الثلاثاء، 5 يوليو 2011

الشريعة.. والنفع العام 2-2

Search أوضحنا في المقال السابق أن مقصود الشارع من تنزيل الشريعة هو تحصيل السعادة للفرد والجماعة . لتحقيق المنفعة ودفع الضرر في كل ما يؤتي وما يمتنع عنه. والشريعة التي نشير اليها هنا هي التنزيل والتخريج . ونقصد بالتنزيل ما أنشأه الله ابتداء من تعاليم واحكام وبالتخريج ما أستنبطه المجتهدون وفقاً لأدلة الأحكام والقواعد المستقاة من النصوص الالهية. وبهذين البعدين تكتسب الشريعة بعدها الالهي والانساني. فهي امشاج واستنباط من مصدر الهي لا ينضب وعين لا يُغور ماؤها ولا يفرغ إناؤها. ولئن كانت المصادر الالهية قرآناً وسنة انما انزلت رحمة للعالمين فلا يجوز أن يخالف الاستنباط والتخريح منهجها ولا ان يتجاوز مقصدها. ولذلك فان فقه الفقهاء وفتاوي المفتين واحكام الامراء والرؤساء يتوجب ان تتحري الرفق واليسر والرحمة في كل ما تفتي أو تحكم به.
الحكم لا يكون إلا للمنفعة:
الحكم مشتق من الاحكام اي وضع الشئ موضعه والحكمة هي كذلك . ووضع الأشياء مواضعها هو اتباع لسنن الله الكونية والشرعية . التي هي تحقيق للمرادات الالهية التي لا تنشد الا الحق ولا تقصد الا الخير ولا تتحري الا الجمال. فالحكم الحق هو لله وانما الانسان مسدد مقارب. يقترب باتباع المقاصد الالهية الي تحقيق الحق والخير والجمال ويبتعد بالهوي عن ذلك بقدر مخالفته للهدي الالهي وموافقته للهوي ونزغ الشيطان. وقد أجمع العلماء والفقهاء أن الدولة لم يؤمر بانشائها الا لتحقيق المصلحة والمنفعة للناس باتباع سبيل الحق. فالحاكم خليفة لله في الارض ليمُضي ارادة الله التي هي الرحمة للعالمين " يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ الله" فالحاكم مأمور باتباع الشرع لأن الشرع هو سبيل الحق. فلا يحكم بارادته الفردية بما تستثار فيها من نوازع الاهواء أو بانفعلاته المتأثرة بالمتغيرات من حوله بلا مستند الي هدي سماوي يعصمه من الوقوع في الظلم والاسراف والعبث بمقومات الحياة الاساسية. فالحاكم هو خليفة لله ونائب للأمة في تحكيم الشريعة لاقامة العدل وتحصيل المصالح ودرء المفاسد. ولايكون ذلك بمراعاة ظواهر النصوص او مقتضي القياس فحسب بل ان الأساس هو موافقة مقاصد الشارع التي هي كلها حق وعدل ورحمه واحسان. يقول الامام الراغب الاصفهاني "فمقصد الخلافه اعمار الارض بالاهتداء بالبارئ سبحانه وتعالي علي قدر طاقة البشر في السياسة باستعمال مكارم الشريعة . وهي الحكمة والقيام بالعدل بين الناس والاحسان والفضل" . وجوهر الحكم هو تحقيق صلاح العباد وعمارة الارض ووتزجية معاش الناس فيها وتحقيق التمكين عليها. ومثلُ الحاكم في ذلك مثل ربان السفينة الماهر يسوقها باتجاه القبلة التي تؤمئ اليها الشريعة ويمضي بها في المنهاج الذي تهدي اليه السنة . وهي كلها انما تؤمئ الي الفضل والرحمة والاحسان والي الرفق واللين والتسيير. واتباع مقاصد الشريعة يعني اتباع ذات المنهج واتخاذ ذات الاولويات التي رتبها الشارع لكل مسعي انساني علي ثلاثه مستويات مستوي الضرورة ومستوي الحاجة ومستوي التحسين والتكميل. وادراك المصالح الكبري ومستويات تحصيلها أمر جوهري في فقه الدين. ونحن نري كيف ضُيعت مصالح كبري ووقعت مفاسد عمت بها البلوي فتراجع الفقه من الرؤية المقاصدية الي المنهج الظاهري الشكلاني الذي يهتم بظاهر النصوص وشكول الأفعال لا مرادات الشارع ومقاصد الأفعال.
الدين لله وثمرته الانسان:
والدين هو المصلحة الكبري لأن الدين الذي هو اقرار بالعبودية لله هو الأمر الذي تصُلح به حياة الانسان في العاجلة والآجلة . وتفسد بانكاره او بالغفلة عنه حياة الانسان في الدارين. ولذلك فان حفظ الدين هو المصلحة الكبري التي تندرج في سياقها كافة المصالح الدنيوية والاخروية. والمقصود هو حفظ الدين علي مستوي الضرورة . وهو المتمثل في الايمان بالله وتوحيده وعبادته. وفي حفظ الدين حفظ لمصالح الدنيا والآخرة. ولو شئنا التعبير بلفظ آخر لقلنا أن المقصد الأعلي للمسعي السياسي عو اعلاء القيم التي جاء بها الدين. لأن الحياة النفسية والاجتماعية لا تنهض الا علي التوازن الذي لا يفلح في اقامته الا شريعة الدين الحكيمة لأنه لا افراط فيها ولا تفريط . والمقاصد الكبري التى تأتي بعد حفظ الدين هي حفظ قوام الحياة الانسانية في حفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال . وهي تهدف جميعاً الي التنمية الانسانية والي صيانة انسانية الانسان والرقي بها لتكون في أحسن تقويم وأفضل صحة وعافية وأتم أمنٍ ورضي. كما تهدف الي حفظ العقل الانساني وتنميته بتأكيد اصالته وحثه علي بذل غاية الوسع لاكتشاف معاني الكون والحياة وصولاً به الي توحيد الله. كذلك فان من تمام الانماء الانساني الحفاظ علي استمراره بحفظ النسل ليُولد ويستمر قوياً معافاً قادراً علي صنع الحياة الجديدة. ووسيلة الانسان في ترقية حياته المادية هو المال الذي بصيانته وحسن توجيهه يتحقق اعمار الارض . وتكثر ثمارها وتتبارك خيراتها لتكون زاداً طيباً لانسان مؤمن بربه واثقٍ بنفسه معتمداً عليها ومتوكلاً علي الله.
مقصد الشرع تنمية الانسان:
الغاية من المسعي السياسي في نظريات التنمية السياسية ليبرالية او ماركسية هى تحقيق الحرية مفهومها الأشمل وزيادة مشاركة المواطن في السلطة السياسية وتحقيق المساواة بين المواطنين. وعلي المستوي الاقتصادي تحقيق أعلي درجات الاستهلاك والاشباع المادي. ويعتبر هذا المقصد محور عمليات التنمية السياسية والاقتصادية وجوهرها بل ومؤشرها الذي من خلاله يمكن قياس تقدم مجتمع ما من تأخره. ولا شك أن هذا المقصد قاصر ناقص لأنه لا يجُيب عن السؤال الأهم و هو هل يحقق الاستهلاك والاشباع المادي السعادة الانسانية. ان السياسة الشرعية انما هي سياسة شاملة متوازنة . تسعي لتحقيق السعادة وفق رؤية ايمانية توحيدية تحقق الرضي المعنوي والروحي والمادي. ولا تتحدث عن اشباع كامل للحاجات الدنيوية فحسب بل تصل بين منافع الدنيا والاخرة وتجعل الدنيا سبيلاً للاخرة. فمقصود الشرع هو تحقيق الحياة الطيبة الكريمة بمراعاة مقاصد الشارع في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال ورعاية مستويات هذه المصالح من ضرورة وحاجة وتحسين سبيلاً الي انماء الانسان بتحريره من اهواء النفس وضغوط الضرورة والحاجة وتعدي واستبداد الاخرين. فتكون الحرية و المساواة بين الناس في ظل الشريعة ثمرة لذلك. وتكون حرية الناس وتساويهم في عبادة الله هى الضمانة من عبودية بعضهم لبعضهم الآخر.
التحرير من الضرورة:
ليس ثمة ما يستعبد الانسان مثل ضرورته و حاجته الماسة لقوام حياته مطعماً أو أمناً او مأوي او ملبساً أو صحة. وتحرير الانسان ليكون سيداً علي أمر نفسه وعابداً مخلصاً لربه انما يكون بتحريره من العبودية للضرورة وللحاجة الماسة التي تلجئه للخضوع لسواه من البشر. والضرورة كما يقول الامام الحرجاني في تعريفاته مشتقة من الضرر وهو النازل بما لا مدفع له. بهذا المعني الضرورة هي فوات أصل لا يُستغني عنه يترك فواته الانسان الفرد او الجماعة في تهديد وخطر ومشقه. فالانسان اذا خاف علي هلاك نفسه او نسله أو ضياع أصل ماله او فوات مصالحة التي لا يستنغني عنها خضع و ذل مضيعا بذلك مصالحه وكرامته في آن واحد. ومن واجب الدولة ومسئولية الحاكم أن يحفظ للمحكومين افراداً وجماعات مصالحهم ويدرء عنهم المفاسد والمضار . ويصون حريتهم وكرامتهم الانسانية. والضرورة هي الحاجة التي لا يستغني عنها. واما ما يسميه اهل اللغة والفقه بالحاجة فهي الاحتياج الذي يُوقع فقدانه في المشقة والحرج. ولأن الفارق بين المشقة الشديدة وخوف المهلكة والمشقة المرهقة فرق لايستبان في كل الأحوال فقد أنزل غالب الفقهاء الحاجات منازل الضرورات . والحاجة تنزل منزلة الضرورة لأن الرحيم لا يمكن أن يترك الانسان حتي تلجئُه المشقة للهلاك ليهب الي نجدته . بل الرحيم هو الروؤف الذي يأبي العنت والمشقة تُصيب أخاه الانسان. ولأن مطلوب الشريعة من التنزيل والتخريج هو تحقيق الرحمة بالانسان فان "الحرج مرفوع شرعاً" وهذه قاعدة فقهية ذهبية تقف الي جانب قاعدة فقهية ذهبية أخرى هي "لا ضرر ولا ضرار" فليس مقصود الشارع بحال من الأحوال وضع المشقة علي المكلفين بل مقصوده بخلاف ذلك رفع الاصر والمشقة، وازالة الشدة والعنت عنهم "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ." فمن شاء ان يكون حاكماً علي سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم فذلك نهجه صلى الله عليه وسلم وتلك سنته وأما المشدودون علي الناس فقد فارقوا الشريعة وخالفوا السنة وأبتعدوا عن مراد الشارع الحكيم الرحيم.
خاتمة:
قديماً قيل أن آفة الأخبار رواتُها و أما آفة الفتاوي فهم فقهاء أخفقوا في ادراك أن الشريعة رحمة مهداة ونعمة مسداة. وأن المراد منها هو اسعاد الانسان في الدنيا ليسعد في الآخرة لا اشقاءه في الدنيا ليسعد في الآخرة. واذا كان واجب العلماء أن يسعوا الي أنسننة الفتاوي بمعني ابتداء النظر دائماً بحال الانسان بقصد اعمال التكاليف الشرعية سبيلاً الي تحسين حياته، فان ذلك واجب الدولة و على الحاكم أوجب من ذلك . لأن شأن المحكوم في ذمة الحاكم كشأن اليتيم في ذمة الكافل . فعليه أن يبذل غاية الوسع لرفع المشقة والعنت عن المحكومين بتحري الرفق والتيسير فانه بذلك متبعٌ لشريعة الله مهتدٍ بسنة رسوله صلي الله عليه وسلم الذي "ما خير بين أمرين الا أختار أيسرهما" فيسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا فبذلك وحده يقوم الدين وتستقيم الحياة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق