سانحة يسعد بها
شيوخ الأحزاب المعارضة للحكومة وهى إقبال الحكومة على إنفاذ حزمة الإصلاحات
الاقتصادية التي تراها حتمية لإعادة التوازن للاقتصاد الوطني بعد صدمة الانفصال
وآثار الأزمة الاقتصادية العالمية على البلاد. والسانحة هى كما يراها هؤلاء أن
يغضب الشعب فيثور فيهرعون هم بمؤازرة
حلفائهم المتمردين لامتطاء سدة الحكم على أنقاض الانقاذ . وأما السانحة من الزاوية
الأخرى هى اجتراح مسار جديد للاصلاح للاقتصاد والسياسة قاعدة للتقدم نحو شوط جديد
من النهوض والتقدم .فمن يكسب الرهان ؟ هل هو من يراهن على اعادة عقارب الساعة لما
قبل الانقاذ ام يراهن على مستقبل جديد.
الاقتصاد السياسى مفهومه ومضمونه :
لما كان جوهر
السياسة العامة هو قسمة القيم بالعدل فى المجتمع فانه عندما تكون القيم موضع
القسمة قيماً مادية يدخل الافتصاد من أوسع الأبواب. ولذلك فان تشابك السياسة
بالاقتصاد يكاد يبلغ الى حد التماهى . وعلم الاقتصاد السياسى هو العلم الذى يرصد
اندماج الاقتصاد بالسياسة وأثرهما معاً على المجتمع. وكان المصطلح قبل ماركس يكاد
يقتصر على توصيف قدرة الحكومة على استقضاء ايراداتها من الشعب حتى أصبح ذلك
معياراُ لقياس درجة التنمية السياسية فى مجتمع ما. أما الماركسية فترى أن الظاهرة
السياسية بمجملها بنية فوقية ناتجة عن تطور وسائل الانتاج والاوضاع الاقتصادية
المترتبة عن ذلك التطور، فالاقتصاد لدى ماركس لايكون الا سياسياُ.
وبالتالى فلا رجاء فى اصلاح سياسى ما لم تتغير الوقائع الاقتصادية.
لدى الماركسيين الاصلاح السياسى متغير تابع لتغير الاوضاع الاقتصادية لا عبر
الاصلاح ولكن بالتغيير الثورى. ويبدو ان الحزب الذى يزعم نفسه ماركسياً فى السودان
لا يُدرك هذا أو هو يجحده بمحاولة تحقيق الإصلاح فى البنية التحتية التى هى
الاقتصاد من خلال التغيير الثورى فى البنية الفوقية التى هى السلطة السياسية . ولكن
من يأبه لهذا فمتى كان الحزب الشيوعى السودانى حزباً ماركسياً . ماهو الا حزب لا
ديني قد أصاب الهرم أفكاره ومؤسساته وقياداته الأثارية . وأما علاقة الاقتصاد
بالسياسة فى المفهوم الاسلامى فهى لاتجعل للاقتصاد ذلك الأثر البليغ بل ارادة
المجتمع السياسى هى التي تُحدث التغييرات اما للأمثل أو للأسوأ (لايغير الله ما
بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) . ولذلك فان الاصلاح الاقتصادى جزءٌ لا يتجزأ من
الاصلاح السياسى . فتتدخل الدولة عبر حزمة شاملة للاصلاح السياسى والاقتصادى
والثقافى هو الذى ينشىء التغييرات المرغوبة فى المجتمع . الاقتصاد السياسى اذاً هو
حالة التفاعل بين المتغير السياسى والاقتصادى . ولا تكون التفاعلات ممكنة ما لم
تكن متزامنة أو متتالية متصلة غير منفصلة.
المشكلة السياسية الاقتصادية فى
السودان أسبابها ومظاهرها :
لا يمارى أحد فى وجود مشكلة منذ أمد بعيد فى التطور السياسى
والافتصادى فى السودان. فهو اما بطيء التقدم قياساً لتقدم الآخرين وللنمو السكانى
أو هو شبه متوقف ما يزيد الوضع سؤاً . وأكبر الاسباب المفسرة لهذه الحال بعد ضعف
الارادة على احداث التغيير أى روح المحافظة المزمنة هو ضعف التشخيص لأسباب الظاهرة
. وذلكم بسبب التحيزات الفكرية والسياسية والحزبية . يشمل هذا الوصف الجميع ولا
يستثنى أحداً . ولينظر أحدنا بعين الناظر الفاحص وأذن المستمع المنصت للحديث عن
التجديد والتحديث فلا يراه الا حديثاً بلاغياً لا يحُدث أثراً كبيرا فى الوقائع
السياسية أو الاقتصادية . ثم أننا لا نملك الشجاعة من بعد للاعتراف بهذا الواقع .
فالبلاغة هى أهم أدبيات السياسة فى السودان والخطابة هى أهم المهارات المطلوبة
للترقى السياسى الفردى أو الجماعى . ونقصد بالبلاغة الحديث الجيد عن الاشياء دون
استفراغ الوسع فى احداث مطلوب ذلك الحديث الجيد فى الوقائع على الارض وفى المجتمع
. ولقد كادت المفردات المستخدمة سياسياً تفرغ من مضمونها تماماً فحزب الأمة هو حزب
الطائفة . والحزب الاتحادى الديمقراطى لم يعد يبغى الاتحاد حتى بين فصائله ولا حاجة
بنا للتعليق على حظه من الديمقراطية . والحزب الشيوعى ما عاد شيوعياَ أو حتى
مشاعاَ لمنتسبيه بل أصبح دُولة بين ورثتة
التاريخيين . ولم يعد أحدٌ يذكر الماركسية أو يحن لأيامها . ولم يعد هو حزب الطبقة
العاملة بل حزب المعاشيين البرجوازيين . واما ما يتسمى بالأحزاب القومية فلم تعد
الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة هى غاية مسعاها بعد ان عقدت فلول
أحزابها أوصرها مع الاحزاب التى تتناصر وتتفاخر بحلفها مع اسرائيل لاستئصال
الهيمنة العربية من السودان وغير السودان على الطريقة الزنجبارية . وأما حزب
المؤتمر الوطنى فكاد يكون مصطرعاً للعناصر والقبائل لا بؤرة وطنية للاندماج
والتآلف للعمل من أجل الوطن. فالإسراف فى الموازنات الجهوية يمضى بالاتجاه المعاكس
لبناء الوحدة الوطنية والنهضة من أجل سودان موحد آمن متطور متقدم متحضر. أن
الاسراف فى المعالجات الآنية بالترضيات الجهوية يوشك أن يكون عاصفاً بالوحدة مخلاً
بالأمن معيقاَ للتطور . ولن يزداد السودان تحضراَ قط بالتراجع للاصطفاف الجهوى
بدلاَ عن الانتظام الوطنى. قلنا كل هذا ولم نتحدث عن اختفاء النظام السياسى بمجملة
خلف غشاء العبارات الضبابية والأفكار المبهمة والقطيعة الفكرية حتى بين نخبته التى
تدعى الامتياز الفكرى .
وكما ضربت التقليدية اطنابها على السياسة أرخت سدولها على
الاقتصاد فهو اقتصاد موغل فى الكلاسيكية فى طرق كسبه وإنتاجه فالرعى التقليدى الذى
تغيرت البيئة والعالم لم يتغير قط ولا يحدث نفسه بالتكيف والتغير ولو أدى ذلك ان
تننهى رحلة (الدمر) الى حرب تخرج جميع اطرافها من الدين والدنيا على حدِ سواء .
والزراعة لا يزال غالبها فى القطاع التقليدى الذى يرفع الأيدى للسماء مستمطراً
وتحت أقدامه مئات المليارات من المياه الجوفية التى نسيها الحفارون . ولقد رأيت
بأم عينى أو بأبيها فى الصين كيف حفر أولئك القوم قبل قرون عديدة لا آباراً جوفية فحسب بل انهاراً تجرى تحت
الارض لتغذية الأبار الجوفية. ولا يزال من نسميهم المزارعين وليس الزارعين يزرعون هم
أو من يستزرعون من أجراء ذات الاصناف بذات الوسائل القديمة العتيقة والتى أصبحت
كلفة تصنيع غالبها أكثر من كلفة الوسائل الحديثة. ثم يظن البعض منا أن بإمكاننا المنافسة فى
الاسواق الدولية حتى أنه لينشئ لذلك محطة يسميها نقطة التجارة الدولية . أما عن
الصناعة فحدث عنها وأنت غارق فى الحرج فهى الوسائل الحديثة برؤى العقول التقليدية
والأيادى غير الماهرة . ولسوق المثال أخبر عن بعض التجارب فابان عملى بالصحافة استقدمت
خبراء بعضهم أردنى وسورى وهندى لمعالجة رداءة المنتج وكثرة التالف وضعف نسق
الانتاج . ولم يكن اللوم على الآلات فقد ظهر أن
العنصر البشرى أدارة وحرفة هو الأمر المستعسر على الحل . وأعسر ما فى ذلك
رفض هؤلاء وأولئك للتشخيص ومقابلة الخبراء بالعداء والاستعلاء. وخبير آخر جاء ينصح
ويدل لأفضل الممارسات لإعادة تشغيل مصانع النسيج لم يجد بها بأساَ وإنما العتب على
الذين لا يمنحون العتبى لأحد ناقد قط . وأما التجارة فلا شك عندى أن تجارة خان الخليلى
فى مصر المملوكية أنجح وأنجع منها فى حسن التفاعل مع المتسوقين لبربح هؤلاء ويرضى
أولئك . واما التجارة الخارجية فينبئ عنها ميزان المدفوعات . فالسودان يستورد
البضائع من غير منشئها ويصدر غالب صادراته عبر طرف ثالث . فالوصاية على ما نستورد وما نصدر على قلة ما
نصدر هو واقع الحال.
التطلع لاقتصاد الريع :
وآمال أهل السودان عامتهم وخاصتهم الحاكمة
والمعارضة معلقة باقتصاد الريع . أى يأتى مستثمرون من الخارج فيخرجون من الارض
بترولها وغازها وذهبها وحديدها ونحاسها فيأخذون نصيبهم ويعطوننا نصيبنا. والمثل
الذى يتطلع نحوه الجميع هو المثال الخليجى الذى وضع ميسمه على فكرنا الاقتصادي
وعلى تقاليد استهلاكنا وعلى معمارنا وأسماء أحيائنا وبدأ فى تغيير اسماء
أبنائنا . وما بأهل الخليج من بأس فهو
رعيل خير أكرمهم الله بما فى باطن الأرض ريعاً حسنوا به أوضاعهم وهم عدد قليل من
حيث التجمع السكانى بل وأفاضوا من خيرهم على غيرهم لأنه بالفعل يفيض. ولكن هل
أنموذج الاقتصاد الريعى هو الأنموذج الذى سيخرج بلادنا بعشرات ملايين سكانها من
الضيق الى السعة ومن العسر الى أحد اليسرين أو كلاهما .ان الله لا يغير ما بقوم
حتى ينتفضون فيغيروا ما بلى من أوضاعهم . وما رث من أفكارهم فهل نحن على أُهبة
الاستعداد للخروج من مأزق التقليدية إلى فضاء التغيير والإصلاح ؟
نواصـــــــــــــل،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق