الثلاثاء، 14 يونيو 2011

دولة جنوب السودان.. الافق المعتم 2-1



       تبقت أسابيع علي انفصال جنوب السودان في التاسع من يوليو القادم لتولد أحدث دولة في افريقيا والعالم وذلك ما يحذب الأنظار لمتابعة أحداث الميلاد الجديد. وهو ميلاد يجئ في ظروف عسيرة بالنظر الي تدهور الاوضاع الأمنية في الجنوب وبين الجنوب وشمال السودان . وتصاعد الخلافات السياسية مع القوي الجنوبية الأخري.  وعدم تهيؤ الجنوب لتحمل المسئولية الاقتصادية المترتبة علي الانفصال . والتي تعني أول ما تعني الاستعداد لتوفير الطعام والاحتياجات الضرورية للمواطنين في الجنوب.  وتوفير فرص عمل لمئات الآلاف الذي نزحوا او هجُروا بواسطة الحركة الشعبية من شمال السودان دون تدبر في كيفية اكتسابهم لعيشهم في ظل انتقاء القدرة علي بناء اقتصاد كفائي او نقدي في الدولة الجديدة.
الحركة الشعبية.. ماهي؟:-
مما يدخل في أبواب الكسل الفكري هو أخذ الأشياء علي معناها اللفظي الشكلي لا معناها الدلالي العملي. وقد اعتاد الناس أن يُعرفوا الحركة الشعبية لتحرير السودان بأنها حركة تمرد علي الدولة السودانية.  تقاتل بدعم من قوي اقليمية ودولية لتخليق واقع مغاير بالكامل في الدولة السودانية لتصنع ما تسميه بالسودان الجديد أوهى تعمل علي اقتطاع الجزء الجنوبي منه ليكون هو ذلك السودان الجديد. بيد أن سعي جماعة مسلحة لتغيير الواقع السياسي في بلد في البلدان ليس بالشئ الجديد فهو أمر تجشمه كثيرون عبر الانشقاقات المتمردة أو الانقلابات أو حتي الغزو الأجنبي. ولكن ما يميز أية حركة تمرد او انقلاب عن الحركات الأخري هو الفكرة والقيادة. فالفكرة لابد أن تكون واضحة وملهمة . والقيادة لابد من أن تمتلك القدرة علي الاستقطاب والحشد والتوجيه. وبهذه المقاييس فان الحركة الشعبية تشكل تحدياً لمصنفها ومُعرفها. ذلك أنها حركة بلا أيدولوجية فكرية واضحة. فإن واقع الاعتراض علي سيرورة الامور بالدولة السودانية لا يحول ذلك الاعتراض الي فكرة بناءة. وقد كانت الحركة في أول شأنها يسيرة علي التصنيف.  ذلك أنها وبحكم تحالفها مع نظام منقستو  هيلا ماريام الماركسى قد تبنت (مانفستو) اعلاناً ايدولوجياً يصفها في مصاف الحركات اليسارية الماركسية. وبناء علي هذا الاعلان فقد وجدت تعاطفاً من دول المنظومة الاشتراكية علي الرغم من تحالف الحركة من جهة أخري مع مجموعة من الكنائس المتشددة . والتي تعتبر جنوب السودان نقطة تماس مع الزحف الاسلامي نحو افريقيا . ولأجل المانفستو الماركسى انفتحت فرص التكوين الأيدولوجي والتدريب العسكري للحركة في كوبا علي الخصوص. و التي أصبحت بمثابة المحضن الثوري الثاني للحركة بعد أثيوبيا. وهنالك تلقت كوادر عديدة من الكوادر الشابة تكوينها الفكري وتدريبها العسكري حتي قال باقان أموم في يوم من الأيام أن انتماءه لكوبا أكبر من انتمائه للسودان. لماذا لا اليست الايدولوجية الماركسية تقول( الدجي يرضع من ضؤ النجيمات البعيدة).
بيد أن التحولات في الواقع الأقليمي والتي اضطرت الحركة الي اللجؤ الي كينيا والي التعويل علي دعم الكنائس المتشددة ومجموعات الضغط الأمريكية الأوربية ألقت بالمانفستو الماركسى الي ركن المزبلة القصى ولم يعد أحد من المتابعين أو المراقبين يسمع بذلك المانفستو وانما تحول الزعيم نفسه ليكون هو الفكرة . وأصبح كتاب (جون قرنق يتكلم) هو مصدر الأفكار للحركة . وصارت محاضرات القائد العسكري والزعيم السياسي للحركة التي صُورت لتناسب التحالف الجديد هي الفكرة . وبذلك لم تعد الفكرة هي الاشتراكية العلمية الثورية وجرى استبدال التحليل الجدلي الماركس الذي يقرر أن جوهر الصراع طبقي بفكرة التهميش التي تزعم أن جوهر الصراع أثني ثقافي . ولئن كان حل الاشكالية لدي الاشتراكيين العلميين هو توحيد قوة العمل وتمكين الطبقة العاملة فان الحل فى الفكرة الجديدة هو استبدال تمكين اثنيات بزعم انها هي المسيطرة باثنيات أخري بزعم انها هي المهمشة . ثم أن الثقافة التي هي لدي ماركس تابعة للانحياز الطبقي تصبح لدي جون قرنق تابعة للتصنيف العرقى. ولذلك فان مقولة تحرير السودان لا تعني تحرير السودان من نظام حكم بعينه وانما تحرير البلاد من سيطرة مجموعة اثنية "يطلق عليها الجلابة" مجازاً ومن ثقافة متعالية بزعمهم هي الثقافة العربية الاسلامية . وهكذا تطورت الحركة من حركة بناء اشتراكي "مهما يكن اختلاف الرأي حول ذلك" الي حركة هدم ثقافي اثني.
