Search يدور سجال برلماني وأعلامي هذه الأيام حول مسألة الأقتراض بفائدة للتعويض عن عجز موارد الدولة للاستجابة لحاجات ماسة لقطاعات واسعة من الشعب . سواء كانوا فلاحين أو عمال أو مستهلكين لاحتياجات ضرورية مثل الماء والكهرباء والدواء والانتقال والتعليم والتسليح. والسؤال الذي يتجشم الجميع الأجابة عليه بأجابات متفاوتة ليس هو فحسب الي أي مدي يذهب المسؤولون في تفسير مقتضي الضرورة والحاجه لاباحة اقتراض الدولة بفائدة من الدول والمنظمات الدولية الأخري. فهذا السؤال ليس بجديد فالشريعة من لدن تحكيمها في العام 1983م وقبل ذلك كانت تعتبر الاقتراض بفائدة غير جائز. وان خالف في ذلك مخالفون معظمهم علماني وقليل منسوب للفكر الاسلامي. بيد أن الدولة ظلت تقترض بفائدة ومستندها الحاجه التي لا يُستغني عنها لمثل هذه القروض. وظل الاسلاميون يختلفون علي ذلك بحسب مدارسهم الفكرية ومواقفهم بين التشدد والمرونة أو التعصب والترخص. بيد أن هذا السجال يشير الي قضية أكثر أهمية من موضوعه لأنها أكثر عمومية . وهي قضية الالتزام بالشريعة هل هي قضية معللة بالنفع الذي تجلبه الشريعة أم أنها مسألة عبادة غير معللة سواء أبصر الناس بالمنافع أو عميت عليهم فأن الالتزام بالشريعة أمر عبادة محضة شكلية ولا يرد عند تطبيق الأحكام الشرعية ما اذا كان مآل التطبيق الي النفع او الضرر.
الشريعة.. لماذا شرعت:-
الأجابة علي هذا السؤال ستلقي ضوءاً كاشفاً علي مجمل الموضوع قيد النظر. ذلك أن سؤ القهم أو نقصه لمعني الشريعة ولمراداتها سبب لالتباس كبير في فهم أحكامها. فالشريعة هي المقتضي العملي للدين " شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ" فمقصد الشريعة هو اقامة الدين أي نقله من المثال المتصور الي الواقع المعاش وتحقيق الوحدة ثمرة لتحقيق الدين في الواقع. وخطاب الشريعة متوجه للانسان لأن مرادها تحقيق الرحمة له " الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ القُرْآنَ . خَلَقَ الإِنسَانَ . عَلَّمَهُ البَيَانَ" والقران هو كتاب الله الواحد القديم في اللوح المحفوظ الذي علمه للملائكة. وطلب من الملائكة أن تعلمه للرسل . وعلم الانسان طرق الابانة والافصاح ليتمكن من فهم الرسالة. فالله سبحانه وتعالي خلق الانسان ولم يتركه سدي بل هداه النجدين بالفطرة الموسومة في وجدانه وبالهدي المتنزل اليه عبر المرسلين. ومراد تنزل الدين بالشرائع هو رحمة بالعالمين " قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" فالشريعة جاءت لاقامة الدين والدين انما أنزل تعهداً ورعاية ورحمة بالانسان. وترقية لحياته العاجلة والآجلة " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ " لأن شريعة الله هى منهاجه للحياة الحقة الكريمة اللائقة بكرامة الانسان لدي ربه سبحانه وتعالي. فالشريعة هي المنهاج الذي يؤدي الي حقائق الدين . والدين الحق هو السبيل الأوحد لادراك حقائق الحياة وتحقيق السعادة فيها. فالشريعة والدين هما رحمة بالعالمين وكذلك الانبياء والمرسلون " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" والاجابة علي السؤال أصبحت واضحة لأن الشريعة انما شُرعت لتحسين حياة الانسان فرداً وجماعة . وتحقيق مصلحته ومنفعته ورفع الاصر والحرج والمشقة عنه . وهي بخلاف الرهبانية التي هي بدعة انسانية أنشأها التشدد في الدين فجعلت من المشقة والعسر والحرج مركباً الي الرضوان الالهي وليس ذلك لها بسبيل. وإن كان رسولنا صلي الله عليه وسلم قد أخبرنا أنه لا رهبانية في الاسلام لأن رهبانية الاسلام هي الجهاد فأنه لا تزال طائفة من المسلمين يسلكون ذات سبيل الذين اثروا التشدد علي النفس وعلي الغير سبيلا الي رضوان الله . وما عملوا أن رضوان الله أقرب منالاً بالرحمة والاحسان لعياله أخوانهم في الانسانية . فالخلق جميعاً عيال الله ومن جعل دأبه أن يرحم خلق الله ويحُسن اليهم دخل في ثلة المصطفين الاخيار.
النفع العام.. ماهو ؟
الشريعة بما تقدم من قول هي حاجة للانسان وليس لله فيها حاجه . لأن الناس جميعا لو كانوا علي قلب أفجر رجل منهم ما نقص ذلك من ملك الله من شئ. فمقصود الشريعة هو منفعة الانسان والنفع انما يكون خاصاً وعاماً . والنفع العام مُقدم علي النفع الخاص لأنه منفعة الانسان لا تتحقق إلا في اطار منفعة الجماعة. ولا غرو أن خطاب القرآن جله موجه للجماعة باستخدام النداء " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" فالجماعة المتوحدة بالايمان هى مناط الخطاب بالتوجيهات والتكاليف . وأما معني النفع العام public interest فهو يشير الي ما يحقق الرفاه العام أي ما يُذهب خوف الانسان من العجز عن حماية نفسه أو نسله او أهله أو تحصيل رزقه " أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ" ولا شك أن المعني المشار اليه ههنا معني واسع . ولذلك فهو يحتمل الاختلاف في معني ما يجلب الراحة والاطمئنان والسعادة للناس. وما يسبب الضيق والمشقه والخوف والتعاسة لهم. ثم أن السؤال يرد عن العدد المطلوب لاعتبار النفع نفعاً عاماً . وهل لابد أن يستغرق المعني كل فرد من المجتمع أم أن شمول طائفة مقدرة من المجتمع يمكن أن يسمح باستخدام مصطلح نفع عام. والأرجح أن الاشارة الي النفع تعني كل المجتمع اذا تعرض أفراده للظرف المتعلق بالمنفعة المشار اليها . كما يشمل السواد الأعظم والجمع الغفير ايضاً وان لم يقع تحصيل المنفعة من جميع أفراد المجتمع . مثل أن يُقام سد لتوليد الكهرباء ينتفع منه ملايين من الناس ولكن ملايين آخرون لا يحصلون تلك المنفعة فأنه يجوز أن تقول أن ذلك يحقق النفع العام. ومفهوم النفع العام يكاد يدخل في كل شئ من الحياة المعاصرة من اقامة الدولة نفسها لتحقيق المنافع العامة عبر التشريعات والسياسات والمؤسسات الي مفاهيم تنظيم الحياة السياسية والاقتصادية لدرء المفاسد وجلب المنافع العامة.
والشريعة كما قدمنا مقصدها تحقيق المنافع للانسان فرداً وجماعة . ووسيلتها في ذلك تهذيب سلوك الافراد والجماعات وتنظيمه ليصب في تحقيق مصالح الجميع . وسبيلها الي هذا التهذيب هو التربية والتشريعات العامة والسياسات العامة واقامة السلطات والمؤسسات. فالتوجيه الشرعي والقانون الشرعي والسياسه الشرعية هي تلك التي يكون الناس بسببها أقرب للصلاح وأبعد عن الفساد. والمصلحة والمنفعة مفعلة من النفع . والصلاح وهو كون الشئ علي هيئة كاملة بحسب ما يراد ذلك الشئ له . مثل القلم يكون علي هيئة المنفعة للكتابة لأن الكتابة هي ما يرُاد القلم له لا الزينة للجيوب والمدية تكون علي هيئة المصلحة للقطع لأن ما يراد بالمدية هو القطع . والمدرسة تكون علي هيئة المصلحة للدراسة لأن ما يرُاد من المدرسة هو التدريس. وجلب المنافع ودرء المضار والمفاسد لا نعني به قدرة الناس على تحصيل ما يرونه منفعة لهم بل لابد من موافقة تلك المنفعة لمقصود الخلق والخالق في آن واحد لكي تكون مصلحة أو منفعة شرعية أو مشروعة. فليس كل ما يراه الانسان نافعاً له هو نافع له في الحقيقة . فلربما أعتقد البعض أن حصوله علي التبغ للتدخين منفعة مقدرة وهي ليست كذلك في منظور العقل والشرع . وكذلك قد يعتقد البعض أن ممارسة الرياضة بها منفعة له وهي كذلك في ميزان العقل والشرع ولكن الافراط في ذلك يجعل المنفعة تنقلب الي ضدها . ولذلك فان المقدار له اعتبار في تقدير المصالح مثلما للنوع اعتبار. ومقصود الشريعة أن تهدي مقاصد الناس لتوافق مقاصد الشارع. ذلك أن الانسان لا يؤمن اعتماده بالكامل علي تحكيم العقل في تقدير المنافع في كل الاحوال . فكثيرا ما انفك عقال الهوي من العقل الراشد فقاد الأفراد والجماعات الي ما تسؤ عقباه. ولا نحتاج الي سياقة البراهين علي هذا الأمر فهو مشهود لكل انسان في ممارساته الشخصية وفيما يري من سلوك الافراد والجماعات والحكومات والدول. الذي كثيراً ما تنكب سبيل المنطق السليم والحق القويم فقاد الناس الي فساد كبير " وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ" وانما يتبع الناس اهواءهم لاعتقادهم الخاطئ. أنها تؤدى الي تحصيل المنفعة و تحقيق السعادة. كما يعتقد المدخن أنه يحصل متعة التدخين ويعيش لحظات سعادة وهو يجذب وينفث الدخان الي ومن صدره الي الفضاء العريض.
ولكن اعتبار المنفعة هو المبدأ الذي يقبل أو يرفض أي فعل بحسب التوقع أنه يعُزز أو يعوق تحصيل السعادة للفرد والجماعة . ولا نحتاج الي تعريف السعادة فهى حالة الاطمئنان والرضي والانشراح التي يلقاها الانسان في وضعه وفي نفسه بتحقق أمر مُعين. ولكن الشعور بالسعادة لا يتطابق مع تحصيل المنفعة أو المصلحة بل قد يسعد الانسان بما يضره أحياناً " وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ " ولذلك فان تطابق هداية الشرع وهداية العقل في تحصيل المنافع أمر لابد منه للتيقن من أن مآل الأمر الي نفع وصلاح.
نواصــــــــــــــــــــــــــــل،،،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق