تحدثنا في المقال السابق عن الأعلام الجيد والمربع الذهبي الذي يشكله . وهو المرسل والرسالة والوسيط والمستقبل للرسالة . وأوضحنا أن تطور التكنولوجيا أحدث تداخلاً كبيراً بين عناصر الاعلام الأربعة . فالتفاعلية جعلت المرسل والمستقبل بتفاعلان ويتداخلان . وأصبح تأثير الوسيط علي محتوي الرسالة كبيراً بتطور تقنيات الصورة والتكبير والتصغير والإبعاد الثلاثية وتقنية الإبانة الدقيق high definition حتى قال بعضهم أن الوسيط أصبح هو الرسالة the media is the message . بيد أن كل هذه التطورات لن تثنينا عن مراجعة الإطراف الأربعة للعملية الإعلامية وأثرها في جودة الرسالة.
حراس البوابة.. أم جلاوزة السلطان
يحلو للبعض أن يطلق علي الإعلام وعلي الصحافة بوجه خاص لقب السلطة الرابعة . فهل هي كذلك أم انه مجرد تعبير أدبي يطلقه من شاء كيفما يشاء؟ لا شك أن الإعلاميين باتوا بفضل التطورات الهائلة في عالم الاتصالات والتقانات المتصلة بها يحوزون علي سلطة هائلة لا يشاركهم فيها إلا من له يدٌ وسلطانٌ عليهم . وقد تحدثنا في المقال الماضي عن مُلاك المؤسسات الإعلامية ووكلائهم . وكيف أمكن لهؤلاء أن يمتلكوا سلطة هائلة مكنتهم من التحول إلي قوة ضغط فاعلة شديد التأثير في مجريات الصراع السياسي وفي تحديد وصناعة وصياغة السياسات العامة. بيد أن مُلاك الصحف ليس في وسعهم الحضور والتأثير علي مدار الساعة علي سيرورة وضع الأجندة والأولويات للأخبار وللإحداث الجارية current affairs . فتحديد الأجندة والإعلاء من أهمية خبر من الإخبار أو شأن من الشؤون أمر يتحكم فيه الممارسون من رؤساء ومدراء تحرير ومنتجين ومخرجين ومعدين للنصوص ومراجعين لها ومصورين ومتحكمين في الصور والمشاهد المعروضة للجمهور. وهؤلاء جميعاً بات يطلق عليهم لقب حراس البوابة . ومرجع التسمية إلي ازدحام بوابات الإعلام بملايين الأحداث والأخبار والموضوعات مما يجعل الاختيار منها امراً لا مندوحة عنه . والاختيار يعني أن الذي يختار مُحكم في أهمية الخبر أو الحدث أو جاذبية وجمالية الصورة أو تأثيرها أو درامية المشاهد وأثره في اجتذاب الانتباه أو استحثاث القراء والسامعين والمشاهدين علي التفاعل والتواصل والاستجابة. ولما كانت القدرة علي الحيازة علي التقانة وتوظيفها تتفاوت بين المؤسسات الوطنية والدولية فقد أصبحت العلاقة بين المؤسسات الكبرى والمؤسسات الصغرى علاقة تبعية . تتمظهر فيها علاقة القوي العظمي الدولية بالقوي الصغرى والعالمثالثية. ونشأت الإمبراطوريات الإعلامية التي تفرض نفوذها علي المؤسسات الأصغر سواء في بلادها أو علي مستوي العالم. كما نشأت إمبراطوريات نشأ على رأسها أباطرة للإعلام من أمثال روبرت ميردوخ وورنر وأمثالهم فاحتازوا بذلك سلطة عظيمة علي مجريات السياسة في الدول العظمي . وأصبحت مؤسساتهم من أهم قوي الضغط في تحديد السياسات الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وسواهما من الدول ذات النفوذ البارز فى المسرح الدولي. وهذا النفوذ لأباطرة الإعلام وامتلاكهم لمؤسسات عديدة وتأثير هذه الملكية الواسعة علي المؤسسات الإعلامية جعل العاملين بالمؤسسات المملوكة لهؤلاء طوع بنان هؤلاء الاباطرة . ذلك انه مهما علا نجم صحفي أو منتج أو مخرج علي المستوي الوطني أو الدولي فأنه لا يستطيع أن يتحدي إرادة هؤلاء الأباطرة. لانه إن طُرد من منصبه الذي اعتلى به مقاماً عليا لن يتيسر له الحصول علي منصب آخر مماثل. اذ إن نفوذ هؤلاء يحيط بكل المؤسسات. وتجربة صحيفة الانبدندت تقدم المثال علي ذلك . فخروج ثلة من الإعلاميين علي الطاعة ومحاولتهم بناء مؤسسة إعلامية خاصة بهم قد جابهها مصاعب جمة ثم ما لبثت أيادي الرأسمال المتحكم إن وضعت لجامها مرة أخري علي الصحيفة التي حاولت أن تكون النعجة القاصية عن القطيع الإعلامي.
السلطة الرابعة ... سلطة الشعب أم النخب
وكما أسلفنا يحب بعض أهل الصحافة والإعلام القول بأنهم السلطة الرابعة. والسلطات الثلاث الأخري هي السلطة التنفيذية فالتشريعية فالقضائية . والقول بالسلطة الرابعة يصنف السلطة الإعلامية فى المقام الرابع بين السلطات الدستورية. ولا شك ان الإعلام بات سلطة يُعتد بها ولا يلاحي و لا يماري أحد فى سلطانها إلا مكابرأً . وقد أصبحت المؤسسات الإعلامية ورجالها ونساؤها في صراع دائم مع السلطات الأخري في الدولة . فالقضاء يشكو أن الإعلام يفسد السيرورة القضائية the due process of low . والمؤسسات التشريعية تشكو من تدخل الإعلام في المجال التشريعي من خلال تعظيم اثر جماعات الضغط التي تستخدم الإعلام لفرض ضغوط هائلة علي المشرعين . ومن خلال نشر المعلومات الخاطئة وترويج الفضائح ونشر الإسرار الخاصة والعامة. والسلطة التنفيذية تجأر بالشكوى من تدخل الإعلام وتحوله إلي سلاح بيد الخصوم . يوجهونه إلي نحر الحكومة ولا يرعون مصلحة عامة ولا يأبهون لأمن الوطن أو المواطنين. وليست كل هذه الشكوى ادعاءات لا يصدقها واقع الحال ولا يقوم عليها برهان ودليل. فالسلطة الإعلامية سلطة مثل سائر السلطات يمُكن أن تمُارس بالعدل والإنصاف لا يجرمنها شنآن قوم أو مخافتهم أن تصدع بالحق. ويمكنها أن تحيد عن صراط الحق والعدل . وتتعسف في الإحكام وتشتط في الأقوال ويمكن أن يداخلها الفساد فترتشى أو تتخابر أو تمارس الابتزاز. ولأن ذلك كذلك فان تطوير الرؤية لدور السلطة الإعلامية بات امراً لازماً وعاجلاً في آن واحد. فلابد من الإقرار بان الإعلام صار سلطة دستورية رابعة . ولذلك توجب تنظيم عمل المؤسسات الإعلامية ومهنتها الإعلامية من خلال التشريع الدستوري. والإقرار بان الإعلام أصبح سلطة قائمة بذاتها يعني إثبات حقوق المؤسسات الإعلامية في نصوص الدستور. ثم انه وكما إن التمييز بين السلطات الدستورية الثلاث أصبح مبدأً دستورياً مستقراً فلابد من التمييز بين السلطة الإعلامية والسلطات الدستورية الأخرى. ولزم التشريع للتمييز بين السلطة التنفيذية والسلطة الإعلامية كما لزم التشريع لأنماط ملكية المؤسسات الإعلامية . وشروط هذه الملكية سواء كانت ملكية عامة أو ملكية خاصة أو ملكية لمنظمات المجتمع المدني. كما لزم التشريع لمساءلة المؤسسات الإعلامية والإعلاميين . فلا يجب أن تكون هنالك سلطة دستورية خارج المساءلة الشعبية accountability . فكما أن السلطة التنفيذية مساءلة أمام البرلمان والبرلمان مساءل أمام الشعب. فلابد من إيجاد صيغة للمساءلة الشعبية للمؤسسات الإعلامية. وليس في ذلك غرابة حتى لو طالبنا بانتخاب رؤساء تحرير الصحف ومديري المؤسسات الإعلامية . ففى بلدان كثيرة يُنتخب النواب العامين ويُنتخب القضاة. فان كان مقترح انتخاب رؤساء التحرير والمديرين العامين أمرأ مستصعبا بواسطة الشعب مباشرة فيجوز أن يشرع لاعتماد هؤلاء بواسطة البرلمان . كما يحدث في بعض البلاد عند ترشيح أشخاص لتولي مناصب مؤسسات يتوجب أن تكون مستقلة عن الحكومة مثل المراجع العام والنائب العام ورئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة الأمريكية. ولا شك أن اعتماد رؤساء التحرير لو كانوا رؤساء تحرير لمؤسسات مملوكة للقطاع الخاص بواسطة البرلمان وعزلهم بواسطته سوف يُعلى من مقام هؤلاء . كما سوف يقتضي إتصافهم بمؤهلات مهنية وأخلاقية سامية . وفوق هذا وذاك سوف يحقق مبدأ المساءلة الشعبية . ويحقق الرضي عن الأداء الإعلامي . ويحمي مؤسسات الإعلام من تغول السلطات الدستورية الأخرى.
نواصـــــــــــــــــــــــــــــــــل،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق