الأحد، 26 فبراير 2012

منبر السلام العادل ما بعد الانفصال (1)


        تحول منبر السلام العادل إلى حزب سياسي ينشط في الساحة السياسية . ويحاول التنافس مع الحزب الغالب (المؤتمر الوطني ). ولا بأس في ذلك إذا تحلى المنبر بمقتضى أسمه فقبل التنافس السلمي ظاهراً وباطناً . واتصف بالعدل في القول والعمل. وتحول المنبر الذي نشأ جماعة ضغط للمطالبة بالإنفصال إلى حزب سياسي إسلامي التوجه أمر ليس فيه غرابة . فجماعات الضغط إذا أحرزت نجاحاً أو صادفت إخفاقاً كبيراً غالباً ما تتحول إلى حزب سياسي. إما لأنها ترى في النجاح حافزاً لتطوير أفكارها ومقاصدها ، أوأنها ترى في الاخفاق سبباً للتحول من آلية للضغط لتحفيز  الآخرين على التغيير إلى آلية العمل المباشر لاحداث التغيير. ولقد حاولت وبذلت جهداً للتعرف على توجهات هذا الحزب وأفكاره الاساس ومقاصده الرئيسة . وأقر بأني قد خرجت بحصيلة ضئيلة لا تتناسب مع جهدي المبذول. والسبب في ذلك يعود أولاً أن هذا التنظيم نشأ عن جماعة ضغط . والشأن المعروف عن جماعات الضغط أنها قد يتفق أعضاؤها إتفاقاً واضحاً وجازماً حول الموضوع الرئيس الذي جمع أطرافها للعمل من أجله ولكنها قد تفترق في سائر مفردات وموضوعات الشأن الإجتماعي والاقتصادي والسياسي الأخرى. وهذا هو الشأن في  منبر السلام العادل الذي جمع أفراداً من خلفيات عديدة منهم إسلاميون خرجوا عن المؤتمر الوطني أو عليه، ومنهم طائفة من أحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي وآخرين من المستقلين ، ومن غير ذوي الاهتمام بالسياسة. ولذلك فأن ما يمكن تسميته بموقف الحزب العام موقف غامض في سائر الموضوعات بخلاف مسألة العلاقة مع دولة الجنوب وعملائها. فهل نشأ هذا الحزب ويريد أن يستمر مصنفاً ضمن أحزاب القضية الواحدة Cause Parties  أم أنه يريد أن يتبنى موقفاً سياسياً أوسع Political Platform . وهل سوف يتجه ليكون من أحزاب الفكرة أم أنه سيظل حزب قضية أو حزب برنامج. وأحزاب الفكرة هي الأحزاب التي تتبنى فكرة مرجعية تكون أصلاً لجميع أفكارها الفرعية وسياساتها الكلية وموقفها السياسي العام. وأنموذج أحزاب القضية هو حزب الخضر الذى أنتشر فى كل أنحاء أوروبا و الذي يقوم على قضية البيئة وأنموذج لحزب البرنامج هي أحزاب التنمية من أمثال حزب (أمنو) الماليزي .
هل هو حزب فكرة؟
        وأما أحزاب الفكرة المرجعية فهي الأحزاب الماركسية والقومية والإسلامية. وربما تحب قيادة المنبر أن يتحول منبرها إلى حزب إسلامي يتبنى المرجعية الإسلامية . وينتزع الأحقية الأولى في تبني تلك المرجعية الإسلامية من المؤتمرين الوطني والشعبي. ولاشك أن الاتجاه العام للخط التحريري لصحيفة الانتباهة التي هي لسان حال هذا المنبر  يعبر بوضوح عن هذه الرغبة . بيد أن الرغبة في شيء والقدرة على إنجازه شيء آخر. فكما تقدم منا الشرح فان طبيعة المنبر أنه جامع لشتات اتجاهات حزبية وفكرية متعددة . وللانصاف فان جلها لا يبُعد النجعة عن الإتجاه الإسلامي. ولكن الاتجاه الإسلامي يعبر عن مقاصد وغايات بأكثر من تحديده لطريقة أو مذهب للوصول لتلك المقاصد والغايات .  فالناس في فهمهم للاسلام مذاهب بعضها تقليدي وبعضها تجديدي ، بعضها أقرب للحذر والمحافظة وبعضها أدنى للتوكل وللتقدم ، بعضها يرى مثالاته في الماضي فيريد أن يعيد الاسلام إلى سيرته الأولى ، والبعض الآخر يريد للإسلام أن يواصل مسيرته المبطئة أو المتوقفةليتقدم للامام ، البعض يحن إلى الماضي الدابر والبعض الآخر يتطلع إلى المستقبل الزاهر. فأين يضع منبر السلام العادل نفسه بين هذه المذاهب؟
تعلمنا فيما تعلمنا من مناهج دراسة العلوم الإجتماعية والاعلام على وجه الخصوص أن نحدد مطالب ومقاصد الجماعات والمنظمات من خلال منهج دراسة المحتوى. والدراسة المتأنية لفحوى الرسائل التحريرية وكتابات أركان منبر السلام العادل يمكن أن تدلنا على التوجهات والمقاصد الأصل لهذا الحزب الجديد. لا يدخل ضمن تأملنا بطبيعة الأمر كتابات المدعوين والمشاركين بالكتابة في الصحيفة . فهؤلاء لا يعبرون إلا عن آرائهم التي قد تصادف أو تخالف مطالب الحزب ومقاصده ، ولكننا نعني بالمحتوى كتابات الكتاب الذين يعلنون موقفهم المنحاز للحزب، وكذلك الخط التحريري الرئيس للحزب. فاذا أتضح مرادُنا فسنبدأ من خلال تحليل المحتوى تقديم شرح ونقد لأطروحات الحزب الجديد لا لأننا نرغب في وأده في مهده فهذا آخر ما نريد أن نفعل بل أن ذلك خلاف مقصدنا على وجه التضاد.
التجديد الحزبي ضرورة
        أن أشد ما نرغب فيه لإصلاح الساحة العامة هو نشؤ أحزاب وطنية جديدة قادرة على طرح أفكار ومواقف وبرامج جديدة في الساحة الوطنية. فالسيطرة الواسعة شبه الكاملة للمؤتمر الوطني على الساحة السياسية ولو جاءت وفاقاً لمراد الأغلبية فهي لا تعبر عن حالة صحية في ظروف مثل ظروف الإنقسام الاجتماعي الواسع الذي يكتنف البلاد. وهذه الحقيقة بعينها هي التي دفعت المؤتمر الوطني للدعوة إلى حكومة القاعدة العريضة وسيلة لإحتواء الانقسامات الحادة بين القوى السياسية في الساحة الوطنية. بيد أن حالة التفتت الحزبي المريع الذي ضرب الأحزاب التاريخية وعجز أحزاب القوى الجديدة يسارية وقومية عن تقديم إطروحات وقيادات مقنعة للأجيال الجديدة، أفرز وضعاً انحازت فيه الأغلبية العظمى لحزب واحد . ليس لأنه من يمثل بالضرورة أفكارها وتطلعاتها وإن كان قسم كبير منها يرى ذلك ولكن جاء الانجياز بسبب واقع اليأس من صلاح حال سائر الأحزاب الأخرى. والناتج المنطقي للنمو المتضخم للمؤتمر الوطني على أساس الملائمة لا على أساس الفكرة مقرؤاً مع التقزم للأحزاب الأخرى بسبب العقم الفكري والقيادي سيؤدي إلى أحد احتمالين . أما أن ينمو المؤتمر الوطني حتى مرحلة التضخم فالانشقاق كما جرى الحال في أحزاب كثيرة . اتسعت عضويتها بالبقاء طويلاً في الحكم ولذات السبب أصبح الانتماء للحزب دافعه الملائمةExpediency لا الموافقة الفكرية أو السياسية. فاذا كُثر الداخلون للحزب لتحقيق مطالب ومصالح فئوية أو جهوية أو فردية يوشك الحزب أن يعجز عن الاستجابة لتلك المطالب جميعاً . فيُحدث ذلك شروخاً في جسم الحزب ما أن يمضى بعض الوقت حتى يتحول إلى إنشقاق فيبرز حزب جديد من باطن الحزب الغالب . وأنموذج ذلك هو حزب المابام (العمل) الذي أسس دولة اسرائيل وحكمها لعشرات السنين.  ثم ما لبث الليكود أن خرج من بطن حزب "المابام" الإسرائيلي ثم خرجت "كاديما" من الليكود بعد تطاول حكمه واتساع عضويته بالمحازبين والمهاجرين . وحدث ذلك أيضاُ مع حزب الأحرار البريطاني الذي خرج حزب العمال البريطاني من باطنه ثم خرج الديمقراطيون الاجتماعيون من باطن حزب العمال.   
            ولاشك أن البعض في المؤتمر الوطني الذي ننتمي إليه قد تغضبه مثل هذه التنبؤات ولكن التاريخ لا ينحني لمراد أحدٍ إلا الله . وسنن الله في الاجتماع البشري لن تجد لها تبديلاً ولن تجد لها تحويلاً . وفي حلقة قادمة سنواصل دراستنا النقدية لإطروحات منبر السلام العادل رغبة منا أن ينشأ حزباً راشداً ومقتدرا في الساحة السياسية المفتقرة للتوازن الحزبى . فانه لا يسر المؤتمر الوطني أن لا يجد في الساحة الوطنية خصماً نزيهاً ينافسه منافسة الانداد.
نواصل،،،
            

المؤتمر الشعبي..موسم الهجرة إلي الجنوب



لا أعرف  إن كان رأي الأستاذ كمال عمر ونصحه للحكومة أن تسمح لنفط الجنوب أن يمر دون رسوم ودون مقابل طلباً لاستدامة السلام والمودة مع الجنوب رأياً خاصاً به أم  أنه الموقف الرسمي لحزب المؤتمر الشعبي. و لن أستغرب الأمر فى كلتا الحالتين . فالمؤتمر الشعبى صار له قطبان وصوتان فحسب فاما أن نسمع صوت الأمين العام أو صوت الأمين السياسى . وأما الأصوات الأخرى فساكتة فالأفواه ملؤها الماء الكثير.
نفطنا أم نفطهم.؟
ما يدعوني لترجيح الاحتمال الأخير (أى أن الرأى رأى الحزب ) انه لم يصدر من حزب المؤتمر الشعبي ما يصحح ما قيل أو يوضح موقفه من المجادلة حول استحقاق السودان من نفط جنوب السودان . وما يسمى نفط جنوب السودان هى الغنيمة الباردة التى آلت لدولة الجنوب والتى لا تستخدم أراضي السودان للمرور فحسب.  بل وتستخدم تجهيزات معالجة النفط في الجبلين وهجليج لتنقية النفط من الشوائب.   ثم فصله عن الماء والطين وكل العوالق . ثم دفعه إلي المستودعات التي تتدفق منها إلي الأنابيب .  ليمر على محطات الضخ المتعددة عبر مئات الأميال . وأحيانا محطات التسخين لئلا يتجمد فلا ينساب في الأنابيب . وإثناء ذلك ينشط الآلاف من أبناء السودان فى أعمال الصيانة المستمرة وأعمال الحراسة الدائمة للنفط المتدفق عبر الانابيب . فاذا بلغ الميناء جرى نقله للمستودعات المجهزة للحفاظ عليه في حرارة تمنع تجمده . ثم دُفع به الي البواخر الناقلة لتحمله الي مرافئ مستورديه ليعود بالعملات المسماة حرة لحكومة الجنوب. وهذه عمليات ثمانِ نعيد روايتها : أولها التنقية ثم التخزين ثم الضخ ثم التسخين ثم الصيانة فالحراسة فالتخزين فالشحن . أما في جنوب السودان فتوجد آبار النفط والأنابيب التي تنقلها الي محطات المعالجة فالضخ الى التجهيزات فى دولة السودان . ونذكر أن هذه الآبار لم يعمل علي انشائها من يحكمون دولة جنوب السودان الآن . بل  انهم اجتهدوا في تدميرها وتدمير خطوطها مرة بعد مرة . وخابت مساعيهم بفضل تفانى ومجاهدة ابناء السودان الذي انشأوا صناعة النفط بعرقهم وحرسوها بدمائهم . ثم يأتى ناصح المؤتمر الشعبي لينصحنا بالتنازل عن استحقاقات شعبنا لترضية حكام جنوب السودان حتي تُوقف الحرب ونسترضى فئام من اللئام الذين لا يرضيهم إلا ان يروننا في أسوأ حال.
المؤتمر الشعبي وليلاه المريضة بالجنوب:
عجيب والله امر اخواننا في المؤتمر الشعبي فقد ذهب بهم العداء لاخوانهم في المؤتمر الوطني الي مرحلة الاغلاق. والمغلق عند الفقهاء هو الرجل الذي ذهب به الغضب مذهباً فلا يري ولا يسمع ولا يفهم . فهذا يعتبرونه مغلقاً ويجعلون طلاقه  إن طلق كأن لم يحدث فتبقى زوجه فى عصمته حتى يعاوده الرشد . فان فاء الى الرشد أمسك وان شاء طلق . والمؤتمر الشعبي الذي يتحدث كثيراً عن المثالات والحريات لم يحدثنا قط ما اذا كان حكم حكومة جنوب السودان والحريات المغدق بها على أحزابها و أفراد شعبها ورأفتها بشعب بلدها وحرصها علي أمواله ومصالحه هي ذات المثالات التي يحدثوننا عنها. فان لم يكن الجنوب مثالهم فليفسروا لنا بالتفسير التوحيدى أو التقليدى مغزى هجرتهم بالتجاوب والتقارب والتوالي والتحالف جنوباً إلا ان كان منطقهم هو المقولة( عدو عدوي صديقي ) فان أمنوا علي هذا الاستنتاج فليعلموا أن صديقهم الذين يبذلون له الود  و الولاء هو عدو للسودان دولة وشعباً . وليس عدواً لمن يناصبونهم العداء فحسب. واذا كان الأمر خافياً عليهم فما ضرهم ان يسألوا الناس حولهم ان كان يسرهم ان يكون مالك عقار وعرمان والحلو وأضرابهم هم زعماء السودان الجدد. بل انى أتحدي قيادة المؤتمر الشعبي أن تجري استبياناً حراً لعضوية المؤتمر الشعبي ان كان البشير هو بغيضهم ومالك عقار  هو حبيبهم ؟ ولست في شك ولا ريب من أن نتائج ذلك الاستبيان ستوضح لقيادة الشعبي انها تستقبل قبلة قد ترضاها ولكن قواعدها تستقبل قبلة سواها. لقد ذهبت مجانبة المؤتمر الوطني بعيداً بقيادة المؤتمر الشعبي حتي أوسعت الشقة وأبعدت النجعة بعيداً عن قواعدها الحائرة  بل وعن الشعب السوداني ومصالح الشعب السوداني. فما دخل استحقاقات الشعب السودانى بخصومات المؤتمرين ؟وكيف يمكن أن تغدو دولاً غربية عديدة اكثر تفهماً لحقوق الشعب السوداني في مقابل ما بذل في استخراج البترول في دولة جنوب السودان  . وما يبذله من إصوله وأملاكه وينفقه من عرق ودماء أبنائه .  ثم يأتينا ناصح المؤتمر الشعبي بان نتنازل عن ذلك كلُه  لصالح حكومة جنوب السودان التى لا يعنيها أن يجوع شعبها أو أن يشقى . وهو الشعب المغلوب على أمره الذي ليس له مورد يعتاش منه الا عائدات النفط . ولماذا يأبه هؤلاء بتوقف الضخ ما دامت أموالُهم في بنوك بريطانيا والمانيا واستراليا وكينيا و يأتيهم رفدها بغير توقف. ما الذي يعني قادة وفودهم المفاوضة من شقاء الأسر ومعاناة الأطفال . وأما أسرهم فناعمة البال في نيروبي ونيويورك ولندن وسيدنى. ولكن الذي لم يفهمه قادة الجنوب الجدد أن الربيع الذي يهددون به الخرطوم باعلانات وتصريحات ما يُسمي بالجبهة الثورية أو سواها هذا الربيع الثوري هو أدني إليهم من شراك نعلهم . وهو ليس بالضرورة عربى بالجنسية أو التجنس ولا سودانى بالمعتاد أو الميعاد . ولن تأتيهم غائلته من حيث يحتسبون ويتحسبون بل قد تأتيهم بغتة فتبهتهم من حيث لا يتوقعون .  فقديماً قالت الحكماء من مأمنه يؤتى الحذر.
ليس بالنفط وحده:
وأما السودان فسيبطل باذن الله أحلام اليقظه وأحلام  المنام لمن يناصبونه العداء أكانوا أبناءً خصماء أو أعداءً تلفاء . ولن تكون نهضته بالنفط وحده وان كان موعوداً بالزيادة من بعد الزيادة في إنتاجه النفطي. وليتذكر من يستطيع التذكر أن اتفاقية السلام جرى توقيعُها  ومجمل انتاج النفط في السودان شمالاً وجنوباً ثلاثمائة ألف برميل وسعر البرميل آنذاك ثلاثين دولاراً مع خصم تكلفة الاستثمار التى كانت لا تزال تختصم ونسبتها 40% و 20% للشركات و 40% لحكومة السودان . فحال السودان اليوم وعائده من نفطه أفضل من حاله في العام 2005م وعائده من نفطه اكثر من ذلك العائد. وقد أفاء الله علينا فيئاً بغير جهد كبير من الذهب الذي صار عائده يتضاعف عاماً بعد آخر . ثم أننا سنشد المئزر لمضاعفة انتاجنا من كل سلعة ضرورية لاستهلاكنا . ونحن نتقدم في ذلك المضمار كل يوم بسرعة أفضل من سابقه في انتاج السكر وانتاج القمح وانتاج القطن وانتاج زهرة الشمس . ونجتهد أن نضاعف مساحة الأرض المزروعة . وأن نُضاعف الغلة المنتجة والله عوننا ووكيلنا في كل ذلك. وأما أخوتنا الالداء في المؤتمر الشعبي فشأننا وأياهم أن نقول لهم كما قال علي كرم الله وجهه لطلحة بن عبيد الله بعد موقعة الجمل أني لأرجو ان نكون بعد هذا أخوة فى الجنة علي سرر متقابلين. وأولئكم جميعهم ممن شهدوا يوم الفرقان فى بدر . ما أدراك إن الله قد أطلع علي أهل بدر فقال لهم أفعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . فهل ثمة رجاء يُرتجى أو أمل يُرتقب. الله الولى وهو حسيبنا ونعم الوكيل 

أنتهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي،،،

أفكار حول التعليم الجيد (4)


تحدثنا في مقالات سابقة عن أهمية إصلاح الثلاثية التعليمية لإصلاح العملية التعليمية بأثرها . والثلاثية التعليمية التي عنيناها هي ثلاثية (المعلمين، المنهج، المتعلمين). وهي مثلث متساوي الأضلاع يتوجب أن يتنبه لأضلاعه الثلاثة بذات المستوي من التركيز. فتعزيز رغبة المتعلم Learner وقدرته الذاتية علي التعلم يتوجب أن تحظي بانتباه عظيم . ذلك أن العملية التعليمية Education لن تبلغ مقصداً ما تعزز رغبة المتعلم ولهفته في تلقي العلوم والمعلومات وفهمها وهضمها والاستمتاع بذلك، كما يتوجب في ذات تعزيز قدرة المعلم علي التعليم ونقل مهارات التعليم ومناهجه المثلي إليه، وفي المقال الماضي تحدثنا عن المنهج وأهميته طريقة ومحتوي، والمنهج هو الضلع الثاني المهم في العملية التعليمية . ويجب أن تبذل الجهود الجمة  لتحسين طرائقه وتجويد مادته وتعزيزها عبر الوسائل الإيضاحية التي أصبحت متاحة الآن بسبب الشبكة الدولية وتطور تقانة الصورة والتجسيم والعرض الافتراضي.
تعليم المعلم:
والضلع الثالث والمهم هي المعلم . ولئن كنا نتحدث عن عملية تعليمية مستدامة من المهد إلي اللحد فلابد من بذل الجهود الحثيثة لتطوير رغبة المعلم في التعليم Education . وقدرته علي اكتساب مهاراته المتطورة وقدرته علي تعليم تلك القدرات والمهارات للمتعلمين . وإلهامهم حب العلم والبحث والاستكشاف . وفاقد الشئ لا يرجى أن يعطيه ولذلك فلابد لمناهج تأهيل وتدريب المعلمين أن تتحول إلي مناهج تعليم مستمر للمعلمين .تواكب استمرار العملية التعليمية وتتطور بتطورها . ولعل الوسيلة الأنجع والأقل كلفة في وقتنا هذا هي وسيلة (التعليم عبر المسافة) أو التدريب عبر الشبكة الدولية. وذلك من خلال تحويل المدارس مساءً إلي مراكز تدريب للمعلمين في أوقات معلومة . ووصلها بشبكة تعليمية تُعرض موادها من خلال شاشات عرض بالمدارس أو بمراكز تدريبية تعد لذلك الغرض. وتجربة التعليم أو التدريب عن بعد أصبحت تجربة راسخة الآن . وصار لها رصيد ضخم من الموارد العلمية والخبرات المتراكمة . ويتوجب علي المخططين في بلادنا جعل (التدريب عن بعد) أساسا لتدريب وتأهيل المعلمين بالسودان . وذلك لفوائدها العظيمة المتمثلة في قلة التكلفة . وإمكانية تعميم جهود أفضل الخبراء عبر الوسائل التفاعلية . كما أن التأهيل عبر المسافة للمعلمين يتيح فرصة الاستعانة بالموارد التعليمية الهائلة المتراكمة . لأن لدي دول سابقة لنا في هذا المضمار تجارب عظيمة الفائدة يمكن أن تتاح لنا . والتعليم للمعلمين عبر المسافة يتيح للمخططين بناء علاقات مع معاهد ومراكز دولية لترفيع مستوي الأداء التعليمي الفني في السودان إلي مصاف أفضل التجارب المعروفة في العالم . ويمكن أن نبدأ العمل من خلال مرحلة تجريبية تنشأ فيها مراكز التلقي بالولايات . ويجري وصلها بالمركز الرئيس ويجري وصل المركز الوطني الرئيس بمراكز  وطنية أو دولية لتقديم خدمة التدريب عن بعد سواء من داخل السودان أو من خارجه بالاستعانة بالموارد الخارجية (Outsourcing)  . وأمر التدريب عبر المسافة لا يتوجب أن ينتهي عند استكمال الدورات الحتمية أو الإعدادية . وإنما هو منهج مستمر لإسناد العملية التعليمية. وهذا يعني تطويره من حيث المادة والوسائط لمؤتمر تعليمى مستدام يجري عبره تبادل الأفكار والخبرات والمعلومات بين المعلمين . ويشتمل علي روابط دائمة لمعلمي اللغة العربية أو الكيمياء علي وجه المثال . وقد تبرز فيه روابط لمدونات معلمين أو خبراء تعليميين ليكون الولوج إليها ميسراً لجميع المعلمين.  مما يعين علي تزويدهم بالمعلومات ومدهم بالخبرات التعليمية النوعية . ومن ناحية أخري ينبغي أن تشتمل الشبكة التعليمية علي قاعدة بيانات هائلة من الصور والوثائقيات والتجارب المختبرية الافتراضية . وأن تملك تلك الموارد التعليمية للمعلمين للاستعانة بها في فهم وتوصيل العلوم واللغات والمعلومات للطلاب. ولعله من حسن الطالع أن الهاتف السيار يتحرك بسرعة فائقة ليكون هاتفاً ذكياً . مشتملاً علي الشبكة العنكبوتية وله إمكانات تفاعلية متطورة . مما سيجعل من الهاتف السيار في وقت وجيز وسيلة مهمة للغاية للاتصال العلمى والتعليمي بعد أن أصبح وسيلة لا يُستغني عنها في الاتصال الاجتماعي . وبات وسيطاً مهماً في التعامل الاقتصادي عبر توسع عمليات الدفع والتسوق والتعامل البنكي والتأمين عبر الهاتف السيار. ولذلك فلابد من إعداد الدراسات لتعظيم الفائدة من الهاتف السيار في تطوير العملية التعليمية في السودان  . وبخاصة وان انتشار هذه الوسيلة كاد يكون مكافئاً لعدد المواطنين الناضجين في السودان. ولاشك أن توظيف الشبكة العنكبوتية وتوظيف الهاتف السيار في العملية التعليمية سيكون لهما آثار هائلة في تقليل تكلفة التعليم وفي تحقيق تكامل العملية التعليمية وترسيخ إبعادها القومية والثقافية.
الإرشاد المنزلى:
ولئن كنا قد تحدثنا عن فائدة التوجيه والتعليم  عبر المسافة للمعلمين بالمدارس فان ذات الوسيلة يتوجب استخدامها لتوجيه التعليم بالمنزل . بتوجيه الوالدين ومن تجرى الاستعانة بهم في الدراسة المدرسية عبر شبكة خاصة للإباء والأمهات والمعلمين الخصوصيين . للإرشاد التربوي ولإمدادهم أيضا بالمواد التوضيحية التي توفر للمعلمين بالمدارس .  لتسهيل الشرح والتوضيح والتبيين والتمثيل. كما يمكن أن تستخدم ذات الشبكة في وصل العلاقة بين المنزل والمدرسة . لمتابعة أداء التلميذ والطالب في المنزل وفي المدرسة. والتأكد من مواظبته ومن ترقيه العلمي المتواصل. وفي هذا الصدد فانه يمكن تطوير فكرة مجالس الإباء ومجالس الأمهات بإسنادها عبر الوسائط الاتصالية التي تشمل الشبكة العنكبوتية والهاتف السيار. ولابد من إعطاء أهمية خاصة لدور الأمهات في العملية التعليمية . فالأم أصبحت شريكاً مهماً للمدرسة لا يمكن الاستغناء عنه . مما يعني بذل جهود مضاعفة لتطوير القدرة الوالدية والتربوية لدي الأمهات السودانيات , يشمل ذلك بالضرورة حملات لمحو أمية الأميات منهن وتطوير قدرات الأخريات عبر الإرشاد والتوجيه المستمر عبر الشبكة التعليمية.
التعليم والحلول الاستثنائية:
أن تحدي تطوير التعليم تحدى عظيم بل هو اكبر التحديات التي تواجه بلادنا. لان التغيير والتحول نحو الأفضل والتنمية المستدامة والترقي الاجتماعي والحضاري لن يتحقق إلا عبر تعميم التعليم وتجويده. ولن يتحقق ذلك عبر اعتماد الحلول العادية . فلابد من حلول استثنائية ومن تبنى منهج التجديد الشامل للعملية التعليمية التربوية . لأن المعالجات الجزئية لن تجدي فتيلاً. ولذلك يتوجب علي المتداولين في مؤتمر التعليم إذا أرادوه تعليماً لصناعة المستقبل أن يبتكروا حلولاً تستلهم المستقبل في رؤاه ومقاصده ووسائله . فعندئذ سيطلع فجر جديد علي بلادنا واعد بالخير والنماء والتحضر والتقدم والتطور المستدام.

أنتهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي،،،






التكفير – آفة الزمان (4)


تحدثنا في مقال سابق عن حرمة تكفير الأشخاص باعيانهم إلا وفق ضوابط فقهية وقانونية محددة. وأوضحنا الأخطار والمآلات الوخيمة التي يمكن أن تؤدي إليها فوضى التكفير للأشخاص بغير ضوابط من الفقه والقانون . وإحتمال أن يؤدي ذلك إلى فوضى فكرية وإجتماعية هائلة. لئن كان البعض يكفَر المسلم بالذنب الكبير كما تفعل الخوارج فان غالب الأمة المسلمة ستكون خارج حدود الملة الإسلامية . وأطرف ما قالت الخوارج في هذا الباب إن كان في باب التكفير طرافة هو ما أورده  الأمام أبن حزم أن أبابكر أبن أخت عبدالواحد أبن زيد أنه قال في طلحة والزبير رضي الله عنهما أنهما (كافران) من أهل الجنة . لأنهما من أهل بدر ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال لأهل بدر أعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ، قال فأهل بدر إن كفروا فمغفور لهم!! ويزداد مأزق الخوارج الفكري ضيقاً إذا علمت أنهم يرون أن كل من دخل النار فهو مخلد فيها . ومن دخل الجنة فهو مخلدً فيها ولا يقولون بمنزلة بين المنزلتين كما تقول المعتزلة. وأما الحوارج فهم يؤمنون بأن المسلمين جميعاً في الجنة وأن الكافرين جميعاً في النار وكلُ مخلدُ فيها. أما في الجنة وأما في النار
تكفير صاحب الكبيرة
        والخوارج يكفرون صاحب الكبيرة لادعائهم بأن الكبيرة تزيل أسم الايمان . فلا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن كما ورد في الحديث الشريف ولكنهم لم يدركوا أن الايمان يزيد وينقص وهو يتناهى لحظة اجتراج الأثم العظيم والكبيرة من الذنب حتى لا يكاد يبقى منه شيء . فاذا تذكر العاصي وخامره الندم عاد إليه من الايمان بقدر ما اعتراه من الندم . فاذا عمل صالحاً أياً كان ذلك العمل الصالح ربا الإيمان وزاد . ونقرأ في الكتاب العزيز (إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فاولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً) . وعارض رأي الخوارج باسقاط الايمان بإجتراح الكبيرة فئام من العلماء احتجوا عليهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة وإن سرق وإن شرب الخمر على رغم أنف أبي ذر). كما احتجوا عليهم بقول الله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ) وهو الكفر الصراح (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) . وبعموم قوله تعالى (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) . وقال هؤلاء ان هذه الآيات تخرج سائر الطوائف المسلمة من الكفر والتخليد في النار . وتجعلهم إلى حكم الله أن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم. يقول الأمام أبن حزم : قد قال الله تعالى (لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى) وكلامه تعالى لا يختلف ولا يتناقض وقد صح أن القاتل ليس كافراً وان الزاني ليس كافراً وأن أصحاب تلك الذنوب المتوعد عليها ليسوا كفاراً بما ذكرنا من قبل من أنهم مباح لهم نكاح المسلمات وأنهم مأمورون بالصلوات وان زكاة أموالهم مقبوضة وأنهم لا يقتلون وأن عُفي عن القاتل فقتله مسلم فأنه يقتل به وأنه يرث ويُورث وتُؤكل ذبيحته فإذ ليس بكافر فيقيناً ندري ان مقامه إنما هو مقام مدة ما وأن الصلى  الذي نفاه الله تعالى عن كل من لم يكذب ولم يتولى إنما هو صلى الخلود).
        ذكرنا ذلك وأفضنا في شرحه لأنه نشأ في زماننا هذا طوائف تُكثر من التكفير بدعوى إصرار بعض المسلمين على اجتراح كبائر الذنوب واستخفافهم بعضهم بهذا وتجرؤ بعضهم على الإذاعة بالبدع . والبدعة التي هي مخالفة الأمر الألهي أو أمر الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هي معصية قد تكون من الكبائر وقد لا تكون سبباً للتكفير إلا إذا أنكر أصحابها المعلوم من الدين بالضرورة أو عارضوا صريح نص القرآن أو صحيح وصريح حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم أصروا على ذلك وعاندوا على الرغم من مراجعتهم بالأدلة الواضحة والبراهين الساطعة .  فحينئذ يجوز أعلان كفرهم بواسطة جهة حُكمية مفوضة من صاحب الشوكة أو من محكمة موكلة باعلان الحكم وإنفاذ ما يترتب عليه من إحكام فرعية أخرى.

تكفير الفرق والطوائف
        وأكثر ما فشأ من أمر التكفير في زماننا هذا تكفير الفرق والطوائف . فجماعة من المتشددة تكفر أهل التصوف جملة واحدة . بإدعاء اجتراح هؤلاء لكبائر المعاصي باتخاذ قبور أوليائهم مساجد . وبتعظيم هؤلاء الأولياء إلى درجة الشرك كما يزعمون . وبتوسلهم بهؤلاء الأولياء وغير ذلك من الدعاوي التي يُخرجون بها كل أهل التصوف أو جلهم من حظيرة الملة الإسلامية، وطائفة أخرى تكفر جملة الشيعة على الرغم من شهادتهم بان لا إله إلا الله وصلاتهم صلاة المسلمين وأكلهم ذبيحة المسلمين . ولكنهم يكفرون الشيعة بأقوال مبثوثة في كتب التشيع يأولها هؤلاء بأنها كفرُ . منها ما يعتبرونه استهزاء بالصحابة أو تعظيم لأهل البيت يُدخل أصحابه في الشرك بزعمهم . وما إلى ذلك مما هو مبثوث في الكتب التي تدعى ان الشيعة قد خرجوا من الملة . ويذهب المتشددة من هؤلاء إلى إستباحة قتلهم كما نسمع وما نرى مما يحدث في العراق وباكستان وغير تلكم من الاقطار الإسلامية . وجماعة أخرى تكفر جماعات أخرى من المسلمين لأسباب تشبه هذه الأسباب . وقد فشأ هذا الأمر وعُظمت البلوى منه. وقد أعتمد العوام  من أولى النذر القليل من العلم من هؤلاء على معانٍ عامة وردت في الكتاب أو في السنة لم يفقهوها حق الفقه، ولم يعلموها حق العلم. ومن ذلك حديث الثنتين وسبعين فرقة . فاعتقدوها فرقاً تسمى باسمائها وما فقهوا إن الحديث إنما يتحدث عن أوجه لسبل الضلال الفكري الذي يمكن أن تضل إليه جماعات مسلمة . فالأمر إنما يُعرف بالصفة لا بالأسم . ولذلك فإن الإدعاء بان الفرقة المعينة هي واحدة من الثنتين وسبعين فرقة وأنها على ضلالة وأنها في النار إدعاء لاينتهض على فهم صحيح سليم ولا حجة بالغة وبرهان مبين . ولسنا هنا بصدد الدفاع عن فرق بعينها سواء كانت من المتصوفة أو الشيعة أو غيرها من المذاهب والطوائف . ولكننا بصدد تقرير مسألة عامة  . فإذا كان وصف الجماعة بالضلال لا يجوز تعييناً وإنما يقال إن الجهة التى تقول كذا وكذا بشرط كذا وكذا فان هذا القول يمكن أن يدخل قائله في الكفر ما لم يكن متأولاً أو جاهلاً بما يقول.  فإن الكفر مسألة إيمان وعدم إيمان . فان قال المرء قولاً لا يعتقد أنه يخرجه من دائرة الإيمان فإنه لا يخرج بذلك القول من دائرة الإيمان . لأنه انما الأعمال بالنيات . يقول الأمام أبن عبد البر المالكي (لا يجوز تكفير ولا تفسيق إلا ببيان لا أشكال فيه ) وروي عن أبي سفيان قال : ( قلت لجابر رضي الله عنه أكنتم تقولون لأحد من أهل القبيلة كافر؟ قال لا ، قلت فمشرك قال : لا معاذ الله وفزع ) ولا شك أن المتصوفة الذين يكفرهم المكفرون المتشددون  هم غالب أهل القبلة وفيهم أقوام من أفاضل أهل القبلة . والشيعة مهما غلا الغلاة منهم فلا أحد ينكر أنهم من أهل القبلة . وهم بذلك معصومة دماؤهم وأعراضهم . ولا يجوز تفسيقهم وتكفيرهم على الهوية أو على المذهب . وأما قتلهم على الهوية وعلى المذهب فجرم عظيم . وهو قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق . وهو قتل المؤمن الذي يقع فاعله في وعيد الله العظيم . والقاعدة العظمى في الإسلام في الدماء والاعراض براءة الذمة . والتكفير أثم عظيم واعتداء كبير إن لم يجر إلى القتل فإن أدى التعادي والتدابر والتقاتل فهي الفتنة التي هي أشد من القتل. ومما يُؤسف ويُحزن أننا نرى الفتن الناجمة عن التكفير تكثُر وتتعاظم وعقلاء القوم ساكتون غافلون فلا حول ولا قوة إلا بالله وهو المنجى من الفتن العظام والهادي إلى سواء السبيل.
أنتهى،،،

الاثنين، 13 فبراير 2012

التكفير – آفة الزمان (3)


تحدثنا في المقال السابق عن عدم جواز تكفيرالمتأول. وذكرنا خبر الخوارج في تكفيرهم للأمام على كرم الله وجهه وأصحابه وطائفة من الصحابة الأخيار واستحلالهم من ثم دماء المسلمين الذين حكموا عليهم بالكفر لمفارقتهم بزعمهم لمبدأ الحاكمية وتحكيمهم للرجال بدلاً عن التحاكم لله.
 الحاكمية والكفر:
        وأصحاب التكفير في زماننا يستخدمون منطقاً يشبه منطق الخوارج في تكفيرهم للحاكم وللأحزاب والجماعات السياسية بحجة الحكم بغير ما أنزل الله أو بحجة (الأذن بالمنكرات والسكوت عليها  أو بحجة موالاة الكافرين وعدم التبرؤ  منهم) وقد رددنا على الحجة الأولى بالقول أن الذي يعطل الحكم دون أنكاره لا يُكفر وأنما يعتبر من العصاة أهل الوعيد . فحاله مثل حال من علم الحكم الشرعي ثم لم يستقم عليه فهو فاسق أي خارج عن الطاعة . والفسوق هو خروج حصاة الثمرة عن قشرتها، وهو كناية عن خروج المرء عن الأمتثال للحكم الشرعي . ولكن عدم الأمتثال للحكم الشرعي دون الانكار له لا يخرج الفاسق من الملة. وقد علمت الكافة من الناس أنه على الرغم من تعطيل أحكام كثيرة من شرع الله في مختلف العصور وأعلان أصحاب الفجور والفسوق عن فجورهم وعصيانهم فان الجمهور منع علماء المسلمين لم يكفروا هؤلاء المشتهر أمر فسوقهم بين الناس. ولا يعني ذلك عدم أنكار العلماء للفسوق والفجور وتسويغهم للمجاهرة بالمعاصي بل قد عُرف عن هؤلاء تصديهم القوي لحكام السوء وأصحاب البدع . وللامام مالك والامام أحمد مواقف شهيرة في التصدي لأصحاب الفسوق والبدع . وموقف الامام أحمد في فتنة خلق القرآن موقف مشهود . ولكنما لم يؤثر عن الامام أحمد أنه قد كفرّ المامون أو المتوكل ببدعة خلق القرآن رغم تعذيبهما وفتنتهما له. وقد وقف كبار الأئمة ومنهم الامام أحمد والامام أبن تيمية ذلك الموقف . لأنهم عذروا أصحاب البدعة بكونهم متأولين يعتقدون صدق اجتهادهم . وعلموا أنه إذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات فمن باب أولى أن تدرأ كلمة الكفر عن المسلمين بشبهة كونهم متأولين لا منكرين. والمتأمل في كتاب الله العزيز يجد أنه سبحانه وتعالى وصف أصناف من العصاة والفساق أوصافاً شنيعة ولكنه لم يصفهم بالكفر على الرغم من ذلك.  ففي قوله تعالى : (أن الذي يحبون ان تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم) وهل ثمة أشنع  من محبة هؤلاء الفساق أشاعة الفاحشة في الذين آمنوا بل وتجرؤهم بالتهمة على أم المؤمنين . ولكن القرآن على الرغم من شناعة عملهم لم يصفهم بالكفر . وأجرى على من ثبت عليه الجرم عقوبة الحد التي هي واحدة من مكفرات الذنوب لمن يتوب، وقد وردت في السنة أخبار تحدث عن لعن الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة ولعن شارب الخمر وحاملها والمحمولة إليه . ورغم شناعة اللعن فأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكفّر هؤلاء . ولم يقل أحد من العلماء قط أن الوشم أو شرب الخمر مخرج لصاحبه من الملة . فصاحب الكبيرة عند أهل السنة والجماعة يدخل في أهل الوعيد الذين يرجون لأمر الله يوم القيامة . أن شاء غفر لهم وأن شاء عذبهم وهم يقرأون في الكتاب (أن الله يغفر الذنوب جميعاً) إلا أن يشُرك به.
تكفير المُعين أحكامه وضوابطه:
        ونقصد بالمُعين الفرد المحدد بشخصه أو بوصفه . فلا يجوز لأحد غير السلطان أو القاضي أن يصم أو يصف معيناً بالكفر . لأن الوصف بالكفر قد يصبح مهدداً لحياة ذلك الفرد فهو أشبه بالتحريض على القتل. ولذلك يتوجب أن يُسن من التشريع ما يمنع تكفير المُعين إلا وفق إجراءات وضوابط محددة موصوفة بالقانون . وأول تلك الإجراءات أن لا يجوز لغير المحكمة إصدار حكم بتكفير شخص بعينه . وذلك بعد تحريك الإجراءات إما بواسطة جهة رسمية ممثلة للدولة (ممثلة للحق العام) أو جهة متضررة (ممثلة للحق الخاص) كأن تتقدم الزوجة بدعوة التكفير ثم التطليق بدعوى الكفر.
        فإذا رفعت دعوى التكفير من نيابة عامة أو جهة خاصة متضررة فعندئذ لا يجوز للمحكمة أن تقضي في الأمر دون سماع وتبين . وتعنى بالسماع والتبين أحضار المدعي عليه أمام المحكمة للسماع منه مباشرة دون واسطة . والتحقق من قوله إذا كان مسوغ الدعوى قولاً . والتحقق من فعله المفضي للكفر إذا كان مسوغ الدعوى فعلاً . وذلك للنظر فى الاحتمالات فلعل قال القول متأولاً . فمن المقطوع به عند العلماء أن الأمور المختلف عليها لا تعتبر مسوغاً للتكفير . فإذا كانت دعوى التكفير قائمة على مسألة فيها خلاف كأن يقول مثلاً بأن القرآن مخلوق فلا يقضي بكفره . لأنها مسألة أختلف عليها المسلمون وأن كان القائلون بذلك يعدون عند جمهور علماء المسلمين من المبتدعة . ولكن الجمهور وعلى رأسهم كبار الأئمة من أمثال أحمد والشافعي وغيرهم لم يكفروهم بل عدوهم من أصحاب البدع. وقد يكون القائل قال بالقول الذي يُعد مسوغاً للدعوى لجهله فاستماع المحكمة له وتحققها من ذلك يُعد صارفاً لحكم التكفير . فالاستبانة والتحقق من ذلك ثم البيان والتوضيح له وقبوله للبيان والتوضيح يدفع حكم التكفير عنه . وإذا كان المتهم بالقول المكفر مدعياً للعلم مع جهله فان المحكمة توضح له حكم ما أختلف فيه إلا ان يعاند ويصر على التمسك بقول لا تجد المحكمة فيه وجهاً للتأويل . فأنها عندئذ تحكم بكفره كأن ينكر المتهم مثلاً إلزامية الحديث الصحيح الصريح أنكاراً لحاكمية السنة وأدعاءً بأن القرآن وحده هو الملزم. ذلك أن الأمر ههنا ينصرف من كونه مسألة حكمية عملية إلى كونه مسألة عقديه أيمانية . وقضايا التكفير إنما هي قضايا كفر وايمان إي أنها مسأئل متعلقة بالعقائد لا متعلقة بالأعمال . فالعمل وحده إن لم يكشف عن اعتقاد كفراني فلا يعتبر مكفراً لفاعله ولو كان من الكبائر . ومثال ذلك تهكم ممثل أو استخفافه بأمر ديني . فإن كان ذلك التهكم من باب العبث والهزوء فهو فسق يؤدب فاعله . وأن كان من باب الجحود والإنكار فهو يدخل في باب الكفر. وأما القول فهو ما كان كفراً صريحاً غير قابل للتأويل فهو بذلك القول يُعد كافراً .  ويطلب إليه التوبة ويمهل ثلاثة أيام على قول وفترات أطول على أقوال أخرى . وأثناء فترة الاستتابة تمنع زوجه من الإتصال به وترفع ولايته على أبنائه حتى يتوب.ولأن هذه الأمور أمور حكمية سطانية فلا يجوز أن يكون الآمر بهذا من أهل الفتوى أو مجرد عالم وأنما  يجب أن يكون قاضيأُ مفوضأً أو مخولأُ بالدستور أو القانون أو السلطة الرسمية بالحكم في القضية والأشراف على تنفيذ الحكم القضائي.

نواصل،،،

الثلاثاء، 7 فبراير 2012

أفكار حول التعليم الجيد (3)


المنهج (curriculum) هو واسطة العقد بين المعلم والمتعلم .  وهو الطريقة والوسيط والمحتوي .  والمنهج الجيد هو الطريق إلي الثمرة الجيدة للتعليم. وهي الثمرة التي تحفز المتعلم لتجويد قدراته في التعلم(Learning) حتى النفس الأخير من الحياة . فالمنهج الجيد هي الذي يهيئ المتعلم للحياة الطيبة المتحضرة المترقية . فلا يزال في ترق وصعود ما دامت أنفاسه في صعود. وقد ارتبطت مفردة منهج بالتعليم النظامي ولكن لابد لكل عملية تربوية من منهاج . لأنه هو الطريق الذي يسلكه المتدرج عبر العلوم والتجارب ليصبح فرداً ناضجاً مترقياً في حياته ومجتمعه. ولأن هدف المنهج هو الإعداد للحياة المتطورة فإن أي منهج لا يمكن أن يكون جيداً ما لم يأخذ في الاعتبار ما يتعرض له الدارس خارج الفصول . وخارج المدرسة وفي الأسرة والمجتمع الواسع العريض.
التعليم والمواطنة الصالحة:
ولأن مطلوب التعليم الأساس هو إعداد المواطنة الصالحة فأن المنهج ينبغي أن يبرز ملامح ومعالم تلك المواطنة  الصالحة . كما تتمظهر في ثقافة المجتمع وتقاليده وفي دستور الدولة ونظمها واختياراتها الديمقراطية . وفي تطلعات الأسرة وطموحات الفرد واستعداداته وملكاته، ليس ذلك فحسب بل لابد من التوافق مع القيمٌ الإنسانية الراسخة . ذلك أن الإنسان لم يعد في زماننا هذا محصوراً في مجتمعة ولا في دولته بل  هنالك تفاعل كبير وعريض مع العالم . ولابد من إعداد الفرد ليكون متوافقاً مع القيم الإنسانية التي استقرت عليها الأعراف الإنسانية الفاضلة. وأفضل أنواع المناهج هو الذي يعمل علي تأسيس علاقة صحية بين الفرد والمجتمع المحلي و العالمي من خلال تطوير معلوماته وخبراته إثناء التماس والتعامل والتفاعل مع المجتمع . والكلمة السحرية المستخدمة الآن هي (الارتباط المتفاعل)  Active engagement  . وعلي الرغم من أن قياس نتائج هذه العملية التعليمية قد أصبح أكثر تعقيداً فقد ابتكرت النظريات والوسائل الحديثة أساليب متعددة للقياس الدقيق لمخرجات (التعليم التفاعلي). ولا شك أن أهم ما يجب انجازه من تحولات ذات معني في المنهج التعليمي المتبع في السودان هو تطوير تفاعلية العملية التعليمية. فالتلقي للتلقين الذي يسم العملية في السودان يوشك أن يسف بها دون المعايير المرضية لجودة التعليم. والاهتمام الكبير الذي صار يُولي لمفردة الإجلاس مهما كان الجلوس مهماً للأطفال في المدارس فأنه يوحي بجمود العملية التعليمية وقعودها . ولن يكون القاعد كالقائم أبدا في يوم من الأيام. والاتجاه التربوي الآن في العالم إلغاء فكرة الفصول والصفوف . وجعلها أشبه بالقاعات والمختبرات وصالات المشاهدة والاستماع. فليس هنالك فصل محدد لمجموعة سنية بعينها . وإنما تستخدم المجموعة القاعة المناسبة أو المختبر المناسب حسب حاجة تلك المجموعة للوسائل والوسائط المتوفرة في تلك القاعة أو المختبر. وأصبحت الدراسة خارج سور المدرسة وتلقي المعلومات مباشرة في المعامل والمصانع والمتاحف ومناقشة خبرات العاملين مباشرة مع الطلاب واحدة من الوسائل التعليمية التي شهدت توسعاً كبيراً في السنوات الأخيرة. والتفاعلية هى أهم طرائق تحمل العلم فى التراث الاسلامى ولا تزال مصطلحات التعليم الاسلامى رائجة فى لغة التعليم رغم تحريف معانيها . فمصطلح المحاضرة لا يعنى القاء الدرس املاء كما يحدث الآن ولكن يعنى أن يملى المعلم فيناقشه الطالب الذى لا يأتى للدرس بلا حصيلة . وهناك أسلوب الاجازة وهى أن يقدم الطالب حصيلته العلميه فيصححه المعلم أو يجيزه . وهناك المناظرة حيث يقدم نظيران من الطلاب حصيلتهما ثم يناقش كل واحد منهما الآخر والمعلم محكم بينهما . وهناك المذاكرة حيث يدرس الطلاب قبل الحصة ثم يعرضون معارفهم على بعضهم البعض تحت اشراف المعلم  . وهكذا نرى أن التلقين الشائع الآن ليس مرده الى تراثنا التعليمى بل هو أرث من زمن الانحدار الفكرى والثقافى والتعليمى . وقد شهدت المناهج التعليمية في السودان سابقاً تجارب محدودة في هذا الإطار التفاعلى وبخاصة في دروس الجغرافيا والتاريخ والهندسة ولكن هذه سرعان ما انكمشت لصالح التلقي المباشر داخل الصفوف.
المنهج الموسوعي والمنهج التخصصي:
ومسألة أخري غير مسألة التفاعلية في المنهج تبرز في اختلاف فلسفتين للتعليم . ترى أحداهما أهمية بناء قاعدة علمية واسعة من المعرفة العامة . وجعل ذلك هو الأساس لأي تطور متخصص في السنوات المتقدمة من العملية التعليمية. بينما تري مدرسة أخري أهمية مراعاة استعدادات الطفل منذ السنوات الأولي وتهيئته عبر اختيارات متخصصة تناسب ميوله واستعداداته ومواهبه . ولا شك أن هنالك دائماً الطريق الثالث الذي يمزج بين الاتجاهين . ولكنه في كل الأحوال لابد له من إعطاء الأولوية  أما للبناء العلمي الموسوعي أو التطوير التخصصي.
بيد أن العملية التعليمية اياً  ما كانت فلسفتها ينبغي أن تفرد أولوية قصوى لتعليم اللغات . لأنها هي الوسيلة الأساس لتطوير ليس ملكة التعبير فحسب بل ملكة التفكير أيضا. وقد اتضح أنه مهما كانت الحاجة لتعلم تخصصات دقيقة  لتطوير القدرات الفعلية بصورة تهيئ للترقي في تلك التخصصات فانه لا يُستغني عن بلوغ درجة عالية من تعلم اللغات وإجادة الحساب الذهني. فتعلم اللغات هى ترقية إمكانية البيان articulation  لدي الطالب . ودون قدرات بيانية لن يتمكن أي طالب من احراز تطور بارز في أي مجال آخر. كذلك فان الرياضيات تبقى من أهم المواد الدراسية . وتعلمها مثل الرياضة  لملكات الذهن . ولم يفارق الحق من أعطي لرياضة الجسم ورياضة الذهن مفردة واحدة مع اختلاف الوسائل. فالقدرات الرياضية والتحليلية جوهرية لأية عملية تعليمية . ولذلك فانه مهما كان اتجاه المخططين لتعزيز فكرة التخصص لتوظيف التعليم لمتطلبات التنمية فلابد أن ينهض ذلك علي قاعدة متينة من تطوير الملكات اللغوية والرياضية والتحليلية لدي التلاميذ والطلاب . بل وللمجتمع بصورة عامة عبر الوسائل والوسائط العمومية. وربما نحتاج إلي مقاربة مسألة  التخصص والتخصيص من ناحية أخري وهي مسألة قومية المنهج وجهويته . فلابد من منهج قومي يمثل الأساس للتربية القومية ويشكل واحدة من أهم وشائج الوحدة الوطنية . ولترسيخ القيم الاجتماعية والسياسية ولكن بالمقابل لابد من مراعاة الخصوصية الجهويه من خلال مرونة في المنهج تسمح للولايات أو المناطق الثقافية بالتعبير عن قيم مخصوصة أو متطلبات مهمة لتلبية حاجة ذلك المجتمع لتعليم متوافق مع الثقافة والمجتمع ومتطلبات الوقت و المحل. فاحتياجات التنمية في ولاية زراعية ربما تؤثر التركيز علي جوانب معينة من الثقافة والتجربة الاجتماعية والمعلومات المتخصصة . بينما احتياجات التنمية في ولاية صناعية أو رعوية قد يكون لها اعتبارات أخري. ولئن كان السودان قد تبنى فلسفة التنمية المستدامة sustainable development   والتي تسعي لتطوير المجتمع بناءً علي معطياته وحاجاته وتطلعاته فلا شك أن مراعاة التنوع مثلما هو عامل مهم في التخطيط الثقافي والسياسي والاقتصادي فهو مهم أيضا في التخطيط التعليمي التربوي.


نواصـــــــــــــــــــــــــــــــل،،،





التكفير – آفة الزمان (2)



تحدثنا في المقال السابق عن التكفير وخطورته وذلك تعليقاً على السجال الدائر بين الرابطة الشرعية وهيئة شؤون الأنصار ، وقد ذكرنا أن التكفير  أمرٌ عظيم خطره لابد من ضبطه بالضوابط الشرعية المحكمة . وتحديد المسئولية فيه والمسئولية عليه وفق القانون . لكي لا تعتدي جماعة على أخرى بتكفيرها بما يجر إلى مآلات خطيرة ولا تفتئت  أية جهة على سلطان المحاكم في تحديد شخص معين بأنه قد خرج من ملة الاسلام . وما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة على المرتد الكافر. وقلنا أنه لا يجوز تكفير مسلم أو جماعة من المسلمين إلا وفق برهان مبين وصفه الأمام الشوكاني بأن يكون أوضح من شمس النهار.
لا  يجوز تكفير المتأول     والمتأول هو الشخص سواء كان عامياً أو عالماً له وجه يدعيه في فهم النص ولو كان ذلك النص صحيحاً صريحاً . فلا يجوز تكفيره قبل التَبين والتبيين . ونقصد بالتبين الاستماع المباشر لصاحب القول سماعاً مباشراً بغير واسطة أو وسيلة . والتحقق من كونه قصد إلى المعنى الذي يحمل دلالة الكفر. وأما التبيين فالشرح والتوضيح لصاحب القول وجه الحق من المسألة حتى تُقام عليه الحُجة البالغة . إلا ان يكون من المعاندين بعد سفور وجه الحق والبرهان . فعندئذ يجوز لهيئة مخولة بالقانون ومفوضة من السلطان أن تعلنه كافراً . فإن فعلت فيتوجب على تلك الجهة الرسمية المخولة بالقانون أن تأمر زوجه بمفارقته . وأن تتخذ من الإجراءات الأخرى المتعلقة بعدم كفاءته لحضانة محضونيه وما إلى ذلك من الأحكام المترتبة على مفارقته للاسلام. وعدم تكفير المتأول هو أجماع أهل السنة والجماعة إستناداً للأحاديث الصحيحة الصريحة في هذا الباب . وقد أشرنا إلى قول الأمام أبن تيمية في ذلك آنفاً. وفي ذلك السياق أستشهد الأمام أبن تيمية بموقف على رضي الله عنه من الخوارج الذين خرجوا عليه وأعلنوه كافراً. وقد كان تكفيرهم للامام علي لأنهم يرون أنه وأصحابه قد نقضوا ركن الحاكمية كما يفهمونها. وذلك لأنه كرم وجهه قد قبل بتحكيم أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص.  وزعم الحكمان من بعد أنهما يحكمان بحكم الله في تنزيله. فعندما رفع أصحاب معاوية المصاحف على أسنة الرماح بدعوى تحكيم القرآن أنقسم أصحاب علي فطائفة قالت : يا علي أجب إلى كتاب الله إذا دعيت إليه وإلا دفعناك برمتك إلى القوم . وقال الأشتر وأصحابه لا نحكم الرجال فيما قضي الله فيه بحكم . وحكم الله هو قتال هؤلاء البغاة. فأختلف الناس أختلافاً عظيماً . و فاء أغلب القوم إلى خيار الإستجابة للتحكيم فوافقهم على كرم الله وجهه وهو يعلم باطناً أنها  مكيدة ، ولكنه أخذ الأمر على ظاهره فخالفه الخوارج وزعموا أنه خرج من حكم الله إلى الحكم الرجال فكفروه بذلك . وخرجوا إلى حروراء بما عدده أثنا عشر ألفاً من الرجال على ما ذكر أبن جرير ، وجعلوا لأنفسهم أميراً للصلاة وأميراً للقتال . و ناحية أخرى قال الشيعة لعلى  كرم الله وحهه نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت . فقالت الخوارج الحرورية استبقتم أنتم وأهل الشام إلى الكفر كفرسى رهان . فأرسل إليهم على كرم الله وجهه أبن عمه عبدالله بن عباس رضي الله عنه فناظرهم . فقال أحذتم على على القبول بالتحكيم وقد قال الله عز وجل (فأبعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها) النساء 34 فذلك بيت واحد فكيف بأمة محمد صلى الله عليه وسلم . قالوا ما جعل الله حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه فهو إليهم . وما حكم فأمضى فليس للعباد أن ينظروا فيه . قال أبن عباس فان الله تعالى يقول (يحكم به ذوا عدلٍ منكم) المائدة 95 قالوا أتجعل الحكم في  الصيد وبين المرأة وزوجها كالحكم في دماء المسلمين . وقالوا أعدلُ عندك عمرو بن العاص وهو بالأمس يقاتلنا؟ فإن كان عدلاً عندك فلسنا بعدول . وقد حكمتم في أمر الله الرجال فقد أمضى الله حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يرجعوا . وقد كتبتم بينكم وبينهم كتاباً وجعلتم بينكم وبينهم الموادعة . وقد قطع الله الموادعة بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت براءة إلا من أقر بالجزية. وجاء على كرم الله وجهه وأبن عباس  عاكفٌ في مجادلته لهم فتكلم رضي الله عنه فقال ما أخرجكم علينا ، قالوا حكومتكم يوم صفين قال : انشدكم الله اتعلمون حين رفعوا المصاحف وملتم بجنبهم قلت لكم أني أعلم بالقوم منكم أنهم ليسوا باصحاب دين؟ وذكرهم مقالته ثم قال وقد أشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن . فان حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالفه . وإن أبيا فنحن من حكمهما براء ، قالوا فخبرنا أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء ؟ قال : إنا لسنا حكمنا الرجال وإنما حكمنا القرآن . وإنما هو خط مسطور بين دفتين وإنما يتكلم به الرجال. ولم يُجد مع الخوارج فقه أبن عباس ولا حكمة على بن أبي طالب ولا صبره الجميل . فخرجوا عليه وكفروه وأستعر أمرهم وبدأوا بسفك الدماء وأخذ أموال المسلمين بعد رأوا أن كل مخالف لهم من المسلمين كافر حلال الدم والمال والعرض . وقتلوا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن خباب . وجدوه سائراً وأمراته قالوا له ما أنت؟ فأخبرهم قالوا : خبرنا بحديث عن أبيك الخباب سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم .  فقال حدثني أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ستكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه يمسى مومناً ويصبح كافراً ويصيح كافراً ويمسى مومناً) قالوا لهذا سألناك . وهم أنما سألوه بحثاً عن حجة لتكفيرهم للمؤمنين . قالوا فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما بخير فقالوا ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي آخرها؟ قال أنه كان محقاً في أولها وآخرها ، قالوا فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده؟ قال أقول أنه أعلم بالله منكم وأشد توقياً على دينه وأنفذ بصيرة .  قالوا أنك تتبع الهوى وتوالى الرجال على أسمائها لا على أفعالها . والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها لأحداً . فاضجعوه فذبحوه  ومضوا الى زوجه فبقروا بطنها وهي حبلى وقتلوها . وحصلت منهم مفسدة عظيمة . فاجتمع الرأي على حربهم فسار على رضى الله عنه إليهم وأمرهم بان يدفعوا إليه الجناة ليقتلهم . فأبوا أن يفعلوا وبدأوه بالقتال فقاتلهم على كرم الله وجه . ولكنه لما سئل عنهم أكفارُ  هم ؟ فأجاب إنما من الكفر فروا . فهو لم يكفرهم رغم تجرؤهم على تكفير المسلمين وأباحة دمائهم . ذلك أنه رأى أنهم متأولون على الرغم من ضعف فقههم وخطل رأيهم. ذلك أنهم رأوا في ما يرونه خطأ في اجتهاد سيدنا عثمان وسيدنا علي كرم الله وجه تركاً متعمداً لحكم القرآن وأتباعاً للهوى . واعتبروا ذلك تحكيماً للرجال وتركاً لحكم الله . ثم أن الخوارج من سؤ فهمهم خلطوا بين الأمور المتعلقة بالأحكام  التكليفية والأمور المتعلقة بالعقائد . وأعتبروا أن كل حكم تكليفى ترجح لديهم فهماً من القرآن شأنه شأن  الأمر العقدي سواء بسواء . ولذلك أعتبروا مسألة الحاكمية واحدة من أصول العقائد . خالفوا بذلك جمهور المسلمين . فأصل التحاكم إلى الله أصل من أصول العقيدة ولكن فروع الأحكام  التكليفية ليست أصلاً من أصول العقيدة . فقد يخطيء العامي أو المجتهد في فهم الحكم وقد يذنب بترك العمل به . والسواد الأعظم من علماء الإسلام لا يرون سؤ الفهم أو المعصية سبباً للتكفير .ففي مسألة الأحكام  التكليفية هنالك فرق بين جحد الحكم والسعي لتغييره وبين تعطيل العمل بالحكم. فمن ترك حكم الله جحوداً له أو إنكاراً لصوابيته فهو الكافر . وأما من أقر بالحكم ولكنه عجز عن العمل به فهو عاصٍ . وحكم العاصى أنه من أهل الوعيد . يرجأ أمره لله سبحانه وتعالى ان شاء عاقبه وأن شاء غفر له ولا يجوز لأحد أن يرميه بالكفر حياً ولا ميتاً.
وفي البخاري )باب ما جاء في المتأولين) عن الزهري : أخبرني محمود بن الربيع قال سمعت عتبان بن مالك يقول : غدا عليّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال رجل : أين مالك بن الدخشن ؟ فقال رجل منا : ذلك منافق لا يحب الله ورسوله، فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : (الا تقولوه : يقول لا إله الا الله يبتغي بذلك وجه الله) قال : بلى، قال : (فإنّه لا يوافي عبد يوم القيامة به، إلا حرّم الله عليه النار). 
وفي البخاري أيضاً : عن ابن ظبيان : سمعت أسامة بن زيد بن حارثة قال : بعثنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الى الحرقة من جهينة، قال فصحبنا القوم فهزمناهم، قال : ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، قال : فلمّا غشّيناه قال : لا إله إلا الله، فكفّ عنه الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته، قال : فلما قدمنا بلغ ذلك النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : فقال لي : (يا أسامة، أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله) ؟ قال : يا رسول الله إنما كان متعوذاً، قال : (أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله). قال : فما زال يكررها عليّ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. . 
وقال الزهري : حدثنا عطاء بن يزيد : أنّ عبيد الله بن عدي حدّثه : أنّ المقداد بن عمرو الكندي، حليف بني زهرة، حدّثه ـ وكان شهد بدرا مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـ أنّه قال : يا رسول الله إن لقيت كافرا فاقتتلنا، فضرب يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ بشجرة وقال : أسلمت لله، أقتله بعد أن قالها ؟ قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : (لا تقتله) قال : يا رسول الله، فإنه طرح احدى يدي ثم قال ذلك بعدما قطعها، أقتله ؟ قال : (لا تقتله فإن قتلته فإنّه بمنزلتك قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال). (راجع صحيح البخاري باب قوله تعالى : (ومن يقتل مؤمنا. ..). 
وتجدر الملاحظة هنا إلى أن البخاري قد أجرى على الكافر الناطق بالشهادتين صفة الإيمان وأدرج الحديث المذكور في باب (ومن يقتل مؤمناً...)،
وفي البخاري (كتاب الزكاة ) ومسلم وأحمد في المسند و عن أبي يعلي في مسنده لما خاطب ذو الخويصرة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بقوله أعدل، ثارت ثورة من كان في المجلس منهم خالد بن الوليد قال : يا رسول الله ! ألا أضرب عنقه ؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : (فلعله يكون يصلّي) فقال : إنّه ربّ مصلّ يقول بلسانه ماليس في قلبه، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : (إنّي لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم) . 
وفي هذه الأحاديث نجد الدلالة واضحة في النهي عن تكفير أهل القبلة وأهل الشهادتين كذلك والنهي عن رمي الناس بالكفر أو الشرك لأدنى ذنب أو خلاف
ومن أقوال العلماء في النهي عن تكفير أهل القبلة والناطقين بالشهادتين قال ابن حزم عندما تكلّم فيمن يكفّر بما رأى أنّه الحق فإنّه مأجور على كل حال إن أصاب فأجران، وإن أخطأ فأجر واحد قال: وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي قولاً في هذه المسألة من الصحابة (رضي الله عنهم) . وقال شيخ الإسلام تقي الدين السبكي : إن الاقدام على تكفير المؤمنين عسير جداً، وكل من كان في قلبه إيمان ليستعظم القول بتكفير أهل الأهواء والبدع مع قولهم لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فإن التكفير أمر هائل عظيم الخطر)) .
وقال الامام السرخسي  : لما حضرت الشيخ أبا موسى الأشعري الوفاة بداري في بغداد أمرني بجمع أصحابه فجمعتهم له، فقال : أشهدوا على أنّني لا أكفّر أحداً من أهل القبلة بذنب، لأنّي رأيتهم كلّهم يشيرون إلى معبود واحد والإسلام يشملهم ويعمّهم). 
وأما الامام  أبو حنيفة فأنّه لم يكفّر واحداً من أهل القبلة و قال عليه أكثر الفقهاء).  وقال أبن عابدين  : قد يقع في كلام أهل المذهب تكفير كثير، لكن ليس من كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون، بل من غيرهم ولا عبرة بغير الفقهاء، والمنقول عن المجتهدين ما ذكرنا).  بل اننا نجد أنه قد جاء عن ابن تيمية في  رسالة الاستغاثة  من مجموعة الرسائل الكبرى)  : ((ثم اتفق أهل السنة والجماعة على أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يشفع في أهل الكبائر، وإنّه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد).  ولا تحسبن أن ابن تيمية يريد بأهل التوحيد أمراً  أكثر مما هو وارد في الروايات الواردة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) السالفة الذكر من النطق بالشهادتين والاتيان بالفرائض وعدم جحدها

      نواصل

الأربعاء، 1 فبراير 2012

التكفير – آفة الزمان (1)


بيان الرابطة الشرعية وردود هيئة الأنصار وأمامها على البيان يثيران قضية مهمة للغاية لا ينبغي أن تضيع في مزدحم الأحداث . وهي قضية تكفير المسلم وضوابطها الشرعية والقانونية. ولعله ليس في صلب الموضوع المثار التحدث عن مخالفتنا لبعض ما ذهب إليه السيد  الصادق المهدى أمام الأنصار . وبخاصة مسألة إصطفاف صفوف النساء بمحاذاة صفوف الرجال، فهذا الاجتهاد مخالف لصحيح وصريح النصوص المعلومة للكافة . وليس في إصطفاف النساء بموازاة صفوف الرجال أية ميزة للنساء . ولا إصطفاف الرجال أمامهن ميزة للرجال، وإنما هو أمر إقتضته الظروف العملية والأعراف المرعية . كما إقتضت هذه الظروف تقدم الأمام على الصفوف ليس لأنه أفضل ممن يقف خلفه . ولكنه أنما تقدم ليُشاهد وليأتم به المأمومون . وتأخرت صفوف النساء كيلا يشاهدن فيشغلن ألباب ضعاف النفوس بمشهدهن عن الصلاة ، وليس في هذا منقصة لكرامتهن  بحال من الأحوال. ثم أن النساء لسن بملزمات بالصلاة في جماعة مع الرجال . وصلاتهن في بُيوتهن (لأسباب عملية أيضاً ) مأجورة مثل صلاة الرجال حيث يُنادي بالصلاة .  وإنما الأعمال بالنية الصالحة والموافقة للمراد الألهي من التكليف.
بيد أن لب الموضوع هو مسألة ذهاب البعض لتكفير المسلم لخطأ في الاجتهاد أو ذنب صُغر أم كبُر. وقد ذهب السواد الأعظم من أهل العلم في الإسلام للقول بعدم جواز ذلك إستناداً على نصوص صحيحة وصريحة لا يجوز لأحدٍ مخالفتها. فلئن أجاز بعض هؤلاء لأنفسهم تكفير من يرون أنه خالف الصحيح الصريح من المنقول فأنهم بمخالفتهم لصريح وصحيح النصوص التي تنهى عن تكفير المسلم بالخطأ أو بالذنوب ولو كانت كبيرة فأنهم يقعون في المحظور . ويحيق بهم ذات الفقه الذي أستحسنوه . فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا قال المسلم لأخيه المسلم يا كافر فقد باء بها أحدهما ) أخرجه مسلم . وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري (من صلى صلاتنا وأستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته) . وعلى هؤلاء المكفرين أن يقرأوا في القرآن {والذين يؤذون المؤمنين بغير ما أكتسبوا فقد أحتملوا بهتاناً وأثماً مبيناً} . وهل ثمة أذى أكثر من رمي المؤمن صحيح الإيمان بالكفر. وقد ورد في صحيح البخاري (من حلف بغير ملة الإسلام كاذباً فهو كما قال ومن قتل نفسه بشيء عُذب به في نار جهنم ولعن المؤمن كقتله ومن رمي مؤمناً بكفر فهو كقتله).  فرمي المسلم بالكفر كقتله . ولأن التكفير تترتب عليه مآلات خطيرة أولها أنه يُفرق بينه وبين زوجه التي لا تحل له بالكفر . لأن المسلمة لا تحل للكافر، كذلك فأن قوامته على عياله وأولاده تنتفي لأنه لا يؤتمن عليهم . ويُخشى أن يؤثر عليهم بكفره . ولذلك إذا حكم على المسلم بالكفر انقطعت ولايته على أبنائه ودخلوا في ولاية أقرب ولي، وأخطر من ذلك كله أن المسلم الكافر  يُعتبر مرتداً . ورأي الجمهور في المرتد الذكر أنه يقتل بعد استتابته ان لم يتب.   وأنه إذا مات أو قُتل لن يُصلى عليه ولن يُدفن في مدافن المسلمين . فأي أذى وأي خطر وأي  ظلم عظيم هذا الذي يحيق بالمبهوت بالكفر . وأي بهتان عظيم أكبر من البهتان بالتكفير.
التكفير حكم شرعي
            والتكفير حكم شرعي لا تجب الإستهانة به . وهو يستمد مرجعيته من الشريعة الإسلامية . فينطلق من منطلقاتها وينضبط بقواعدها وضوابطها . ويهدف إلى تحقيق مقاصدها. وهو حق لله وحده وليس لأحدٍ من عباده له فيه حق . ولذلك فأن الحكم بالتكفير لا يجب أن يتأسس على الهوى أو السخط أو المخالفة . وإنما بالدليل الشرعي القطعي. والعلماء الراسخون لا يكفرون مخالفيهم لمجرد المخالفة . وأنما أذا أعتقدوا فيهم الخطأ أو المعصية أعتبروهم من أهل الوعيد الذين يدخلون في مشيئة الله . ان شاء حاسبهم يوم القيامة وإن شاء غفر لهم . يقول أبن تيمية في معرض حديثه عن الخوارج (وأذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفّروا مع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم فكيف بالطوائف المختلفة التي أشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى . وتستحل دمها ومالها وإن كانت فيها بدعة محققة فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضاً؟ وقد تكون بدعتهم أغلظ . والغالب أنهم جميعاً جهالُ بحقائق ما يختلفون فيه)( مجموع الفتاوي 151/152/ج3) ويقول ابن تيمية في معرض حديثه عن أهل الفرق الضالة من المسلمين (والوعيد الوارد فيهم كالوعيد الوارد في أهل الكبائر.. وهم إن لم يكونوا في نفس الأمر كفاراً لم يكونوا منافقين فيكونون من المؤمنين . فيُستغفر لهم ويتُرحم عليهم . وإذا قال المؤمن ربنا أغفر لنا ولأخواننا الذين سبقونا في الأيمان إنما يقصد كل من سبقه من قرون هذه الأمة بالأيمان . وإن أخطأ في تأويل تأوله مخالف السنة أو أذنب ذنباً , فأنه من أخوانه الذين سبقوه بالايمان فيدخل في العموم . وان كانوا من الثنتين والسبعين فرقة فأنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفاراً بل مؤمنون فيهم ضلال وذنب يستحقون الوعيد كما استحقه عصاة المؤمنين . والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخرجهم من الإسلام بل جعلهم من أمته . ولم يقل أنهم يخلدون في النار فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته.
البرهان على الكفر
            يقول الأمام الشوكاني (أعلم أن الحكم على المسلم بخروجه عن دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار). ثم أن هنالك فرق ما بين العقائد والأحكام العملية . وفي العقائد هنالك فرق بين أصول العقائد الثابتة بصريح القرآن وصحيح وصريح السنة، وبين الأخبار التي وردت في أحاديث الآحاد ولو كانت صحيحة. ذلك أن أنكار أركان الإسلام أو أنكار صريح وصحيح الأخبار التي جاء بها الكتاب أو جاءت بها السنة كفر صريح لاشك فيه . ومثال ذلك أن يقرر استحالة الألوهية أو ينكر نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أو ينكر بالبعث والحساب أو ينكر صحة النص الصحيح من القرآن . كما قال المنكر {لم يكلم الله موسى تكليماً ولم يتخذ إبراهيم خليلاً} ولكن أذا كان متأولاً فيُعذر بتأويله وإن ترجح الظن أنه يغطى بالتأويل على الكفر الصراح.

نواصل،،،