الثلاثاء، 12 يوليو 2011

السودان.. الاستقلال الثاني



       انخفض العلم السوداني في سارية الاحتفالات في جوبا ولكنه ارتفع في ذات الوقت كما لم يرتفع من قبل. ولم يكن ذلك بالمستغرب فان في حياة الشعوب لحظات يزداد ايمانها بالوطن وتترقي عزائمها للبذل والتضحية من أجله. فالشباب الذين زرعوا طرقات الخرطوم يوزعون الأعلام وأولئك الذي ألصقوا العلم في كل موقع من مواقع الشبكة الدولية قد  أدركوا بأحسن ما يكون العلم والأدراك المغزي من  تلك اللحظة التاريخية. فلم تكن تلك الساعة الفارقة مهمة في تاريخ جنوب السودان بأكثر منها مهمة في تاريخ السودان.  ذلك أنها ان كانت مثلت بداية مرحلة جديدة في الجنوب فأنها تمثل علامة فارقة ونقطة انطلاق جديدة للوطنية السودانية كما عبر عنها هؤلاء الشباب . ومرحلة انطلاق وتحليق للسودان الوطن الذي وُضعت عنه أسباب الحرب وأوزارها التي امتدت لنصف قرن من الزمان.
معني الاستقلال ومغزاه:
مفردة الاستقلال أصبحت مفردة معتادة حتي غاب معناها الدقيق عن كثير من الأفهام. فالاستقلال يعني التميز بالارتفاع . لأن كلمة أستقل تعني توجه نحو القلة اي القمة أو الذروة. فمعني الأستقلال هوالتخلص من حالة الركود والاخلاد الي الارض بالنهوض والانطلاق والتحليق. والشعب الذي يكبله الاستعباد أو الاستعمار او التخلف أو النزاع سيظل مقيماً بين الحفر ما لم تتولد لديه ارادة النهضة والانطلاق والتقدم. والناظر الي تاريخ السودان القريب منذ الاستقلال يدرك حجم الضرر الهائل الذي ألحقته مجموعة من العوامل جعلت من جنوب السودان عامل الاستنزاف المستمر لدماء ابناء السودان ولناتج عرقهم وكفاحهم . كما أنها كانت السبب الأكثر أهمية في توسيع شقة الخلاف بين القوي الوطنية واشعال الفتن والتمرد في كل مكان نشأت فيه فتنه او انفلت تمرد. كان التمرد في جنوب النيل الأزرق وجبال النوبة امتداداً للنزاع في الجنوب . وكذلك كان النزاع في دارفور لاسبابه المحلية او التحريض والاسناد الأجنبى . كان كل ذلك بأسباب النزاع في جنوب السودان. ولم تتوفر الارادة السياسية الكاملة في يوم من الايام لايجاد حل ناجز يبقي جنوب السودان جزءاً من وطن موحد تأتلف عزائم ابنائه جميعها علي النهوض به ولم يجرؤ أحد علي القول أن الجرح قد أصابته الغرغرينة ، ولا سبيل الي ابقائه الا بتهديد أصل البقاء للوطن كله. ولكن الانقاذ استطاعت أن تصل الي قناعة راسخة أن التداوي بما يدُرك ان لا نجاعة له عجزٌ وتفريط . ولذلك فاذا كان أهل جنوب السودان يريدون بلدا مستقلاً فليأخذوه . لأن الأوطان ليست هي التراب. فالارض تمتد بغير حدود وجدران بين الاوطان انما تكون الأوطان بأهلها. فالروابط والوشائج والأواصر وشراكة التاريخ والآلام والآمال والمقاصد هي التي تصنع الشعوب الموحدة. والوطن يصنعه المواطنون المتعايشون الذين يوطدون الصلات بينهم ويتعاونون علي البر والعمل الصالح. ولئن حزن البعض علي مقولة بلد المليون ميل فقد كان ذلك هو الوطن الجغرافيا ولكنه لم يكن الوطن التاريخ . ولم يكن الأواصر المتلاحمة ولم يكن وطن المواطنين الذين لا تُعرف بينهم المشاعر السلبية التي تغذت من التحريض العنصرى والتعبئة السياسية وحملات الدعاية الأجنبية. ولئن كان حضور أهل الجنوب الي الشمال بسبب الحروب قد قلل الي مدي بعيد من مشاعر التنافر الا أنه من الواضح من نسبة الاقتراع العالية في الشمال للانفصال ان ذلك لم يكن كافيا لبناء قاعدة كافية في هذا الوقت للوحدة الوطنية.
الاستقلال.. جوبا أم الخرطوم:
انفصال جنوب السودان ان شاء اخوتنا في جنوب السودان تسميته بالاستقلال فنحن أحق بكلمة الاستقلال . ففض هذه الشراكة الوطنية ان كان له ضرر فضرره الأقل علي شمال السودان وان كانت له عوائد وفوائد ففائدته اكبر واكثر لشمال السودان. فما عاد السودان في حاجة ان يسير بسير ضعفائه . لأن من كان يتأبط ذراع السودان اختار اذرعاً أخري ليستند عليها . واختار قبلة اخري ولغة اخري وربما ثقافة اخري(رغم انهم لم يستطيعوا الاحتفال الا باللغة العربية). ولا ندري ما جدوي هذه الاختيارات وما اذا كانت ستكون الخيارات النهائية . ولكن أهل الجنوب اختاروا الانحياز الي قيادتهم الراهنة التي تري ان التوجه غرباً لغة وثقافة خيرٌ لها . وان التوجه بالاقتصاد جنوباً أجدى لهم .  وستأتينا  وتأتيهم الأخبار قريباً عن جدوي هذه الخيارات . ولكن هذه الاختيارات نفسها هي التى تجعل خيارات السودان أسهل وأوضح فمن ترك السودان عن ميسرته ومضى سيتركه السودان عن ميمنته ويمضى. ومن يبكي علي الجغرافيا بدموع صادقة ومن يتباكي عليها بدموع التماسيح  يجب عليه أن يدرك أن السودان لا يزال وطناً من اكبر الأوطان وأنه ياتي في المرتبة السابعة عشرة من دول العالم من حيث المساحة , وأنه بات الآن اكثر تجانساً من حيث السكان والعقيدة والثقافة واللغة . وأصبح اكثر ترابطاً وإتصالاً بين أجزائه وأرجائه . وأصبح بانفصال الجنوب أرقي درجة في سلم التنمية الاجتماعية والاقتصادية بمؤشراتها المختلفة، سواء في الصحة أو التعليم او نصيب الفرد من الناتج الاجمالي، حتى أصبح البعض يتخوفون أن يخُرج ذلك السودان من تصنيف الدول الاكثر فقراً، فتتخذ بعض الدول المعادية ذلك سبباً لحرمان السودان من حقه في اعفائه ديونه، بموجب اتفاقية اعفاء ديون الدول الأكثر ديناً والأكثر فقراً. لا نقول ذلك لأننا نريد للجنوب أن لا  يحقق الاستقلال الحقيقي الذي هو التلاحم والنهضة والتنمية. لأن تحقق ذلك لجنوب السودان يصرف أعباء يمكن ان تقع علي السودان من لجؤ ونزوح بسبب فشل المشروع والدولة في جنوب السودان. ولذلك فان المساهمة في انجاح مشروع الدولة في الجنوب فوق أنه يأتي من معني الجوار الصالح فانه يأتي ايضا ترسيخا للاستقرار في الجوار الاقليمي الذي يصرف شروراً جمة يولدها النزاع وتولدها المجاعات والفقر المدقع المذل.
السودان .. البداية الجديدة
شاءت حكمة الله ان يُعلمنا أن كل لحظة يمكن ان تكون بداية جديدة . نتخلص فيها من أوضار الماضي وأوزاره . ونتحرر مما يشدنا الي الارض ويمنع تحليقنا نحو القمم . فهنالك دائماً ثانية جديدة ودقيقة جديدة وساعة جديدة ويوم جديد وفجر جديد وعهد جديد. وانما مرجع الأمر الي ارادة الانسان وعزيمته .  وبالنسبة للشعوب فان مرد الأمر الي همم الشعوب وعزائمها . ولسنا في شك ولا ارتياب من صدق عزيمة اهل السودان . ولا في تجدد رغبتهم في صناعة الحياة الطيبة التي تليق بهم وهم اهلها ومن يستحقها فلم يكن شاعرهم مبالغاً اذ يقول
يذكر المجد كلما ذكروا ×××وهو يعتز حين يقترن
فذلك شأن هذه الأمة العظيمة وأولئك هم أبناؤها الذين زرعوا طرقاتها بالاعلام وملأوا ساحاتها بهتاف الرفعة والعزة. فيتوجب أن يكون القادة هم السباقون للتعبئة الوطنية التي تحي مشاعر الانتماء والاعتزاز بالوطن . ولن يتحقق ذلك بالخطب الحماسية مهما كانت قوية وبليغة بقدر ما يتحقق  بالرؤية الثاقبة وبالتجرد الوطني وبالتعالي عن الصغائر.  وافساح المجال للافكار الجديدة الجريئة الحرة وافشاء السلام حقيقة لا مجازاً بين الناس،  بجعلهم شركاء في الأمر، عبر تعزيز الديمقراطية فكراً وأطراً وممارسة، وعبر تحقيق العدالة ، وكفالة الفرص المتساوية للجميع، بلا محاباة بسبب الانتماء الحزبي او المذهبي او العرقي او الجهوي او النوعي(جندر) . والحديث عن جمهورية ثانية لا يجب ان يكون حديث سياسة ، بل يتوجب ان يكون حديثاً عن مشروع سياسي جديد للوطن . ليس لأن مشروع الانقاذ لم ينجح بل لأنه نجح وبلغ غايته التي أراد كما يعتقد كثيرون أو لأنه لم يبلغ غاية كما يعتقد معارضون مناوئون،  ولكن في كل الاحوال لقد أصبح صباح جديد طلعت شمسه علي أهل السودان بوعود جديدة. ولابد لقيادة هذا الشعب من استجاشة العقول وتوليد الأفكار لاجتراح مسارات جديدة للنهضة . لا بوضع دستور جديد فحسب فالدستور الجديد هو خارطة طريق ليس لا ولكن نبفخ روح وطنية جديدة وعقد شراكات وطنية جديدة واعلان خطة عظمي للوطن ، تُرسم له مقاصد طموحة تضعه في المحل الأرفع الذي هو به جدير.  فهو بلد عظيم ووطن عظيم سواء كانت مساحته مليون ميل مربع أم مليون وثمانمائة الف كيلو متر مربع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق