الأربعاء، 24 أغسطس 2011

أسلامية الدستور 2


ذكرنا في مقال سابق أن هنالك مقاربتان لموضوع اسلامية الدستور. مقاربة نصوصية شكلية تُعلي من الرموز والأشكال وتنحصر مسألة الاسلامية لديها في البعد التشريعي . وبخاصة في جوانبه العقابية وفي مظاهر الالتزام الديني. أما المقاربة الثانية فهي مقاربة حقوقية انسانية تؤمن بأن المقصد الأساس من كل تشريع ومن التشريع الأسلامي علي وجه الخصوص هو إعطاء كل ذي حق حقه . وترقية حياة الانسان باثرائها بالقيم الأيمانية والروحية وتمتينها بالقيم المادية والاقتصادية لتتحقق للانسان الحياة الطيبة في معاشه الدنيوي ويحظي بالفوز بالجنة والنجاة من النار في عقباه الآخرة.
الإنسان أولاً:-
لئن كان ينُظر للدستور باعتباره وصفه لتطوير الامة وترقيتها فان مبتدأ ذلك هو النظر الي حال الانسان ولقدراته لترقيتها بالتعليم والتدريب والتأهيل ورفع القدرات المستمر لأن الأمة لا تنهض وتتطور الا بكسب افرادها. ثم النظر الي حاله في معاشه وسبل كسب ذلك المعاش لترفيع مستواه الاقتصادي وشحذ قدراته علي كسب العيش . وتوفير الموارد التي تُعين علي ذلك وتحريك البيئة الأقتصادية من حوله بالاستثمار والانماء المتسارع . لتتسع فرص كسب العيش وتتحسن مستويات الرفاهة العامة. وفي كلتا الحالتين فان الانسان ياتي اولاً لأن الدساتير والتشريعات كما يقول الأمام الشاطبي "وضعت لمصالح العباد في الدارين" . ومراد التشريع هو بناء القدرة الانسانية وتكليفها من بعد برعاية الحياة وتنميتها . وكلٌ مًيسر لما انتدب له . وكل الناس راعٍ  ومُكلف ومسئول عن رعيته وتكليفه. وقصد التكاليف هو تناصرها لرعاية النفع العام . ومقصد التكاليف التي وردت بها التشريعات هو تحقيق المنفعة ودرء المفسدة في غير ما عنت او مشقة. لأن الشارع لم يقصد الي تكليف العباد بما لا يطاق أو بما لا منفعة له . يقول الأمام الشاطبي "ان الاجماع قد وقع علي أن التكليف بما لا يطاق منفي عن الشارع . وكذلك التكليف بما فيه مشقه او حرج.  ذلك أن مقصد الشرع للناس ان "يضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم" فمقصده هو رفع الضيق والمشقة عنهم وتحريرهم من كل غلٍ او قيد علي حريتهم في التحرك والتنقل والتصرف والكسب "ما يريد الله ان يجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم" ولو اهتدي كل مشرع بهذه المعاني الانسانية الرحيمة لسأل نفسه قبل أن يسن أي تشريع أو قانون أو دستور الي أي مدي يساهم هذا التشريع في تحسين اوضاع الناس والتخفيف عنهم ورفع الحرج والعنت عن حياتهم في كافة مجالتها المعيشية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. بيد أن هنالك طائفة من أهل المذاهب والأتجاهات الفكرية يجعلون مقصد التشريع هو التشريع نفسه . ومقصود النص هو تقديس النص نفسه . ولذلك فمعيارهم للصلاح هو الشدة . بأن يشدد المرء علي نفسه وعلي غيره . وما علموا أن مقصود الشارع من كل الأمور هو التيسير لا التعسير  وما خيُر رسول الله صلي الله عليه وسلم من أمرين إلا إختار أيسرهما.
الدستور هو اصلاح الشأن
والدستور بوصفه تشريعاً يمثل أساس التشريعات تأسيسة او تنظيمة، مدنية او جزائية يتوجب ان يكون مقصده اصلاح شأن الامة في كافة مناحيه. لأن مقصد التشريع والسياسة هو القيام علي الشأن بما يصلحه. واذا كانت الدولة ضرورة من ضرورات الحياة الآمنة المستقرة المتطورة فأن تنظيم الدولة بدستور مُتوافق عليه عرفاً او كتابه يحوز علي ذات الأهمية. لأن ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب. فالأمام أبن خلدون يقول في المقدمة "ان البشر لا تُمكن حياتهم ووجودهم إلا باجماعهم وتعاونهم علي تحصيل قوتهم وضرورياتهم فاذا اجتمعوا" دعت الضرورة الي المعاملة واقتضاء الحاجات ومد كل واحد منهم يده الي حاجه ياخذها من صاحبه لما في الطبعة الحيوانية من الظلم وعدوان بعضهم علي بعض  فاستحال بقاؤهم دون حاكم يزع بعضهم عن بعض"فالحكم المنظم بالعرف او الدستور هو الضامن للسلم الأهلي وللعدل بين المتنازعين أو المتنافسين . ولتنظيم مسعي الناس لكسب معايشهم أو ممارسة حرياتهم بالتصرف في انفسهم وأموالهم بما يحبون دون إفتئيات علي أحد".
ولئن كان حديث الساعة هو حديث الاصلاح فان المراجعة الدستورية هي الوصفة لذلك الاصلاح. لأنها توفر الفرصة لمراجعة المؤسسات وفاعليتها وتقويم الأداء ونجاحه واخفاقه ودراسة مردود السياسات ونفعها وضررها. والفرصة سانحة الآن لأصحاب المشروع الاسلامي للانتقال من مشروع تأسيس الدولة الي تمليك ذلك المشروع للشعب من خلال ابراز منافعه للناس . وفوائده في تحقيق الحياة الكريمة لهم وفي إقامة العدل وبسط الحريات . وصيانة الحرمات وترسيخ المساواة وتوسيع المشاركة في الشأن العام . وتعزيز النزاهة العامة في كل وجوه الاداء ومحاربة جميع وجوه الفساد.
وأهل المشروع الاسلامي مدعوون لانتهاز سانحة الدستور الجديد لاحيائه بتحويله الي شراكة مساهمة عامة لافضل فيها للسابق علي اللاحق. وذلك من خلال بناء نظام سياسي مفتوح . لا يًسد بابه في وجه ناشط مهما اختلف رأيه أو تعارض مسعاه مع مسعي التيار الغالب ما دام يصنف ذلك المسعي في اطار المصالح الوطنية مهما اختلف الناس في تكيفها وتقديرها . ولقد غدونا اليوم وحال المشروع الاسلامي مثل حال الطائفة الاسلامية بعد فتح مكة. فلا مخافة أن يهُزم المشروع الاسلامي من قلة .  وانما المخافه أن تلجئه المهددات المتوهمة الي التحول الي احتكار طائفه تفرض وصايتها علي الناس كافة بزعم الحرص علي الاسلام . وتجعل سبيلها الي تحقيق مقاصدها الاكراه لا الاقناع. لذلك فان أول سمات اسلامية الدستور أنه للناس كافة بالمعني الذي يفيد أنه يفتح المنافذ ويشرع الأبواب ليلج الجميع الي رحاب المشاركة الفاعلة في صنع مستقبل الوطن. وهذا يعني أن يراعي في بناء المؤسسات أنها مؤسسات يقضى فيها بالرأي الجماعي لا الرأي الفردي . وأن التنافس للوصول الي مراكز القرار عادل ونزيه وميسور . وذلك بمراجعة التشريعات التي تحقق ذلك. ومن أولها تشريع الانتخابات الذي يتوجب ان يعاد تصميمه بغرض تسهيل الدخول للمؤسسات لا تعسيره . وجعل تعدد الأصوات والأراء مقصداً من مقاصد تشريع ذلك القانون. وتحقيق انفتاح النظام السياسي يقتضي مراجعة نظم الحكم رئاسية واتحادية بما يوسع المشاركة دون أن يهزم المقصد في تخفيض النفقات العامة. والنظام المفتوح يقتضي ترويج ثقافة الشوري والمجادلة بالحسني والحوار والتناصح والمشاركة الواسعة في صنع القرار من خلال اتاحة المعلومات وتطوير الإفادة منها لتطوير آليات الحوار وصنع القرار.
واذا كانت الدعوة في النظام السياسي للانفتاح فان الدعوة في النظام الاجتماعي والاقتصادي للنظام العادل الذي يمنع المال أن يكون حكراً ودُولة بين القلة . وأن توزع فيه الموارد العامة بالعدل والانصاف مع تعزيز الاهتمام بتطوير القطاعات الانتاجية التي تتيح فرصاً واسعة لكسب العيش وتعزز في ذات الأوان قدرة الاقتصاد علي النمو السريع من خلال البحث العلمي وبناء القدرات واجتذاب الاستثمارات . وفتح أفاق التعاون الاقتصادي دون عوائق بيروقراطية. فهو نظام مفتوح للأعمال والأشغال ولذوي المبادرات والأفكار والأبتكارات, وأما النظام الأجتماعي فهو نظام يقوم علي الانضباط الذاتي من خلال تنظيم المجتمع لنفسه بنفسه . يكون فيه المجتمع سابقاً للدولة بمبادراته قادراً علي الاستغناء عنها بحاجاته. مجتمع أساسه أسرة متعلمة تقوم علي الالفة والمحبة والتشاور والتكافل ومجتمعاته المحلية متعاضدة متعاونة تترفع علي لعصبيات العرقية والقبلية . وتتكامل جهودها لنهضة الوطن الكبير.
                         أنتهى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق