الثلاثاء، 13 سبتمبر 2011

أسلامية الدستور 3



الدستور وثيقة التفاهم الكبرى في الدولة . ومقصدها هو تأسيس التوافق الوطني حول غايات الدولة ومقاصدها ومؤسساتها وعلاقاتها وكيفية إدارة الحكم بها وطرائق الوصول إلي تحقيق مرادتها في النهوض والتقديم والتنمية. ولذلك لزم لأية وثيقة مثل هذه الوثيقة أن تحظي بقبول السواد الأعظم من المواطنين لكي يتحقق بها الاستقرار.  وكتابة وثيقة للحقوق والمقاصد والعلاقات ليست بدعه حسنة من إبداعات الفكر السياسي فحسب بل هي سنه مؤكدة . أرساها الرسول صلي الله عليه وسلم عندما دوًن (وهو الأمي الذي يسعه التعاقد العرفي) صحيفة المدنية التي أعلنت تأسيس امة موحدة من أشتات ساكني المدينة وأريافها وأطرافها حينذاك.
صحيفة المدنية
وأول ما قررته الصحيفة أن أهل المدينة (أمة واحدة من دون الناس) يتناصرون ويتعاملون ويفدون عانيهم بالمعروف ويمشون بالقسط بينهم . وأن أيديهم جميعا علي من بغي منهم و أبتغي دسيعة ظلم أو إثما أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين . و أن ذمة الله واحدة بجير عليهم أدناهم . وأنه من قتل مؤمنا علي بينة فأنه قود به إلا إن يرضي ولي المقتول بالعقل "الدية تتناصر علي دفعها الجماعة" . وأن المؤمنين عليه كافة لا يحل لهم إلا قيامٌ عليه . وأن سلم المؤمن واحدة لا يسالم بعضهم دون بعضهم. وتؤكد الصحيفة انه "من تبعنا من يهود فان له النصر والأسوة ""أي التساوي"غير مظلومين ولا متناصر عليهم . وأن لليهود دينهم وللمسلمين دينهم وأنفسهم إلا من ظلم . وأن البر دون الإثم وان الجار كالنفس غير مضُار ولا آثم . وان النصر للمظلوم وأن لا تجُار قريش ولا من نصرها . وأن بينهم النصر علي من دهم يثرب وأن ليهود الأوس مواليهم وأنفسهم لأهل هذه الصحيفة البر المحض من أهل هذه الصحيفة . وأن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلا علي نفسه . وأن الله علي أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره وألا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم . وأنه من خرج أمن ومن قعد بالمدنية أمن ألا من ظلم أو أثم . وأن الله جار لمن بر وأتقي ومحمد رسول الله صلي الله عليه وسلم". ومما تقدم فان نصوص الصحيفة تنشئ أمة ودولة من أهل المدينة وتنشئ حلفاً بينهم وبين سكان أريافها وأطرافها من اليهود . وتجعل لهم حرية التدين وتجعل شأنهم أسوة في عصمة الدماء وفي الحقوق وفي البر المحض إلا من ظلم أو أثم فإن فعل فلا يكسب كاسب إلا علي نفسه . وليس المقام مقام شرح صحيفة المدنية فلربما عنت سانحة أخري لذلك ولكن الشاهد أن هذه الوثيقة أعلنت قيام الدولة وتوحد الأمة علي عصمة الدماء والأمن والتناصر والتكافل والدفاع المشترك والذمة الواحدة ولا يراد من أي وثيقة دستورية أكثر من ذلك.
الدستور الانتقالي وبرتوكول مشاكوس
ولئن عرف الناس جميعا اتفاقية السلام الشامل والدستور الذي نشأ عن دمجها بدستور 1998م فان برتوكول مشاكوس الذي أسس للاتفاقية وللدستور من بعد قلما يذكره الذاكرون. وبرتوكول مشاكوس الموقع في 20 يوليو 2002 يعتبر وثيقة فوق دستورية حددت معالم الاتفاقية ومعالم الدستور من بعد . ولذلك لزم التوقف عند المعاني التي وردت في هذه الوثيقة المهمة. والبرتوكول يقرر ابتداء أنه المدخل لتسوية النزاع في السودان بأسلوب عادل ومستدام عن طريق معالجة الأسباب الجذرية للنزاع . وبوضع إطار للحكم يجري من خلاله اقتسام السلطة والثروة وضمان حقوق الإنسان بصورة عادلة . ويؤكد البرتوكول أن وحدة السودان تقوم علي أساس الإرادة الحرة لشعبه . وان يؤسس الحكم الديمقراطي والمساواة والعدالة لجميع مواطني السودان. ويعطي البرتوكول الحق لأهل الجنوب، في ادارة شؤون إقليمية ورقابته والمشاركة بصورة عادلة في الحكومة القومية . وأن مصير الجنوب النهائي يحدد ضمن أمور أخري بواسطة استفتاء لتحديد وضعه المستقبلي . ويقرر أن شعب السودان له تراث وطموحات مشتركة . وأن الدين والتقاليد والعادات هي مصدر القوة المعنوية والإلهام بالنسبة للشعب السوداني . وأن الطرفين سيعملان معاً لإقامة نظام ديمقراطي للحكم . يأخذ في الحسبان التنوع الثقافي والعرقي والديني والجنسي واللغة والمساواة بين النوعين في السودان.  ويعملان لإيجاد حل شامل يوقف الحرب ويقيم العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ويحترم حقوق الإنسان . وأن نخطط الاتفاقية التي ستقوم علي البرتوكول وتنفذ بغية جعل وحدة السودان خيارا جاذبا وبصفة خاصة لشعب جنوب السودان . وشمل البرتوكول جزءا خاصا عن العلاقة بين الدين والدولة أكد فيه علي ما يلي:
-         أن الدين والمعتقدات والعادات مصدر للقوة المعنوية والإلهام بالنسبة للشعب السوداني.
-         كفالة حرية العقيدة والعبادة.
-         الأهليه للمناصب العامة تكتسب علي أساس المواطنة.
-         المسائل الشخصية والأسرية تحكمها القوانين الشخصية.
-         وان تحترم حرمات العبادة والتجمع الخاص بها والمؤسسات الخيرية التابعة لها.
-         وان يكفل تدريس الدين أو المعتقد لاصحابهبما فى ذلك المساهمات المالية لأجل ذلك.
-         مراعاة العطل الدينية وعدم إعاقة الاتصالات في المسائل الخاصة بالديانة.
-         أن لا يخضع احد لأي شكل من إشكال التمييز ضده بسبب الدين.
-         وأكد  البرتوكول علي أن التشريعات التي تسن علي صعيد القومى والتي تتأثر بها الولايات خارج جنوب السودان مصدرها الشريعة والتوافق الشعبي . وأن التشريعات القومية المطبقة علي الولايات الجنوبية يجوز لها المطالبة بسن تشريع متوافق معها إذا كان مصدر ذلك التشريع هو الشريعة الإسلامية أو أن يحال إلي مجلس الولايات للموافقة عليه بأغلبية الثلثين. ومعني ما تقدم أن البرتوكول ضمن تطبيق الشريعة الإسلامية علي كل التشريعات القومية عدا تلك الإقليمية (بالجنوب)  وأن من حق الجنوب في حال اعتراضه علي تشريع قومي أن يطلب عرضه علي مجلس الولايات لإجازته بأغلبية الثلثين.
وبرتوكول مشاكوس أرسي بعض المعاني الواردة في صحيفة المدنية بتأسيسه الحقوق بين المتساكنين علي التساوي بالمواطنة في الحقوق والواجبات .  وأرسي الحريات الدينية لأصحاب الديانة المخالفة . وأكد مبدأ السيادة القومية للشريعة وجعل المطالبة بتشريع ليس من مصدرها وفقاً علي الجنوب وبواسطة أغلبية الثلثين بمجلس الولايات . وأكد البرتوكول علي حقوق الإنسان وعلي العدالة الأجتماعية والأقتصادية وعلي إقامة الحكم علي التراضي والتشاور.
        وإما وقد ذهب الجنوب في حال سبيله فلا معني الآن للحديث عن مرجعية لبرتوكول مشاكوس . بيد أن المعاني التي وردت فيه باقية هي تلك المعاني المتصلة برعاية التعدد والتنوع وحقوق الإنسان والحقوق الدينية . وإقامة الدولة علي مبدأ المواطنة والتراضي علي حكم ديمقراطي يجعل السلطة والثروة شراكة بين أهل السودان جميعاً دون تمييز. ولعل أولى أولويات الحوار الدستوري الذي نُرجي أن يقوده المؤتمر الوطني لبناء قاعدة عريضة ممن التوافق حول الدستور هو التوافق اولاً علي المبادئ الدستورية الكبرى . والتي لن تختلف كثيراً عن تلك التي وردت في برتوكول مشاكوس، لأنه مهما لاحظ الناس من أن انفصال الجنوب قد أظهر المزيد من التجانس الديني والمعتقدات فأن مظاهر التنوع الثقافي والعرقى الجهوي لا تزال قائمة . ولا نزال بحاجة الي ادارة هذا التنوع عبر الدستور والتشريعات ليتحول الي قوة لصالح المجتمع لا أن يبقي عنصر اضعاف ومدخل نزاع وفتنة. كذلك فانه مهما قل عدد أهل الديانة الأخري فان هذا الأمر لا مساس له بالحقوق المكفولة لهم منذ تنزيل القرآن وكتابه صحيفة المدينة . وهي حرية المعتقد والديانة والشعائر والحقوق المتصلة بذلك كله . كما لهم ان لا يقع التمييز ضدهم بسبب الملة او العقيدة . وأن تؤسس الأهلية علي مبدأ المواطنة سواء للمناصب السياسية أو في الخدمة العامة ولو أسلم كل هؤلاء ولم يبق منهم إلا فرد واحد لما جاز لأحد أن يحرمه من أي من هذه الحقوق بدعوي حقوق الأغلبية . فان حقوق الأغلبية لا تطغى علي حقوق الأقلية ولا الأفراد الأساسية ابداً . ولا تجرد جماعة ولا فرد من مبدأ المساواة في الكرامة الانسانية. والمتامل في صحيفة المدنية يُدرك كيف أحترمت تلك الوثيقة معاني الأخوة الانسانية والمساكنة والجوار لأن "الجار كالنفس غير مُضار ولا آثم" وأن من حقه "البر المحض" إلا من ظلم وأثم ولا يكسب كاسب الا علي نفسه.
        اما وقد توجههت أنظار الأمة استشرافا لمرحلة جديدة من تاريخ السودان فيتوجب ان ندرك جميعاً أن صيانة الدماء والحقوق والحريات هي مقصد كل التشريع . وهى مقصد التشريع الاسلامي الأساس لأنه لا قيام لدولة بغير ذلك . ولا استقرار لمجتمع ولا اقامة لدين أو شعائر دون تأدية الحقوق لأصحابها وصيانة الحرمات وتأدية الأمانات والحكم بين الناس بالعدل . فذلك هو أمر الله الآلهي من قديم فهل نحن مستجيبون؟!

إنتهــــــــــــــــــــــــــــي،،،


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق