تحدثنا في المقال السابق عن الحركة الشعبية والتي يتوقع ان تنشئ أحدث دولة تشهدها القارة الافريقية والعالم في التاسع من شهر يوليو القادم. اوضحنا كيف أن الحركة التي بدأت حركة احتجاج تنقلت في الايدولوجيات والخيارات السياسية بحسب الحال . وأنها أنتهت الي حركة تقودها طموحات الزعيم وافكاره وبفقدان الحركة لزعيمها فقدت قوامها الفكري والتنظيمي . وتحولت الي مجموعات متحالفة في الظاهر متنافسة في الباطن . ولأن الفكر الذي اقتاتت عليه الحركة يجعل معولاً كبيراً علي التدافع العرقي ولأن الواقع الاجتماعي للجنوب يجعل القبيلة هي العصبة الاجتماعية والسياسية فان الظاهر السياسي للحركة يخفى انقساماً قبلياً يجعل مهمة بناء الدولة الجديدة مهمة جد عسيرة
شعب جنوب السودان.. واقع الحال
تواجه الدولة الجديدة معضلة ليس لها سابقة في تاريخ نشأة الدول الافريقية . وهي حاجتها الي هوية مشتركة تعطي معني لعبارة (شعب جنوب السودان) . فاذا كان للدولة ان تكون (دولة جنوب السودان) فان أهم مكونات هذه الدولة هو شعبها . ولايكون الشعب شعباً Nation لتكون له دولة Nation State الا اذا كانت له هوية مشتركة . تقوم علي تاريخ من الحياة المشتركة والتراث الثقافي واللغة العابرة للاثنيات . وربما الكفاح المشترك من اجل مقاصد ينشدها الجميع. ولكن كل ذلك تكتنفه علامات الاستفهامات في حالة جنوب السودان. فعلي الرغم من الجغرافيا الواحدة فان قبائل جنوب السودان تعيش متباعدة مالم يقدها هذا التباعد الي حروبات طاحنة بسبب التنافس علي الموارد أو حتي العدوان لاستلاب الابقار وغيرها من الموارد الاخري. وعلي الرغم من التشابه في بعض المعتقدات والممارسات فان الحديث عن تراث ثقافي موحد لجنوب السودان حديث ينطوي علي تجاوز كبير. فالقبيلة ظلت دائما هي المرجعية الثقافية ممثلة في ثقافة تقديس الاسلاف . ولذلك فان انماط كسب العيش او طرائق ممارسة الحياة ظلت متأثرة بمعطيات البيئة وخبرة الاسلاف في التعاطي مع البيئة ومع الكون والحياة بصورة عامة . وكان انعدام اللغة الواصلة بين القبائل سبباً آخر لتكريس العزلة الثقافية القبلية . ثم أن اتجاه القبائل للمعيشة متباعدة في شكل عشائر بصورة لا تعين علي انشاء القري بله عن البلدات والمدن كان هو الآخر عاملاً في هشاشه النسيج الاجتماعي. فمن المعلوم أن التحضر الذي هو المعيشة في قري كبري أو بلدات أو مدن يشكل اكبر العوامل في دمج المجموعات السكانية لتشكل مجتمعات متماسكة قابلة للادماج في مجموعة اكبر يمكن ان يطلق عليه مفردة شعب. هذا الفراغ الاتصالي بسبب تباعد السكان وانعدام اللغة العابرة الا في المدن . وهي اللغة العربية البسيطة التي يطلق عليها عربي جوبا احياناً ولا يطلق عليها اي اسم في الاحيان الأخري جعل من الجنوبين حالة فريدة مقاومة للاندماج الاجتماعي. فحتى عند هجرتهم للمدن الكبري فان القبائل لا تتساكن بل تنشئ مجمعاتها الخاصة بها . وينتقل نظام القبيلة الي المجمع الجديد بتقاليده وأسلوب حياته وسلاطينه بل وحتي عداءاته التاريخية. لذلك فان التحدي الأعظم الذي يواجه قيادات الجنوب اليوم هو تسريع أنماط الاندماج الاجتماعي عبر وسائل متعددة أهمها انشاء البلدات الجديدة أو توسيع تلك القديمة . ونشر التعليم ومكافحة النزاعات القبلية وسد فجوات الثقة بين القبائل . ولكن كل شواهد سلوك الحركة الشعبية لا تبشر بأنها تتحرك في ذلك الاتجاه بل هي تتحرك في اتجاه الفرز القبلي . وتكريس النزاعات القبلية . بل ومحاربة اللغة العربية والتي يمكن ان يعين انشارها علي تحقيق اتصال لغوي وانساني بين قبائل الجنوب. ومحاولات استبدال اللغة العربية بالانجليزية أو السواحلية أو محاولة فرض لغة قبيلة بعينها يبدو فشلها ظاهراً للعيان لكل ذي بصيرة.
الاقتصاد ركيزة الدولة
ولئن كان لابد للدولة من شعب متجانس فلابد لهذا الشعب من اقتصاد يكفي احتياجاته المباشرة والتكميلية. وربما ألهي النظر للموارد المالية المتاحة لجنوب السودان من خلال تصدير النفط الانتباه عن التركيز عن أزمة حقيقية في الاقتصاد الكفائي . أي قدرة شعب جنوب السودان علي تحقيق انتاج يكفي غذاءه واحتياجاته الاساسية. فالتحولات الكبيرة التي تجمعت من التغيرات البيئية ومن أثار الهجرة واللجؤ علي ثقافة العمل والغذاء تجعل مشكلة الانتاج الغذائي مشكلة حقيقية يواجهها جنوب السودان. ولن يجديه أن يعتمد شماله علي واردات شمال السودان وجنوبه علي واردات شرق افريقيا. فهذه الواردات ستجعل الدولة الجديدة عالة علي الاستيراد مما يضعف قدرتها علي النمو الي مدي بعيد. ولابد من التخطيط والعمل السريع لتحويل تربية الابقار الي نمط اقتصادي قادر علي تلبية احتياجات الغذاء والمساهمة في الاقتصاد النقدي . كما يجب توسيع الرقعة الزراعية وتنويعها بحيث تستجيب لحاجات السكان الغذائية الجديدة. وكذلك تطوير مهنه الصيد للقبائل التي تعتمد علي صيد الاسماك في طعامها. وقد لاتبدو المشكلة ماثله في حجمها الطبيعي. ولكن القيادة في جنوب السودان ستتفاجأ بحاجتها للتعامل مع وضع انساني مريع حيث تنشأ معسكرات للحائعين حول المدن مما ينشئ وضعاً مشابهاُ للأوضاع التي سادت في شرق افريقيا لبعض الوقت. هذا الوضع يمكن ان يتجه لمزيد من التدهور اذا أصبحت النزاعات القبلية وتمردات قادة الجيش الشعبي عاملاً آخر لدفع موجات من النزوح وتعطيل الحياة الانتاجية الاقتصادية.
الأمن الداخلي والاقليمي:
عدم توفر الأمن الداخلي بسبب التمرد أو النزاع القبلي ومهددات الصراع الاقليمية بسبب انتهاج الحركة لسياسة بناء محور بين جنوب السودان ويوغندا موجهاً ضد شمال السودان كل ذلك سيجعل فرص انشاء دولة قابلة للبقاء والنمو فرصاً ضئيلة للغاية. وإذا كان ثلة من العقلاء في جنوب السودان يدركون أهمية تحويل شعارات الحركة في حقوق الانسان والديمقراطية الي واقع مملوس هنالك الا أن الافعال لا تزال تناقض الاقوال. فالحركة فشلت في بناء ديمقراطية تعددية. ولا تزال تحرص علي استدامة الواقع الشمولي الذي كرسته خلال سنوات الفترة الانتقالية. كما أن اتباع سياسة الفرز القبلي توشك أن تشعل نزاعات قبلية داخل الجيش الشعبي وخارجة تمرداً علي سلطته. فشعور قبائل باكملها مثل قبيلة الشلك بأن الجيش الشعبي أصبح مهدداً لبقاء ومصالح القبيلة دلالة علي فشل قادة الحركة في ادراك ضرورة اضفاء صفة المدنية علي الدولة . اي ابعاد العسكريين عن الهيمنة علي الدولة وكذلك بناء دولة المواطنه التي يتساوي فيها جميع المواطنين باختلاف قبائلهم او أديانهم. ولكن بالنظر الي المشهد في جنوب السودان فان توقع قيام دولة مواطنة مدنية في جنوب السودان يبدو توقعاً يستند علي الآمال باكثر من استناده علي الوقائع. ولئن كانت دولة جنوب السودان قد جاءت نتاجاً لحركة تمرد فان اخطر ما يهددها الآن هو الذي أنتجها أي التمرد نفسه . والتمرد تزكيه نزاعات قبلية وصراعات شخصية واطماع في موارد مالية لايحرسها نظام فاعل من الكفاءة او الرقابة الادارية والمالية. ولذلك سيتوجب علي القيادة ان تسرع في احتواء ظواهر التمرد من خلال توافقات سياسية . ومن خلال بتاء ديمقراطية حقيقية فالفرصة لا تزال متاحه لأنه وحتي هذه اللحظة فان هذه التمردات معزولة عن كل دعم اقليمي او تعاطف دولي. ولكن ذلك سرعان ما يتبدد نتاجاً لسياسات الدولة الجديدة او أطماع الدول حولها في تدوير مواردها او نتاجاً لتحركات لوبيات او أجندة دولية سرعان ما تجد من يعبر عنها وعن أجندتها في واقع الدولة الجديدة.
خاتمة
لسنا نذكر كل ذلك رغبة منا في رؤية فشل المشروع الانفصالي في جنوب السودان لأن فشل الدولة الجديدة لن يحقق شيئاً للسودان سوي دفع مزيد من النازحين واللاجئين وربما تهديد الأمن الوطني للبلاد ولكننا ننظر في الأفق الممتد أمام الدولة الجديدة فلا نري الا أفقاً ملبداً بالغيوم المعتمة. ولكن الرجاء هو ان تنكشف كل تلك الغيوم عن فجر جديد لدولة مدنية ديمقراطية في جنوب السودان . لأن مولد تلك الدولة بتلك الصورة سيشكل دفعاً لجهود السودان في تحقيق الاستقرار والتنمية لتكون صفقة انفصال الجنوب رابحه للجميع.
أنتهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــي،،،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق