرى و ظل حكمتيارفي ضواحي كابول في جاراسياب يفاوض احياناً ويقصف كابول احياناً أخرى . ولكن أسامة ابتعد عن ذلك الصراع بينما أنقسمت عنه بعض المجموعات العربية لصالح حكمتيار. وكان أسامة علي الرغم من صلته الحسنة بالجميع غاضباً علي الجميع. لأنهم بددوا مخازن السلاح الهائله والقوة الخارقة التي ورثوها عن سلفهم الشيوعي في الاقتتال المريع بينهم حتي كادت كابول ان تصبح أثراً من بعد عين مما جاءها من راجمات من تلقاء الغرب الذي يرابط فيها قادة الشيعة على مزاري ومحسنى وأكبرى ومن تلقاء الجنوب حيث يستقر حكمتيار في جاراسياب. وعندما تواترت وفود الحركات الاسلامية التي ذهبت للصلح بين الاخوة الاعداء( وقد شاركت لثلاث مرات في جولات الصلح تلك برفقه الأخ الأكبر عافاه الله وأبقاه يس عمر الامام). كان الناس يقولون ان أسامة يمكن ان يصلح بين الفرقاء . ولكن أسامة لم يشأ ان يكون جزءاً من ذلك . ربما غضباً لأنهم بددوا القوة العسكرية الضحمة للبلاد . وكان يرجو ان تكون كما كان يطلق عليها القاعدة التي ينطلق منها الجهاد الي سائر اطراف العالم الاسلامي. و بخاصة الجمهوريات المسلمة في آسيا الوسطي التي خرجت من الاتحاد السوفياتي ولكنها لم تخرج من هيمنة من تبقي من أسلاف الشيوعين ولا من نفوذ روسيا الجمهورية الكبري. وعاد اسامة الي السعودية وكان العراق في محط إنتباهه الأول . ذلك أن صدام الذي خرج من حربه العشرية مع ايران بمشكلات اقتصادية ومالية كبيرة بدأ يكثف الضغوط علي دول الخليج لاخراجه من ضائقته المالية . وبدأ الحديث القديم يتردد من جديد حول تبعية الكويت للعراق . وبدأت دول الخليج تستشعر خطر فرانكشتاين الذي ساهمت في صنعه لردع ايران فاذا به يصبح هو مصدر الخطر الداهم. كان أبن لادن يرجو أن يسمح له ولانصاره ببدء حرب جهادية ضد العراق . ولكن طلبه لم يستجب له خاصة وفي الذاكرة مشاركة الاخوان المسلمين في حرب فلسطين ثم حرب السويس . ومساهمة ذلك في صناعة التنظيم العسكري الخاص الذي تحول الي صداع دائم لاهل الحكم في مصر قبل عبد الناصر وبعده. كذلك فأن امريكا التي ذهبت أبان الحرب علي السوفيات الي درجة افتتاح مركز لتجنيد المجاهدين في نيويورك باتت تستشعر خطر ما اصبح يعرف في كل العالم باسم الافغان العرب . والذين اغلقت أبواب بلادهم وغيرها في وجوههم . ولما كانت بوابة السودان مفتوحة بغير مزاليج فقد جاء عدد مقدر منهم للسودان وتسللت مجموعات اخري للجزائر لتشارك فيما تسميه بالجهاد بالجزائر. وقد سبب وجود عدد من الافغان العرب في السودان قلقا للدول التي ينتمي اليها هؤلاء. وما لبث اسامة نفسه ان انضم اليهم بعد ان سمح له نائب وزير الداخلية بالمغادرة بعد ان كان الوزير لا يسمح له بمغادرة المملكة . وجاء اسامة للسودان مستثمراً ولاجئاً في آن واحد. وقد وجد ترحيباً بوجوده و باعماله التجارية والاستثمارية . ولكن كان هناك حذر كبير من اي شكل من وجوه النشاط السياسي لئلا تتعاظم الضغوط علي السودان . وهو الذي ما زال يعاني حالة من الحصار التام عربياً وافريقياً. ويواجه توالي التصعيد العسكري ومقاطعة الغرب والمؤسسات الدولية، وما كان الرجل لينتظر التماساً بالمغادرة فقد غادر قبله الظواهري . فطلب ترتيب سفره الي افغانستان بالتفاهم مع السعودية ودولة خليجية اخري. وفي افغانستان أصدر اسامة مع أيمن الظواهري بيان اخراج المشركين من جزيرة العرب. وبدا التفكير في بناء تنظيم اسلامي عابر للدول علي شاكلة التنظيم الاخواني . وهكذا نشأت فكرة القاعدة التي بدأت بافغانستان ثم ما لبث ان اختار اسلوب لا مركزية الاعداد والتحرك.والقليل يمكن الركون اليه مما يتردد من أدوار مباشرة له في العمليات الكبري سواء في الخبر السعودية او سفارات شرق افريقيا او المدمرة كول . ولكن مما لاشك فيه انه ورغم لا مركزية الاعداد والتحرك فأن المعلومات كانت متوفرة لاسامة حيث هو . أحيانا حول النوايا والخطط وأحيانا حول طرائق التنفيذ ونتائجه . ولكن من الراجح أنه لم يكن له امساك بجميع الخيوط او حتي إخطار بكل التفاصيل. وعلي الأرجح ان عمليتا نيويورك وواشنطون في 11 سبتمبر وعلي الرغم من أدوار مساعدين مهمين له فيهما إلا ان أرجح التقديرات ان خلية هامبورج التي قادت العملية كانت تتحرك بقدر كبير من الذاتية وبقدر قليل من التمويل وبتكتم كبير . ولكن امريكا اختارت ان لا تحمل المسئولية الذين قضوا فيها . وكان لابد من الاشارة الي هدف واضح وكان اسامة ذلك الهدف الواضح . وعلي الرغم من أنه لم يقر صراحة بمسئولية حركته عن عملية 11/9 الا أنه لم يتنصل منها واشاد ببطولة وفدائية من نفذوها. وعلي خلاف ما يعتقد كثيرون فان علاقة اسامه بطالبان لم تكن متينة . ولم يكن مقيماً بينهم بل أقام في ضيافة القائد جلال حقاني الذي يسيطر علي مناطق في وسط شرق افغانستان في خوست . وهو قد صار حليفاً لطالبان والملا عمر وان لم يكن عضواً تابعاً للحركة. وبعد غزو امريكا لافغانستان لم ير اسامة كل الشر في ذلك. بل رأي ان امريكا جاءت قريباً بحيث يسهل تكبيدها الخسائر الفادحة التي تكبدها السوفيات من قبل . ثم جاء غزو العراق وكانت واحدة من الحجج لتبرير الغزو علاقة صدام بالقاعدة وهي حجة بينها وبين الحقيقة بون كبير. فما كان من المتصور باية حال من الاحوال ان يرتبط اسامة وانصاره بأي شكل من الأشكال مع نظام صدام الذي يعدونه بعثياً كافراً . بل أنه كان علي استعداد للتطوع مع جماعته للجهاد ضد صدام ونظامه بعد غزو الكويت ولكن لم يؤذن له بذلك . وبعد سقوط نظام صدام اعتبر اسامة ان فرصة ذهبية قد لاحت لمحاربة امريكا وطردها من العراق توطئة لطردها من المنطقة كلها. فلئن كانت القاعدة قد قدمت الي العراق فانما تم ذلك بفضل امريكا نفسها التى استدرجت نفسها للدخول للعراق . وصار للعراق دور كبير في تنشيط عمل القاعدة في جزيرة العرب وبخاصة في اليمن ثم في شمال افريقيا.
مستقبل القاعدة بعد الرحيل
واليوم بالارتحال المفاجئ لاسامة يتردد السؤال حول مستقبل القاعدة بعده. يتوقع البعض ضعفاً يعتريها حتي يتضاءل دورها تماماً . بينما يتوقع آخرون أن اسامة سيصبح عند انصاره شهيداً يلهم مقتله اتباعه باكثر من الهمتهم حياته وسيضاعف مقتله على النحو الذى جرى به تعاطف المسلمين الآخرين مع القاعده. ولاشك أن المراقب المتابع يعلم ان القاعدة قد أضُعف دورها بدرجة كبيرة في العراق . وذلك بسبب خلافاتها مع الاسلاميين المقاومين الذين اعترضوا علي كثير من افكارها وتصرفات قادتها وافرادها . وكانت تتهم بالتوسع في التكفير المفضى الي استسهال ازهاق ارواح المخالفين والمناوئين . وكذلك فأن الشقة قد اتسعت بينها وبين غالبية الاسلاميين الآخرين الذين نأوا بانفسهم عن منهجها في التفكير وطرائقها في العمل. ثم جاءت الثورات العربية الكاسحة باسلوبها المخالف تماماً لاسلوب القاعدة. ومهما سفكت من دماء في تلك الثورات فقد أثبت ان التغيير ممكن دون دفع الأثمان الباهظة التي يقتضيها اسلوب القاعدة في العمل. ولقد أثبتت التحركات الشعبية السلمية الواسعة نجاعتها في تغيير الزعامات المتواطئة مع المشروعات المناهضة للأمة. كما أنه سوف تثبت مقبلات الايام أن اسلوب المناهضة السلمية لسياسات الهيمنة والسيطرة الأجنبية علي البلاد الاسلامية سيكون له مردود أسرع في تحقيق نتائج ملموسة علي الواقع السياسي في المنطقة. ومما لاشك فيه فأن اسامة كان واحداً من الاسماء التي سوف يحفظها التاريخ في مجال المقاومة المسلحة لمن يعتبرهم اعداء الامة. وسيشهد التاريخ أنه دفع ثمناً باهظاً في مقاومته هذه الا أن التاريخ سيسجل القول المسكوت عنه وهو أنه مهما تعاطف البعض مع الرجل ومع حركته فسيجيب غالبية الناس بلا عن السؤال : هل يمكن لك ان تفعل كما تفعل القاعدة ورجالها؟ لا ريب ان السواد الأعظم لا يجيز ولا يبررمنهج القتل الجماعى . ولا يزال في النفوس تحفظ كبير علي كثير من الافكار والتفسيرات والتأويلات التي اعتنقتها القاعدة . ولا يزال في النفوس تحسر علي نفوس أزهقت بناء علي هذه التأويلات . ولكن هذه التحفظات لن تخفي التعاطف مع الرجل الذي يعتقد الكثيرون أنه قد اختار الطريق الوعر المسالك فتعب واتعب الكثيرين معه وكان في غير هذه السبيل مندوحة. ولكن اسامة قد اختار وأمضي إختياره وقد مضي لربه الذي هو أعلم به نية وعملاً وجهاداً . وقليل من الناس من يساوره الشك في صدق دوافعه ونواياه. وان اختلفوا مع رؤيته الفكرية وتقديره وتسييره للامور . وهؤلاء جميعاً ستترتفع أكفهم بالدعاء له وهل يشقي أحدٌ من الناس بعد كل هذا الدعاء ؟ أياً كان مرقده في البحر او البر فأن رحمة الله قريب من المحسنين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق