السبت، 24 مارس 2012

أفكار حول الإعلام الجيد 3


يقال للشئ جيد إذا كان صالحاً لما أتخذ له . ولذلك لا نستطيع أن نتحدث عن الإعلام الجيد ما لم نتحدث عن وظيفة أو وظائف الإعلام .  فالاعلام الجيد هو الإعلام الذي يجىء بنا إلي تحقق المقاصد التي اتُخذ من أجلها. والمقصد الأسني والأعلى للإعلام هو تجلية الحقائق وتمكين الناس من التكيف معها. بيد أن السخرية الكبرى في راهن الحال أن الحقيقة هي أول ضحايا الإعلام . وبخاصة في أوقات الحروب والنزاعات والأزمات. فالإعلام المعاصر مفرط في النزعتين السياسية والتجارية وكلاهما تبعدانه عن تحري الحقيقة وتبعدان الناس عن سبيلها.
وظائف الإعلام:
للإعلام منذ القدم وظائف عديدة منها ما هو بارز ظاهر ومنها ما هو ضمني مستخفى. وأهم وظائف الإعلام هي الوظيفة الإخبارية . والاخبار نقل العلم بحدث يهمُ السامعين. والخبر والاخبار قديم قدمٍ الإنسانية لأنه متصل بمعرفة حقائق الأشياء بل انه قرين للخلق بغير فاصلة . لأن الله سبحانه وتعالي يقول في محكم النزيل "الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان" والبيان هو قدرة الانسان علي الإبانة والاخبار عن ما فى نفسه وعن ما حوله  "وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم علي الملائكة" أي أخبر آدم باسماء الاشياء والافعال كلها ثم عرضهم علي الملائكة ليعلموا انه لا يستوي من يعلم مع من لا يعلم . فقالوا "سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا". والخبر يقتضي التصديق او التكذيب ولاشئ بينهما . فهو إما ان يكون صادقاً أي مظهراً لحقيقة ما حدث وما جري أو كاذباً يخفى الحقيقة ويعمل علي تغطيتها باللغو او التدليس"وألغوا فيها لعلكم تغلبون" . والاخبار نشاط انساني لا ينقطع في أي مجتمع من المجتمعات . وهو لحُمة التواصل والتناصر الاجتماعي. ولذلك فأن مهمة الاخبار مهمة في غاية الخطورة وعليها تستند سلامة الافراد والمجتمعات المادية والمعنوية والاخلاقية. هارولد لاسويل يعرف الوظيفة الاخبارية فيقول انها وظيفة "رصد المحيط"ولأن الانسان لا يحيط سمعه بكل حركة وسكنة ولا يحيط بصره بكل كائن او كل شئ فأنه يحتاج أن يُبصر ببصر سواه وان يسمع بسمع سواه . وهذا يعني ان الاخبار يقوم بوظيفة تمديد حواس الانسان سمعاً وبصراً وتحسساً من خلال وصل الاسماع البشرية فكأنها سمعُ واحد . ووصل الأبصار البشرية فكانها بصر واحد. كما لا يحب انسان ان يكون ضحية لخداع السمع أو البصر فهو كذلك لا يحب أن يكون ضحية لخداع الاخبار عن ما رأي المبصرون وسمع السامعون. ولأن مهمة الاخبار مهمة مستدامة وشاملة فأنها تقصر عن الاحاطة فاستحال أن يحيط المخبرون بالمحيط الذي يرصدون . ولو حاولوا لأخفقوا لأن الإحاطة ليست بصفة انسانية . ولابد للإنسان حتى وهو ينصت ليسمع ان يلغى أصوات لينتبه للأخرى . ولابد للإنسان وهو يبصر ان يلغى بعض المشاهد ليركز بصره علي الأخرى .  وهكذا فأن وظيفة الاخبار تقترن دائماً بمفهوم الاختيار والاصطفاء او كما يقول شارلس رايت (اصطفاء المعلومات الشخصية او المحلية او الوطنية او الدولية وصياغتها وترويجها ) والخبر قد يكون له راوٍ او راوة متعددون . وكما قيل فإن "آفة الأخبار رواتها"" . ذلك أن اختيار كل راوٍ من عناصر الحدث يختلف عن اختيار الراوي الأخر . كما أن دقة كل راوٍ في الوصف تختلف عن الرواة  الآخرين . ومرجع ذلك أن كل رواية إنما هي تركيب بين ما تراه الحواس وما تختزنه الذاكرة . هذا أن كان كل الرواة يتحرون الحقيقة وأما القصد إلي تحوير الحقيقة فشئ آخر. ونقل الأخبار هي الأمانة الكبرى التي اضطلع بها الملائكة المصطفون والرسل المختارون . لأن صلاح الناس والمجتمعات لا يتحقق إلا بالتمثل بالحقائق لا بخداع الأنفس وخداع الأغيار. وحسن أداء هذه الأمانة يتوقف عليه صلاح الحياة الاجتماعية . فتتماسك المجتمعات وتتوازن وتنشأ الأعراف الصالحة ويتطور الضمير الاجتماعي . ويستحفي تحت وظيفة الأخبار وظائف عدة مثل التنشئة  الاجتماعية والضبط الاجتماعي من خلال تأسيس المعايير الأخلاقية والدفع باتجاه استقامة المجتمعات عليها. ولذلك فان القصص والأمثال والحكايات والملاحم والأساطير كلها أخبار تحكي حقائق أو حقائق مختلطة بالأخيلة أو أخيله مستمدة من الرؤى الواقعية .  ومقصودها هو ترسيخ وعي الجماعة وضميرها المشترك. وما يدعوه الناس بالثقافة المروية أو حتى تلك المادية ما هي إلا نتاج لوظيفة الأخبار في المجتمع. وقد أطنبنا في وصف الوظيفة الإخبارية ليُدرك رواة الأخبار عظم المسئولية التي يضطلعون بها . وأن وظيفتهم يستقيم بها الأمر ويعتدل أو يعوج فينهار "واذا قلتم فاعدلوا ول كان ذا قربي وبعهد الله أوفوا" فما هو عهد الله الذي يرتبط بالقول والاخبار. عهد الله هو أقامة العدل لأن علي العدل قامت السموات والأرض وعلى العدل تنهض المجتمعات وتصعد وتتقدم وعلى الظلم تتعثر وتكبو وتنهار.
الوظيفة الترفيهية للإعلام:
ولئن كان الاخبار هو الوظيفة الكبرى للإعلام بل هو الشجرة التي تتفرع عنها الفروع فإن للاعلام وظيفة أخري مهمة هي وظيفة الترفيه والترويح عن النفوس .  وهي وظيفة متضمنة في الاخبار نفسه . لأن واحدة من وظائف الاخبار هي امتاع النفوس بالاخبار المدهشة والحكايات الرائعة والقصص المذهلة والمعلومات المفيدة والمفارقات العجيبة . وقد يعتقد البعض ان قراءة صحيفة أو مجلة أو كتاب لا تحمل ترويحاً او ترفيهاً عن النفس . وغلطوا بذلك غلطاً كبيراً فان الامتاع الذي تحمله موانسة كتاب أو مقال ذكي او تحقيق أو استطلاع نادر فريد لمتعة لو علمها غلاظ الأكباد لجالدوا اصحابها عنها بالأسياف. ولكن ما يتبادر للذهن غالباً عن الحديث عن الامتاع والترفيه والترويج هو التسليه والالعاب . والمنوعات البرامجية موسقية ودرامية وتوثيقية ومسلسلات وسهرات اذاعة وتلفزة. والترفيه يعني تحيقيق حالة من الراحة والانسياب التلقائي السلس.  وهو الترويح الذى هو  من الراحة وهو الإمتاع من المتعة. وأعظم ما تكون المتعة والرفاهة عندما تقترن بالفائدة والمنفعة . سواء كان مادية معنوية او ذهنية. والترفيه عن النفس أو الغير خُلق انساني ركين في الفطرة الانسانية . يبدأ بالضحك والمزاح .  وقد اقترن المزاح والضحك بالادهاش والمفارقة و جمال التصوير والوصف. بيد أن الترفيه لا يعني بالضرورة الكسل والخمول الجسدى والذهنى . فبعض ضروب الرياضات القاسية تُعتبر نوعاً من انواع الترفيه النادرة. ولذلك فان الاعتقاد السطحى بأن الترفيه لا يعنى إلا بذل الجهد الأقل ذهنيا أو حركياً اعتقاد قد يشوه وظيفة الاعلام الترفيهية. والترويح حاجة ماسة من احتياجات الانسان النفسية منذ قديم الزمان . ولذلك فقد اسُتخدمت الأشعار والملاحم والأساطير والحكايات لاشباع هذه الحاجه النفسية التي تخُرج الانسان من واقع كالح منقبض الي كون فسيح من الأخيلة والمعانى والعوالم السحرية.  وهذه الوظيفة من وظائف الاعلام  هي التى تصنع واقعاً بديلاً عند الحاجة له و يسميها جان كازنوف وظيفة التغيير أو التحويل Transformation. هذه الوظيفة وظيفة بناء الواقع البديل قد تبدو مناقضة لوظيفة ترسيخ الواقع من خلال تجلية حقائقه ووصف وقائعه . ولكنها في حقيقة الأمر تتكامل معها كما يتكامل الليل والنهار في اليوم الواحد. فالانسان لكي يطيق معايشة الواقع بافراحه وأتراحه بسعته وضيقه لابد له من مفارقته ثم العودة اليه . فالابتعاد عن الواقع هو خير وسيلة لتحقيق قوة الاحساس به . وتلك وظيفة النوم والرؤى والأحلام . و تلك خصيصة العلم الانساني لا يتجلي بأوضح صوره إلا بوقوف الضد الي جانب الضد . ولذلك لا عجب ان تكون مهمة الاعلام تحقيق الحقائق وترسيخ الوقائع ويكون من شأنه أيضاً اعطاء عطلة واستراحة من هذا الواقع ان كان جالباً للسرور أو الحزن. ولا شك ان ادراك طبيعة المهمة الترويحية للاعلام بشقيها الواقعى و الخيالي أمر في غاية الأهمية لمعرفة كيفية أداء الوظيفة الترفيهية بما فيها من خيال وجمال وإبتكار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق