الثلاثاء، 19 يونيو 2012

الاقتصاد السياسي للإصلاح 1 - 2



سانحة  يسعد بها شيوخ الأحزاب المعارضة للحكومة وهى إقبال الحكومة على إنفاذ حزمة الإصلاحات الاقتصادية التي تراها حتمية لإعادة التوازن للاقتصاد الوطني بعد صدمة الانفصال وآثار الأزمة الاقتصادية العالمية على البلاد. والسانحة هى كما يراها هؤلاء أن يغضب الشعب فيثور فيهرعون  هم بمؤازرة حلفائهم المتمردين لامتطاء سدة الحكم على أنقاض الانقاذ . وأما السانحة من الزاوية الأخرى هى اجتراح مسار جديد للاصلاح للاقتصاد والسياسة قاعدة للتقدم نحو شوط جديد من النهوض والتقدم .فمن يكسب الرهان ؟ هل هو من يراهن على اعادة عقارب الساعة لما قبل الانقاذ ام يراهن على مستقبل جديد.
  الاقتصاد السياسى مفهومه ومضمونه :
 لما كان جوهر السياسة العامة هو قسمة القيم بالعدل فى المجتمع فانه عندما تكون القيم موضع القسمة قيماً مادية يدخل الافتصاد من أوسع الأبواب. ولذلك فان تشابك السياسة بالاقتصاد يكاد يبلغ الى حد التماهى . وعلم الاقتصاد السياسى هو العلم الذى يرصد اندماج الاقتصاد بالسياسة وأثرهما معاً على المجتمع. وكان المصطلح قبل ماركس يكاد يقتصر على توصيف قدرة الحكومة على استقضاء ايراداتها من الشعب حتى أصبح ذلك معياراُ لقياس درجة التنمية السياسية فى مجتمع ما. أما الماركسية فترى أن الظاهرة السياسية بمجملها بنية فوقية ناتجة عن تطور وسائل الانتاج والاوضاع الاقتصادية المترتبة عن ذلك التطور، فالاقتصاد لدى ماركس لايكون الا سياسياُ.
وبالتالى فلا رجاء فى اصلاح سياسى ما لم تتغير الوقائع الاقتصادية. لدى الماركسيين الاصلاح السياسى متغير تابع لتغير الاوضاع الاقتصادية لا عبر الاصلاح ولكن بالتغيير الثورى. ويبدو ان الحزب الذى يزعم نفسه ماركسياً فى السودان لا يُدرك هذا أو هو يجحده بمحاولة تحقيق الإصلاح فى البنية التحتية التى هى الاقتصاد من خلال التغيير الثورى فى البنية الفوقية التى هى السلطة السياسية . ولكن من يأبه لهذا فمتى كان الحزب الشيوعى السودانى حزباً ماركسياً . ماهو الا حزب لا ديني قد أصاب الهرم أفكاره ومؤسساته وقياداته الأثارية . وأما علاقة الاقتصاد بالسياسة فى المفهوم الاسلامى فهى لاتجعل للاقتصاد ذلك الأثر البليغ بل ارادة المجتمع السياسى هى التي تُحدث التغييرات اما للأمثل أو للأسوأ (لايغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) . ولذلك فان الاصلاح الاقتصادى جزءٌ لا يتجزأ من الاصلاح السياسى . فتتدخل الدولة عبر حزمة شاملة للاصلاح السياسى والاقتصادى والثقافى هو الذى ينشىء التغييرات المرغوبة فى المجتمع . الاقتصاد السياسى اذاً هو حالة التفاعل بين المتغير السياسى والاقتصادى . ولا تكون التفاعلات ممكنة ما لم تكن متزامنة أو متتالية متصلة غير منفصلة.
المشكلة السياسية الاقتصادية فى السودان أسبابها ومظاهرها :
لا يمارى أحد فى وجود مشكلة منذ أمد بعيد فى التطور السياسى والافتصادى فى السودان. فهو اما بطيء التقدم قياساً لتقدم الآخرين وللنمو السكانى أو هو شبه متوقف ما يزيد الوضع سؤاً . وأكبر الاسباب المفسرة لهذه الحال بعد ضعف الارادة على احداث التغيير أى روح المحافظة المزمنة هو ضعف التشخيص لأسباب الظاهرة . وذلكم بسبب التحيزات الفكرية والسياسية والحزبية . يشمل هذا الوصف الجميع ولا يستثنى أحداً . ولينظر أحدنا بعين الناظر الفاحص وأذن المستمع المنصت للحديث عن التجديد والتحديث فلا يراه الا حديثاً بلاغياً لا يحُدث أثراً كبيرا فى الوقائع السياسية أو الاقتصادية . ثم أننا لا نملك الشجاعة من بعد للاعتراف بهذا الواقع . فالبلاغة هى أهم أدبيات السياسة فى السودان والخطابة هى أهم المهارات المطلوبة للترقى السياسى الفردى أو الجماعى . ونقصد بالبلاغة الحديث الجيد عن الاشياء دون استفراغ الوسع فى احداث مطلوب ذلك الحديث الجيد فى الوقائع على الارض وفى المجتمع . ولقد كادت المفردات المستخدمة سياسياً تفرغ من مضمونها تماماً فحزب الأمة هو حزب الطائفة . والحزب الاتحادى الديمقراطى لم يعد يبغى الاتحاد حتى بين فصائله ولا حاجة بنا للتعليق على حظه من الديمقراطية . والحزب الشيوعى ما عاد شيوعياَ أو حتى مشاعاَ  لمنتسبيه بل أصبح دُولة بين ورثتة التاريخيين . ولم يعد أحدٌ يذكر الماركسية أو يحن لأيامها . ولم يعد هو حزب الطبقة العاملة بل حزب المعاشيين البرجوازيين . واما ما يتسمى بالأحزاب القومية فلم تعد الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة هى غاية مسعاها بعد ان عقدت فلول أحزابها أوصرها مع الاحزاب التى تتناصر وتتفاخر بحلفها مع اسرائيل لاستئصال الهيمنة العربية من السودان وغير السودان على الطريقة الزنجبارية . وأما حزب المؤتمر الوطنى فكاد يكون مصطرعاً للعناصر والقبائل لا بؤرة وطنية للاندماج والتآلف للعمل من أجل الوطن. فالإسراف فى الموازنات الجهوية يمضى بالاتجاه المعاكس لبناء الوحدة الوطنية والنهضة من أجل سودان موحد آمن متطور متقدم متحضر. أن الاسراف فى المعالجات الآنية بالترضيات الجهوية يوشك أن يكون عاصفاً بالوحدة مخلاً بالأمن معيقاَ للتطور . ولن يزداد السودان تحضراَ قط بالتراجع للاصطفاف الجهوى بدلاَ عن الانتظام الوطنى. قلنا كل هذا ولم نتحدث عن اختفاء النظام السياسى بمجملة خلف غشاء العبارات الضبابية والأفكار المبهمة والقطيعة الفكرية حتى بين نخبته التى تدعى الامتياز الفكرى .
وكما ضربت التقليدية اطنابها على السياسة أرخت سدولها على الاقتصاد فهو اقتصاد موغل فى الكلاسيكية فى طرق كسبه وإنتاجه فالرعى التقليدى الذى تغيرت البيئة والعالم لم يتغير قط ولا يحدث نفسه بالتكيف والتغير ولو أدى ذلك ان تننهى رحلة (الدمر) الى حرب تخرج جميع اطرافها من الدين والدنيا على حدِ سواء . والزراعة لا يزال غالبها فى القطاع التقليدى الذى يرفع الأيدى للسماء مستمطراً وتحت أقدامه مئات المليارات من المياه الجوفية التى نسيها الحفارون . ولقد رأيت بأم عينى أو بأبيها فى الصين كيف حفر أولئك القوم قبل قرون عديدة  لا آباراً جوفية فحسب بل انهاراً تجرى تحت الارض لتغذية الأبار الجوفية. ولا يزال من نسميهم المزارعين وليس الزارعين يزرعون هم أو من يستزرعون من أجراء ذات الاصناف بذات الوسائل القديمة العتيقة والتى أصبحت كلفة تصنيع غالبها أكثر من كلفة الوسائل الحديثة.  ثم يظن البعض منا أن بإمكاننا المنافسة فى الاسواق الدولية حتى أنه لينشئ لذلك محطة يسميها نقطة التجارة الدولية . أما عن الصناعة فحدث عنها وأنت غارق فى الحرج فهى الوسائل الحديثة برؤى العقول التقليدية والأيادى غير الماهرة . ولسوق المثال أخبر عن بعض التجارب فابان عملى بالصحافة استقدمت خبراء بعضهم أردنى وسورى وهندى لمعالجة رداءة المنتج وكثرة التالف وضعف نسق الانتاج . ولم يكن اللوم على الآلات فقد ظهر أن  العنصر البشرى أدارة وحرفة هو الأمر المستعسر على الحل . وأعسر ما فى ذلك رفض هؤلاء وأولئك للتشخيص ومقابلة الخبراء بالعداء والاستعلاء. وخبير آخر جاء ينصح ويدل لأفضل الممارسات لإعادة تشغيل مصانع النسيج لم يجد بها بأساَ وإنما العتب على الذين لا يمنحون العتبى لأحد ناقد قط . وأما التجارة فلا شك عندى أن تجارة خان الخليلى فى مصر المملوكية أنجح وأنجع منها فى حسن التفاعل مع المتسوقين لبربح هؤلاء ويرضى أولئك . واما التجارة الخارجية فينبئ عنها ميزان المدفوعات . فالسودان يستورد البضائع من غير منشئها ويصدر غالب صادراته عبر طرف ثالث .  فالوصاية على ما نستورد وما نصدر على قلة ما نصدر هو واقع الحال.
التطلع لاقتصاد الريع :
 وآمال أهل السودان عامتهم وخاصتهم الحاكمة والمعارضة معلقة باقتصاد الريع . أى يأتى مستثمرون من الخارج فيخرجون من الارض بترولها وغازها وذهبها وحديدها ونحاسها فيأخذون نصيبهم ويعطوننا نصيبنا. والمثل الذى يتطلع نحوه الجميع هو المثال الخليجى الذى وضع ميسمه على فكرنا الاقتصادي وعلى تقاليد استهلاكنا وعلى معمارنا وأسماء أحيائنا وبدأ فى تغيير اسماء أبنائنا  . وما بأهل الخليج من بأس فهو رعيل خير أكرمهم الله بما فى باطن الأرض ريعاً حسنوا به أوضاعهم وهم عدد قليل من حيث التجمع السكانى بل وأفاضوا من خيرهم على غيرهم لأنه بالفعل يفيض. ولكن هل أنموذج الاقتصاد الريعى هو الأنموذج الذى سيخرج بلادنا بعشرات ملايين سكانها من الضيق الى السعة ومن العسر الى أحد اليسرين أو كلاهما .ان الله لا يغير ما بقوم حتى ينتفضون فيغيروا ما بلى من أوضاعهم . وما رث من أفكارهم فهل نحن على أُهبة الاستعداد للخروج من مأزق التقليدية إلى فضاء التغيير والإصلاح ؟ 


نواصـــــــــــــل،،،

الحركة الإسلامية .. سؤالات واجابات 12


 كان  سؤال موقف الحركة الإسلامية من الاقتصاد أحد الأسئلة المهمة التي واجهت الحركة الإسلامية منذ تأسيسها حزباً سياسياً في جبهة الميثاق الإسلامي. والتي ركزت في برنامجها الاقتصادي على ملامح عامة أقرب ما تكون للبرنامج الاشتراكي بالتركيز على إقتصاد تعاوني . وتدخل الدولة لمنع الربا والاحتكار وتركيز الثروة في أيدي القلة، ولاشك أن القيادة الفكرية للجبهة آنذاك كانت أكثر تأثراً بالتيار الإشتراكي السائد في الخطاب السياسي في المنطقة. بل أن أهم مؤسسي الحركة عند نشأتها قد انسلخت طائفة منهم وانشأت ما سُمي بالحزب الاشتراكي الاسلامي . وكانت كتب الشهيد سيد قطب (معركة الإسلام والرأسمالية) وكتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) هي أهم المصادر الفكرية لمثقفي الحركة الإسلامية على صعيد المسألة الاجتماعية . وتأثر التيار الإسلامي بالتيار الإشتراكي لم يكن وقفاً على الحركة الإسلامية في السودان بل أمتد على نطاق العالم العربي . وكانت كتابات الدكتور السباعي في سوريا رافداً آخر لطرح الطريق الإسلامي للاشتراكية بل أن عدداً من مفكري العهد الناصري في سبيل البحث عن طريق اسلامي للاشتراكية قد أعادوا قراءة التاريخ الإسلامي برؤية إشتراكية . بيد أن فكرة العدالة الاجتماعية كانت هي وما تزال مفتاح قراءة الموقف الإسلامي من الاقتصاد. ولاشك ان كلمة إشتراكية نفسها مفردة غير دقيقة عند تعريب مفردة Socialism   فالتعريب الأكثر دقة لتلك المفردة هي المذهب الاجتماعي . لأنها مشتقة من مفردة Society   وليس من كلمة شراكة Partnership ، والتركيز على أولوية المجتمع على الفرد بازاء الفكرة الرأسمالية التي تعطي الأولوية للفرد موقف فلسفي يتشاركه الإسلاميون مع المفكرين الإشتراكيين.
       فولاية المجتمع على المال وعلى استقامة الأفراد على نهج الشريعة أمر تتوافر عليه شواهد وبراهين كثيرة في الكتاب والسنة . بل أن القرآن غالباً ما يتوجه بالخطاب مباشرة لمجتمع المؤمنين بوصفه جهة التصرف كأن يقول "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم " ، وكأن يقول " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتدعون إلى الخير" بل أن غالب خطاب القرآن يبدأ بعبارة "يا أيها الذين آمنوا" . كذلك فإن القرآن قد أجمل سبب إنزال الكتب وأرسال الرسل في هدف تحقيق العدل الاجتماعي "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط" . وخاطب المؤمنين للقيام بهذا الواجب "يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم" . وهكذا فلا مشاحة في ولاية المجتمع على أفراده ليقوم باعطاء كل ذي حق حقه . وذلك من خلال المؤسسات الاجتماعية والسياسية التي ينشئها المجتمع المحتكم إلى دين الله وشرعه القويم. ولئن ساهمت أدبيات سيد قطب في بلورة المفاهيم الاقتصادية الأساس لدى الأخوان في السودان وبخاصة تلك التي أشتمل عليها كتاب العدالة الاجتماعية في الاسلام إلا أن الروح النقدية القوية التي اشتمل عليها كتابة "معركة الاسلام والأسمالية" لم تجد ذات الوقع والأثر مثل كتابه الأول. ولذلك فإن الدعوة للعدالة الاجتماعية لم ترافقها روح قوية لمناهضة الاتجاهات الرأسمالية. وربما يعود أحد الأسباب لوجود الحزب الشيوعي السوداني الذي تركز خطابه في الهجوم على طريق التطور الرأسمالي . وربما لم يشأ الاسلاميون في السودان أن يتعاظم التشابه في خطابهم السياسي الاقتصادي مع الحزب الشيوعي الناشط في الساحة السياسية آنذاك. ولكن على الرغم من ذلك كانت كتابات الاسلاميين في السودان وفي العالم العربي لا تخلو من النقد للمنهج الرأسمالي. بيد أن الأدبيات في هذا المجال تخلو من الدراسات المقارنة المفصلة بين الرؤية الإسلامية في حرية التجارة والأسواق وبين مختلف مناهج الفلسفة الرأسمالية. وعندما أتيحت للاسلاميين فرصة تأسيس مؤسسات اقتصادية إسلامية كان التركيز فيها على تجنب المخالفات الظاهرة للشريعة الإسلامية . مثل محاربة الربا وتجريمه وتحريمه ، أو منع المعاملات المحرمة شرعاً . ولم تكن الرؤية المقاصدية هي الرؤية التي تهدي التفكير والتصرف لدى الطائفة الأكبر من الإسلاميين في السودان. ونقصد بالرؤية المقاصدية ما يريد الشارع أن يحققه من خلال النظم والسياسات الاقتصادية، وليس فقط ما يجب أن يتجنبه خلال مسعاه لتحقيق تلك المقاصد . ولأجل سياقة الأمثلة فقط ينشأ السؤال عن مقصد منع تراكم المال في أيدي القلة ليكون دولة بين الاعضاء ، ما هي السياسات والتدابير التي يتوجب أن يتبناها الدستور أو القانون أو السياسات العامة لتحقيق هذا المقصد؟ كيف يُعبر عن ذلك المقصد في النظام المصرفي الإسلامي؟ كيف يمكن  أن يجري تيسير وصول التمويل وخدمات الضمان والائتمان للفقراء بدلاً عن ان تكون حكراً على الأغنياء فحسب (15% فقط هم من يتعاملون مع المصار ف في السودان وأقل من ثلثهم هم من يحظى بالتمويل وغالب هؤلاء من أصحاب الدثور والأموال الطائلة لقدرتهم على تقديم الضمانات اللازمة) لاشك أنه ومؤخراً جداً بدأ التفكير في الاستفادة من إستراتيجية التمويل الأصغر لتمويل الفقراء، ولكن هذه الفكرة أهتدى إليها وتحمس لها السياسيون أكثر من المصرفيين. وعلى الرغم من تجارب أحمد النجار في بنوك الفقراء في مصر إلا أن الأنموذج السائد في المصرفية الإسلامية كان هو أنموذج البنك التقليدي اللاربوي. ومثال آخر هو الزام المجتمع بمحاربة الجوع إلى درجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول "إيما أقل عرضة باتوا ومنهم أمرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله" فمقصد الدين أن لا يتساكن الجائع والمتخم في مكان واحد . فكيف يعبر عن هذا المقصد في الدستور والقرآن والسياسة العامة. كيف يضمن المجتمع أن لا يجوع أفراده تحت مرأى ومسمع أغنيائه في ظروف السعة والضيق على حدٍ سواء . وهذه الأسئلة تطرح قضية الضمان الاجتماعي وشبكات الأمان الاجتماعي التي جعل القرآن الزكاة أنموذجاً لمؤسساتها الاجتماعية فكيف يمكن ان تتطور رؤية الضمان الاجتماعي من خلال الزكاة ومن خلال مؤسسات الضمان الاجتماعي الأخرى؟ مؤخراً أجازت الحكومة استراتيجية مرحلية لمكافحة الفقر أشتملت على أفكار ومفاهيم لمكافحة الفقر . بيد أن القضية من الناحية الفكرية وفي الجوانب التشريعية والسياسية لا تزال تحتاج إلى تداول كبير وبلورة لرؤى وسياسات تهدي تصرف الدولة والمجتمع في مواجهة أكبر المشاكل التي تواجه بلادنا وهي مشكلة الفقر وآثارها في تكريس التخلف الإجتماعي والاقتصادي.
               





الحركة الاسلامية سؤالات واجابات 11


الحركة الاسلامية سؤالات واجابات 11
د أمين حسن عمر 
سؤال قديم جديد وهو سؤال دور المرأة فى الحركة الاسلامية وأدوارها فى مشروع النهضة الذى تتبناه الحركة الاسلامية فى السودان . لا شك أن الحركة الاسلامية فى السودان قد تقدمت الحركتن الاسلامية الاخرى بأشواط فى موضوع دور المرأة فى الحركة الاسلامية والمجنمع . فمن المنظور النظرى لم تحاول الحركة الاسلامية اختلاق دور للمرأة مخالف لدور الرجل . فلا قيد من حيث النظر على حركة المرأة فى الحياة العامة ولا قيد يالتالى لحركنها داخل الجماعة الاسلامية المنتظمة .ولذلك فقد قادت طائفة من الاخوات الحركة النسوية العامة فى أوان تأسيسها فى السودان فى وقت كان الاسلاميون فى العالم العربى ينظرون بتشكك الى حركات المطالبة النسوية ويعتبرونها واحدة من مكائد الاجنبى على البلاد الاسلامية . ولاتزال ثلة من الاسلاميين يتمسكون بهذا الطرح ومنهم ثلة صغيرة فى السودان .وقد ساعد ضعف التقالبد الاجتماعية المتشددة فى السودان على توسيع الفرص امام المرأة للتحرك فى الحياة العامة . وقد نالت المرأة السودانية بفضل تلك الظروف وتقبل التيارات الاسلامية لمنحها المزيد من المكاسب والحريات مكانة مرموقة ما قورنت باوضاع النساء فى العالم العربى حتى فى تلك البلدان التى قادنها تيارات سياسية يسارية. فأوضاع المرأة السودانية فى جانب المساواة فى التعليم والعمل والفرص فى الحياة العامة أضل من أوضاع نظيراتها العربيات جميعاً. وقد تمتعت المرأة السودانية بثمرة اعمال سياسة تمييزية لصالحها فى هذه المجالات كافة .ولكن السؤال لا يزال عالقاً هل بلغت المرأة مرحلة نيل الحقوق المستحقة لها تماماً مثل الرجل سواء بسواء والاجابة التى لا تحتاج الى تروى هى لا كبرى قلا تزال المرأة على مبعدة من نيل حقوقها التى استحقتها بالكرامة الانسانية وبمساواة الانسان بالانسان لا فضل لأحد على أحد الا بالتقوى. فالتكليف واحد والحساب واحد والجنة واحدة والنار واحدة ولذلك مثلما الميزان واحد فان المئولية واحدة والفرص واحدة . لايعنى ذلك تطابق التكاليف فهى لا تتطابق بين رجل وآخر و أمرأة وأخرى ولكن باتاحة الفرص كاملة أمام الجميع . فالحديث ليس عن تساوى النوع بالنوع وانما الحديث عن تساوى الفرص فى كل ميدان وان اختلف التكليف باختلاف الحال . بيد أن المرأة فى السودان وفى غيره لم نبلغ هذا الميلغ بعد ولم تقترب من لتناه فى وقت قريب . تحول بين ذلك مفاهيم اجتماعية تسود فى أوساط النساء والرجال. كما تحول دون ذلك أوضاع اقتصادية تجعل من المرأة أسيرة المحبسين النوع والفقر معاً . فالاحصاءات عن الفقر فى السودان وسائر انحاء العالم تدل على أن المرأة تقبع فى أدنى دركات الفقر . فالنساء يشل قدراتهن الفقر المدقع المقعد . وتزداد مع مرور الايام مسئولياتهن عن الاطفال. إن أفقر فقراء العالم هن النساء وأطفالهن. ولذلك فان الحركة الاسلامية عليها أن تتوقف عن الفخر بانجازاتها السياسية على صعيد التمكين السياسى . وان تشرع بقراءة الوضع الاجتماعى والاقتصادى للمرأة السودانية لاخراجها من ضيق الفرص الى سعتها ومن عجز الامكانية الى مكنتها.
التمكين الاجتماعى للمرأة :
                         المقصود من التمكين الاجتماعى للمراة هو مساواتها فى فرصة التحكم بحياتها وحياة أسرتها والأقربين لها بالرجل سواء بسواء . فهذا هو مقتضى العدل الربانى والشرع الألهى. فقد جعل الله سيحانه وتعالى علاقة الارتباط بين النوعين علاقة طوعية تعاقدية . ويتوجب أن تلتزم نشريعاتنا وتقاليدنا الاجتماعية بمبدأ التعاقدية . وكل عقد شابه الاكراه من أحد طرفيه أو أى طرف آخر فهو باطل ولا أثر للعقد بعد البطلان. وأول متطلبات تمكين المرأة من الاختيار الحر فى اى عقد تبرمه هو التعليم . فناقص العلم ومعدومه سفيه . والسفيه لا يملى وأنما يُملى عنه. ولذلك فان تعليم المرأة هو الأولوية الأولى ولحسن الحظ فان الارقام توضح النجاح المحرز فى هذا المضمار . ولكنه نجاح منقوص فلئن ساوت المرأة الرجل فى فر ص التعليم العالى فلا تزال لا تساويه فى التعليم العام . بأسباب عديدة منها الزواج المبكر الذى لابد من تنظيمه بتشريعات ضابطة كيلا لا يكون سبباً فى تزويج القاصر من تكره وسبباً فى حرمانها من التعليم .ولا يزال تسرب البنات من المدارس أكبر من تسرب الاولاد ربما لذات السبب.وتعليم النساء ينبغى ان لا يفتصر على التعليم المدرسى بل يتوجب ان تستغل كل وسائط الاتصال للارتقاء بقدرة المرأة للتعرف على قدراتها وملكاتها والتعرف والتوافق مع بيئتها  ومجتمعهاكى تكون طرفاً قادراً على المشاركة فى تطوير بيئتها وتنمية مجتمعها. وتعليم المرأة ينبغى أن يخطط لجعلها المعلم الأول لاطفالها وبخاصة فى المراحل المبكرة من تعليمهم وتربيتهم . فتطوير الوالدية هو العتبة الاولى للنهوض بالتعليم ولن يتحقق ذلك الا بالارتقاء بالمرأة علماً وثقافة وادراكاً واحساساً مرهفاً بالقيم الدينية والاخلاقية والجمالية . وأمجع سياسة للتطوير الثقافى والعلمى للمرأة وبالتالى للأسرة هى سياسة ادماج المؤسسات الاجتماعية باستخدام تكنلوجيا الاتصالات الحديثة والتشبيك الاجتماعى. يعنى كسر السور بين المدرسة والمنزل وفتح ممرات افتراضية لتبادل المعلومات والاسناد العلمى بين القطبين المنزل والمدرسة. وكذلك تحويل وسائط الاتصال العامة الى شبكات اجتماعية تفاعلية مما يعزز الترابط الاجتماعى ويقوى قدرة المجتمع على الضبط والمساتدة .
التمكين الاقتصادى للمرأة :
                              ما منحه الاسلام للمرأة على صعيد التمكين الاقتصادى لا تزال تتقاصر عنه تشريعات كثير من الدول المعاصرة. فالمرأة التى كانت تورث مع تركة الرجل المتوفى مثل المتاع أصبحت بتعالبم الاسلام ذات حق أصيل فى أن ترث وأن يوصى لها بالمال . واختلاف الانصبة لا علاقة له بالنوع وانما علاقته بالتكليف بالانفاق وذلك مثل الرئاسة فى الاسرة والقوامة على امرها فهو انما يستحق بالانفاق وبالقدرة الملحوظة للقيام بتكاليف تلك القوامة والرئاسة.وللمرأة كل حقوق التصرف فى مالها دون اذن من أحد. ولها اسثتمار مالها أو المتاجرة به أو منحه وهبته لمن تشاء وقت ما تشاء. بيد ان مجتمعات المسلمين لم ترق لذلك المقام الاسلامى الرفيع . فلاتزال المراة تتعرض لضغوط كبيرة للتنازل عن حقوقها فى الميراث للذكور وبخاصة ان كان الموروث عقارا أو أرضاً زراعية أو ثروة حيوانية. فالرغبة فى الاحتفاظ بهذه الأصول فى اطار الاسرة وعدم خروجها للأصهار ظل سبباً لحرمان نساء كثيرات من حقوقهن فى الميراث دون أن يجدن مساندة تشريعية أو اجتماعية تعين على ضمانة الحقوق. ورغم الاعتراف بحق المرأة فى الاستثمار فان الاحصاءات توضح بصورة جلية حرمان النساء من التمويل المصرفى والضمانات المالية الاملر الذلى أصبح أحدى ضرورات تثمير الاموال وتكثيرها. فلئن كان 85% من السكان محرومون من التمويلات المصرفية فن نسبة النساءمن هذه النسبة هى نسبة تقاربها أو قد تتجاوزها.واذا كانت الدولة قد وضعت استراتيجية لدحر الفقر فلا بد من ملاحظة ان تمييز المرأة لنمكينها اقتصادياً يتوجب ان يكون الأولوية القصوى.هذا يعنى سياسة دعم مباشر للأرامل وللاسر فاقدة العائل وللأمهات العاملات فى الاعمال الحرة زكما يعنى توجيه التمويل الاصغر لدعم هذه الفئات من النساء الفقيرات .
المرأة والحركة الاسلامية:
                           لقد ظلت المرأة نصيراً لا يتزحزح للحركة الاسلامية فى السودان والرصيد السياسى للحركة يأتى غالبه من النساء ولذلك توجب عاى الحركة أن تقابل الوفاء بالوفاء. وذلك بتبنى سياسة جريئة تدعمها التشريعات والسياسات لتمكين المرأة اجتماعياً واقتصادياً ولن تكون الثمرة لهذه الرؤية وهذه الهبة الاجتماعية  لمناهضة التمييز ضد المرأة الا نهضة اجتماعية واسعة وشاملة . وتقدم ملحوظ على صعيد مكافحة الفقر والجهل والتخلف. فانما تنهض الامم كما ينهض الانسان على قدمين أثنين تحملان العئب سواء بسواء وتتناغمان فى دفع الأمة على طريق التقدم والتحضر والرقى الاجتماعى .

الثلاثاء، 5 يونيو 2012

الحركة الإسلامية .. سؤالات وأجابات10


                                                                                                                           أحد الأسئلة المهمة التي تطرح حول الحركة الإسلامية هو سؤال الهوية أي سؤال الانتماء. ولاشك أن عنوان الحركة الإسلامية نفسه يجيب عن السؤال . فهي حركة إسلامية سودانية. والبعض يفضل أن يقول أنها الحركة الإسلامية – السودان. أي الحركة الإسلامية بأمتدادها على التراب السوداني. وهذا وصف إفتراضي يفترض أن هنالك حركة إسلامية على مستوى العالم الإسلامي . وأن جزءاً منها يوجد في السودان. ولاشك أن هذا الوصف لا يعدو الأماني إلى الواقع المعاش. فلا يوجد ما يسمى بالحركة الإسلامية المنظمة على مستوى العالم الإسلامي. وربما من المتعذر في ظروف الحياة الراهنة أن يوجد تنظيم موحد للحركة الإسلامية في أي وقت منظور. إذاً فنحن نتحدث عن حركة إسلامية نشأت ووجدت في السودان . فهي حركة سودانية المنشأ تأثرت بكل الظروف والأوضاع السائدة في السودان. وعنوان الحركة يحمل اشارتين أولهما إلى الإسلام والثانية إلى السودان. وصفة الإسلامية لا تعني أنها حركة إيدولوجية. فالأيدولوجيا تعني اعتناق الحركة لمنظومة أفكار منهجية تهدي نظمها وسياساتها وبرامجها لأنها يُزعم لها صفة العلمية التي لا تتحمل الخطأ . وهذا على الأقل تعريف الأيدولوجيات السائدة في العالم.
أما مذهبية الحركة الإسلامية فهي ليست أيدولوجية . لأنها وإن استندت إلى الأصول الإسلامية وهدفت لتحقيق المباديء والمقاصد الإسلامية فأنها لا تزعم أمتلاك دليل فكري جاهز لا يحتمل الخطأ أو النقصان . بل أن مذهبها أصولي اجتهادي. فالأصول ثوابت تتمسك بها الحركة وتهتدي بها وفق القواعد والضوابط التي أستقر القبول بها وسط جمهور المسلمين . وأما اجتهاد الحركة أي محاولتها لاستنباط حلول لمشكلات المتغيرات المعاصرة فهي تحتمل الخطأ والصواب مثلها وأي اجتهاد أنساني- وهي مفتوحة للمراجعة متى ما تبين وجه الصواب من المسألة قيد النظر بظهور معلومات جديدة أوبمراجعةٍ للفهم عن النصوص الهادية لإجتهاد المجتهدين. فالحركة الإسلامية ليست حركة أيدولوجية مثل الحركات الماركسية أو الفاشية أو حركات اليمين الجديدة بل هي أقرب إلى كونها حركة اجتماعية فكرية . تستقي من ذات مشارب الفكر والثقافة التي يستقي منها المجتمع الذي تعمل في أوساطه . وتسعى إلى النهوض به إلى مراقى النماء والتقدم.
سودانية الحركة الإسلامية:
       الإنتماء للوطن السودان يعني أنها حركة (فوق – جهوية) وأنها حركة (فوق – قبلية) . إي أن اعضاءها لا يجتمعون وينتظمون على أساس جهوي أو قبلي بل للعمل من أجل أنماء السودان حضارياً وفاقاً للمرجعية الإسلامية. والسودان هوية متميزة في العالمين العربي والأفريقي . فلا هو بالعربي القح ولا بالأفريقي الخالص . ولكنه هجين من أعراق وألوان وثقافات وألسن. وهذا هو ما عليه السودان . وهذه هي الإجابة على هوية السودان. والهجين السوداني ليس هجيناً في كل شيء ولا هي بالمتساو في مكوناته وعناصره. فالثقافة غير المادية غالبها متأثر بما هو عربي، والثقافة المادية غالبها متأثر بما هي أفريقي .  وهنالك ألسن سودانية كثيرة أثرت في تراكيب ومفاهيم ودلالات العبارات في اللسان العربي السائد في السودان . ولاشك أن هذه الهجنة اللسانية لها أثارها في الهجنة الثقافية. وأدراك هذا الواقع الماثل في السودان يقتضي استعداداً وقدرة ودُربة على إدارة التنوع العرقي والثقافي واللغوي في السودان . ليكون تنوعاً متجانساً لا تنوعاً يُوسع شُقة التباين ويثير التجاذب والتنازع.
       بيد أن سودانية الحركة الإسلامية لا تتناقض ولا تتنافى مع انتمائها العربي أو الأفريقي أو الإسلامي أو أي انتماء أقليمي آخر . ومثال لهذه الإنتماءات التي لم تُحظ باهتمام هو إنتماء السودان للأقليم السوداني الممتد من البحر الأحمر إلى سواحل الأطلسى .  فهذا الأقليم الذي يشمل إجزاء واسعة من افريقيا الشرقية وأفريقيا الغربية يشترك فيما يمكن ان نسميه بالثقافة السودانية . وكان غالب الأقليم يُعرف بالسودان في يومٍ من الأيام . ولا يزال للسودان دورٌ مركزي ليضطلع به في أحياء العلائق والوشائج الحضارية والثقافية في هذا المدى الذي يوازي ثلث القارة الأفريقية . والذي يمكن ان يعاود إضطلاعه بدوره الحضاري الذي أضطلع به في إبان قيام الممالك الأفريقية الاسلامية قبل الغزو الأوربي لأفريقيا . وهذا الأقليم توطدت علائقه بأواصر الحضارة الإسلامية . وكانت رحلة الحج هي سبيله للتلاقي والتلاقح . وهي رحلة كانت تمتد بالشهور الطوال ثم يكون لها ما بعدها من تواصل وتصاهر بين شعوب تلك المنطقة السودانية الكبرى.
       ومثلما للحركة الإسلامية في السودان محيط حيوي سوداني للتفاعل معه على مدى الأقليم السوداني فأن دورها في العالم العربي بالتنسيق مع الحركات الإسلامية الأخرى وبخاصة في مصر وشمال أفريقيا لن يكون دوراً هامشياً بحال من الأحوال. فتجارب الحركة الإسلامية السودانية وتميزها الفكري كان دائماً ملهماً للتغيير في ذلك المحيط العربي . وسيزداد أهمية بعد صعود الأسلاميين في مصر وفي شمال أفريقيا بأذن الله. والمطلوب من الحركة الإسلامية أن تتصور لنفسها دوراً واقعياً يقوم على التفاعل الخلاق بينها وبين محيطها الجغرافي والثقافي . فبهذا وحده يمكن أن يتعاظم أثرها وان تكتسب الفاعلية  على إحداث التغيير الذي يفتح الطريق للعودة للاستقاء من مشارب الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية اللذين لا ينضب لهما معين ولا يخلقان بمضي الأزمان وتعاقب الدهور.

دحر التضخم



تحدثنا في المقال السابق عن سياسة تعويم سعر الصرف وسيلة لتسلم زمام المبادرة من أيدى الفئة العاصية . المتمثلة في المضاربين في الدولار والأسعار وأعادة مقود المتغيرات الاقتصادية لمؤسسات الدولة . المتمثلة في وزارة المالية وبنك السودان المركزى. ولما كان أمر تذبذب سعر صرف العملة الوطنية وارتفاع سعر العملات الأجنبية المفرط واحداً من أسباب ارتفاع الأسعار وعظم بلوى التضخم رأينا استكمال الصورة بعرض سياسة الدولة لدحر التضخم المفرط . واعادة التوازن بين العرض والطلب ليتحقق استقرار الأسعار وبالتالي الأستقرار الاقتصادي بالبلاد.
التضخم ما هو ولماذا يحدث ؟
أصبح مصطلح التضخم من المفردات الدائمة في الاعلام وفي الصحافة  وبالتالي في الذاكرة الجمعية للمجتمع. وعلي الرغم من أن لمفردة  التضخم تعريفات متعددة فأن المعني الرئيس لهذه المفردة فى العرف الاقتصادي هو ارتفاع الاسعار للسلع والخدمات نتاجاً لفائض في الطلب ونقص في العرض. وقد يحدث هذا الاختلال بين الطلب والعرض لعدة أسباب وقد يؤدى بروز بعض الأسباب الي التسبب في نشؤ الأسباب الأخرى المؤدية للتضخم.
وأهم هذه الأسباب التدني في سعر العملة الوطنية في مقابل العملات الأخرى في بلد تشتد حاجته الي الاستيراد لمقابلة احتياجاته الانتاجية والاستهلاكية.  أي أن السوق الداخلي يعتمد في تحقيق الوفرة علي الاستيراد. والاعتماد علي الاستيراد ناجم ولا شك عن عجز البلد المعين عن الانتاج الزراعي والصناعي والخدمي بما يوفي بحاجة الطلب في ذلك البلد. وارتفاع قيمة العملات الاجنبية قد يؤدى كما يحدث الآن في بلادنا الي ارتفاع تكاليف الانتاج الزراعي والصناعي المحلي لاعتمادهما علي الاستيراد في معظم عوامل الانتاج . مثل السماد والمبيدات والخيش والمعدات للانتاج الزراعي وغالب مدخلات الانتاج الصناعي الأمر الذي يؤدى الى ارتفاع تكاليف الانتاج المحلى مما يؤدي الي نقص ذلك الانتاج من جهة وغلاء أثمانه وتضخمها من الجهة الاخرى . فتقلص الوفرة وارتفاع تكلفة الانتاج المحلي يؤديان الي تسارع التضخم في السلع المتجة محلياً. وقد تسعي بعض  الحكومات اوالجهات المستقلة الي رفع الرواتب والأجور لمقابلة ارتفاع الاسعار ولكن ما لم يتم ذلك في اطار حزمه معالجه موحدة فان ارتفاع الدخول النقدية المتمثلة في الأجور والمرتبات سيكون أحد أسباب تسارع التضخم وليس أحد وسائل معالجة آثاره. وقد يتسبب التضخم بالافراط في طرح السيولة النقدية من خلال ارتفاع الدخول أو من خلال طبع النقود لسد الفجوة في الموازنة العامة ((الاستدانة بالعجز )) . وسيؤدي ذلك الي كتلة نقدية ضخمة بازاء حزمة من السلع والخدمات متضائلة . مما يعني اختلال التوازن بين المعروض المطلوب من تلك السلع والخدمات. وهكذا فان اسباب التضخم تتداخل وتتشابك  ويفضى بعضها الي اختلاق البعض الآخر. فانكماش  المعروض يؤدي الي ارتفاع الاسعار. وانكماش المعروض قد يكون بسبب عدم القدرة علي الانتاج او الاستيراد او قد يكون بسبب التخزين والاحتكار بانتظار ارتفاع الارسعار وتجفيف السوق من السلع والخدمات المهمة لسائر الناس. وضعف قيمة العملة الوطنية المؤدي الي ضعف القدرة  علي جلب السلع والخدمات من الخارج يؤدى بالضرورة الي رفع تكاليف الانتاج الداخلى . وقد يتضاعف الأثر من خلال تدخل المصارف  بزيادة الائتمان دون ضمانات كافية . مما يؤدي الي زيادة السيولة في السوق دون وجود ما يوازن زيادتها من السلع والخدمات. وكل هذه العوامل حاضرة الآن في الاقتصاد السوداني بسبب الصدمات التي تلقاها من آثار الازمة الاقتصادية العالمية وارتفاع قيمة المستوردات في السوق الدولية . والصدمة الكبري المتمثلة في انفصال الجنوب مما يوازي 40% من الموازنة العامة و60% من حصيلة النقد الاجنبي للبلاد.
التضخم والكساد ..ائتلاف الضد والضد:
وفي حالة السودان الراهنة فان التضخم قد نجم لعدة أسباب أهمها عجز الموازنة العامة واختلال الميزان الخارجي  . وهذا العجز الذي أصبح معلوماً للعامة والكافة لقد أدى الي حالة توقف واحجام وانتظار وبخاصة في مجال انتاج السلع الصناعية المحلية أو تقديم الخدمات . كما أدى الي احجام عن عرض النقد الأجنبى في الأسواق كما اوضحنا في المقال السابق . وأدي بالتالي الى اختلال العرض والطلب في سوق العملات . كما هوى بقيمة العملة الوطنية في السوق الموازى والذي تعرض بسبب ذلك الي هجمات  المضاربين والمستربحين من هذه المحنة الوطنية . هولاء الذين أسميهم بالفئة العاصية والتي تتسبب في مفاقمة الآثار السلبية لجفاف الموارد المالية واختلال الميزان الخارجي. واضطرار وزارة المالية للاستدانة بالعجز وإن كان في اطار النسبة المسموح بها واضطرار بنك السودان المركزي لشراء الذهب بالسعر الموازى لتصديره لجلب العملات الاجنبية أديا بدورهما الي زيادة السيولة في الاقتصاد في وقت ظل عرض السلع والخدمات يتقلص بشكل متسارع . والنتيجه غير المستغربة هي ارتفاع التضخم من رقم واحد وهو ما يسمي بالتضخم المعتدل أو المعتاد الي رقمين وهى مرحلة الدخول فى التضخم الجامح أو المرتفع ويخُشى ان يؤدى في حالة التلكؤ عن انفاذ المعالجات بصورة سريعة الي الدخول الي المرحلة الثالثة الخطيرة . وهي مرحلة التضخم المفرط الذي يُفقد العملة الوطنية قيمتها الأمر الذي شهدته المانيا بُعيد الحرب . وشهدته  زيمبابوي والعراق ابان الحصار الأوربى علي الأولى والحصار الأطلسى علي الثانية قبيل الاحتلال الأخير.
العلاج المر  لا الموت البطئ :
في مواجهة مثل هذه الظروف يتوجب ان تتحلى الحكومة بروح القيادة والشجاعة الكافية والكفاءة في انفاذ حزمه متكاملة تتمثل فى المعالجة المرة في وقتها . لكي لا تتفاقم الأوضاع من اقتصاد التضخم الي اقتصاد الندرة واخفاء السلع بالكامل. ومكافحة تضخم مثل هذا الذي يواجه السودان يقتضي سياسة تقوم علي المبادئ التالية.
1-   اعطاء أولوية قصوى في التخصيص واستخدام العملة الأجنبية لاحتياجات الانتاج لزيادة الانتاج الداخلي وتقليل الحاجه للاستيراد بل والسعى لتعظيم الصادرات واحلال الواردات ببدائل محلية وتقليلها الي أدنى حد ممكن.
2-   اعتماد سعر صرف واقعي واستخدام سياسه التعويم المدار لسعر الصرف لمكافحة السوق السوداء . وطرد المضاربين من السوق النقديه وتحقيق ثبات في سعر الصرف يؤدي الي ثبات توقعات المستوردين وتجار التجزئة . مما يؤدي الي استقرار سعر السلع والخدمات تبعاً لاستقرار سعر الصرف.

3-   تجنب زيادة الأجور والمرتبات حني لا يؤدى ذلك الي تضخم الكتلة النقدية في وقت تعاني فيه الأسواق من الجفاف الكبير . كما يتوجب السعي المتواصل لإيقاف تمويل الموازنة العامة بالعجز من خلال تقليل الصرف الحكومي وزيادة القدرة علي الجبابة . وتكبير المظلة الضرائبية ورفع الإعفاءات الضريبية غير الضرورية والتي لا تؤثر علي الاستثمار المحلي والاجنبي.
-         4-تشجيع الاستثمار بحوافز متعددة وخاصة ذلك الاستثمار الذي يقع ضمن خطة الحكومة فى احلال الواردات وزيادة الصادرات  وتقليل الواردات.
-         5- زيادة القدرة علي التحكم بالسياسات في الاسعار من خلال تحسين الإحصاءات والرصد الدقيق لبيانات الواردات وحاجات السوق . ومكافحة التهريب والتخزين واجراء دراسات التكلفة . وانشاء مجالس مشتركة مع أرباب الصناعات والمستوردين وتجار التجزئة لوضع مؤشرات ملزمة لاسعار السلع والخدمات.  تحدد الحد الأدنى والأعلى لكل السلع الضرورية وذلك بناء علي دراسة دقيقة للتكاليف والأرباح المتوقعة وأوضاع الأسواق الدولية والمحلية.
-         6-ضبط الائتمان المصرفي لكيلا  يؤدي الي تراكم الكتلة النقديه وتوجيه الائتمان نحو الاستثمارات أكثر من التجارات .
-         7- التحكم في حجم السيولة في السوق بالكف عن اعتماد السعر الموازي لشراء الذهب للصادر . وبدلا من ذلك اعتماد سعر صرف مرن من خلال الادارة الدقيقة لسعر الصرف نزولا به الي سعر واقعي . يوازن بين سعر البنك المركزى والسعر الذي تمليه المعادلة بين المعروض والمطلوب من العملات الأجنبية. كذلك العمل علي تقليل تسرب ايرادات الدولة الي الأيادى الخاصة من خلال الرسوم والضرائب غير الشرعية (( كل ضريبه لابد من تشريعها بقانون)) ومن خلال اجبار الجباة علي استخدام أورنيك 15 . والأفضل التحرك بسرعة نحو الجباية  الألكترونية التي تساهم  مساهمة فعلية في مكافحة تسرب الايرادات الى الأيادي الفاسدة. كذلك لايقاف تسرب الايرادات لاستخدامات غير الرشيدة لابد من محاربة تجنيب الايرادات حتي لو كان ذلك لاستخدامها في برامج حكومية معتمدة .  ولابد من احترام النص الدستورى الذي يُلزم بتوريد كل الإيرادات إلي وزارة المالية قبل إعادة تخصيصها بناء علي قانون الموازنة العامة.
ختاماً
لا شك ان كثيراً مما أوردناه حاضراٌ في أجندة الإصلاح الاقتصادى ولكن ذلك لا يعفينا من التذكير به وتثقيف العامة بمصطلحاتة ومفاهيمه لتعظيم القدرة الشعبية علي المتابعة والمحاسبة والمراجعة . فأمر الاقتصاد لا يعني الاقتصاديين فحسب بل لا يعنى الحكومات ورجال الأعمال فحسب  فهو شأن يسعد الشعب بصلاح أمره  ويشقى باختلال شأنه وتردي أحواله الصحية ويتداعي له سائر الشعب بالسهر والحمى.