الأربعاء، 24 أغسطس 2011

أسلامية الدستور 2


ذكرنا في مقال سابق أن هنالك مقاربتان لموضوع اسلامية الدستور. مقاربة نصوصية شكلية تُعلي من الرموز والأشكال وتنحصر مسألة الاسلامية لديها في البعد التشريعي . وبخاصة في جوانبه العقابية وفي مظاهر الالتزام الديني. أما المقاربة الثانية فهي مقاربة حقوقية انسانية تؤمن بأن المقصد الأساس من كل تشريع ومن التشريع الأسلامي علي وجه الخصوص هو إعطاء كل ذي حق حقه . وترقية حياة الانسان باثرائها بالقيم الأيمانية والروحية وتمتينها بالقيم المادية والاقتصادية لتتحقق للانسان الحياة الطيبة في معاشه الدنيوي ويحظي بالفوز بالجنة والنجاة من النار في عقباه الآخرة.
الإنسان أولاً:-
لئن كان ينُظر للدستور باعتباره وصفه لتطوير الامة وترقيتها فان مبتدأ ذلك هو النظر الي حال الانسان ولقدراته لترقيتها بالتعليم والتدريب والتأهيل ورفع القدرات المستمر لأن الأمة لا تنهض وتتطور الا بكسب افرادها. ثم النظر الي حاله في معاشه وسبل كسب ذلك المعاش لترفيع مستواه الاقتصادي وشحذ قدراته علي كسب العيش . وتوفير الموارد التي تُعين علي ذلك وتحريك البيئة الأقتصادية من حوله بالاستثمار والانماء المتسارع . لتتسع فرص كسب العيش وتتحسن مستويات الرفاهة العامة. وفي كلتا الحالتين فان الانسان ياتي اولاً لأن الدساتير والتشريعات كما يقول الأمام الشاطبي "وضعت لمصالح العباد في الدارين" . ومراد التشريع هو بناء القدرة الانسانية وتكليفها من بعد برعاية الحياة وتنميتها . وكلٌ مًيسر لما انتدب له . وكل الناس راعٍ  ومُكلف ومسئول عن رعيته وتكليفه. وقصد التكاليف هو تناصرها لرعاية النفع العام . ومقصد التكاليف التي وردت بها التشريعات هو تحقيق المنفعة ودرء المفسدة في غير ما عنت او مشقة. لأن الشارع لم يقصد الي تكليف العباد بما لا يطاق أو بما لا منفعة له . يقول الأمام الشاطبي "ان الاجماع قد وقع علي أن التكليف بما لا يطاق منفي عن الشارع . وكذلك التكليف بما فيه مشقه او حرج.  ذلك أن مقصد الشرع للناس ان "يضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم" فمقصده هو رفع الضيق والمشقة عنهم وتحريرهم من كل غلٍ او قيد علي حريتهم في التحرك والتنقل والتصرف والكسب "ما يريد الله ان يجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم" ولو اهتدي كل مشرع بهذه المعاني الانسانية الرحيمة لسأل نفسه قبل أن يسن أي تشريع أو قانون أو دستور الي أي مدي يساهم هذا التشريع في تحسين اوضاع الناس والتخفيف عنهم ورفع الحرج والعنت عن حياتهم في كافة مجالتها المعيشية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. بيد أن هنالك طائفة من أهل المذاهب والأتجاهات الفكرية يجعلون مقصد التشريع هو التشريع نفسه . ومقصود النص هو تقديس النص نفسه . ولذلك فمعيارهم للصلاح هو الشدة . بأن يشدد المرء علي نفسه وعلي غيره . وما علموا أن مقصود الشارع من كل الأمور هو التيسير لا التعسير  وما خيُر رسول الله صلي الله عليه وسلم من أمرين إلا إختار أيسرهما.
الدستور هو اصلاح الشأن
والدستور بوصفه تشريعاً يمثل أساس التشريعات تأسيسة او تنظيمة، مدنية او جزائية يتوجب ان يكون مقصده اصلاح شأن الامة في كافة مناحيه. لأن مقصد التشريع والسياسة هو القيام علي الشأن بما يصلحه. واذا كانت الدولة ضرورة من ضرورات الحياة الآمنة المستقرة المتطورة فأن تنظيم الدولة بدستور مُتوافق عليه عرفاً او كتابه يحوز علي ذات الأهمية. لأن ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب. فالأمام أبن خلدون يقول في المقدمة "ان البشر لا تُمكن حياتهم ووجودهم إلا باجماعهم وتعاونهم علي تحصيل قوتهم وضرورياتهم فاذا اجتمعوا" دعت الضرورة الي المعاملة واقتضاء الحاجات ومد كل واحد منهم يده الي حاجه ياخذها من صاحبه لما في الطبعة الحيوانية من الظلم وعدوان بعضهم علي بعض  فاستحال بقاؤهم دون حاكم يزع بعضهم عن بعض"فالحكم المنظم بالعرف او الدستور هو الضامن للسلم الأهلي وللعدل بين المتنازعين أو المتنافسين . ولتنظيم مسعي الناس لكسب معايشهم أو ممارسة حرياتهم بالتصرف في انفسهم وأموالهم بما يحبون دون إفتئيات علي أحد".
ولئن كان حديث الساعة هو حديث الاصلاح فان المراجعة الدستورية هي الوصفة لذلك الاصلاح. لأنها توفر الفرصة لمراجعة المؤسسات وفاعليتها وتقويم الأداء ونجاحه واخفاقه ودراسة مردود السياسات ونفعها وضررها. والفرصة سانحة الآن لأصحاب المشروع الاسلامي للانتقال من مشروع تأسيس الدولة الي تمليك ذلك المشروع للشعب من خلال ابراز منافعه للناس . وفوائده في تحقيق الحياة الكريمة لهم وفي إقامة العدل وبسط الحريات . وصيانة الحرمات وترسيخ المساواة وتوسيع المشاركة في الشأن العام . وتعزيز النزاهة العامة في كل وجوه الاداء ومحاربة جميع وجوه الفساد.
وأهل المشروع الاسلامي مدعوون لانتهاز سانحة الدستور الجديد لاحيائه بتحويله الي شراكة مساهمة عامة لافضل فيها للسابق علي اللاحق. وذلك من خلال بناء نظام سياسي مفتوح . لا يًسد بابه في وجه ناشط مهما اختلف رأيه أو تعارض مسعاه مع مسعي التيار الغالب ما دام يصنف ذلك المسعي في اطار المصالح الوطنية مهما اختلف الناس في تكيفها وتقديرها . ولقد غدونا اليوم وحال المشروع الاسلامي مثل حال الطائفة الاسلامية بعد فتح مكة. فلا مخافة أن يهُزم المشروع الاسلامي من قلة .  وانما المخافه أن تلجئه المهددات المتوهمة الي التحول الي احتكار طائفه تفرض وصايتها علي الناس كافة بزعم الحرص علي الاسلام . وتجعل سبيلها الي تحقيق مقاصدها الاكراه لا الاقناع. لذلك فان أول سمات اسلامية الدستور أنه للناس كافة بالمعني الذي يفيد أنه يفتح المنافذ ويشرع الأبواب ليلج الجميع الي رحاب المشاركة الفاعلة في صنع مستقبل الوطن. وهذا يعني أن يراعي في بناء المؤسسات أنها مؤسسات يقضى فيها بالرأي الجماعي لا الرأي الفردي . وأن التنافس للوصول الي مراكز القرار عادل ونزيه وميسور . وذلك بمراجعة التشريعات التي تحقق ذلك. ومن أولها تشريع الانتخابات الذي يتوجب ان يعاد تصميمه بغرض تسهيل الدخول للمؤسسات لا تعسيره . وجعل تعدد الأصوات والأراء مقصداً من مقاصد تشريع ذلك القانون. وتحقيق انفتاح النظام السياسي يقتضي مراجعة نظم الحكم رئاسية واتحادية بما يوسع المشاركة دون أن يهزم المقصد في تخفيض النفقات العامة. والنظام المفتوح يقتضي ترويج ثقافة الشوري والمجادلة بالحسني والحوار والتناصح والمشاركة الواسعة في صنع القرار من خلال اتاحة المعلومات وتطوير الإفادة منها لتطوير آليات الحوار وصنع القرار.
واذا كانت الدعوة في النظام السياسي للانفتاح فان الدعوة في النظام الاجتماعي والاقتصادي للنظام العادل الذي يمنع المال أن يكون حكراً ودُولة بين القلة . وأن توزع فيه الموارد العامة بالعدل والانصاف مع تعزيز الاهتمام بتطوير القطاعات الانتاجية التي تتيح فرصاً واسعة لكسب العيش وتعزز في ذات الأوان قدرة الاقتصاد علي النمو السريع من خلال البحث العلمي وبناء القدرات واجتذاب الاستثمارات . وفتح أفاق التعاون الاقتصادي دون عوائق بيروقراطية. فهو نظام مفتوح للأعمال والأشغال ولذوي المبادرات والأفكار والأبتكارات, وأما النظام الأجتماعي فهو نظام يقوم علي الانضباط الذاتي من خلال تنظيم المجتمع لنفسه بنفسه . يكون فيه المجتمع سابقاً للدولة بمبادراته قادراً علي الاستغناء عنها بحاجاته. مجتمع أساسه أسرة متعلمة تقوم علي الالفة والمحبة والتشاور والتكافل ومجتمعاته المحلية متعاضدة متعاونة تترفع علي لعصبيات العرقية والقبلية . وتتكامل جهودها لنهضة الوطن الكبير.
                         أنتهى

السبت، 20 أغسطس 2011

قضايا الإعلام السوداني ومشكلاته تأثيره وتأثره بالإعلام الدولي


توطئة:-
       لا يمكن لأحد أن يشخص العلل والمشكلات التي تواجه الإعلام في السودان أو في أي مكان آخر دون النظر إلى البيئة التي يوجد فيها والعلاقات الحركية (الديناميكية) التي تصله بالمؤسسات الأخرى وبنظائره في المجتمع الدولي. ولاشك ان المراقب لأهم التطورات في هذه الحقبة في عالمنا المعاصر لن يفوته أن يلحظ أن أهم وأخطر التحولات والتطورات الكبرى أنما تحدث في ساحتي الاتصالات والمعلومات. ولن يفوت على أحد أن يلحظ أن الاعلام ما هو إلا الاتصالات والمعلومات. فالثورة الكبرى التي يشهدها العالم في هذين القطاعين سوف تغيّر تماماً ما يفهمه العامة والخاصة عن مفردة الإعلام. ولعل مراجعة المفردة ما تشهده من تطور تضع نفسها مقدمة لازمة للحديث عن مشكلات الإعلام السوداني ومدى قدرته على مواكبة التطورات الهائلة في الساحة التي يعمل فيها. والإعلام الذي نتحدث عنه هو اللهاث الدائم بحثاً على المعلومة في الأحداث الماثلة في استنطاق الـمـصادر ، هو غرفة الأخبار ، مفاتيح الكمبيوتر، ألاسطوانات والموسيقى والاعلانات ونشرات الأخبار ، هو الصور التلفزيونية والكاميرات ومحطات التقاط  الصور والأصوات ، الأقمار الصناعية  والمايكرويف. أنه عالم من الحركية الدائبة والإثارة التي تأخذ بالألباب ويسميها الناس وسائل الاتصال الجماهيريMass Media .
       هذه الوسائط تطورت منذ نشأة اللغة المنطوقة والمكتوبة إلى العصر الرقمي. ورغم أهمية وسائط الاتصالات في إثراء الحياة البشرية وإعطائها معناها ومغزاها إلا أن الناس لا يزالون لا يقّدرون أثار الاتصال وتبادل المعلومات بينهم حق قدره. ولئن كانت الطباعة هي الثورة الثانية بعد اختراع رموز الكتابة فان الإليكترو مغناطيسية التي سمحت بنقل الأصوات لمسافات شاسعة عبر الأثير كانت هي الثورة الكبرى في عالم الاتصالات بل هي الثورة الكبرى في عالم البشر. واكبت هذه الثورة ثورة متصلة بعالم الصور تمثلت في إختراع الكاميرا وتطورها الإليكتروني. وتطور حفظ هذه الصور وإعادة بثها ، كما تطورت أجهزة البث حتى بلغت الأقمار الصناعية وتطورت الحواسيب وتعاظم دورها في الاتصال ونقل المعلومات.
       ولكننا اليوم نشهد الثورة الرقمية التي أثرت ولا تزال تؤثر بقوة وبسرعة فائقة على ما نسميه الإعلام أو الاتصال الجماهيري. فوسائط الاتصال الجماهيري والشخصي توشك أن تندمج في وسيط واحد يؤدي جميع مهام الاتصالات والمعلومات . لن يكون حاسوباً وليس بالراديو ولا التلفزيون ولا الهاتف والفاكس وهو ليس الفونغراف  ولا المسجلة ولا الكاميرا، هو كل ذلك وفوق ذلك. وأصبح الحديث عن وسائط اتصال جماهيري وشخصي حديثاً يوشك ان يدخل أضابير التاريخ. فالاتصال الواسع للجماهيرBroadcasting والاتصال الشخصي Direct casting يتداخل منتجاً جميع الخيارات للانفراد أو الاندماج . وبذلك يضيع معنى ما نعرفه عن الاتصال الجماهيري ويضيع معنى ما نعرفه عن المرسل والرسالة والمرسل إليه. لأن تفاعلية ثورة الاتصالات والمعلومات تحيل الأمر إلى علاقة دائرية بدلاً عن العلاقة الأفقية. وبذلك يتحول المستمع والمشاهد إلى مشارك. ربما يكون قسطه في توفير المعلومات أكبر من قسط الإعلامي المتخصص ، ويمكن ان يتاح نتاج تلك التفاعلية لجمهور غفير أو أفراد متخصصون راغبون في الاستزادة من معلومات متخصصة.
       هذه التوطئة الطويلة مهمة للغاية لرفع إيقاع الجمهور المتابع لهذه المداخلة إلى روح الحركية الدائبة والهائلة في عالم الإعلام والذي أدخل خطواته الأولي في DRM تكنولوجي (الراديو الرقمي) وتلفزيونTV high definition  وتوشك تلك التقانات أن تندمج في كائن جديد يوفر غالب مطلوبات الاتصال البشري.

أين الإعلام السوداني من ذلك؟
       يظلم المرء أهل الإعلام في السودان إن لم يقرر أنهم أدركوا منذ وقت مبكر نسبياً أهمية الذي يجرى في عالم الاتصالات والمعلومات . وسعوا منذ وقت مبكر إلا يُتركوا في مؤخرة ركب التطور  المتسارع في هذه المجالات. ولذلك سعوا إلى امتلاك التقانة العالية High tech والمعرفة الفنية Know how وكانت هنالك رؤى مبكرة لكيفية الاستعداد للاندماج في الموجة الصاعدة الجديدة.
       وقد سجل السودان شيئاً من التقدم الملحوظ في مجال الاتصالات والمعلوماتية ودخلت أجهزة الإعلام الإليكتروني الساحة الرقمية منذ وقت باكر نسبياً مقارنة بالعالمين العربي والأفريقي ، ولكن هذا الدخول المبكر نسبياً لم يضمن الاحتفاظ بمرتبة السبق لأن الذين دخلوا مؤخراً كانت تصحبهم الامكانات المادية والإرادة السياسية والإدارية الفاعلة . ولذلك لن يستطيع أحد أن يخفي حقيقة أن الإدراك المبكر والشروع المبكر في إدخال التقانات الرقمية لم يؤمن الاعلام السوداني من التراجع عربياً إلى موقع بعيد عن المقدمة في راهنه اليوم. خاصة إذا تمت المقارنة مع المبادرات التي أخذها القطاع الخاص العربي والتي توفرت لها موارد كثيرة وخبرات متخصصة كثيرة.
مشكلات الاعلام :
       لا نستطيع أن نتحدث عن المشكلات ما لم نصف الواقع اليوم في الإعلام المقروء والمسموع والمرئي و المبثوث في الشبكة العالمية. وليسمح لي المتلقى الكريم أن أوجز في عرض المشكلات إيجازاً قد لا يفي بالغرض ولكن الإشارة هي لغة الإعلام التي يفهمها الأذكياء.
أولاً:  الصحافة:  
       الصحافة في السودان نشأت نشأة مبكرة نسبياً في إطارها العربي والأفريقي ولكن تطورها جاء بطيئاً في كافة المجالات المتصلة بتطوير أعمالها . وبخاصة في المجالات المتصلة بالصحافة بوصفها استثماراً اقتصادياً وصنعة متعددة المجالات. ولا يمكن لأي استثمار ان ينجح أو أن يتطور ما لم تتوفر له عناصر النجاح المتمثلة في مدخلات رخيصة وقوة عمل مدربة وقدرة فاعلة على الترويج والتسويق . فالصحيفة بوصفها منتج تجاري "لا نتحدث الآن عن مادتها الإعلامية أو الإعلانية" لم تتح لها في السودان ظروف مواتية للنجاح . فعدم وجود صناعة للورق والأحبار مع أسعار مرتفعة لهذه المدخلات بسبب مشكلات متعلقة بالاقتصاد الكلي السوداني (ضعف القدرات التصديرية والإستيرادية ، ندرة موارد العملة الصعبة، عجز العلاقات المصرفية الدولية، انصراف الاستثمار والتجارة إلى الاحتياجات المباشرة بسبب اقتصاد الندرة ... الخ) كل ذلك أدى إلى مدخلات للصناعة عالية التكلفة ، كذلك أدى عدم وجود مطابع ذات قدرة إنتاجية عالية وجيدة إلى إنتاج سلعة دون المتوسط في الجودة مع علو التكلفة بسبب عدم قدرة المطابع على الإنتاج الكثيف (لا توجد حتى هذه اللحظة دار للطباعة يمكنها طباعة خمسين ألف نسخة من صحيفة ذات صفحات مناسبة "16 صفحة") .
ومثلما ان الصناعة الطباعية تعاني من مشكلات علو كلفة المدخلات والطباعة مع ضعف الجودة فإن الخدمة المتمثلة في توزيع المنتج تعاني هي الأخرى من مشكلات مزمنة ومتفاقمة . فلا توجد شركة توزيع واحدة مؤهلة لتوزيع الصحف داخلياً وخارجياً. والتوزيع لا يمضي على خطة تتصل بدراسة الطلب على الصحف ومواقع هذه الطلب بل على نهج عشوائي . فدور التوزيع لم تشغل نفسها بالإجابة على الأسئلة المهمة من تشتري الصحف اليوم؟ الحكومة أم  الشركات أم الأفراد ؟ من الأكثر إقبالاً المواطنون أم  الطلاب أم العمال . من أكثر لهفة على اقتناء الصحف ؟ أهل العاصمة أم الإقاليم ؟ هل من فرص لتسويق الصحف في الأرياف. وهذه اسئلة هامة لسلعة لا تحتمل التأخر لساعات . فهي أشبه بخدمة توزيع الحليب ولكن شركات التوزيع لا تملك الموارد الكافية ولا الرؤية الواقعية. وهي تشكو من استغلال وكلائها للصحف عبر الإجارة للقراءة ، ولا شك أن كل المشكلات المتعلقة بتوزيع الصحف تتوفر لها حلول يعرفها أصحاب خدمة التوزيع في العالم. فالسودان ليس نسيج وحده ولكن ضعف القدرات تقعد بصنعة التوزيع عامة في البلاد وبخاصة في مجال الصحافة الأمر الذي يتمظهر في بوار العدد المحدود من نسخ الصحف التي توزع اليوم.
واذا انتقلنا من الصحيفة بوصفها منتج مصنوع إلى الصحيفة بوصفها خدمة إعلانية ، إعلامية ، فقد تأثر وضع الصحف أيضاً بتأخر صناعة الاعلان بسبب مشكلات في الاقتصاد الكلي . إقتصاد الندرة ضعف المنافسة بين السلع المنتجة والمستوردة ، ضعف إدراك رجال الاستثمار للدور الترويجي والإعلاني فى تحقيق الانتشار السلعي والخدمي، إعتماد الإستيراد على إعادة الاستيراد وعدم وجود وكلاء أصليون للسلع والخوف من الضريبة العشوائية ... الخ) . ولذلك فأن الصحف تعّول كثيراً على اعلانات قطاع الاتصالات و الإعلان الحكومي والذي يعاني هو الآخر من مشكلات متعلقة بالاقتصاد الكلي وبطرق اتخاذ القرار في مؤسسات الدولة (عدم وضوح الرؤية لدور الاعلان في الحصول على أفضل الأسعار والخيارات ، عدم وجود رؤية  معتمدة للدولة عن فاعلية وسائط الاعلان ومدى انتشارها ، ارتباط الاعلان بالعلاقات الشخصية واحياناً بالمصالح الشخصية ... الخ. الى جانب ذلك فان ضعف الوكالات الحالية للاعلانات غياب المعرفة الفنية Know how عدم وجود مبادرات إعلانية فالاعلان يأتي ولا يُسعى إليه ...ألخ.
أما الجانب الإعلامي في الصحيفة فيعاني هو الآخر من ضعف الخبرة المهنية لأسباب عديدة (تقطع الخبرة وعدم استمرارها وتناقلها بين الأجيال، التعليم الاعلامي نظري ولا يقدم تدريباً اعلامياً مناسباً . اوضاع الصحفيين المتواضعة لا تتيح لهم فرصة التدريب والتطوير الذاتي، نزعة إدارات الصحف للتخلص من الخبرات ذات المتطلبات الغالية والاعتماد على متدربين وصحفيين جدد تقليلاً للتكلفة. عدم وجود مصادر للمعلومات لافادة الصحفيين واعطائهم الخلفية المناسبة للتحقيقات التي يقومون بها أوالاخبار التي يسعون خلفها. عدم وجود تدريب حتى في أول الخدمة ولا دورات تدريبية مستمرة. ضعف اتصال قيادات التحرير بالصحفيين الناشطين لتوجيههم أو نقد أعمالهم إلا عند وقوع الأخطاء الكبرى، عدم انشاء نظام للاستفادة من الشبكة العالمية للمعلومات وعدم وجود أدلة ترشد الصحفيين لكيفية الاستفادة من معلومات الشبكة العالمية للمعلومات ، عدم الاهتمام بالبحث والتوثيق بوصفه عملا راتباً للصحف.
من جانب آخر فالصحافة السودانية موغلة في السياسة وكأن أخبار المجتمع والاقتصاد والرياضة والثقافة والعلوم والبحوث لا تعني الجمهور في شيء . وهي أيضاً موغلة في المحلية فلا تعطي حيزاً كافياً لخدمة القراء في مجال التقارير الدولية والتراجم والمتابعات. وتعاني أيضاً من فقدان الخدمات التي ينشدها القراء في الصحف عادة مثل الإعلانات المبوبة والنعي والتهاني والتغطيات الاجتماعية والصور للمناسبات والوظائف الخالية والمطلوبة وجداول الطيران والسكة الحديد والنقل بين المدن وبرامج دور الترفيه والعرض وبرامج الإذاعة والتلفزيون والقنوات المحلية الفضائية. وهي تعاني من ضمور كبير في مجال التحقيقات الخبرية والمساءلات والاستجوابات الصحفية للمسئولين وقطاعات المجتمع المختلفة. وفي الجملة فأن الصحافة السودانية تبعد يوماً بعد يوم عن كونها وسائط للمعلومات ووسائل لخدمة المجتمع لتتحول إلى منابر للرأي السياسي . وهي لا تنجح في هذه الصفة لأن غالب أعمدة الرأي لا تعبر عن قيادات صحفية أو سياسية أو اجتماعية ذات وزن كبير عند القراء. وأصبحت أعمدة الرأي السياسي وسائل لترويج الصحف من خلال إدارة المعارك الصحفية التي لا تعني القراء في شيء أو من خلال المزايدات أو التعانف اللفظي بين أصحاب الاتجاهات السياسية المختلفة.
ختاماً ربما يفتقد البعض الإشارة الى مشكلات الحرية بوصفها معوقاً للأداء الصحفي وأهل الصحافة يسارعون إلى الاحتماء في مواجهة المشكلات الحقيقية للصحافة فيهرعون للحديث عن أزمة الحرية . وأنا أقرر هنا أنه لا توجد أزمة حرية للصحافة السودانية الحرية متاحة بمدى كبير ولا يعني ذلك عدم وجود تدخلات تعوق عمل الصحافة . ولكن هذه التدخلات لا تشكل الـمعوق الرئيس للعمل الصحفي ويمكن للمجتمع الصحفي اذاً ان يحقق الموازنة المطلوبة بين الحرية والمسئولية وأن لا يسمح بتدخلات تحد من الحريات الدستورية للصحافة وأجهزة الاعلام بالبلاد . ولكن الحرية الصحفية لا تتأثر بتدخلات الأجهزة فحسب ففي تقديري ان تدخلات أصحاب الصحف وأغلبهم ذوو اتجاهات وامزجة سياسية تتفوق بكثير على تدخلات أجهزة الدولة واحياناً تكون تلك نتاجاً للأولى . ونحن لا نرى ان من حق الحكومة التدخل إدارياً للحد من حرية الصحف ، ولكن يتوجب أن ترعى حرية الصحفيين بإزاء  الإدارات أو الملاك للدور الصحفية . فحرية الصحافة هي حرية الصحفي فيما يكتب ما دام يتحلى بالمسئولية التي تراعى الحقوق الخاصة والعامة.
الإعلام الإليكتروني:
       يدخل في هذا النطاق الراديو والتلفزيون والبث عبر الشبكة العالمية. ولسنا هنا بصدد دراسة تطور الاعلام الإليكتروني في السودان والذي بدأ مبكراً نسبياً قياساً للأقليم العربي الأفريقي . وقد شهد صعوداً وهبوطاً عبر السنوات والمطلوب في هذه المداخلة التركيز على المشكلات التي يواجهها الاعلام الإذاعي والتلفازي في السودان . ولاشك ان السنوات القليلة الماضية شهدت جهوداً جمة لمواجهة هذه المشكلات . غير ان السنوات ذاتها شهدت تحديات جديدة على مستوى المنافسة الإذاعية والتلفازية ولما كانت أجهزة الاعلام الوطنية تعمل في ذات الساحة مع أجهزة الاعلام الموجهة أوربياً وعربياً للسودان فان ذلك يرفع سقف المطلوب من هذه الأجهزة لتحتفظ بالقدرة التنافسية ولتحظى بنصيب مناسب من المسموعية والمشاهدة.
تأهيل العاملين:
       وأول المشكلات بأتجاه تحقيق هذا الهدف هو رفع قدرة العاملين بالأجهزة إلى مستوى المهنية المطلوبة . والعوائق في هذا السبيل لا تمنع الوصول للهدف ولكن لابد من التوقف عندها لتذليلها . وأول هذه المعوقات هي التأهيل الأساس المطلوب للعمل بعد أن حدث تحول جوهري في طبيعة العمل بالتحول للتقانة الرقمية.

        والهيئات الاعلامية لم تستوعب العاملين في الغالب بناءاً على طبيعة الوصف الوظيفي للمهام التي يتوجب عليهم أداؤها. بل كان الاستيعاب (بيروقراطي) وفي أحيان كثيرة بناءاً على اعتبارات شخصية أو إنسانية . وقد خضعت بعضها  لإعادة هيكلة خفضت العمالة المطلوبة للنصف . ولكن المشكلة في عدم التلاؤم بين المؤهلات المطلوبة والمتوفرة لا تزال قائمة بدرجة تؤثر على العمل . مما يقتضي بذل جهود جمة في إعادة تسكين العاملين على وظائف الهيئات حسب المؤهلات والاستعدادات. فالبعض الذي يصلح للعمل البرامجي قد يكون التسكين وضعه في الوظائف الإدارية ويصح العكس أحياناً . ولذلك يقتضي الأمر إعداد دراسة حول التأهيل الأساس والقدرات والمواهب لكل فرد من العاملين ليتم توظيفه في الجهة الأكثر تلاؤماً مع استعداداته وامكاناته . ثانياً : لابد من مشروع تدريب تأهيلي وتدريب تحويلي لإكساب العاملين القدرة المهنية على أداء الاعمال الموكلة إليهم . وقد بدأ هذا المشروع وهو يتحرك ببطء بسبب ضعف الموارد المالية . مسألة أخرى تتعلق بالمقدرة اللغوية والحاسوبية فانفتاح الساحة الإعلامية لتتحول إلى ساحة واحدة بغير حدود يقتضي العاملين بالإعلام اكتساب مقدرات التواصل اللغوي والتواصل الإلكتروني مما يعني الإزالة التامة للأمية الحاسوبية . ورفع قدرات العاملين في مجال الحاسوب الذي أصبح وسيلة العمل الأساسية بعد التحول للنظام الرقمي . من ناحية أخرى فان إتقان اللغة الإنجليزية أصبح ضرورياً لاستخدام الحاسوب وسيلة للتواصل . وهي أي اللغة الإنجليزية وسيلة لا يستغنى عنها للاستفادة من مصادر المعلومات الهائلة المتاحة خاصة في الشبكة العالمية للمعلومات، المسألة الرابعة تتصل بتوحيد رؤى العاملين وتدريبهم على برتكول العمل المعتمد عالمياً للانتاج البرامجي وكذلك توحيد رؤاهم في إطار هوية موحدة للخدمة الإذاعية أو الخدمة التلفزيونية Branding  .
       مسألة خامسة تتصل بالمحافظة على الكوادر التي يتم بناؤها من خلال تحسين شروط العمل وبيئة العمل وإلا سوف تتحول الأجهزة الوطنية إلى مراكز تدريب وتأهيل لإذاعات وقنوات أخرى. وهذه مسألة قليلاً ما تحظى بالاهتمام بسبب رغبة الحكومة في توحيد شروط العمل بصورة بيروقراطية ولذلك فإن فك أسر الهيئة الناظمة للإذاعة والتلفزيون من البيروقراطية يصبح أمراً لازماً لتطوير هذه الأجهزة . وفك إسار الهيئة يعني ان تعمل على الأساس الذي تعمل به الهيئات التي انطلقت من قيود البيروقراطية الحكومية، لتتحول إلى إذاعات خدمة عامة Public Broadcaster تساهم فيها الحكومة والمجتمع ويكون لها من الأوقاف ما يمكنها من التمويل الذاتي حتى تستطيع ان تضطلع بمهامها بقدر مناسب من الاستقلالية ومن المهنية العالية التي تراعى مصلحة الدولة ومصلحة المجتمع. وقد شرعت الدولة في تحقيق هذا الهدف وأصدرت قانون 2001 بداية لهذا المسعى فأنشأت مجلس أمناء ومجلس إدارة وأعفت الهيئة من كثير من الإجراءات البيرقراطية التي تكبلها وكُفلت لها تقاضي رسوم عن خدماتها. ولكن الحكومة تراجعت عن غالب ذلك وإعادت الهيئة إلى وضع يشبه وضع المصالح الحكومية البيرقراطية مما يسد الأفق أمام أي تطور حقيقي في المستقبل القريب ما لم تتم مراجعة هذا التراجع عن المسار الإستراتيجي لتطوير الإعلام الوطني.
تطوير التقانة:
       من ناحية أخرى فان إعتماد أحدث التقانات هو السبيل للمنافسة بل هو السبيل للبقاء والاستمرار . لأن التقانات القديمة Analogue Tech  قد توقف انتاج الأجهزة والمعدات الخاصة بها إلى جانب كونها أعلى تكلفة وأضعف من حيث المنتج النهائي. وقد اكملت الهيئة قبل تقسيمها الى هيئات  مرقمة العمليات الإنتاجية بالإذاعة وشرعت في مرقمة العمليات الانتاجية بالتلفزيون ولعلها كادت ان تكمل مرقمة الانتاج الجديد وتبقى تحدى مرقمة الارشيف التاريخى  . وقد بذلت الدولة موارد لا بأس بها لترقية هذه الجوانب إلا أن الكثير لا يزال ينتظر تخصيص موارد جديدة . خاصة وأن الهيئة مطالبة بتغطية مساحة مليون ميل مربع بالبث الأرضي وكذلك تغطية العالم بالبث الفضائي حتى تكون شيئاً مذكوراً بين الخدمات الإعلامية وطنياً وعالمياً. والراهن اليوم ان هناك 97 محطة بث تلفازي أرضي وتسع وعشرون محطة بث إذاعي أرضي والإذاعة والتلفزيون محمولتان على سبع أقمار محيطة بالعالم وهي مبثوثة على مدار الساعة في الشبكة العالمية. والتحديات التي نواجه الآن هي تجديد الشبكة الأرضية من خلال برنامج بدأ للمراسلات القصيرة والمتوسطة وشبكة الأف أم . وكذلك تفعيل المحطات الولائية من خلال وصلها بالإذاعة الإتحادية عبراستخدام تقانة الاتصالات عبر الاقمار .




تطوير الإذاعات الولائية:
       مشروعات تطوير الإذاعة والتلفزيون الاتحادي لا يعني عن بذل الجهود لتطوير الإذاعات والتلفزيونات الولائية ووصلها بالمركز الاتحادي ليسهل التبادل البرامجي وهذا يقتضي تبني تقانة متوافقة في كل الهيئات بالولايات. وتبني مشروعات لتأهيل العاملين وتطوير شروط العمل وبيئته بما يحقق الاستقرار لمهنة العمل الإذاعي وتحقق تكاملها القومي.
تطوير البرامج الإذاعية والتلفازية:
       وتطوير البرامج يتصل بتبني البرتكول العالمي للإنتاج البرامجي وهذا يتطلب اعتماد نظام عمل مواكب وتدريب العاملين للتفاعل عبر ذلك النظام. هذا يعني رؤية كلية للإنتاج البرامجي ورؤية تتصل بأهداف الأمة ممثلة في الدولة والمجتمع من حيث الأهداف والأولويات . كما يعني الاهتمام بالجماليات في الانتاج والإهتداء بالدراسات والبحوث والاستطلاعات ودراسات الرأي وقياس المردود بوصفها مؤشرات لتطوير البرامج. كذلك اعتماد مبدأ التفاعلية وتهيئة التقانات والتصورات البرامجية لتحقيق المدى الأكبر من التفاعلية في البرامج. وتُبذل جهود جمة لتحقيق هذه المقاصد تحول دونها حوائل التمويل المناسب لإنتاج البرامج ولتشجيع المشاركين والمساهمين في هذه البرامج.
       كذلك فأن تطوير البرامج يقتضي خطة تهيئ لها الأسباب لاستقطاب ذوي الملكات والمواهب للمشاركة في انتاج واعداد وتقديم البرامج من خلال ترفيع نظام الحوافز الأدبية والمادية . لتشجيع المشاركة المباشرة مع الأجهزة أو عبر الشركات. ومسألة تأهيل شركات الإنتاج الإذاعي والتلفزيوني تبقى مركزية في قضية تطور البرامج فهذه الشركات مثلها مثل الشركات الصحفية تعاني من الضعف الشديد في رؤوس أموالها وفي قدراتها التجهيزية والفنية . وفي قدراتها على استقطاب المبدعين وفي قدراتها على الحصول على التمويل الكافي. ويرجع ذلك إلى الضعف المؤسسي وعدم القدرة على التفاعل مع أنواع الطلب في سوق أوسع (السوق العربي والدولي) فانحصار هذه الشركات واقتصارها على اعداد برامج لجهاز واحد يجعل كلفة ما ينتج أضعاف مضاعفة لما تستورد الإذاعة والتلفزيون من برامج (أربعة إلى خسمة أضعاف حلقة الدراما المحلية قياساً للدراما المستوردة) . ولما كانت معظم الهيئات الإذاعية تعتمد في غالب برامجها على شركات الإنتاج الإعلامي ، فان أصلاح وتطوير هذه المؤسسات يصبح لازماً من خلال دمج الشركات لرفع رؤوس أموالها وبالتالي وقدرتها في التجهيزات واستقطاب المبدعين وقدرتها على مخاطبة سوق أوسع من السوق المحلي. وهنالك أفاق واسعة للعمل في السوق العربي خاصة في مجال الأخبار والوثائقيات والبرامج الثقافية ويمكن لهذه الشركات أن تكون حلقة الوصل بين الأعلام العربي وبين الساحة الأفريقية تمده باخبارها وبالتقارير والوثائقيات والبرامج الثقافية . فافريقيا اليوم حاضرة في الاعلام العربي والدولي. ويمكن تصدير بعض هذه البرامج للسوق الأفريقي بعد دبلجتها أو ضع شريط ترجمة عليها.
       وتحقيق ميدانية البرامج وتفاعليتها واحد من شروط تطويرها وهذا يعني قدرة سريعة على الاتصال والانتقال والهيئة السودانية تسعى لتحقيق ذلك من خلال نظام Menos للاتصالات الذي يربط عواصم السودان بشبكة ناقلة للصوت والصورة . وكذلك من خلال وسائط البث المتحركة "عربات النقل الإذاعي والتلفزة المتصلة بالاقمار الصناعية" وكل ذلك مدرج في خطة التنمية  والتي بُذل القسط الأول منها بينما لا تزال يُستعطى القسط الثاني الذي لا يزال في الموعود لا في المرصود . ولكن تحقيق هدف ميدانية البرامج يظل منصوباً أمام الأنظار لأنه يمثل النسبة الأكبر في إنجاح البرامج "نجاح الجزيرة يعزي لعنصر الميدانية" .

 الخدمات الإذاعية FM Network  
ما يصدق على الإذاعة والتلفزيون القومي يصدق على إذاعات الأف أم التي بادر بها القطاع الخاص والأهلي . وقد عبرت التجربة مراحلها الأولى بنجاح ولكنها لا تزال تعاني من مشكلات ضعف الموارد بسبب ضعف سوق الإعلان الممول الرئيس لأعمالها وضعف رعاية المؤسسات والشركات للبرامج الإذاعية والتلفازية . كذلك فأن مشكلة الملكية الفكرية وعدم وجود جهات منظمة للحقوق بما يتيح استخدامها بغير إستغلال تواجه هذه الإذاعات والتي حُرمت من الاستفادة من المكتبة الوطنية والتاريخ الغنائي والموسيقى بسبب تعسف بعض أصحاب الحقوق . وبسبب عدم مراعاة القانون للحق المجاور للجهات التي تساهم بالإشهار . وهو مبدأ معمول به في كثير من البلدان لا يلغي الحق الأدبي ولا الحق المادي ولكنه يتيح أفضلية للجهات التي تمارس دوراً في إشهار الأعمال وبخاصة في مجالات تقديم خدمة عامة للمجتمع الكبير.

الشبكة العالمية:
       لا يستطع أحد أن يتحدث عن الإعلام اليوم دون التطرق إلى الدور الكبير الذي تضطلع به الشبكة العالمية Internet في نقل الأخبار والمعلومات والصور . وهذا الدور في تعاظم مستمر ولكن على الرغم من ذلك فأن الإعلام السوداني لم ينشىء الأطر المناسبة للتعامل مع الشبكة العالمية بوصفها وسيطاً للنقل الإعلامي . (أنشأت الهيئة شبكة للبث الرقمي تشكل مرحلة ابتدائية للتعامل مع هذا التحدي وهي تعاني من مشكلات التجهيزات المناسبة والتمويل والكادر المدرب) . ولاشك ان إتجاه التلفزيون نحو رقمية البث High definitions TV  واتجاه الإذاعة نحو الرقمية DRM  يجعل النشاط الإعلامي الوطني أنهراً تصب مياهها في الاوقيانوس الإعلامي الكبير المتمثل في الشبكة العالمية فالفصل بين المرئي والمشاهد والمقرؤ لن يكون متاحاً . والفصل الواضح بين هذه الخدمات لن يكون ممكناً . ولذلك فأن التهيؤ لهذه المرحلة يصبح مقتضي الحكمة اللازمة الآن وليس الغد . والتهيؤ لذلك لا يكون باحتياز التقانات المناسبة فحسب بل أن حيازة نظم المعرفة Know how هو الشرط الأسبق وهو شرط يقتضي تدريباً عالياً في المجالات الرقمية وإجادة للغة الشبكة العالمية وهي اللغة الإنجليزية ودراية بأساليب إعداد البرامج لتكون متوافقة مع طرائق السمع والمشاهدة والمطالعة في الشبكة العالمية. ولا شك ان الشبكة العالمية تزخر اليوم بمئات ربما بالآف المواقع لمؤسسات وجهات سودانية . ولكن معظم هذه المواقع خامدة وغير فاعلة وغير متوافقة مع طرائف البحث والسمع والمشاهدة والمطالعة في الشبكة العالمية. كما أنه تعوزها الكثير من الجماليات والفنيات . وأهم من ذلك فان النذر القليل جداً في هذه المواقع هو الذي يستفيد من الصفة الجوهرية للشبكة العالمية هي صفة التفاعلية. ولعله من حسن الطالع أن الحكومة من خلال الهيئة القومية للاتصالات قد إنتبهت لأهمية الشبكة العالمية للمعلومات، وأنشأت صندوق دعم المعلوماتية لتوسيع نطاق المتلقين للمعلومات عبر الشبكة . ولرفع القدرات الرقمية ولكن الصندوق لابد له من استراتيجية ذات نظر بعيد. ولابد له ان يتجاوز دعم الجهات المختلفة باجهزة الحاسوب إلى بناء كادر مقتدر في المؤسسات القائدة في مجال المعلوماتية ولابد ان يدخل بقوة في مجال التدريب وبناء القدرات وفي انتاج البرامج التعريفية بتقانة المعلومات وطرائق التعامل مع الشبكة العالمية ونظم المعرفة في مختلف المجالات سبيلاً لتطوير الكفاءات ورفع القدرات.

الإعلام الخارجي:
       يقصد به الاعلام الموجه للخارج ولاشك أن قدرة بلدان العالم الثالث على مخاطبة الشعوب الأخرى محدودة بمؤثرات ثقافية ولغوية ومادية . والعبور فوق هذه الحوافر  من قبل دولة واحدة  أو مجموعة أقليمية "الجامعة العربية مثلاً" يبقى أمراً في غاية العسر . ولذلك فالبحث عن إعلام موجه للخارج من خلال الوسائط الوطنية يصبح في "اللحظة الراهنة حرثاً في البحر إذا كنا نتحدث عن Broadcasting  أي ان نخاطب الشعب البريطاني أو الأمريكي عبر وسائطنا مثلما تخاطبنا  BBC أو صوت أمريكا . لأننا ولو حصلنا على وسائط التوصيل فأن دواعي الاستماع والمشاهدة عند تلك الشعوب لما يبث من تلقاء العالم الثالث دواعي ضئيلة . وربما رغب البعض عند حدوث بعض الأحداث الجليلة أن يستمعوا أو ان يشاهدوا مصادر الأحداث الأصلية ولكن هذا البعض سيكون ضئيلاً للغاية بحيث لا يمكن ان يبرر إنفاق الجهود والأموال للتوصل إليه عبر Broadcasting   . ولذلك فالإعلام الخارجي ينبغي  أن يتوجه لاستخدام وسائط الاعلام الغربية نفسها مهما كانت ضآلة الفرصة المتاحة لذلك . ولربما ينجح ذلك في مجال الأخبار والوثائقيات  والتقارير والمواد الثقافية والمنوعات ولكن سيبقى محدود الأثر. ولذلك فان الخيار المتاح الآن هو استخدام الشبكة العالمية والبريد الإلكتروني لاستهداف قطاعات مخصوصة ذات اهتمام أو تأثير بالأمور التي تعنينا. ولكن قد يكون حظ الأعلام الموجه اقليمياً أوفر ولذلك فنحن لا نعني عدم التفكير في إقامة إذاعات او تلفزات موجهة للأقليم العربي أو الأفريقي . فان عائد ذلك قد يكون مبرراً للتكلفة إذا أحسن تخطيط الرسالة المطلوبة . وهذا الأمر لابد ان يخطط له على كافة الأجهزة الإعلامية وليس عبر إدارة تنفيذية تسمى الاعلام الخارجي . فهذه الإدارة هي صلة وصل مع الإعلاميين والصحفيين القادمين للبلاد أو المهتمين بشأنها لتوفير المعلومات الأساسية لهم أو تسهيل مهامهم ليخرجوا بأفضل انطباع . وهذا الأمر يدخل في باب العلاقات العامة أكثر من دخوله في باب الإعلام . وربما كان الاسم المناسب هو إدارة العلاقات العامة تدمج فيها إدارة العلاقات العامة بالوزارة التي تقوم بذات العمل على مستوى الداخل كما ندمج فيها إدارة العلاقات الخارجية كما هو الشأن في هيئة الاستعلامات المصرية . وقد لا يقتضي الأمر إنشاء هيئة استعلامات فإدارة علاقات عامة فاعلة مدركة لأدوارها يمكن ان تفي بالغرض المطلوب. وربما يحسن في هذا المقام ان  نشير إشارة عابرة لعلاقة الإعلام الوطني بالإعلام الدولي الموجه ورغم وضع هذا المحور في الأمور التي كان يتوقع لهذه الورق معالجتها إلا أن الموضوع أوسع بكثير وكان يتوجب ان تُخصص له ورقة لأن وشائج الإعلام الداخلي بالإعلام الخارجي كثيفة. فالإعلام الدولي لا يمكن وصفه بواسع الأثر على الإعلام المحلي فحسب بل أن غالب أجندة الإعلام المحلي يضعها الإعلام الموجه فهو الذي يحدد الموضوعات والقضايا ذات الأهمية القصوى . وهو الذي يعطي أهمية أقل لكثير من القضايا الوطنية ذات الأثر الأكبر والأوسع على حياة الناس . ولكني أجمل الرأي بالقول ان تأثيرات الاعلام الدولي على الاعلام المحلي ليس جميعها سالبة ولكن الابعاد السالبة للرسائل الموجهة في الاعلام الدولي لم تهيىء الوسائل المناسبة للتعاطي معها . ولاشك أنه إذا كان من الصعب علينا تغيير مهب الرياح من الشمال إلى الجنوب فان من العسير علينا في أوضاعنا العالمثالثيه ان نقاوم غازيات الإعلام الدولي . ولكن روح الاستسلام يجب أن لا تسود فإذا كنا غير قادرين على المقاومة الفاعلة الآن فان سياج الدفاع الممكن الآن هو الممانعة ( من لم يستطع بيده فبقلبه) والله المستعان على قلة حيلتنا وهوان أمرنا على الناس.
       

قضايا الإعلام السوداني ومشكلاته تأثيره وتأثره بالإعلام الدولي


توطئة:-
       لا يمكن لأحد أن يشخص العلل والمشكلات التي تواجه الإعلام في السودان أو في أي مكان آخر دون النظر إلى البيئة التي يوجد فيها والعلاقات الحركية (الديناميكية) التي تصله بالمؤسسات الأخرى وبنظائره في المجتمع الدولي. ولاشك ان المراقب لأهم التطورات في هذه الحقبة في عالمنا المعاصر لن يفوته أن يلحظ أن أهم وأخطر التحولات والتطورات الكبرى أنما تحدث في ساحتي الاتصالات والمعلومات. ولن يفوت على أحد أن يلحظ أن الاعلام ما هو إلا الاتصالات والمعلومات. فالثورة الكبرى التي يشهدها العالم في هذين القطاعين سوف تغيّر تماماً ما يفهمه العامة والخاصة عن مفردة الإعلام. ولعل مراجعة المفردة ما تشهده من تطور تضع نفسها مقدمة لازمة للحديث عن مشكلات الإعلام السوداني ومدى قدرته على مواكبة التطورات الهائلة في الساحة التي يعمل فيها. والإعلام الذي نتحدث عنه هو اللهاث الدائم بحثاً على المعلومة في الأحداث الماثلة في استنطاق الـمـصادر ، هو غرفة الأخبار ، مفاتيح الكمبيوتر، ألاسطوانات والموسيقى والاعلانات ونشرات الأخبار ، هو الصور التلفزيونية والكاميرات ومحطات التقاط  الصور والأصوات ، الأقمار الصناعية  والمايكرويف. أنه عالم من الحركية الدائبة والإثارة التي تأخذ بالألباب ويسميها الناس وسائل الاتصال الجماهيريMass Media .
       هذه الوسائط تطورت منذ نشأة اللغة المنطوقة والمكتوبة إلى العصر الرقمي. ورغم أهمية وسائط الاتصالات في إثراء الحياة البشرية وإعطائها معناها ومغزاها إلا أن الناس لا يزالون لا يقّدرون أثار الاتصال وتبادل المعلومات بينهم حق قدره. ولئن كانت الطباعة هي الثورة الثانية بعد اختراع رموز الكتابة فان الإليكترو مغناطيسية التي سمحت بنقل الأصوات لمسافات شاسعة عبر الأثير كانت هي الثورة الكبرى في عالم الاتصالات بل هي الثورة الكبرى في عالم البشر. واكبت هذه الثورة ثورة متصلة بعالم الصور تمثلت في إختراع الكاميرا وتطورها الإليكتروني. وتطور حفظ هذه الصور وإعادة بثها ، كما تطورت أجهزة البث حتى بلغت الأقمار الصناعية وتطورت الحواسيب وتعاظم دورها في الاتصال ونقل المعلومات.
       ولكننا اليوم نشهد الثورة الرقمية التي أثرت ولا تزال تؤثر بقوة وبسرعة فائقة على ما نسميه الإعلام أو الاتصال الجماهيري. فوسائط الاتصال الجماهيري والشخصي توشك أن تندمج في وسيط واحد يؤدي جميع مهام الاتصالات والمعلومات . لن يكون حاسوباً وليس بالراديو ولا التلفزيون ولا الهاتف والفاكس وهو ليس الفونغراف  ولا المسجلة ولا الكاميرا، هو كل ذلك وفوق ذلك. وأصبح الحديث عن وسائط اتصال جماهيري وشخصي حديثاً يوشك ان يدخل أضابير التاريخ. فالاتصال الواسع للجماهيرBroadcasting والاتصال الشخصي Direct casting يتداخل منتجاً جميع الخيارات للانفراد أو الاندماج . وبذلك يضيع معنى ما نعرفه عن الاتصال الجماهيري ويضيع معنى ما نعرفه عن المرسل والرسالة والمرسل إليه. لأن تفاعلية ثورة الاتصالات والمعلومات تحيل الأمر إلى علاقة دائرية بدلاً عن العلاقة الأفقية. وبذلك يتحول المستمع والمشاهد إلى مشارك. ربما يكون قسطه في توفير المعلومات أكبر من قسط الإعلامي المتخصص ، ويمكن ان يتاح نتاج تلك التفاعلية لجمهور غفير أو أفراد متخصصون راغبون في الاستزادة من معلومات متخصصة.
       هذه التوطئة الطويلة مهمة للغاية لرفع إيقاع الجمهور المتابع لهذه المداخلة إلى روح الحركية الدائبة والهائلة في عالم الإعلام والذي أدخل خطواته الأولي في DRM تكنولوجي (الراديو الرقمي) وتلفزيونTV high definition  وتوشك تلك التقانات أن تندمج في كائن جديد يوفر غالب مطلوبات الاتصال البشري.

أين الإعلام السوداني من ذلك؟
       يظلم المرء أهل الإعلام في السودان إن لم يقرر أنهم أدركوا منذ وقت مبكر نسبياً أهمية الذي يجرى في عالم الاتصالات والمعلومات . وسعوا منذ وقت مبكر إلا يُتركوا في مؤخرة ركب التطور  المتسارع في هذه المجالات. ولذلك سعوا إلى امتلاك التقانة العالية High tech والمعرفة الفنية Know how وكانت هنالك رؤى مبكرة لكيفية الاستعداد للاندماج في الموجة الصاعدة الجديدة.
       وقد سجل السودان شيئاً من التقدم الملحوظ في مجال الاتصالات والمعلوماتية ودخلت أجهزة الإعلام الإليكتروني الساحة الرقمية منذ وقت باكر نسبياً مقارنة بالعالمين العربي والأفريقي ، ولكن هذا الدخول المبكر نسبياً لم يضمن الاحتفاظ بمرتبة السبق لأن الذين دخلوا مؤخراً كانت تصحبهم الامكانات المادية والإرادة السياسية والإدارية الفاعلة . ولذلك لن يستطيع أحد أن يخفي حقيقة أن الإدراك المبكر والشروع المبكر في إدخال التقانات الرقمية لم يؤمن الاعلام السوداني من التراجع عربياً إلى موقع بعيد عن المقدمة في راهنة اليوم. خاصة إذا تمت المقارنة مع المبادرات التي أخذها القطاع الخاص العربي والتي توفرت لها موارد كثيرة وخبرات متخصصة كثيرة.
مشكلات الاعلام :
       لا نستطيع أن نتحدث عن المشكلات ما لم نصف الواقع اليوم في الإعلام المقروء والمسموع والمرئي و المبثوث في الشبكة العالمية. وليسمح لي الملتقى الكريم أن أوجز في عرض المشكلات إيجازاً قد لا يفي بالغرض ولكن الإشارة هي لغة الإعلام التي يفهمها الأذكياء.
أولاً:  الصحافة:  
       الصحافة في السودان نشأت نشأة مبكرة نسبياً في إطارها العربي والأفريقي ولكن تطورها جاء بطيئاً في كافة المجالات المتصلة بتطوير أعمالها . وبخاصة في المجالات المتصلة بالصحافة بوصفها استثماراً اقتصادياً وصنعة متعددة المجالات. ولا يمكن لأي استثمار ان ينجح أو أن يتطور ما لم تتوفر له عناصر النجاح المتمثلة في مدخلات رخيصة وقوة عمل مدربة وقدرة فاعلة على الترويج والتسويق . فالصحيفة بوصفها منتج تجاري "لا نتحدث الآن عن مادتها الإعلامية أو الإعلانية" لم تتح لها في السودان ظروف مواتية للنجاح . فعدم وجود صناعة للورق والأحبار مع أسعار مرتفعة لهذه المدخلات بسبب مشكلات متعلقة بالاقتصاد الكلي السوداني (ضعف القدرات التصديرية والإستيرادية ، ندرة موارد العملة الصعبة، عجز العلاقات المصرفية الدولية، انصراف الاستثمار والتجارة إلى الاحتياجات المباشرة بسبب اقتصاد الندرة ... الخ) كل ذلك أدى إلى مدخلات للصناعة عالية التكلفة ، كذلك أدى عدم وجود مطابع ذات قدرة إنتاجية عالية وجيدة إلى إنتاج سلعة دون المتوسط في الجودة مع علو التكلفة بسبب عدم قدرة المطابع على الإنتاج الكثيف (لا توجد حتى هذه اللحظة دار للطباعة يمكنها طباعة خمسين ألف نسخة من صحيفة ذات صفحات مناسبة "12-16 صفحة") .
ومثلما ان الصناعة الطباعية تعاني من مشكلات علو كلفة المدخلات والطباعة مع ضعف الجودة فإن الخدمة المتمثلة في توزيع المنتج تعاني هي الأخرى من مشكلات مزمنة ومتفاقمة . فلا توجد شركة توزيع واحدة مؤهلة لتوزيع الصحف داخلياً وخارجياً. والتوزيع لا يمضي على خطة تتصل بدراسة الطلب على الصحف ومواقع هذه الطلب بل على نهج عشوائي . فدور التوزيع لم تشغل نفسها بالإجابة على الأسئلة الهامة من تشتري الصحف اليوم؟ الحكومة أم  الشركات أم الأفراد ؟ من الأكثر إقبالاً المواطنون أم  الطلاب أم العمال . من أكثر لهفة على اقتناء الصحف ؟ أهل العاصمة أم الإقاليم ؟ هل من فرص لتسويق الصحف في الأرياف. وهذه اسئلة هامة لسلعة لا تحتمل التأخر لساعات . فهي أشبه بخدمة توزيع الحليب ولكن شركات التوزيع لا تملك الموارد الكافية ولا الرؤية الواقعية. وهي تشكو من استغلال وكلائها للصحف عبر الإجارة للقراءة ، ولا شك أن كل المشكلات المتعلقة بتوزيع الصحف تتوفر لها حلول يعرفها أصحاب خدمة التوزيع في العالم. فالسودان ليس نسيج وحده ولكن ضعف القدرات تقعد بصنعة التوزيع عامة في البلاد وبخاصة في مجال الصحافة الأمر الذي يتمظهر في بوار العدد المحدد من نسخ الصحف التي توزع اليوم.
واذا انتقلنا من الصحيفة بوصفها منتج مصنوع إلى الصحيفة بوصفها خدمة إعلانية ، إعلامية ، فقد تأثر وضع الصحف أيضاً بتأخر صناعة الاعلان بسبب مشكلات في الاقتصاد الكلي . إقتصاد الندرة ضعف المنافسة بين السلع المنتجة والمستوردة ، ضعف إدراك رجال الاستثمار للدور الترويجي والإعلاني فى تحقيق الانتشار السلعي والخدمي، إعتماد الإستيراد على إعادة الاستيراد وعدم وجود وكلاء أصليون للسلع والخوف من الضريبة العشوائية ... الخ) . ولذلك فأن الصحف تعّول كثيراً على الإعلان الحكومي والذي يعاني هو الآخر من مشكلات متعلقة بالاقتصاد الكلي وبطرق اتخاذ القرار في مؤسسات الدولة (عدم وضوح الرؤية لدور الاعلان في الحصول على أفضل الأسعار والخيارات ، عدم وجود رؤية  معتمدة للدولة عن فاعلية وسائط الاعلان ومدى انتشارها ، ارتباط الاعلان بالعلاقات الشخصية واحياناً بالمصالح الشخصية ... الخ. الى جانب ذلك فان ضعف الوكالات الحالية للاعلانات غياب المعرفة الفنية Know how عدم وجود مبادرات إعلانية فالاعلان يأتي ولا يسعى إليه ...ألخ.
أما الجانب الإعلامي في الصحيفة فيعاني هو الآخر من ضعف الخبرة المهنية لأسباب عديدة (تقطع الخبرة وعدم استمرارها وتناقلها بين الأجيال، التعليم الاعلامي نظري ولا يقدم تدريباً اعلامياً مناسباً . اوضاع الصحفيين المتواضعة لا تتيح لهم فرصة التدريب والتطوير الذاتي، نزعة إدارات الصحف للتخلص من الخبرات ذات المتطلبات الغالية والاعتماد على متدربين وصحفيين جدد تقليلاً للتكلفة. عدم وجود مصادر للمعلومات لافادة الصحفيين واعطائهم الخلفية المناسبة للتحقيقات التي يقومون بها أوالاخبار التي يسعون خلفها. عدم وجود تدريب حتى في أول الخدمة ولا دورات تدريبية مستمرة. ضعف اتصال قيادات التحرير بالصحفيين الناشطين لتوجيههم أو نقد أعمالهم إلا عند وقوع الأخطاء الكبرى، عدم انشاء نظام للاستفادة من الشبكة العالمية للمعلومات وعدم وجود أدلة ترشد الصحفيين لكيفية الاستفادة من معلومات الشبكة العالمية للمعلومات ، عدم الاهتمام بالبحث والتوثيق بوصفه عمل راتب للصحف.
من جانب آخر  فالصحافة السودانية موغلة في السياسة وكأن أخبار المجتمع والاقتصاد والرياضة والثقافة والعلوم والبحوث لا تعني الجمهور في شيء . وهي أيضاً موغلة في المحلية فلا تعطي حيزاً كافياً لخدمة القراء في مجال التقارير الدولية والتراجم والمتابعات. وتعاني أيضاً من فقدان الخدمات التي ينشدها القراء في الصحف عادة مثل الإعلانات المبوبة والنعي والتهاني والتغطيات الاجتماعية والصور للمناسبات والوظائف الخالية والمطلوبة وجداول الطيران والسكة الحديد والنقل بين المدن وبرامج دور الترفيه والعرض وبرامج الإذاعة والتلفزيون والقنوات المحلية الفضائية. وهي تعاني من ضمور كبير في مجال التحقيقات الخبرية والمساءلات والاستجوابات الصحفية للمسئولين وقطاعات المجتمع المختلفة. وفي الجملة فأن الصحافة السودانية تبعد يوماً بعد يوم عن كونها وسائط للمعلومات ووسائل لخدمة المجتمع لتتحول إلى منابر للرأي السياسي . وهي لا تنجح في هذه الصفة لأن غالب أعمدة الرأي لا تعبر عن قيادات صحفية أو سياسية أو اجتماعية ذات وزن كبير عند القراء. وأصبحت أعمدة الرأي السياسي وسائل لترويج الصحف من خلال إدارة المعارك الصحفية التي لا تعني القراء في شيء أو من خلال المزايدات أو التعانف اللفظي بين أصحاب الاتجاهات السياسية المختلفة.
ختاماً ربما يفتقد البعض الإشارة الى مشكلات الحرية بوصفها معوقاً للأداء الصحفي وأهل الصحافة يسارعون إلى الاحتماء في مواجهة المشكلات الحقيقية للصحافة فيهرعون للحديث عن أزمة الحرية . وأنا أقرر هنا أنه لا توجد أزمة حرية للصحافة السودانية الحرية متاحة بمدى كبير ولا يعني ذلك عدم وجود تدخلات تعوق عمل الصحافة . ولكن هذه التدخلات لا تشكل الـمعوق الرئيس للعمل الصحفي ويمكن للمجتمع الصحفي اذاً ان يحقق الموازنة المطلوبة بين الحرية والمسئولية وأن لا يسمح بتدخلات تحد من الحريات الدستورية للصحافة وأجهزة الاعلام بالبلاد . ولكن الحرية الصحفية لا تتأثر بتدخلات الأجهزة فحسب ففي تقديري ان تدخلات أصحاب الصحف وأغلبهم ذوو اتجاهات وامزجة سياسية تتفوق بكثير على تدخلات أجهزة الدولة واحياناً تكون تلك نتاجاً للأولى . ونحن لا نرى ان من حق الحكومة التدخل إدارياً للحد من حرية الصحف ، ولكن يتوجب أن ترعى حرية الصحفيين بإزاء  الإدارات أو الملاك للدور الصحفية . فحرية الصحافة هي حرية الصحفي فيما يكتب ما دام يتحلى بالمسئولية التي تراعى الحقوق الخاصة والعامة.
الإعلام الإليكتروني:
       يدخل في هذا النطاق الراديو والتلفزيون والبث عبر الشبكة العالمية. ولسنا هنا بصدد دراسة تطور الاعلام الإليكتروني في السودان والذي بدأ مبكراً نسبياً قياساً للأقليم العربي الأفريقي . وقد شهد صعوداً وهبوطاً عبر السنوات والمطلوب في هذه المداخلة التركيز على المشكلات التي يواجهها الاعلام الإذاعي والتلفازي في السودان . ولاشك ان السنوات القليلة الماضية شهدت جهوداً جمة لمواجهة هذه المشكلات . غير ان السنوات ذاتها شهدت تحديات جديدة على مستوى المنافسة الإذاعية والتلفازية ولما كانت أجهزة الاعلام الوطنية تعمل في ذات الساحة مع أجهزة الاعلام الموجهة أوربياً وعربياً للسودان فان ذلك يرفع سقف المطلوب من هذه الأجهزة لتحتفظ بالقدرة التنافسية ولتحظى بنصيب مناسب من المسموعية والمشاهدة.
تأهيل العاملين:
       وأول المشكلات بأتجاه تحقيق هذا الهدف هو رفع قدرة العاملين بالأجهزة إلى مستوى المهنية المطلوبة . والعوائق في هذا السبيل لا تمنع الوصول للهدف ولكن لابد من التوقف عندها لتذليلها . وأول هذه المعوقات هي التأهيل الأساس المطلوب للعمل بعد أن حدث تحول جوهري في طبيعة العمل بالتحول للتقانة الرقمية.

        الهيئات الاعلامية لم تستوعب العاملين في الغالب بناءاً على طبيعة الوصف الوظيفي للمهام التي يتوجب عليهم أداؤها. بل كان الاستيعاب (بيروقراطي) وفي أحيان كثيرة بناءاً على اعتبارات شخصية أو إنسانية . وقد خضعت بعضها  لإعادة هيكلة خفضت العمالة المطلوبة للنصف . ولكن المشكلة في عدم التلاؤم بين المؤهلات المطلوبة والمتوفرة لا تزال قائمة بدرجة تؤثر على العمل . مما يقتضي بذل جهود جمة في إعادة تسكين العاملين على وظائف الهيئات حسب المؤهلات والاستعدادات. فالبعض الذي يصلح للعمل البرامجي قد يكون التسكين وضعه في الوظائف الإدارية ويصح العكس أحياناً . ولذلك يقتضي الأمر إعداد دراسة حول التأهيل الأساس والقدرات والمواهب لكل فرد من العاملين ليتم توظيفه في الجهة الأكثر تلاؤماً مع استعداداته وامكاناته . ثانياً : لابد من مشروع تدريب تأهيلي وتدريب تحويلي لإكساب العاملين القدرة المهنية على أداء الاعمال الموكلة إليهم . وقد بدأ هذا المشروع وهو يتحرك ببطء بسبب ضعف الموارد المالية . مسألة أخرى تتعلق بالمقدرة اللغوية والحاسوبية فانفتاح الساحة الإعلامية لتتحول إلى ساحة واحدة بغير حدود يقتضي العاملين بالإعلام اكتساب مقدرات التواصل اللغوي والتواصل الإلكتروني مما يعني الإزالة التامة للأمية الحاسوبية . ورفع قدرات العاملين في مجال الحاسوب الذي أصبح وسيلة العمل الأساسية بعد التحول للنظام الرقمي . من ناحية أخرى فان إتقان اللغة الإنجليزية أصبح ضرورياً لاستخدام الحاسوب وسيلة للتواصل . وهي أي اللغة الإنجليزية وسيلة لا يستغنى عنها للاستفادة من مصادر المعلومات الهائلة المتاحة خاصة في الشبكة العالمية للمعلومات، المسألة الرابعة تتصل بتوحيد رؤى العاملين وتدريبهم على برتكول العمل المعتمد عالمياً للانتاج البرامجي وكذلك توحيد رؤاهم في إطار هوية موحدة للخدمة الإذاعية أو الخدمة التلفزيونية Branding  .
       مسألة خامسة تتصل بالمحافظة على الكوادر التي يتم بناؤها من خلال تحسين شروط العمل وبيئة العمل وإلا سوف تتحول الأجهزة الوطنية إلى مراكز تدريب وتأهيل لإذاعات وقنوات أخرى. وهذه مسألة قليلاً ما تحظى بالاهتمام بسبب رغبة الحكومة في توحيد شروط العمل بصورة بيروقراطية ولذلك فإن فك أسر الهيئة الناظمة للإذاعة والتلفزيون من البيروقراطية يصبح أمراً لازماً لتطوير هذه الأجهزة . وفك إسار الهيئة يعني ان تعمل على الأساس الذي تعمل به الهيئات التي انطلقت من قيود البيروقراطية الحكومية، لتتحول إلى إذاعات خدمة عامة Public Broadcaster تساهم فيها الحكومة والمجتمع ويكون لها من الأوقاف ما يمكنها من التمويل الذاتي حتى تستطيع ان تضطلع بمهامها بقدر مناسب من الاستقلالية ومن المهنية العالية التي تراعى مصلحة الدولة ومصلحة المجتمع. وقد شرعت الدولة في تحقيق هذا الهدف وأصدرت قانون 2001 بداية لهذا المسعى فأنشأت مجلس أمناء ومجلس إدارة وأعفت الهيئة من كثير من الإجراءات البيرقراطية التي تكبلها وكُفلت لها تقاضي رسوم عن خدماتها. ولكن الحكومة تراجعت عن غالب ذلك وإعادت الهيئة إلى وضع يشبه وضع المصالح الحكومية البيرقراطية مما يسد الأفق أمام أي تطور حقيقي في المستقبل القريب ما لم تتم مراجعة هذا التراجع عن المسار الإستراتيجي لتطوير الإعلام الوطني.
تطوير التقانة:
       من ناحية أخرى فان إعتماد أحدث التقانات هو السبيل للمنافسة بل هو السبيل للبقاء والاستمرار . لأن التقانات القديمة Analogue Tech  سوف يتوقف انتاج الأجهزة والمعدات الخاصة بها إلى جانب كونها أعلى تكلفة وأضعف من حيث المنتج النهائي. وقد اكملت الهيئة مرقمة العمليات الإنتاجية بالإذاعة وشرعت في مرقمة العمليات الانتاجية بالتلفزيون . وقد بذلت الدولة موارد لا بأس بها لترقية هذه الجوانب إلا أن الكثير لا يزال ينتظر تخصيص موارد جديدة . خاصة وأن الهيئة مطالبة بتغطية مساحة مليون ميل مربع بالبث الأرضي وكذلك تغطية العالم بالبث الفضائي حتى تكون شيئاً مذكوراً بين الخدمات الإعلامية وطنياً وعالمياً. والراهن اليوم ان هناك 97 محطة بث تلفازي أرضي وتسع وعشرون محطة بث إذاعي أرضي والإذاعة والتلفزيون محمولتان على سبع أقمار محيطة بالعالم وهي مبثوثة على مدار الساعة في الشبكة العالمية. والتحديات التي نواجه الآن هي تجديد الشبكة الأرضية من خلال برنامج بدأ للمراسلات القصيرة والمتوسطة وشبكة الأف أم . وكذلك تفعيل المحطات الولائية من خلال وصلها بالإذاعة الإتحادية عبر مشروع الاتصالات Menos  .




تطوير الإذاعات الولائية:
       مشروعات تطوير الإذاعة والتلفزيون الاتحادي لا يعني عن بذل الجهود لتطوير الإذاعات والتلفزيونات الولائية ووصلها بالمركز الاتحادي ليسهل التبادل البرامجي وهذا يقتضي تبني تقانة متوافقة في كل الهيئات بالولايات. وتبني مشروعات لتأهيل العاملين وتطوير شروط العمل وبيئته بما يحقق الاستقرار لمهنة العمل الإذاعي وتحقق تكاملها القومي.
تطوير البرامج الإذاعية والتلفازية:
       وتطوير البرامج يتصل بتبني البرتكول العالمي للإنتاج البرامجي وهذا يتطلب اعتماد نظام عمل مواكب وتدريب العاملين للتفاعل عبر ذلك النظام. هذا يعني رؤية كلية للإنتاج البرامجي ورؤية تتصل بأهداف الأمة ممثلة في الدولة والمجتمع من حيث الأهداف والأولويات . كما يعني الاهتمام بالجماليات في الانتاج والإهتداء بالدراسات والبحوث والاستطلاعات ودراسات الرأي وقياس المردود بوصفها مؤشرات لتطوير البرامج. كذلك اعتماد مبدأ التفاعلية وتهيئة التقانات والتصورات البرامجية لتحقيق المدى الأكبر من التفاعلية في البرامج. وتُبذل جهود جمة لتحقيق هذه المقاصد تحول دونها حوائل التمويل المناسب لإنتاج البرامج ولتشجيع المشاركين والمساهمين في هذه البرامج.
       كذلك فأن تطوير البرامج يقتضي خطة تهيئ لها الأسباب لاستقطاب ذوي الملكات والمواهب للمشاركة في انتاج واعداد وتقديم البرامج من خلال ترفيع نظام الحوافز الأدبية والمادية . لتشجيع المشاركة المباشرة مع الأجهزة أو عبر الشركات. ومسألة تأهيل شركات الإنتاج الإذاعي والتلفزيوني تبقى مركزية في قضية تطور البرامج فهذه الشركات مثلها مثل الشركات الصحفية تعاني من الضعف الشديد في رؤوس أموالها وفي قدراتها التجهيزية والفنية . وفي قدراتها على استقطاب المبدعين وفي قدراتها على الحصول على التمويل الكافي. ويرجع ذلك إلى الضعف المؤسسي وعدم القدرة على التفاعل مع أنواع الطلب في سوق أوسع (السوق العربي والدولي) فانحصار هذه الشركات واقتصارها على اعداد برامج لجهاز واحد يجعل كلفة ما ينتج أضعاف مضاعفة لما تستورد الإذاعة والتلفزيون من برامج (أربعة إلى خسمة أضعاف حلقة الدراما المحلية قياساً للدراما المستوردة) . ولما كانت معظم الهيئات الإذاعية تعتمد في غالب برامجها على شركات الإنتاج الإعلامي ، فان أصلاح وتطوير هذه المؤسسات يصبح لازماً من خلال دمج الشركات لرفع رؤوس أموالها وبالتالي وقدرتها في التجهيزات واستقطاب المبدعين وقدرتها على مخاطبة سوق أوسع من السوق المحلي. وهنالك أفاق واسعة للعمل في السوق العربي خاصة في مجال الأخبار والوثائقيات والبرامج الثقافية ويمكن لهذه الشركات أن تكون حلقة الوصل بين الأعلام العربي وبين الساحة الأفريقية تمده باخبارها وبالتقارير والوثائقيات والبرامج الثقافية . فافريقيا اليوم حاضرة في الاعلام العربي والدولي. ويمكن تصدير بعض هذه البرامج للسوق الأفريقي بعد دبلجتها أو ضع شريط ترجمة عليها.
       وتحقيق ميدانية البرامج وتفاعليتها واحد من شروط تطويرها وهذا يعني قدرة سريعة على الاتصال والانتقال والهيئة السودانية تسعى لتحقيق ذلك من خلال نظام Menos للاتصالات الذي يربط عواصم السودان بشبكة ناقلة للصوت والصورة . وكذلك من خلال وسائط البث المتحركة "عربات النقل الإذاعي والتلفزة المتصلة بالاقمار الصناعية" وكل ذلك مدرج في خطة التنمية للهيئة والتي تسلمت القسط الأول منها بينما لا تزال تستعطى القسط الثاني الذي لا يزال في الموعود لا في المرصود . ولكن تحقيق هدف ميدانية البرامج يظل منصوباً أمام الأنظار لأنه يمثل النسبة الأكبر في إنجاح البرامج "نجاح الجزيرة يعزي لعنصر الميدانية" .

 الخدمات الإذاعية FM Network  
ما يصدق على الإذاعة والتلفزيون القومي يصدق على إذاعات الأف أم التي بادر بها القطاع الخاص والأهلي . وقد عبرت التجربة مراحلها الأولى بنجاح ولكنها لا تزال تعاني من مشكلات ضعف الموارد بسبب ضعف سوق الإعلان الممول الرئيس لأعمالها وضعف رعاية المؤسسات والشركات للبرامج الإذاعية والتلفازية . كذلك فأن مشكلة الملكية الفكرية وعدم وجود جهات منظمة للحقوق بما يتيح استخدامها بغير إستغلال تواجه هذه الإذاعات والتي حُرمت من الاستفادة من المكتبة الوطنية والتاريخ الغنائي والموسيقى بسبب تعسف بعض أصحاب الحقوق . وبسبب عدم مراعاة القانون للحق المجاور للجهات التي تساهم بالإشهار . وهو مبدأ معمول به في كثير من البلدان لا يلغي الحق الأدبي ولا الحق المادي ولكنه يتيح أفضلية للجهات التي تمارس دوراً في إشهار الأعمال وبخاصة في مجالات تقديم خدمة عامة للمجتمع الكبير.

الشبكة العالمية:
       لا يستطع أحد أن يتحدث عن الإعلام اليوم دون التطرق إلى الدور الكبير الذي تضطلع به الشبكة العالمية Internet في نقل الأخبار والمعلومات والصور . وهذا الدور في تعاظم مستمر ولكن على الرغم من ذلك فأن الإعلام السوداني لم ينشىء الأطر المناسبة للتعامل مع الشبكة العالمية بوصفها وسيطاً للنقل الإعلامي . (أنشأت الهيئة شبكة للبث الرقمي تشكل مرحلة ابتدائية للتعامل مع هذا التحدي وهي تعاني من مشكلات التجهيزات المناسبة والتمويل والكادر المدرب) . ولاشك ان إتجاه التلفزيون نحو رقمية البث High definitions TV  واتجاه الإذاعة نحو الرقمية DRM  يجعل النشاط الإعلامي الوطني أنهراً تصب مياهها في الاوقيانوس الإعلامي الكبير المتمثل في الشبكة العالمية فالفصل بين المرئي والمشاهد والمقرؤ لن يكون متاحاً . والفصل الواضح بين هذه الخدمات لن يكون ممكناً . ولذلك فأن التهيؤ لهذه المرحلة يصبح مقتضي الحكمة اللازمة الآن وليس الغد . والتهيؤ لذلك لا يكون باحتياز التقانات المناسبة فحسب بل أن حيازة نظم المعرفة Know how هو الشرط الأسبق وهو شرط يقتضي تدريباً عالياً في المجالات الرقمية وإجادة للغة الشبكة العالمية وهي اللغة الإنجليزية ودراية بأساليب إعداد البرامج لتكون متوافقة مع طرائق السمع والمشاهدة والمطالعة في الشبكة العالمية. ولا شك ان الشبكة العالمية تزخر اليوم بمئات ربما بالآف المواقع لمؤسسات وجهات سودانية . ولكن معظم هذه المواقع خامدة وغير فاعلة وغير متوافقة مع طرائف البحث والسمع والمشاهدة والمطالعة في الشبكة العالمية. كما أنه تعوزها الكثير من الجماليات والفنيات . وأهم من ذلك فان النذر القليل جداً في هذه المواقع هو الذي يستفيد من الصفة الجوهرية للشبكة العالمية هي صفة التفاعلية. ولعله من حسن الطالع أن الحكومة من خلال الهيئة القومية للاتصالات قد إنتبهت لأهمية الشبكة العالمية للمعلومات، وأنشأت صندوق دعم المعلوماتية لتوسيع نطاق المتلقين للمعلومات عبر الشبكة . ولرفع القدرات الرقمية ولكن الصندوق لابد له من استراتيجية ذات نظر بعيد. ولابد له ان يتجاوز دعم الجهات المختلفة باجهزة الحاسوب إلى بناء كادر مقتدر في المؤسسات القائدة في مجال المعلوماتية ولابد ان يدخل بقوة في مجال التدريب وبناء القدرات وفي انتاج البرامج التعريفية بتقانة المعلومات وطرائق التعامل مع الشبكة العالمية ونظم المعرفة في مختلف المجالات سبيلاً لتطوير الكفاءات ورفع القدرات.

الإعلام الخارجي:
       يقصد به الاعلام الموجه للخارج ولاشك أن قدرة بلدان العالم الثالث على مخاطبة الشعوب الأخرى محدودة بمؤثرات ثقافية ولغوية ومادية . والعبور فوق هذه الحوافر  من قبل دولة واحدة  أو مجموعة أقليمية "الجامعة العربية مثلاً" يبقى أمراً في غاية العسر . ولذلك فالبحث عن إعلام موجه للخارج من خلال الوسائط الوطنية يصبح في "اللحظة الراهنة حرثاً في البحر إذا كنا نتحدث عن Broadcasting  أي ان نخاطب الشعب البريطاني أو الأمريكي عبر وسائطنا مثلما تخاطبنا  BBC أو صوت أمريكا . لأننا ولو حصلنا على وسائط التوصيل فأن دواعي الاستماع والمشاهدة عند تلك الشعوب لما يبث من تلقاء العالم الثالث دواعي ضئيلة . وربما رغب البعض عند حدوث بعض الأحداث الجليلة أن يستمعوا أو ان يشاهدوا مصادر الأحداث الأصلية ولكن هذا البعض سيكون ضئيلاً للغاية بحيث لا يمكن ان يبرر إنفاق الجهود والأموال للتوصل إليه عبر Broadcasting   . ولذلك فالإعلام الخارجي ينبغي  أن يتوجه لاستخدام وسائط الاعلام الغربية نفسها مهما كانت ضآلة الفرصة المتاحة لذلك . ولربما ينجح ذلك في مجال الأخبار والوثائقيات  والتقارير والمواد الثقافية والمنوعات ولكن سيبقى محدود الأثر. ولذلك فان الخيار المتاح الآن هو استخدام الشبكة العالمية والبريد الإلكتروني لاستهداف قطاعات مخصوصة ذات اهتمام أو تأثير بالأمور التي تعنينا. ولكن قد يكون حظ الأعلام الموجه اقليمياً أوفر ولذلك فنحن لا نعني عدم التفكير في إقامة إذاعات او تلفزات موجهة للأقليم العربي أو الأفريقي . فان عائد ذلك قد يكون مبرراً للتكلفة إذا أحسن تخطيط الرسالة المطلوبة . وهذا الأمر لابد ان يخطط له على كافة الأجهزة الإعلامية وليس عبر إدارة تنفيذية تسمى الاعلام الخارجي . فهذه الإدارة هي صلة وصل مع الإعلاميين والصحفيين القادمين للبلاد أو المهتمين بشأنها لتوفير المعلومات الأساسية لهم أو تسهيل مهامهم ليخرجوا بأفضل انطباع . وهذا الأمر يدخل في باب العلاقات العامة أكثر من دخوله في باب الإعلام . وربما كان الاسم المناسب هو إدارة العلاقات العامة تدمج فيها إدارة العلاقات العامة بالوزارة التي تقوم بذات العمل على مستوى الداخل كما ندمج فيها إدارة العلاقات الخارجية كما هو الشأن في هيئة الاستعلامات المصرية . وقد لا يقتضي الأمر إنشاء هيئة استعلامات فإدارة علاقات عامة فاعلة مدركة لأدوارها يمكن ان تفي بالغرض المطلوب. وربما يحسن في هذا المقام ان  نشير إشارة عابرة لعلاقة الإعلام الوطني بالإعلام الدولي الموجه ورغم وضع هذا المحور في الأمور التي كان يتوقع لهذه الورق معالجتها إلا أن الموضوع أوسع بكثير وكان يتوجب ان تُخصص له ورقة لأن وشائج الإعلام الداخلي بالإعلام الخارجي كثيفة. فالإعلام الدولي لا يمكن وصفه بواسع الأثر على الإعلام المحلي فحسب بل أن غالب أجندة الإعلام المحلي يضعها الإعلام الموجه فهو الذي يحدد الموضوعات والقضايا ذات الأهمية القصوى . وهو الذي يعطي أهمية أقل لكثير من القضايا الوطنية ذات الأثر الأكبر والأوسع على حياة الناس . ولكني أجمل الرأي بالقول ان تأثيرات الاعلام الدولي على الاعلام المحلي ليس جميعها سالبة ولكن الابعاد السالبة للرسائل الموجهة في الاعلام الدولي لم تهيىء الوسائل المناسبة للتعاطي معها . ولاشك أنه إذا كان من الصعب علينا تغيير مهب الرياح من الشمال إلى الجنوب فان من العسير علينا في أوضاعنا العالمثالثيه ان نقاوم غازيات الإعلام الدولي . ولكن روح الاستسلام يجب أن لا تسود فإذا كنا غير قادرين على المقاومة الفاعلة الآن فان سياج الدفاع الممكن الآن هو الممانعة ( من لم يستطع بيده فبقلبه) والله المستعان على قلة حيلتنا وهوان أمرنا على الناس.
       

الثلاثاء، 16 أغسطس 2011

اسلامية الدستور 1



تياران في الساحة السياسية يبرزان قضية إسلامية الدستور وكأنها مسألة قيد البحث والنظر ،وهي قد فرغ منها قبل سنوات طوال. التيار الأول تيار إسلامي شكلي لا يري في الدستور الحالي الذي ينص بصورة حاسمة علي مرجعية الشريعية دستوراً إسلاميا . ذلك أنه لم يشتمل علي أمور يعتقدونها أساساً في الدستور ليعًد إسلامياً أو أنه اشتمل علي أمور يرونها بعين الاتجاه الفكري الذي يمثلونه غير متوافقة مع مبدأ إسلامية الدستور. والآخرون علمانيون  أو من المتشبهين بالعلمانيين يحسبون أن الفرصة سنحت لإلغاء تكريس مرجعية الشريعة التي أرساها برتوكول مشاكوس والذي نال اعترافاً كاملاً علي الساحتين المحلية والدولية. وهنالك فريق ثالث من الاسلاميين الذين يدركون أن الدستور الحالي هو دستور إسلامي ولكنهم يريدون إظهارا لرموز هذه الإسلامية في بنود توجيهية وبنود حكمية واضحة بالدستور.
الدستور الانتقالي هل هو دستور إسلامي
كنت من المشاركين في إعداد الدستور الانتقالي في لجنة 7+7 بين الحكومة والحركة الشعبية في إعقاب توقيع علي اتفاق السلام. ثم كنت عضواً في اللجنتين القومية والفنية لإعداد الدستور الانتقالي لو ساورني الشك للحظة واحدة أن الذي نعده ليس بالدستور الإسلامي لما أنفقت لحظة واحدة في بذل ذلك الجهد في إعداد دستورٍ لا يكون سبيلنا للتقرب إلي الله. ولعل كثير من القراء لا يدركون إن الدستور الانتقالي ما هو ألا توفيق بين نصوص دستور 1998م ونصوص اتفاقية السلام التي يمكن تضمينها في الدستور . وهو ينص علي ذلك صراحة وذلك في المادة(226-1) والتي تنص "استمد هذا الدستور من اتفاقية السلام الشامل ودستور جمهورية السودان للعام 1998م ". ولم نسمع من أي طرف سياسي عند إعداد الدستور والذي شاركت كل القوي السياسية في اجازتة واعتماده أي اعتراض بان الدستور الجديد يمثل ابتعاداً عن فكرة إسلامية الدستور.  بل علي خلاف ذلك كانت هنالك اعتراضات من القوي السياسية العلمانية علي رفض صففة الاعتراف المتبادل بين الجنوب والشمال الأول يعترف بالشريعة مرجعاً للدستور والثاني يعترف بتقرير المصير .ذلك الأمر الذي اشتمل عليه برتوكول مشاكوس الذي فتح البوابة لاتفاقية السلام الشامل. والنصوص الذي تعتمد الشريعة منقوله عن دستور 1998م الذي اعتاد اليساريون تسميته بدستور الترابي الاسلامي . والمادة (5 – أ) " الشريعة الإسلامية والاجماع مصدراً للتشريعات التي تسن على المستوى القومي وتطبق على ولايات شمال السودان:و بروتوكول مشاكوس الذي أرسى هذا النص المنقول فيما بعد للدستور أثار حواراً وجدلاً داخل السودان وخارجه ، من قبل القوى الرافضة للشريعة باعتبار أنه مثل تكريساً لحكم الشريعة الإسلامية . وجلب أول اعتراف دولي بالشريعة أساساً للدستور . ولكن بعض الإسلاميين افتقدوا العبارة التوجيهية في مدخل الدستور بأن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام والتي اعتقدنا أن إيرادها تحصيل حاصل . طالما أن مرجعية الدولة هي الشريعة، فالشريعة هي التعبير الحكمي عن الإسلام. ولا شك أن بعض الرموز والشعارات لها أهمية بذاتها ، ولذلك يصمم البعض على تعبيرات واضحة عن ما يريدون اثباته . ولئن كانت ظروف التفاوض جعلت الوفد الحكومي آنذاك لا يتوقف عند العبارات التي لا يترتب عليها عمل وإنما هي ديباجات فحسب ، فيمكن الآن التحدث بصورة موضوعية عن إمكانية العودة إلى النص المأخوذ من دستور 1974م . والذي ينص على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام وأن الأديان السماوية الأخرى وكريم المعتقدات تحظى بالاحترام.  ولعل غياب مثل هذا النص التوجيهي هو الذي أعطى شعوراً لبعض الإسلاميين أن إسلامية الدستور جاءت منقوصة. و قال البعض أن إسلامية  الدستور (مدغمسة) ونسب بعضهم هذا القول لرئيس الجمهورية . والذي لا شك أنه كان على يقين من إسلامية الدستور الانتقالي وإلا لما وضع قلمه بالتوقيع عليه.  والنص على رسمية الإسلام يجب أن لا يفهم على أنه يمثل انتقاصا من الاعتراف بحرية العقيدة أو من حقوق أهل الأديان الأخرى،  ولكن في كل الأحوال فإن الديباجة سوف تعبر بصورة أوضح عن توجهات الدولة ومقاصدها وطبيعتها .  فالنص الحالي عن صفة الدولة يصفها بأنها دولة مستقلة ذات سيادة وهي دولة ديمقراطية لا مركزية تتعدد فيها الثقافات واللغات وتتعايش فيها العناصر والأعراق والأديان.  ولا أرى بأساً ولا خطأ في أي من هذه الأوصاف سوي السكوت عن توجه الدولة الإسلامي . والذي يمكن ذكره عند ذكر طبيعة الدولة ليكون النص ((جمهورية السودان دولة مستقلة ذات سيادة وهي دولة ديمقراطية ذات توجه إسلامي ولا مركزية اتحادية تتعدد فيها الثقافات واللغات وتتعايش فيها العناصر والأعراف والأديان)).
        عند ذكر المبادئ الأساسية للدستور يمكن تعديل المادة الأولى التي تأثرت بفكرة تقرير المصير وتنص(( تؤسس وحدة السودان على الإرادة الحرة الشعبية وسيادة حكم القانون والحكم الديمقراطي اللامركزي والمساءلة والمساواة والاحترام والعدالة)) لتقرأ بصورة مختلفة (سيادة حكم الشرع والقانون والالتزام بالحكم الديمقراطي واللامركزي والعدالة والمساواة واحترام حقوق وكرامة الإنسان والشفافية والمساءلة.
        وفي الدستور الانتقالي تفصيل حول الحقوق الدينية لجميع الأديان ويتوجب الاحتفاظ بذلك التفصيل لبث الطمأنينة في نفوس أصحاب الأديان الأخرى فمع مزيد من الوضوح في إظهار توجه الدولة الإسلامي لابد من المزيد من الحرص في التأكيد على حقوق أصحاب الاديان الأخرى.
المواطنة في الدستور الانتقالي:
        المواطنة هي أساس الحقوق المتساوية والواجبات لكل السودانيين . وهذا هو النص في الدستور الانتقالي الذي يُكسب الدولة مدنيتها مع مرجعيتها الإسلامية . فالحقوق في الدولة حقوق مدنية CIVIC وليست حقوقا دينية Religious ولا يجري التميز بين المواطنين على أساس الاعتقاد الأمر الذي تراه بعض الجماعات الدينية مخالفاً للشرع الذي يعرفونه . وكأن هؤلاء لم يقرءوا الآية ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) الآية 8 من سورة الممتحنة ،  وكيف يكون القسط إن لم يكن إيفاؤهم حقوقهم كاملة سواء بسواء مثل غيرهم من المتساكنين معهم من المسلمين . والقاعدة النبوية الكريمة فى اثبات حقوق أهل الأديان الأخرى هي ( لهم مالنا وعليهم ما علينا) وهذه قاعدة المساكنة والمسالمة والموادعة والمواطنة ،  أما كرامة المسلم بالمتصف بالتقوى عند الله فإن جزاءها الجنة . ولكن كرامة الإنسان مقصد من مقاصد الشرع . فالإنسان الحر الكريم هو الإنسان المخاطب بالرسالة الإسلامية.  ومسألة مدنية الدولة بإتباعها لقاعدة المواطنة لتأسيس الحقوق والواجبات هى موضع الخلاف مع بعض الإسلاميين الذين يفسرون آيات الولاء والبراء بأنها مطبقة سواء بسواء على المسالم والحربي . وهذا فهم مخالف لنص القرآن الكريم الذي لم يدع للبراءة من المسالمين بل دعا إلى البر بهم والقسط اليهم. وأما العلمانيون فهم يعتنقون ذات المبدأ الذي يدعي أن الشريعة لا تؤسس الحقوق والواجبات على المواطنة وإنما على الهوية الدينية.  ولذلك فان إنشاء دولة مدنية تساوي بين المواطنين أمر غير متصور في دولة ذات توجه إسلامي يسود فيها حكم الشريعة . وهم متمسكون بهذا الادعاء لإبراز تناقض بين القيم الإنسانية الراسخة في المساواة والعدالة وكرامة الإنسان وبين حكم الشريعة. وفي هذا التصور تلتقي بعض الجماعات المتشددة إزاء غير المسلمين مع زمرة العلمانيين فهم جميعاً يقررون أن مدينة الدولة غير ممكنة التحقق في ظل دولة ذات توجه إسلامي . فالأولون يريدون تأسيس الحقوق على الانتماء الديني والحط من حقوق وكرامة غير المسلمين . والعلمانيون يرفضون حكم الشريعة بدعوى أن هذا الوضع الذي لا يساوي في الحقوق والواجبات بين المسلم وغير المسلم أصل من أصول الشريعة ولذلك فهى غير ملائمة للانسانية المغاصرة . وأخطأ أولئك فالشريعة التي جعلت المسلم وغير المسلمة يتساكنان في بيت واحد بل في فراش واحد وأسست العلاقة على الألفة والمودة والرحمة لا يمكن أن تناقض نهجها عند تأسيس العلاقة في المجتمع بين المسلم وغير المسلم على المجانبة والتبرؤ والبغض والكراهية.
وإستراتيجية خصوم الشريعة في السودان وغير السودان واحدة . فالحوار الدائر الآن في مصر وتونس حول مدنية الدولة ومحاولة التيار العلماني الإدعاء بأن مدنية الدولة لا تتحقق إلا بالفصل بين الدين والدولة هو نفس المنطق الذي يتبنى أشد الآراء السلفية تطرفاً في تطبيق مبدأ الولاء والبراء على غير المسلم المسالم والمحارب المناوئ سواء بسواء . وهم يلتقون في هذا مع التيار السلفي المتشدد الذي يتحدث عن دولة للمسلمين في مصر بها غير مسلمين وهذا طرح لن يقبله الشعب المصري بمسلميه وأقباطه على حد سواء. فالفطرة السليمة تأبى التحامل والإساءة لكرامة الإنسان لمجرد اختلاف الدين وآية سورة الممتحنة ذهبت لأبعد من أقامة العدل إزاء غير المسلم المسالم بالإشارة إلى عدم النهي عن البر إليهم والبر والإحسان رتبه فوق العدل والقسط لأن العدل هو القسمة بالسوية والقسط هو إعطاء كل ذي حق قسطه ( أي حقه) أما البر فهو الزيادة على ذلك وهو المكافأة على الفضل بالفضل لأنه لا يعرف الفضل لأولى الفضل إلا أولو الفضل.


نواصــــــــــــــــــــل،،،