الثلاثاء، 26 يوليو 2011

دارفور ... الطريق إلي الامام2-3


        تحدثنا في المقال السابق عن مشوار حركة التحرير والعدالة التفاوضي ولن يكتمل الحديث ما لم نتحدث عن المشوار التفاوضي لحركة العدل والمساواة. وحركة العدل والمساواة هي الشريك الأول في مفاوضات الدوحة. ذلك أنها هي أحدي ثلاث حركات خاطبتها الوساطة للمشاركة في التفاوض الذي بدأ  في الدوحة في يناير 2009 . والحركات هي تحرير السودان التي يقودها عبد الواحد محمد نور وهي الطفل المدلل لمجموعات اللوبي الأمريكية والغربية لأنها ليست متهمة بأنها ذات ميول إسلامية بل إن صلاتها المعلنة بالأجندة الاسرائلية تضعها في موضع تحُسد عليه من سائر الحركات الأخري. أما الحركة الثانية التي خوطبت للمشاركة فهي حركة العدل والمساواة وبينهما فصائل كثيرة منشقة عنهما بلغت في عددها عند بدء التفاوض ستاً وثلاثين حركة . بعضها مجرد لافتات او أعلانات في الشبكة العنكبوتية ولكن الجنرال اسكوت غرايشن استطاع تجميع كتلة طرابلس بالتعاون مع ليبيا . وهي ثماني حركات وكتلة أديس أبابا المكونة من ست حركات لتتكون كتلة تفاوضية أسمت نفسها حركة التحرير والعدالة.
مشوار العدل والمساواة التفاوضي
كما أسلفنا بدأت حركة العدل والمساواة المشوار التفاوضي منذ يناير 2009 وفي ذلك الوقت كان دكتور نافع علي نافع  هو المشرف علي ملف دارفور بينما كنت أقود الوفد التفاوضي. وكادت الجولة الأولي أن تنتهي الي لاشئ بسبب الروح العدائية التي جاءت بها الحركة الي مائدة التفاوض.  والتي بلغت الي إعلانها أنها سوف تسعي للقبض علي رئيس الجمهورية وتسليمه للمحكمة الجنائية الدولية. وكان ذلك الإعلان كافياً لأن تعلن الحكومة رفضها للتفاوض مع هذه  الحركة . ولكننا لم نفعل بل علي خلاف ذلك سعينا الي اختتام الجولة بصورة لا تظهر أن المنبر في الدوحة بدأ بأزمة لا تبشر باستمراره. ولم نفعل ذلك لكثير رجاء في حركة العدل والمساواة . فنحن نعلم أن دوافعها للمجئ للدوحة كانت أولا للبحث عن الإعلام الذي ترجو أن يصورها بحسبانها الحركة التي يمكن أن تصنع السلام. فالاعلام كان منشودها الأول من الحضور للدوحة . ثم ان الحركة كانت تبحث عن مقر آمن لبعض عناصرها المطالبون من الانتربول .  وكانت حجة المفاوضات هي أقوي حجه لإيقاف أوامر القبض علي هؤلاء . فالدوحة مقر مفاوضات السلام شكلت ملاذاً آمناً لبعض عناصر الحركة . ومن يستطيع أن يطالب بالقبض علي رجال جاءوا لصنع السلام. والحركة كانت في حالة تنافس مع حركة تحرير السودان التي يتزعمها عبد الواحد . وكانت تدرك أن التعاطف الذي يناله الأخير مما يسمي بالمجتمع الدولي لا يقارن بالتعاطف مع حركة متهمة أنها تمدد عسكري للمؤتمر الشعبي الأصولي الذي يقوده الشيخ الترابي. وكان الحضور للدوحة مفتاح لحراك دبلوماسي يساعد الحركة في تحسين صورتها غربياً مقترناً مع خطاب جديد للحركة تتحدث عن دولة مدنية في السودان وعن أن العلاقات مع اسرائيل ليست بتهمة لأحد.
وقد شهدت الجولة الأولي زخماً كبيراً واعلاماً ضخماً . وحضر زعيم الحركة في أُيهة الزعماء الكبار وحظي بتغطية اعلامية غير مسبوقة . ولكنه أفرط في اظهار المواقف العلنية العدائية للحكومة استرضاء لدوائر يهمه أن ترضي علي الرغم من أن اللقاءات غير العلنية مع الحكومة لم تكن عدائية بل ان بعضها كان عاطفياً. انشغل الوسطاء كثيراً بالاعلانات غير الموفقة للحركات . ووساورتهم المخاوف من اظهار أن المنبر الوليد ولد خديجاً . وأن فشل الجولة الأولي سيعطي انطباعاُ قوياً أنه يسير علي طريق منبر سرت الليبية والذي لفظ انفاسه في جولة واحدة. وعندما تشاور معنا الوسطاء حول كيفية وضع نهاية حسنة للجولة لا تعطي اشارة الفشل المبكر اقترحنا عليهم أن ننهي الجولة بتوقيع اعلان لحسن النوايا. وعلي الرغم من أن أوضح اشارات تلك الجولة هي سؤ نوايا الحركة بل سؤ مواقفها العلنية إلا اننا اقترحنا توقيع اعلان لحسن النوايا لكي تعتبر الجولة الاولي توطئة لجولات قادمة. ولم يكن موقفنا نابعاً من كبير أمل في العدل والمساواة بل لاعطاء الوقت المطلوب للجنرال غرايشن لبناء كتلة تفاوضية من شتات الحركات الأخري . ولاعطائه مزيداً من الوقت طالب به للضغط علي عبد الواحد للحضور للدوحة. وكان في منظورنا أن بناء كتلة تفاوضية يبدأ التفاوض معها أو حضور عبد الواحد أو حدوث الأمرين معاً سيجبر العدل والمساواة علي تغيير نظرتها التكتيكية للمفاوضات . وربما الانخراط بجدية في التفاوض.  وكذلك كان تقديرنا أن مجئ اكثر من حركة سينشئ حالة من التنافس علي المركز الأول والذي سوف يحرزه الطرف الذي سيتوصل الي الاتفاق اولاً. وكنا نعتقد أن محاولة الحركة الاستئثار بالمنبر تنهض علي علمها بأن حركة عبد الواحد مصممة علي عدم المجئ للدوحة. وأنه من المتعسر أن يتمكن الجنرال اسكوت غرايشن من بناء كتلة تفاوضية من الحركات الأخري قابلة للاستمرار.  وأنه حتي في حال نجاحه في ذلك الأمر فبامكان الحركة ان تفرض زعامتها علي هذه الفصائل التي كانت حركة العدل والمساواة تكن لها كثيراً من الازدراء. وافقت الوساطة على مقترح الحكومة باعداد وثيقة اعلان نوايا حسنة . ولم يكن الأمر صعباً فالاتفاقات السابقة من أبشي الي أبوجا مليئة بالنصوص التي تعبر عن حسن النوايا . ولذلك فسرعان ما جري اعداد نص جري توقيعه في احتفال كبير حًظي بتغطية اعلامية مثيرة للدهشة بالنظر الي مضمون الاتفاق نفسه . وبالنظر الي سلوك حركة العدل والمساواة قبل التوقيع وبعده والذي هو أبعد ما يكون عن حسن النوايا . وأذكر ان مندوب الجزيرة انترناشونال سألني في المؤتمر الصحفي الذي أعقب التوقيع على الاتفاق ما اذا كنت اعتبر الاتفاق اختراقاً في التفاوض Breakthrough فقلت له أنني اعتبره كسراً للجليد icebreaker   واختراقاً للجمود ولا استطيع ان أسميه اختراقاً تفاوضياً.  فحقيقة الأمر أن تلك الاتفاقية لم تكن تعدو كونها روشته للبقاء والاستمرار اكثر من كونها توطئة حقيقية لتفاوض يبشر بالنجاح. وكما أسلفت لم تجعل حركة العدل والمساواة احداً منا في شك أنها قد جاءت لتفاوض جاد فقد كنا نعلم علماً متحققاً منه أنها انما جاءت لدواعي ومقاصد لم يكن انجاح المفاوضات بالدوحة واحداً منها علي الاطلاق.
الخرطوم -  أنجمينا  وبالعكس
        عندما بدأت المفاوضات بالدوحة كانت العلاقات السودانية التشادية لا تزال تقبع في الدرك الذي تهاوت اليه منذ الهجومين علي أنجمينا وأم درمان. ولم تكن أنجمينا ينُظر اليها الا بوصفها الظهير المساند لحركة العدل والمساواة. وكان سجال كبير يدور في الخرطوم عن فائدة بذل اية جهود لاصلاح العلاقات السودانية التشادية. وكان رأي البعض أن الصلة بين حركة العدل والمساواة والحكومة التشادية غير قابلة للانفصام لروابط عائلية وللأخطار التي تواجهها أنجمينا وتدعوها للتحالف مع العدل والمساواة ولضغوط ليبيا لصالح استمرار الدعم للعدل والمساواة. ولكن المتفائلون كانو يقولون علي الرغم من كل ذلك فان هذه الرابطة قابلة للتفكيك . فهنالك عوامل كثيرة تدعو تشاد للتخلص من العبء الذي تشكله العدل والمساواة عليها . كما أن تشاد تدرك أنها وان كانت تستطيع ان تلحق الأذي بالسودان في لعبة من يستمر مدة أطول في العض الا أن قدرة السودان علي الايذاء اكبر . ثم أنه رغم العداء الطارئ بين البلدين فان علاقات تكاد تكون شخصية قد ربطت بين الرئيس عمر البشير والرئيس أدريس دبي. وكان من رأي هذا الفريق أنه لا يُجوز ان نكف عن محاولة اصلاح العلاقات. تعزز هذا الرأي باستلام دكتور غازي صلاح الدين لملف التفاوض من دكتور نافع الذي دفعه اقتراب موعد الانتخابات وشواغله العديده بالتنظيم الي الطلب من الرئيس تحويل الملف الي مسئول اخر. كان دكتور غازي عند استلام الملف يري أن محاولات توحيد الحركات لن تنجح في وقت وشيك وأن العدل والمساواة ليست في وارد تفاوض حقيقي.  ولذلك وجب التركيز في الملف علي البعد الاقليمي والبعد الداخلي من خلال بناء رؤية استراتيجية متوافق عليها بين جميع الاطراف.  وتحريك جهود متناسقة للتحرك الدولي والاقليمي والمحلي . ولما كان دكتور غازي مسئولاً عن ملف الحوار السوداني الامريكي ساعده ذلك في التحرك علي المستوي الدولي لبناء حالة حوار مع ما يسمي بالمجتمع الدولى وكانت هذه خطوة تنتقل  بالجميع من مربع المجانبة الي مربع الحوار. أما علي المستوي الاقليمي فكانت تشاد هي المستهدف الأول وليبيا هي الهدف الثاني ومصر هي الهدف الثالث واريتريا هي الهدف الرابع. وقد بدأت المقاربات في نيويورك بلقاء مع وزير الخارجية التشادي حيث كانت تشاد تشهد حواراً مماثلاً علي امكانية تطبيع العلاقات مع السودان . وعن قدرة السودان بالفعل علي التخلص من وجود المعارضة التشادية في اراضيه . وكان هنالك من يقول أن السودان غير راغب في تطبيع العلاقات وان رغب فهو غير قادر علي احتواء المعارضة التشادية. بيد أن حمائم السلام طارت و حلقت بين الخرطوم وأنجمينا . وساعدت الثقة المتبقية بين الرئيسين في انجاح المساعي بعد أن ظن كثيرون أن لا تلاقي بين السودان وتشاد الا في الميدان. شكل نجاح مساعي تطبيع العلاقات بين الخرطوم وأنجمينا دفعة غير متوقعة للتفاوض في الدوحة. وأظهرت القيادة التشادية وبخاصة الرئيس ادريس دبي حرصاً علي جمع الوفد السوداني بحركة العدل والمساواة. ولم يكن الوفد متحمساً للقاء مع العدل والمساواة غداة توقيع البرتوكول مع تشاد. ولكن التشاور بين أعضاء الوفد أدي الي القبول بلقاء استكشافي بين دكتور غازي  و د. خليل ابراهيم في أنجمينا.
نواصــــــــــــــــــــل،،،

الثلاثاء، 19 يوليو 2011

دارفور اتجاه الطريق الى الامام1-3

            شهد الرابع عشر من يوليو ٢٠١١ توقيع اتفاق بين حكومة السودان وحركة التحرير والعدالة لاعتماد وثيقة الدوحة للسلام طريقا لإرساء السلام فى دارفور. وبذلك انطوت مسيرة ثلاثين شهراً من التفاوض والتشاور الداخلي والخارجى. وكان مؤتمر كل أصحاب المصلحة فى دارفور قد أجاز الوثيقة فى ٣١ مايو الماضى باعتبارها أساسا لأية اتفاقية سلام تبرمها الحكومة مع الحركات التى ظلت تفاوضها فى الدوحة. ولم يكن من المستغرب أن لا توقع حركة العدل والمساواة اتفاقا لأعتماد الوثيقة كما فعلت صنوها حركة التحرير والعدالة. فواقع الحركة الراهن من احتجاز زعيمها فى طرابلس وانقسام القيادات خارج الدوحة الى فريقين راغب وآخر يفضل الانتظار كما اعتادت الحركة أن تفعل وضع الحركة فى منزلة بين المنزلتين القبول والرفض. فلا هى دخلت ولا هى خرجت.
فرقاء الدوحة وشركاؤها
عندما بدأ مشوار التفاوض بالدوحة كان الفرقاء كُثر فآثرت الوساطة أن تعمل على توحيدهم بما يقلل من عُسر مهمتها وعاونها فى ذلك شركاء اقليميون ودوليون كان أبرزهم المبعوث الأمريكى  للسودان الجنرال أسكوت غرايشون. وكانت ليبيا من قبل قد أفلحت فى إقناع ثمان حركات بدعم من الجنرال لكى تضم صفوفها .وحاول  غرايشون ضم مجموعة أخرى أسماها مجموعة خارطة الطريق ممن لا يفضلون الذهاب لطرابلس لإنجاز وحدتهم فى أديس أبابا .ورغم فشله فى إقناع البعضو من ضمنهم فصيل عبد الواحد فقد أفلح فى إقناع ستة فصائل اخرى. أعقبت ذلك جهود جمة بذلها الجنرال والوسيط المشترك ودولة قطر لتوحيد الجماعتين ولكن بغير طائل .وكانت هنالك دائماً حركة العدل والمساواة التى لا تعترف بأية حركة اخرى وترى أنها هى الشريك الأوحد فى منبر الدوحة. أما الفصيل الذي يقوده عبد الواحد فرغم كل الجهود لم يتحرك قيد أنُملة من موقفه الرافض للتفاوض حتى يُستجاب اولاً لجميع مطالبه التى قد يطرحها فى التفاوض.ورغم عبثية الموقف فقد وجد دائماً من يسعى اليه المرة تلو الاخرى .استغرقت الجهود لجمع شتات الحركات التى كانت ثلاثاً فى أبوجا ما ربا على العام .وانتهت الجهود الى التحام ما سمى بفصائل خارطة الطريق مع فصائل طرابلس لتتكون حركة سمت نفسها حركة التحرير والعدالة . بعدما انسلخ بعض الافراد من بعض الفصائل المكونة لها. وبقى عبد الواحد فى موقف الرفض الذى لا ىريم عنه ولا يتزحزح. وبقيت حركة العدل والمساواة رافضة لإشراك أية جماعة أخرى فى التفاوض الا تحت لوائها . بيد أنه وبعد نشؤ حركة التحرير والعدالة بقيادة دكتور التجانى السيسى سنحت الفرصة لأول وهلة لبدء العملية التفاوضية . وترافق ذلك مع نجاح جهود رأب الصدع فى العلاقات السودانية التشادية لتدخل تشاد الى دائرة العاملين من أجل السلام مع ما لها نفوذ كبير على حركات دارفور وبخاصة حركة العدل والمساواة. ولم تكن جهود الرئيس ادريس دبى ببعيدة عن علم الوساطة فقد شارك الوسيط المشترك جبريل باسولى فى الاجتماع الاول بين الحكومة والعدل والمساواة غير أنه فوجئ مع من فوجئ بسرعة إحراز الجهود التشادية لنتيجة مدوية تمثلت فى التوصل الى اتفاق التفاهم فى أنجمينا والذى أدى الى توقيع الاتفاق الاطارى بين الحكومة وحركة العدل والمساواة فى الدوحة فى 23 فبراير2010 وحسبت حركة العدل والمساواة أنها باتفاقها الذى أزمعت إكماله باتفاق نهائي خلال أسبوعين من توقيع الاتفاق الاطارى ستسد الطريق أمام مواصلة التفاوض مع حركة التحرير والعدالة التى كانت بدأت التفاوض الفعلى مع الحكومة بغير إحراز اى تقدم يُذكر. وكان تصميم الوساطة والحكومة على مواصلة التفاوض مع التحرير والعدالة فى مسار مواز هو الذى قتل حماسة العدل والمساواة فى المضى فى شوط التفاوض الذى كان الذى كان مقدرا له الانتهاء قبل موعد الانتخابات فى ١٥ ابريل. ولما لم يُستجب لطلب الحركة إقصاء التحرير والعدالة أضافت الحركة طلباً تعجيزياً اخر بالدعوة الى تأجيل الانتخابات والا ستوقف التفاوض وتعمل على منع قيام الانتخابات. وأردفت الحركة تهديدها بإعادة نشر قواتها فى مناطق عديدة من دارفور.  ورفضت الجلوس لتوقيع اتفاق وقف اطلاق النار الذى أعدته الوساطة وقبلته الحكومة . ولئن كانت حركة العدل والمساواة قد أوقفت التفاوض بغرض إقصاء حركة التحرير والعدالة فقد أدى عملها هذا الى رد فعل معاكس فى الاتجاه وسريع فى الحركة ما دفع التحرير والعدالة المهددة بالإقصاء للتحرك بسرعة لتوقيع اتفاق إطارى فى 18 مارس وبعد مضى أقل من شهر على الاتفاق الاطارى للعدل والمساواة. وكانت تلك هى التسديدة التى اخرجت العدل والمساواة من مائدة التقوس بعد ان أجهزت على أملها فى الانفراد بالمنبر وبالاتفاقية النهائية.
التحرير والعدالة  مشوار التفاوض
        يحق لحركة التحرير والعدالة أن نشهد لها وبرغم أن مشوار التفاوض معها لم يكن سهلاً ولا خالياً من المنغصات الا انها مضيت بجدية فى العملية التفاوضية . مما جعلها الشريك الاصيل فى منبر الدوحة . وعلى الرغم من كونها جاءت آخراً الا انها اختارت السلام خيارها ولم تردد كما تردد آخرون ولم تنتظر كما انتظر المنتظرون. بدات الحركة بسقوفات عالية أشعرت وفد الحكومة أنها مثل سواها تريد أن تلعب لعبة الوقت الذى يحسب حاسبوه انه يجرى لغير صالح الحكومة. وكان لها نصحاء غير خلصاء من احزاب لها أجندتها التى توظف كل مشكلة وأزمة لصالحها . وكان هناك أيضاً ناشطون من مجموعات ضغط غربية شأنها شأن الاحزاب المحلية لمآرب أخرى ومقاصد مختلفة. وجاءت وثيقة هايدلبرج التى هلل لها اصحاب تلك الأجندات الداخلية والخارجية. وكان موقفنا منها من الصرامة بمكان مما أرى الوساطة منا لم تكن تألفه أو  تعهده. كانت وثيقة هايدلبرج محاولة لوضع الحكومة موضع المتعنت الرافض للتفاوض ولكننا تجاوزنا ذلك من خلال كسر الجليد التى وضعته على مسار التفاوض بلقاء خارج مكان التفاوض . وكان اللقاء صريحاً اختبرت فيه النوايا وتقلصت الشكوك. ورغم حرص الحركة على سرية اللقاء فانه لم يكن اللقاء الاول من نوعه مع الحركات.فقد عقدت الحكومة لقاءات عديدة لم يعلن عنها مع كل الحركات بغير استثناء . لم يكن اللقاء غير الرسمى ذا وقع كبير على موضوعات التفاوض بقدر ما كإ ن ذا اثر كبير على روح التفاوض والذي انطلق من بعد فى سياق لا ينساق للمبالغات. وكان بالإمكان التوصل الى نتائج حاسمة منذ سبتمبر من العام المنصرم لولا أن الوساطة شاءت سيراً وئيداً لتتمكن من الحاق الاخرين الذين وان كادت الحكومة أن تيأس منهم الا أن الوساطة لم تفعل.وكان ذلك على الرغم من أن عبدالواحد لم يكن يرفض التفاوض فحسب بل كان يتمنع حتى على مقابلة الوسطاء. ولم تعد سهام العدل والمساواة تصوب تلقاء الحكومة فحسب بل على الوسيط والدولة المضيفة على حد سواء. ووضعت حركة العدل والمساواة عشرة شروط للعودة لمائدة التفاوض من بينها اعادة هيكلة الوساطة وابعاد التحرير والعدالة وإدخال كردفان الى أجندة التفاوض وضم ليبيا الى الوسطاء . وكانت الوساطة أيضاً بطلب من الحكومة والتحرير والعدالة وبترحيب منا لمجتمع الدولى حريصة على إيلاء دور كبير لأهل دارفور من خلال إشراك المجتمع المدنى  والأهلى والنازحين واللاجئين وجميع اصحاب المصلحة فى دارفور. ولأجل ذلك انتظم المنبر الأول والثانى للمجتمع المدنى ولقاءت النازحين واللاجئين فى الدوحة ودارفور . ولقاءات الوساطة فى دارفور ثم المؤتمر الجامع لأصحاب المصلحة.وكان ذلك لقناعة الأطراف والوساطة وشركاء السلام ان السلام الذي يمكن ان يتحقق ويترسخ هوالسلام الذى يشعر أصحاب المصلحة والقضية أن لهم قصب السبق فى امضائه وارسائه. وعلى خلاف الحكومة والتحرير والعدالة أرادت العدل والمساواة أن يكون السلام سلامها تصنعه وحدها وتكون ثمرته حلوة فى ريقها. وكما سلف القول لم يكن بيننا والتحرير والعدالة بعد سبتمبر الا مسائل قليلة جلها صياغات وتسميات تصادف مفراداتها حساسية عند هذا الطرف او عند الطرف الآخر . وظل اخر تلك التسميات عالقا حتى اللحظات الاخيرة قبل التوقيع. وفى إبان ذلك لم تكف حركة العدل والمساواة عن محاولة إيقاف التفاوض المستمر بين الحكومة والتحرير والعدالة . مرة بالضغط على الوساطة وأخري باستخدام اطراف من مجموعات الضغط الامريكية والأوربية وتارة اخرى بإبرام ما تسميه اتفاق تنسيق مع طرف ظلت مشاركته فى المنبر هى هاجسها الاول. ولم تكن الحركة فى ذلك وحدها فآخرون يسمون انفسهم شركاء السلام لم يكن بعضهم راضياً بان يتسارع التفاوض مع التحرير والعدالة لتسبق نتائجه مواقيت يريدونها سابقة لأى اختراق فى سلام دارفور. وهؤلاء مارسوا ضغوطا عديدة على الوساطة وعلى التحرير والعدالة بل لم توفر بعض جهودهم التى تدعو للإرجاء وفد الحكومة نفسها. فبعد موعد نهاية العام طلبوا مهلة لنهاية يناير ثم فبراير لإعادة العدل والمساواة وجلب عبد الواحد ثم من بعدفبراير مارس وأبريل ومايو ويونيو ولا يزالون يزعمون ان الحكومة تتعجل ولا تتريث. وأنفق هؤلاء عشرات الساعات فى الحديث لوفد الحكومة والتحرير والعدالة لا لتقريب المواقف ولكن للحكومة ان تتريث ولا تتعجل والحركة لكى تنسق مع العدل والمساواة التى يعلمون ان مطلبها الاول هو إقصاء المطلوب اليها التنسيق معها فيا عجائب الأمور. وقد يتعجب المتعجبون من جرأة العدل والمساواة فى شروطها ومطالبها وقد يعزي بعضهم ذلك الى ثقتها بالتحدى الذى تطرحه ميدانياً وليس ذلك بصحيح والأصح هو إدراكها أن مطلوباتها وان لم تكن تتطابق مع أجندة آخرين فان التأخير الذى ينجم عن ذلك يوافق مطلوبهم . وما نشهد به هنا للتحرير والعدالة انها قدمت مصلحة السلام على رضى من يرضى وسخط من يسخط.      

الثلاثاء، 12 يوليو 2011

السودان.. الاستقلال الثاني



       انخفض العلم السوداني في سارية الاحتفالات في جوبا ولكنه ارتفع في ذات الوقت كما لم يرتفع من قبل. ولم يكن ذلك بالمستغرب فان في حياة الشعوب لحظات يزداد ايمانها بالوطن وتترقي عزائمها للبذل والتضحية من أجله. فالشباب الذين زرعوا طرقات الخرطوم يوزعون الأعلام وأولئك الذي ألصقوا العلم في كل موقع من مواقع الشبكة الدولية قد  أدركوا بأحسن ما يكون العلم والأدراك المغزي من  تلك اللحظة التاريخية. فلم تكن تلك الساعة الفارقة مهمة في تاريخ جنوب السودان بأكثر منها مهمة في تاريخ السودان.  ذلك أنها ان كانت مثلت بداية مرحلة جديدة في الجنوب فأنها تمثل علامة فارقة ونقطة انطلاق جديدة للوطنية السودانية كما عبر عنها هؤلاء الشباب . ومرحلة انطلاق وتحليق للسودان الوطن الذي وُضعت عنه أسباب الحرب وأوزارها التي امتدت لنصف قرن من الزمان.
معني الاستقلال ومغزاه:
مفردة الاستقلال أصبحت مفردة معتادة حتي غاب معناها الدقيق عن كثير من الأفهام. فالاستقلال يعني التميز بالارتفاع . لأن كلمة أستقل تعني توجه نحو القلة اي القمة أو الذروة. فمعني الأستقلال هوالتخلص من حالة الركود والاخلاد الي الارض بالنهوض والانطلاق والتحليق. والشعب الذي يكبله الاستعباد أو الاستعمار او التخلف أو النزاع سيظل مقيماً بين الحفر ما لم تتولد لديه ارادة النهضة والانطلاق والتقدم. والناظر الي تاريخ السودان القريب منذ الاستقلال يدرك حجم الضرر الهائل الذي ألحقته مجموعة من العوامل جعلت من جنوب السودان عامل الاستنزاف المستمر لدماء ابناء السودان ولناتج عرقهم وكفاحهم . كما أنها كانت السبب الأكثر أهمية في توسيع شقة الخلاف بين القوي الوطنية واشعال الفتن والتمرد في كل مكان نشأت فيه فتنه او انفلت تمرد. كان التمرد في جنوب النيل الأزرق وجبال النوبة امتداداً للنزاع في الجنوب . وكذلك كان النزاع في دارفور لاسبابه المحلية او التحريض والاسناد الأجنبى . كان كل ذلك بأسباب النزاع في جنوب السودان. ولم تتوفر الارادة السياسية الكاملة في يوم من الايام لايجاد حل ناجز يبقي جنوب السودان جزءاً من وطن موحد تأتلف عزائم ابنائه جميعها علي النهوض به ولم يجرؤ أحد علي القول أن الجرح قد أصابته الغرغرينة ، ولا سبيل الي ابقائه الا بتهديد أصل البقاء للوطن كله. ولكن الانقاذ استطاعت أن تصل الي قناعة راسخة أن التداوي بما يدُرك ان لا نجاعة له عجزٌ وتفريط . ولذلك فاذا كان أهل جنوب السودان يريدون بلدا مستقلاً فليأخذوه . لأن الأوطان ليست هي التراب. فالارض تمتد بغير حدود وجدران بين الاوطان انما تكون الأوطان بأهلها. فالروابط والوشائج والأواصر وشراكة التاريخ والآلام والآمال والمقاصد هي التي تصنع الشعوب الموحدة. والوطن يصنعه المواطنون المتعايشون الذين يوطدون الصلات بينهم ويتعاونون علي البر والعمل الصالح. ولئن حزن البعض علي مقولة بلد المليون ميل فقد كان ذلك هو الوطن الجغرافيا ولكنه لم يكن الوطن التاريخ . ولم يكن الأواصر المتلاحمة ولم يكن وطن المواطنين الذين لا تُعرف بينهم المشاعر السلبية التي تغذت من التحريض العنصرى والتعبئة السياسية وحملات الدعاية الأجنبية. ولئن كان حضور أهل الجنوب الي الشمال بسبب الحروب قد قلل الي مدي بعيد من مشاعر التنافر الا أنه من الواضح من نسبة الاقتراع العالية في الشمال للانفصال ان ذلك لم يكن كافيا لبناء قاعدة كافية في هذا الوقت للوحدة الوطنية.
الاستقلال.. جوبا أم الخرطوم:
انفصال جنوب السودان ان شاء اخوتنا في جنوب السودان تسميته بالاستقلال فنحن أحق بكلمة الاستقلال . ففض هذه الشراكة الوطنية ان كان له ضرر فضرره الأقل علي شمال السودان وان كانت له عوائد وفوائد ففائدته اكبر واكثر لشمال السودان. فما عاد السودان في حاجة ان يسير بسير ضعفائه . لأن من كان يتأبط ذراع السودان اختار اذرعاً أخري ليستند عليها . واختار قبلة اخري ولغة اخري وربما ثقافة اخري(رغم انهم لم يستطيعوا الاحتفال الا باللغة العربية). ولا ندري ما جدوي هذه الاختيارات وما اذا كانت ستكون الخيارات النهائية . ولكن أهل الجنوب اختاروا الانحياز الي قيادتهم الراهنة التي تري ان التوجه غرباً لغة وثقافة خيرٌ لها . وان التوجه بالاقتصاد جنوباً أجدى لهم .  وستأتينا  وتأتيهم الأخبار قريباً عن جدوي هذه الخيارات . ولكن هذه الاختيارات نفسها هي التى تجعل خيارات السودان أسهل وأوضح فمن ترك السودان عن ميسرته ومضى سيتركه السودان عن ميمنته ويمضى. ومن يبكي علي الجغرافيا بدموع صادقة ومن يتباكي عليها بدموع التماسيح  يجب عليه أن يدرك أن السودان لا يزال وطناً من اكبر الأوطان وأنه ياتي في المرتبة السابعة عشرة من دول العالم من حيث المساحة , وأنه بات الآن اكثر تجانساً من حيث السكان والعقيدة والثقافة واللغة . وأصبح اكثر ترابطاً وإتصالاً بين أجزائه وأرجائه . وأصبح بانفصال الجنوب أرقي درجة في سلم التنمية الاجتماعية والاقتصادية بمؤشراتها المختلفة، سواء في الصحة أو التعليم او نصيب الفرد من الناتج الاجمالي، حتى أصبح البعض يتخوفون أن يخُرج ذلك السودان من تصنيف الدول الاكثر فقراً، فتتخذ بعض الدول المعادية ذلك سبباً لحرمان السودان من حقه في اعفائه ديونه، بموجب اتفاقية اعفاء ديون الدول الأكثر ديناً والأكثر فقراً. لا نقول ذلك لأننا نريد للجنوب أن لا  يحقق الاستقلال الحقيقي الذي هو التلاحم والنهضة والتنمية. لأن تحقق ذلك لجنوب السودان يصرف أعباء يمكن ان تقع علي السودان من لجؤ ونزوح بسبب فشل المشروع والدولة في جنوب السودان. ولذلك فان المساهمة في انجاح مشروع الدولة في الجنوب فوق أنه يأتي من معني الجوار الصالح فانه يأتي ايضا ترسيخا للاستقرار في الجوار الاقليمي الذي يصرف شروراً جمة يولدها النزاع وتولدها المجاعات والفقر المدقع المذل.
السودان .. البداية الجديدة
شاءت حكمة الله ان يُعلمنا أن كل لحظة يمكن ان تكون بداية جديدة . نتخلص فيها من أوضار الماضي وأوزاره . ونتحرر مما يشدنا الي الارض ويمنع تحليقنا نحو القمم . فهنالك دائماً ثانية جديدة ودقيقة جديدة وساعة جديدة ويوم جديد وفجر جديد وعهد جديد. وانما مرجع الأمر الي ارادة الانسان وعزيمته .  وبالنسبة للشعوب فان مرد الأمر الي همم الشعوب وعزائمها . ولسنا في شك ولا ارتياب من صدق عزيمة اهل السودان . ولا في تجدد رغبتهم في صناعة الحياة الطيبة التي تليق بهم وهم اهلها ومن يستحقها فلم يكن شاعرهم مبالغاً اذ يقول
يذكر المجد كلما ذكروا ×××وهو يعتز حين يقترن
فذلك شأن هذه الأمة العظيمة وأولئك هم أبناؤها الذين زرعوا طرقاتها بالاعلام وملأوا ساحاتها بهتاف الرفعة والعزة. فيتوجب أن يكون القادة هم السباقون للتعبئة الوطنية التي تحي مشاعر الانتماء والاعتزاز بالوطن . ولن يتحقق ذلك بالخطب الحماسية مهما كانت قوية وبليغة بقدر ما يتحقق  بالرؤية الثاقبة وبالتجرد الوطني وبالتعالي عن الصغائر.  وافساح المجال للافكار الجديدة الجريئة الحرة وافشاء السلام حقيقة لا مجازاً بين الناس،  بجعلهم شركاء في الأمر، عبر تعزيز الديمقراطية فكراً وأطراً وممارسة، وعبر تحقيق العدالة ، وكفالة الفرص المتساوية للجميع، بلا محاباة بسبب الانتماء الحزبي او المذهبي او العرقي او الجهوي او النوعي(جندر) . والحديث عن جمهورية ثانية لا يجب ان يكون حديث سياسة ، بل يتوجب ان يكون حديثاً عن مشروع سياسي جديد للوطن . ليس لأن مشروع الانقاذ لم ينجح بل لأنه نجح وبلغ غايته التي أراد كما يعتقد كثيرون أو لأنه لم يبلغ غاية كما يعتقد معارضون مناوئون،  ولكن في كل الاحوال لقد أصبح صباح جديد طلعت شمسه علي أهل السودان بوعود جديدة. ولابد لقيادة هذا الشعب من استجاشة العقول وتوليد الأفكار لاجتراح مسارات جديدة للنهضة . لا بوضع دستور جديد فحسب فالدستور الجديد هو خارطة طريق ليس لا ولكن نبفخ روح وطنية جديدة وعقد شراكات وطنية جديدة واعلان خطة عظمي للوطن ، تُرسم له مقاصد طموحة تضعه في المحل الأرفع الذي هو به جدير.  فهو بلد عظيم ووطن عظيم سواء كانت مساحته مليون ميل مربع أم مليون وثمانمائة الف كيلو متر مربع.

الثلاثاء، 5 يوليو 2011

الشريعة.. والنفع العام 2-2

Search أوضحنا في المقال السابق أن مقصود الشارع من تنزيل الشريعة هو تحصيل السعادة للفرد والجماعة . لتحقيق المنفعة ودفع الضرر في كل ما يؤتي وما يمتنع عنه. والشريعة التي نشير اليها هنا هي التنزيل والتخريج . ونقصد بالتنزيل ما أنشأه الله ابتداء من تعاليم واحكام وبالتخريج ما أستنبطه المجتهدون وفقاً لأدلة الأحكام والقواعد المستقاة من النصوص الالهية. وبهذين البعدين تكتسب الشريعة بعدها الالهي والانساني. فهي امشاج واستنباط من مصدر الهي لا ينضب وعين لا يُغور ماؤها ولا يفرغ إناؤها. ولئن كانت المصادر الالهية قرآناً وسنة انما انزلت رحمة للعالمين فلا يجوز أن يخالف الاستنباط والتخريح منهجها ولا ان يتجاوز مقصدها. ولذلك فان فقه الفقهاء وفتاوي المفتين واحكام الامراء والرؤساء يتوجب ان تتحري الرفق واليسر والرحمة في كل ما تفتي أو تحكم به.
الحكم لا يكون إلا للمنفعة:
الحكم مشتق من الاحكام اي وضع الشئ موضعه والحكمة هي كذلك . ووضع الأشياء مواضعها هو اتباع لسنن الله الكونية والشرعية . التي هي تحقيق للمرادات الالهية التي لا تنشد الا الحق ولا تقصد الا الخير ولا تتحري الا الجمال. فالحكم الحق هو لله وانما الانسان مسدد مقارب. يقترب باتباع المقاصد الالهية الي تحقيق الحق والخير والجمال ويبتعد بالهوي عن ذلك بقدر مخالفته للهدي الالهي وموافقته للهوي ونزغ الشيطان. وقد أجمع العلماء والفقهاء أن الدولة لم يؤمر بانشائها الا لتحقيق المصلحة والمنفعة للناس باتباع سبيل الحق. فالحاكم خليفة لله في الارض ليمُضي ارادة الله التي هي الرحمة للعالمين " يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ الله" فالحاكم مأمور باتباع الشرع لأن الشرع هو سبيل الحق. فلا يحكم بارادته الفردية بما تستثار فيها من نوازع الاهواء أو بانفعلاته المتأثرة بالمتغيرات من حوله بلا مستند الي هدي سماوي يعصمه من الوقوع في الظلم والاسراف والعبث بمقومات الحياة الاساسية. فالحاكم هو خليفة لله ونائب للأمة في تحكيم الشريعة لاقامة العدل وتحصيل المصالح ودرء المفاسد. ولايكون ذلك بمراعاة ظواهر النصوص او مقتضي القياس فحسب بل ان الأساس هو موافقة مقاصد الشارع التي هي كلها حق وعدل ورحمه واحسان. يقول الامام الراغب الاصفهاني "فمقصد الخلافه اعمار الارض بالاهتداء بالبارئ سبحانه وتعالي علي قدر طاقة البشر في السياسة باستعمال مكارم الشريعة . وهي الحكمة والقيام بالعدل بين الناس والاحسان والفضل" . وجوهر الحكم هو تحقيق صلاح العباد وعمارة الارض ووتزجية معاش الناس فيها وتحقيق التمكين عليها. ومثلُ الحاكم في ذلك مثل ربان السفينة الماهر يسوقها باتجاه القبلة التي تؤمئ اليها الشريعة ويمضي بها في المنهاج الذي تهدي اليه السنة . وهي كلها انما تؤمئ الي الفضل والرحمة والاحسان والي الرفق واللين والتسيير. واتباع مقاصد الشريعة يعني اتباع ذات المنهج واتخاذ ذات الاولويات التي رتبها الشارع لكل مسعي انساني علي ثلاثه مستويات مستوي الضرورة ومستوي الحاجة ومستوي التحسين والتكميل. وادراك المصالح الكبري ومستويات تحصيلها أمر جوهري في فقه الدين. ونحن نري كيف ضُيعت مصالح كبري ووقعت مفاسد عمت بها البلوي فتراجع الفقه من الرؤية المقاصدية الي المنهج الظاهري الشكلاني الذي يهتم بظاهر النصوص وشكول الأفعال لا مرادات الشارع ومقاصد الأفعال.
الدين لله وثمرته الانسان:
والدين هو المصلحة الكبري لأن الدين الذي هو اقرار بالعبودية لله هو الأمر الذي تصُلح به حياة الانسان في العاجلة والآجلة . وتفسد بانكاره او بالغفلة عنه حياة الانسان في الدارين. ولذلك فان حفظ الدين هو المصلحة الكبري التي تندرج في سياقها كافة المصالح الدنيوية والاخروية. والمقصود هو حفظ الدين علي مستوي الضرورة . وهو المتمثل في الايمان بالله وتوحيده وعبادته. وفي حفظ الدين حفظ لمصالح الدنيا والآخرة. ولو شئنا التعبير بلفظ آخر لقلنا أن المقصد الأعلي للمسعي السياسي عو اعلاء القيم التي جاء بها الدين. لأن الحياة النفسية والاجتماعية لا تنهض الا علي التوازن الذي لا يفلح في اقامته الا شريعة الدين الحكيمة لأنه لا افراط فيها ولا تفريط . والمقاصد الكبري التى تأتي بعد حفظ الدين هي حفظ قوام الحياة الانسانية في حفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال . وهي تهدف جميعاً الي التنمية الانسانية والي صيانة انسانية الانسان والرقي بها لتكون في أحسن تقويم وأفضل صحة وعافية وأتم أمنٍ ورضي. كما تهدف الي حفظ العقل الانساني وتنميته بتأكيد اصالته وحثه علي بذل غاية الوسع لاكتشاف معاني الكون والحياة وصولاً به الي توحيد الله. كذلك فان من تمام الانماء الانساني الحفاظ علي استمراره بحفظ النسل ليُولد ويستمر قوياً معافاً قادراً علي صنع الحياة الجديدة. ووسيلة الانسان في ترقية حياته المادية هو المال الذي بصيانته وحسن توجيهه يتحقق اعمار الارض . وتكثر ثمارها وتتبارك خيراتها لتكون زاداً طيباً لانسان مؤمن بربه واثقٍ بنفسه معتمداً عليها ومتوكلاً علي الله.
مقصد الشرع تنمية الانسان:
الغاية من المسعي السياسي في نظريات التنمية السياسية ليبرالية او ماركسية هى تحقيق الحرية مفهومها الأشمل وزيادة مشاركة المواطن في السلطة السياسية وتحقيق المساواة بين المواطنين. وعلي المستوي الاقتصادي تحقيق أعلي درجات الاستهلاك والاشباع المادي. ويعتبر هذا المقصد محور عمليات التنمية السياسية والاقتصادية وجوهرها بل ومؤشرها الذي من خلاله يمكن قياس تقدم مجتمع ما من تأخره. ولا شك أن هذا المقصد قاصر ناقص لأنه لا يجُيب عن السؤال الأهم و هو هل يحقق الاستهلاك والاشباع المادي السعادة الانسانية. ان السياسة الشرعية انما هي سياسة شاملة متوازنة . تسعي لتحقيق السعادة وفق رؤية ايمانية توحيدية تحقق الرضي المعنوي والروحي والمادي. ولا تتحدث عن اشباع كامل للحاجات الدنيوية فحسب بل تصل بين منافع الدنيا والاخرة وتجعل الدنيا سبيلاً للاخرة. فمقصود الشرع هو تحقيق الحياة الطيبة الكريمة بمراعاة مقاصد الشارع في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال ورعاية مستويات هذه المصالح من ضرورة وحاجة وتحسين سبيلاً الي انماء الانسان بتحريره من اهواء النفس وضغوط الضرورة والحاجة وتعدي واستبداد الاخرين. فتكون الحرية و المساواة بين الناس في ظل الشريعة ثمرة لذلك. وتكون حرية الناس وتساويهم في عبادة الله هى الضمانة من عبودية بعضهم لبعضهم الآخر.
التحرير من الضرورة:
ليس ثمة ما يستعبد الانسان مثل ضرورته و حاجته الماسة لقوام حياته مطعماً أو أمناً او مأوي او ملبساً أو صحة. وتحرير الانسان ليكون سيداً علي أمر نفسه وعابداً مخلصاً لربه انما يكون بتحريره من العبودية للضرورة وللحاجة الماسة التي تلجئه للخضوع لسواه من البشر. والضرورة كما يقول الامام الحرجاني في تعريفاته مشتقة من الضرر وهو النازل بما لا مدفع له. بهذا المعني الضرورة هي فوات أصل لا يُستغني عنه يترك فواته الانسان الفرد او الجماعة في تهديد وخطر ومشقه. فالانسان اذا خاف علي هلاك نفسه او نسله أو ضياع أصل ماله او فوات مصالحة التي لا يستنغني عنها خضع و ذل مضيعا بذلك مصالحه وكرامته في آن واحد. ومن واجب الدولة ومسئولية الحاكم أن يحفظ للمحكومين افراداً وجماعات مصالحهم ويدرء عنهم المفاسد والمضار . ويصون حريتهم وكرامتهم الانسانية. والضرورة هي الحاجة التي لا يستغني عنها. واما ما يسميه اهل اللغة والفقه بالحاجة فهي الاحتياج الذي يُوقع فقدانه في المشقة والحرج. ولأن الفارق بين المشقة الشديدة وخوف المهلكة والمشقة المرهقة فرق لايستبان في كل الأحوال فقد أنزل غالب الفقهاء الحاجات منازل الضرورات . والحاجة تنزل منزلة الضرورة لأن الرحيم لا يمكن أن يترك الانسان حتي تلجئُه المشقة للهلاك ليهب الي نجدته . بل الرحيم هو الروؤف الذي يأبي العنت والمشقة تُصيب أخاه الانسان. ولأن مطلوب الشريعة من التنزيل والتخريج هو تحقيق الرحمة بالانسان فان "الحرج مرفوع شرعاً" وهذه قاعدة فقهية ذهبية تقف الي جانب قاعدة فقهية ذهبية أخرى هي "لا ضرر ولا ضرار" فليس مقصود الشارع بحال من الأحوال وضع المشقة علي المكلفين بل مقصوده بخلاف ذلك رفع الاصر والمشقة، وازالة الشدة والعنت عنهم "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ." فمن شاء ان يكون حاكماً علي سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم فذلك نهجه صلى الله عليه وسلم وتلك سنته وأما المشدودون علي الناس فقد فارقوا الشريعة وخالفوا السنة وأبتعدوا عن مراد الشارع الحكيم الرحيم.
خاتمة:
قديماً قيل أن آفة الأخبار رواتُها و أما آفة الفتاوي فهم فقهاء أخفقوا في ادراك أن الشريعة رحمة مهداة ونعمة مسداة. وأن المراد منها هو اسعاد الانسان في الدنيا ليسعد في الآخرة لا اشقاءه في الدنيا ليسعد في الآخرة. واذا كان واجب العلماء أن يسعوا الي أنسننة الفتاوي بمعني ابتداء النظر دائماً بحال الانسان بقصد اعمال التكاليف الشرعية سبيلاً الي تحسين حياته، فان ذلك واجب الدولة و على الحاكم أوجب من ذلك . لأن شأن المحكوم في ذمة الحاكم كشأن اليتيم في ذمة الكافل . فعليه أن يبذل غاية الوسع لرفع المشقة والعنت عن المحكومين بتحري الرفق والتيسير فانه بذلك متبعٌ لشريعة الله مهتدٍ بسنة رسوله صلي الله عليه وسلم الذي "ما خير بين أمرين الا أختار أيسرهما" فيسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا فبذلك وحده يقوم الدين وتستقيم الحياة.