مأزق الفكرة
        هذا التحول أدخل الحركة في مأزق ضيق والمأزق بطبعه ضيق لأنه حجر الضب . وهكذا أدخلت الحركة نفسها في حجر ضب خرب. ذلك أن التجاذب الاثني العرقي هو آفة الجنوب الأولي . فاذا تحول الصراع من صراع طبقي الي صراع اثني فان أول التهاب النار سيكون في جنوب السودان بادئ ذى بدء. واما الاشارة للمسألة الثقافية المتصلة باللغة والقيم الدينية والاجتماعية فانه يبطل الزعم بأن جنوب السودان  بصفته وحدة اقليمية يمكن أن ينفك من الوشائج التي تصله باللغة العربية لساناً ناظماً لكل العرقيات والقبائل بجنوب السودان (وحتي في جيش الحركة نفسها) . او تلك الأواصر التي تربطه بالقيم الدينية والاجتماعية والأخلاقية في شمال السودان. لاشك ان الجنوبيين الذي عاشوا في شرق افريقيا في كينيا ويوغندا قد أدركوا انهم لا يشكلون تواصلاً للقيم الثقافية والاجتماعية السائدة في تلك البلدان بقدريمثلون امتداداً لما يُسمي بالثقافة السودانية . التي وان كانت القيم الاسلامية واللغة العربية مشربها الرئيس الا ان مواردها عديدة . ومتجذرة في الثقافات المتنوعة في ارجاء السودان المختلفة التي تعدد فيها اللهجات والعادات والمثل الاجتماعية . ومأزق الحركة الثقافي هو انها ليست داعية للتباعد من اللغة العربية والثقافة السودانية بما هي عليه لتتقارب مع لغة بديلة في جنوب السودان أو قيم ثقافية واجتماعية محلية بل انها تريد أن تكون ناسخاً للغة الانجليزية ولقيم الثقافة الغربية في محاولة عبثية لغرسها في تربة افريقية عجزت تلك اللغة وأخواتها وتلك الثقافة واضرابها ان تضرب جذورها فيها. فاللغة الانجليزية مهما ظفرت به من وضع رسمي في شرق افريقيا عجزت ان تخترق الحد الفاصل بين النخبة والشعب لتكون لغة الشعب. فالسواحلية أثبتت أن اللغة الاصلية غير قابلة للاستبدال مهما استقوت الدخيلة بالدساتير والقوانين والتعليم والاعلام الرسمي. وكذلك فان اللغة العربية والهوسا وغيرها من اللغات الأهلية في غرب افريقيا أوقفت اللغة الفرنسية قي أسوار المؤسسات الرسمية والمدراس.  وظل الشعب حريصاً علي لغتة وثقافته وهويته التي هي اكبر من كل متعلق آخر من لبوس الحضارة الغربية او سمتها او قيمها المتبدلة المتحولة بتبدل احتياجات الانسان المادية او طغيان غرائزه السفلية.
        مأزق فكرة الحركة الشعبية أنها ترمي الأغيار بدائها الذي هو تأسيس الهوية لا علي الفكرة والعقيدة والمثل الاجتماعية والاخلاقية بل تاسيسها علي الأصل العرقي.  ولئن كانت الحركة لا تبصر ارتداد هذا المفهوم عليها فهي مثل ذلك الفرعون الذي لا يري عورة نفسه بينما يكتم الناس من حوله صيحات الدهشة والاستغراب . فعندما كانت الحركة تفاوض الحكومة في نيفاشا كان مكتبها القيادي يضم ثلاثة عشراً فرداً من قبيلة واحدة واثنان فقط من كل قبائل الجنوب الأخري. ولم تكن الغلبة الاثنية علي قيادة الحركة في الماضي أو الحاضر بغائبه علي كل ذي بصر بينما تقول الحركة أنها حرب علي الاقصاء الاثني وعلي التهميش العرقي.
        ومأزق الحركة الفكري والثقافي أنها ليست حركة لاثبات خصوصية المكون الثقافي الجنوبي واعلاء حظه في اثراء الثقافة القومية بل هي داعية تغريب alienation  واستغراب westernization . وهي بذلك تقف في الموضع الموازي لكل حركات التحرير الافريقية.  بدءاً بكينيا كنيتانا الي جنوب افريقيا مانديلا والتي جميعها خركات اعتزاز بالثقافة الافريقية ودعوات لاحياء تراثها وآدابها ولغاتها. وقد لايستغرب العليم ذلك الموقف فالحركة الشعبية بخلاف حركات تمرد وثورة عديدة لم تعتمد علي تعاطف المواطنين المحليين ودعمهم واسنادهم بقدر ما اعتمدت علي دعم مجموعات الضغط والمنظمات الأجنبية.  حتي كادت ان تصير بل اصبحت ربيباُ و حركة متبناة للمنظمات غير الحكومية الأجنبية ومجموعات الضغط الديني الغربى . ولا تزال وهي تدنو الي نقطة التحول من وضعها الراهن الي استشراف الدولة الجديدة تضع مُعولها الأكبر لا علي شعبها بل علي تلك النجيمات البديلة في أمريكا وأوربا.



نواصــــــــــــــــــــــــــــــــل،،،،،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق