الثلاثاء، 18 نوفمبر 2014

لكيلا نخسر المستقيل لا تضريوا الأطفال 1

يحدث للمرة الثانية على التتالي أعزم على إستكمال مقالات سلسلة (الخلافة الإسلامية .. الجدل القديم) ثم يطرأ طاريء يحفزني إلى التأجيل لكيلا يفوتنى موضوع الساعة. ومسألة الساعة التي استفزت منى اليراع هذه المرة قولٌ منسوب لوزارة التربية بولاية الخرطوم يقول : أن ايقاف جلد الأطفال أدى إلى تطاول التلاميذ على أساتذتهم . وقيل أنها كشفت عن استغلال بعض الأسر لقانون الأسرة والطفل ضد المعلمين الذين يعاقبون أبناء تلكم الأسر . وقيل أيضاً أن الوزارة أعلنت عن عزمها على مراجعة اللائحة لأحداث التوازن المطلوب (الذي يسمح جلد الأطفال) . ولقد حدثتني نفسي ولم تك دائماً صادقة ولا حاذقة أن أوان جلد الأطفال سبيلاً للتربية قد فات وولى زمانه ولكن يبدو أن ذلك لم يكن إلا وهماً خادعاً أو أمنية فانية.
الضرب وسيلة للتربية:
لا نملك إلا التجلة والإحترام لاساتذتنا الكرام . بيد إننا ونحن لا نبريء أنفسنا من الخطأ أوالخطيئة لا نبرؤهم من الأخطاء والخطايا (ان النفس لأمارة بالسؤ إلا ما رحم ربي) . ومن الأخطاء الفادحة التي نجمت عنها عقابيل تتعسر معالجة أثارها النفسية والاجتماعية استخدام الضرب القاسى وسيلة للتربية. ولئلا لا نشتط في الملامة على معلمينا في الزمن الغابر فان تلك كانت شيمة معروفة ووسيلة مشروعة في غالب المعروف والمنشور والمعمول به من الثقافة التربوية السائدة في بلادنا وغالب أرجاء العالم . وإن لم تكن مأذونة في الشرع الإسلامي كما سوف نوضح لاحقاً إلا في حالات النشوز والتمرد . وبشروط قل أن تتوفر إلا في حالاتٍ محسوبة معدودة. وهي عادة كانت الأكثر إنتشاراً في العالم الثالث لأنها عادة متصلة بالتخلف الفكري والحضاري. فالبلاد الناهضة إنما نهضت بنهوض إنسانها وباكتسابه القوة والقدرة والثقة بالنفس . وليس ثمة شيء يحط بذلك مثل التربية القاسية التي لحمتها الضرب وسداها القول الجارح الحاط بالهمة وبالرغبة في التعلم . وأسوأ ما يسؤ الانسان أن يبحث البعض عن شرعية هذه القسوة في شريعة الرحمة السمحاء. تلكم الشريعة التي أعلت من كرامة الإنسان حتى سجدت له الملائكة بأمر الله رب العالمين . فجوهر إنسانية الانسان هي كرامته التي تجرحها الاهانة ويزرى بها الأذلال . فعزة الإنسان هي جوهرة هويته . وإنما سُخر الملائكة ينقلون له رسائل السماء ويرصدون أعماله ويستغفرون له . وكل كائنات السموات والأرض سُخرت له لينمي قدراته ومواهبه ويرتقى بها ليرتقى بالكائنات من حوله . فقد أعطى ما لم يعط لغيره العقل المتطور والإرادة الحرة. وارتقاء الإنسان جسدياً ونفسياً وروحياً إنما يحدث له بارادة كامنة فيه . تحفُز خلايا جسده لكي تنمو وتتعافى وتتقوى . وتحفز ملكات عقله لكي تتطور وتترقى في مدارج العلم والعرفان . وتحفز إرادته لكي تتسامى بمرادتها فوق توافه الهمم وصغائر الاشياء ولتسمو خلقياً وروحياً . وأنما التربية هي فعل الآخرين من أولى الحكمة والرشد لإعانة الإنسان صغيراً على النمو والإرتقاء . والتربية من مفردة (ربى )ومعناها الزيادة المتواصلة . وهي أيضاً تطلق على الإنعام والألطاف والرعاية . ومنها معنى الرب وهو الراعي المنعم اللطيف . و معنى رب الشيء انما هو المرء أو المرأة الساهرة على صلاح ذلك الشىء ونموه وارتقائه. فكيف يتصور المتصور أن إهانة الطفل وإذلاله والحط من كرامته سوف يكون درجاً للترقي إلى كرائم الاخلاق وحسن الشمائل وبناء القدرات والملكات!!
محمد صلى الله عليه وسلم النبي الرحيم
والمربي الأعظم الذي هو الرسول صلى الله عليه وسلم والذي ربى الكبار قبل الصغار لم يُؤثر عنه أنه ضرب طفلاً قط ولا أصابه بجارحة من لفظ أو قول وهو هو أسوتنا وقدوتنا وسيرته ومسيرته وعمله هو البيان بالعمل للصلاح والفلاح والترقي إلى أسمى مقامات الإنسانية . ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حنوناً رؤوفاً بالأطفال وكان أشد رأفة ورحمة بالبنات. وقد روى الترمذي وأبو داؤد (أن فاطمة الزهراء كانت إذا دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قام إليها وقبلها وأجلسها في مجلسه ) وروى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلى حاملاً أمامة أبنة أبنته زينب على عتقه. وهو القائل في وصيته لأصحابه عن تربية الأبناء (لاعبه سبعاً وأدبه سبعاً وصاحبه سبعاً) بيد أن أناساً من جفاة الطباع غلاظ الاكباد قساة القلوب قد فسروا الأدب بالضرب وما لهم الى ذلك من سبيل.أنظر كيف يعامل ويخاطب الفتيان. فقد كان معاذ بن جبل تابعاً حدث السن يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعنفه بقول فى يوم من الايام بله أن يضربه وعنه رضى الله عنه أنه قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدى فقال : أنى لأاحبك يامعاذ فقلت : وأنى لأحبك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلا تدع أن تقول فى كل صلاة رب أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ) 
يقول معاذ فما أدرى كيف فعلت فى هذه الكلمة فعل السحر فقلت أذا أحبك رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل بعد هذه المرتبة من مرتبة . فشتان من يربى الأبناء بالمحبة ومن يربيهم بالسوط . فلم يتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سوطاً قط ولا للدابة فقد كان نهجه الرحمة والرفق. وما كان أمرٌ من الأمور يغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل القسوة والضرب وجفاء الطبع. وقد أخبر أصحابه عندما علم ان بعضهم يضربون نساءهم (وليسوا أولئك خياركم) وحكى أبن مسعود عن غضب النبي صلى الله عليه وسلم عندما رآه يضرب غلاماً له فقال (كنت أضرب غلاماً لي بالسوط فسمعت صوتاً من خلفي يقول : أعلم يا بن مسعود .. أعلم يا بن مسعود .. أعلم يا بن مسعود فلم أفهم الصوت من الغضب.فلما دنا منى إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا هو يقول (أعلم يا بن مسعود ان الله أقدر عليك منك على هذا الغلام ) فقلت يا رسول الله هو حر لوجه الله فقال صلى الله عليه وسلم ما لم تفعل للفحتك النار أو مستك النار (فقلت والذي بعتك بالحق لا أضرب عبداً بعده أبداً ) . فكيف تضربون أبناء الناس يا هؤلاء وتحسبون أنكم تحسنون صنعاً ؟؟ وهل يسأل الضارب نفسه وهو الممارى المكابر هل كان يضرب الطفل عندما كان يضربه وهو رابط الجأش هاديء الأعصاب ممتلك لغضبه متمكن من كبت سخطه ؟ فان لم يكن ذلك كذلك فهوضرب في مقام الانتقام لا مقام التربية.
ويحتج بعض هؤلاء على شرعية الضرب رغم متواتر الأخبار عن كراهية الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الأسلوب الذي يضاد الرحمة ويناقض الرأفة والعناية من كل وجه ويتعللون ببعض أقوال وأحاديث وردت في شأن أصحاب المعاندة والشذوذ والنشوز . ثم وُضعت لها شروط تُحيلها إلى مجرد رمز لعدم الرضا الرفض للسلوك موضع النقد وإنما ذلك يكون موضوع لحلقة قادمة من هذا المقال بأذن الله.

الأحد، 16 نوفمبر 2014

صلاح الحكم الاتحادى الأدنوية هى الحل (2)


ا
              


ان اصلاح الحكم الاتحادى يجب ان ينظر اليه فى اطار نظرة أوسع للاصلاح . نظرة تسعى لتفعيل الحكم الراشد من خلال توسيع الشورى أفقيا ورأسياُ . ونعنى بالتوسيع الافقى زيادة تخويل السلطة للقطاعات الأوسع من الجمهور . ونعنى بالتوسيع الرأسى للشورى تقاسم القرار بين السلطات ومأسسة جهة اصدار السياسات والقرارات . ذلك أن الحكم الراشد لن يتحقق الا بالتوسعة فى الشورى لأنها تضمن مبادىء شفافية الحكم وتضمن السائلية والمحاسبة لكل سلطة من السلطات وكل مستوى من المستويات من خلال توازن الجهات والسلطات الآمرة وتكابحها . ولئن كان الحكم الراشد والديمقراطية هما إحترام حق الشعب في الإختيار وتمكينه من اتخاذ القرارفهل هذه القناعة متجذرة في الحياة السياسية في بلادنا؟ لاشك أن القليل من الناس سوف يُكابر ويلاحي في كون الأجابة هي (لا) . فتهميش السواد الأعظم من الجمهور هو الأمر الدارج منذ الاستقلال . وهى حقيقة تعضدها وتؤكدها شواهد كثيرة. وعدم إحترام حق الشعب في الإختيار ليس وقفاً على النخب المتنازعة على مقاليد التحكم والقرار، بل تتجاوزهم لتشمل قطاعاً واسعاً من جمهور الناس العاديين المعتادين على التسليم لثلة من النخبة السياسية أو الدينية أو الأهلية بالأمر كله دقِه وجله . ورغم الحصاد القليل والبضاعة غير المزجاة التي آب بها أهل السياسة بعد عقود وعقود إلا أن عقلية التسليم للنخبة لا تزال هي الرائجة السائدة. وتحولت الديمقراطية من نسق من السياسات والأفعال لتحسين أحوال الناس إلى لعبة سياسية تتنافس النخب فيها على حظوظ من الجاه والترقي الطبقى وأما حظ الناس العاديين من ذلك كله فنذر يسير.
الديمقراطية من أدنى إلى أعلى:
        صار ذلك كذلك لأن السياسة التي هي دعوة إصلاحٍ شامل تحولت إلى شأن خاص بالملأ المستعلى السياسي ، وصارت فكرة الوكالة عن الشعب التي أوجدتها الضرورة عقيدة هيمنة حولت سواد الشعب إلى محل المفعول به إلى أمد غير معلوم. ولرب سائل يسأل هل من سبيل لاصلاح والاجابة المتفائلة هى (نعم ) . والسبيل  هو أن يستعيد صاحب الأمر أمره. وكيف يكون ذلك؟ والإجابة أيضاً بسيطة سهلة وهي العودة للحكمة الشعبية " ما حك جلدك مثل ظفرك فتولَ أنت جميع أمرك" فإن لم يكن بالإمكان تولي جميع الأمر مباشرة فيمكن القول تولي أنت غالب أمرك. ولا تتخذ وكيلاً إلا عند الإضطرار. وطريقة ذلك  كما أسلفنا معلومة ومجربة في أفضل الممارسات التي عرفتها البشرية. وهي تنزيل السلطات على كافة الامور التي تلي مصالح الناس المباشرة إلى سلطتهم المباشرة بتبنى مبدأ "الأدنوية". وهو مبدأ تمكين الشعب من خلال بناء مستويات الحكم من أدنى الى أعلى مع تركيز السلطة فى مستوى الأساس حيث لا أسراف فى الهياكل السياسية والادارية .ذلكم الاسراف  الهيكلى الذى حول الحكم الاتحادى من ذريعة لتركيز الخدمات وتعزيز التنمية المحلية الى غنيمة تتصارع عليها القبائل والعشائر حتى يقتل بعضهم بعضاً.كذلكم فان الأدنوية تحول دون تلكم الصراعات القبلية والعشائرية لأنها تقسم السلطة والموارد أفقياً وتفتت السلطة فينال كل نصيبه ولا يبقى منها كثير يكون مطمحا لأحد أو عشيرة أو قبيلة . فأيسر السبيل لاصلاح  الحكم الاتحادى هو بناء أساسه المتين فى الحكم المحلى .
الحكم المحلي .. المستوى المتروك:
        والحكم المحلى كأن أساس سودنة الحكم . فعندما فكرت السلطات الاستعمارية تحويل السيادة تدريجياً للسودانيين لم تبدأ بالسودنة المركزية أي بملء الوظائف الأعلى بعناصر وطنية بديلاً للمواطنين الأجانب ، وأنما بدأت على الوجه الصحيح من أدنى إلى أعلى . فكان باديء الرأى هو تطوير الإدارة الأهلية والحكم المحلي . وكانت الدواعي لذلك والدوافع عملية. فالدولة العظمى (آنذاك) لن تستطيع أن تحكم قبضتها على كل أطراف البلاد إلا بشراكة من القيادات المحلية. وهذه القيادات جلُها إن لم يكن كلُها تقف في موقف العداء للسلطات الإستعمارية. وبخاصة بعد أن شحنتها الثورة المهدية بطاقة دينية هائلة وبمزاج مجانب للاجنبي ومحارب له إن استطاع إلى ذلك سبيلاً. ولكن السلطات البريطانية لم تيأس من كسب الزعماء إلى جانبها. وكان سبيلها إلى ذلك تمكينهم من السلطان القليل المتوفر لها. وأشعارهم أنهم مخيرون إلا قليلاً فيما يأخذون وما يتركون. ولم تحاول السلطات الإستعمارية إلغاء الإدارات العرفية الأهلية. ولكنها جعلت السلطة المحلية قسمة بينهما وبين إدارة محلية تُعيَنها تلك السلطات الأجنبية. ثم أن الحكام البريطانيون وهم يتهيأون للمغادرة إجتهدوا في تطوير الحكم المحلي. وكلفوا خبيراً بارعاً في هذا الشأن ليعد تقريراً يكون هادياً لخطوات التطوير تلك. وجاء تقرير د. مارشال ليكون علامة فارقة في تاريخ الحكم المحلي في السودان، بتركيزه على ضرورة انشاء مستوى تكون له شخصية اعتبارية وقيام "بذاته واستقلال" بأمره. وتُوفر له موارد محلية وموارد مُحالة من المستويات العليا. ويحُمي من تمدد وتغول السلطات الأعلى. ورأى مارشال أن ذلك سيحقق تأهيلاً وتدريباً للسودانيين على المستويات القاعدية ليتمكنوا من إدارة بلادهم الواسعة بكفاية واقتدار.
        ولا يزال تقرير د. مارشال محل التقدير الكبير من كافة علماء الإدارة والسياسة المحلية في بلادنا . لا تفرقهم الإنحيازات الحزبية ولا الولاءات السياسية. ولكن التأمين على الفكرة لم ينشىء في أية مرحلة من المراحل إرادة كافية لجعلها واقعاً متجسداً في أرض الواقع. وعند إنشاء النظام السياسي في سنوات الانقاذ الأولى تدرجاً نحو ديمقراطية قاعدية، كان هنالك تركيزُ نظري كبير على فكرة الديمقراطية القاعدية. وضرورة مشاركة الناس العاديين في تقرير أمورهم من خلال لجان أحياء ومؤتمرات قاعدية. ورغم أن الفكرة لم تستبعد فكرة التعددية إن آن أوانها إلا أن المنظرين آنذاك لم يروا سبباً لعدم المزاوجة بين الديمقراطية القاعدية والتعددية. فمثل هذه التجربة إستقرت واستمرت في دولة سويسرا لعهود كثيرة تجاوزت القرن بكثير.
        إن أي بناء أنما يبنى من أساسه والنظام السياسي في بنيته الهيكلية والتنظيمية ليس حالة استثنائية. وكل هيكل علوى لا يتموضع على أساس متين فهو موعود بانهيار وشيك. والسودان يبدأ الآن من جديد في صناعة الدستور . وبعض الناس يعتقدون أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان . وليس هذا بصحيح. فالدستور الجديد ما لم يؤسس على رؤية فكرية واضحة لواقع البلاد الراهن ولآمالها في مستقبل موعود سيصير إلى ما صارت إليه دساتير سابقة. وأنما تؤسس الدساتير على قناعة راسخة بها في المجتمع المدني. ويُرجى من خلالها ترسيخ الاستقرار وتهيئة البيئة لنهضة وتقدم. ولن يتحقق ذلك الوفاق حول الدستور باتفاق الأحزاب عليه وانما سيتحقق برضا سواد الناس الأعظم عن ما سيحققه لهم هذا الدستور. وأهم مقاصد الدستور ينبغي أن تكون أصلاح الحياة السياسية واستعادة ثقة الناس في النظام السياسي. ولن يتحقق ذلك إلا برؤية جديدة تبدأ البناء من أساسه ليكون أدنى مستويات الحكم هو أهمها. ويُعبر عن هذه الأهمية بتوفير القدرة لهذا المستوى لأخذ الضرائب لتغذية موازنته. وتلقي دعم راتب مقررُ بالدستور من مستويات الحكم الولائية والإتحادية. وأن تُمنع تدخلات المستويات الأعلى بتوفير الحماية الدستورية لمستوى الحكم المحلي، وأن يُحصن الحكم المحلى من الفساد من خلال شبكة من التشريعات والآليات ومجالس المحاسبات مع تفعيل الرقابة الشعبية من المجتمع المدني والأهلي والرقابة المجالسية . وهذه الآليات سيكون حظها من الفاعلية أكبر عند المستوى الأدني وذلك بسبب المعرفة المباشرة المتاحة عند هذا المستوى. وكذلك مستوى الشفافية العالية بسبب بساطة مستوى الحكم نفسه. وأني لاتعجب ممن يّدعون غيرة وحرصاً على حقوق الناس العاديين ثم تكون دعوتهم لإنشاء مستويات فوقية جديدة من الحكم تنؤ بكلكلها على المواطن. وترهقه باعباء مالية تذهب للنفقات البيروقراطية التي لا طائل من ورائها. ولذلك فان الحديث عن انشاء أقاليم جديدة حديث يفتقر إلى معرفة واقع الأحوال. ويرتبط أكثر ما يرتبط بطموحات سياسية وبيروقراطية للنخبة المتباعدة من شعبها وإن إدعت شن الحروب لتحريره من الفاقة والاستبداد. وأما أن يسمى المستوى المتوسط بين المستوى القومى والمستوى المحلى ولاية أو أقليماً فلا يهم. فأنه لا مشاحة في الأسماء والمصطلحات. ولكن لابد ان يكون المستوى المتوسط هو أقل هذه المستويات حظاً من الموارد والسلطات.وأصغرها من حيث الهياكل السياسية والادارية . وأن يكون المستوى الأدنى هو المستوى الأوفر حظاً من الموارد المالية والسلطات والصلاحيات . لا يحد من ذلك إلا الإعتبارات العملية. وأما المستوى القومي فهو الممسك بالوحدة القومية للبلاد . ويتوجب أن يُمكن من السلطات والموارد التي تتيح له ذلك . وبخاصة في مجالات التشريعات والسياسات القومية وكافة الأمور العابرة بين الولايات.  وبتركيز خاص في السياسات الأمنية والدفاعية والخارجية والتخطيط الإقتصادي والتنموي الكلي وسياسات التعليم والاعلام والمعلومات. وأن ينأي المركز بنفسه عن تقديم الخدمات أو الاشتغال بأمور الخدمات والتنمية المحلية وكل أمر يمكن أن يُقضى في محله دون ان تمتد آثاره لولايات أخرى.فذلكم سبيل الأصلاح أما أن يقال أن الاصلاح يتحقق ضربة لازب ان اصبح أمر تعيين الولاة بيد الرئاسة فذلكم هو التبسيط الموهم بان المعالجة اليسيرة تشفى الداء العضال.
انتهى،،،


الخميس، 6 نوفمبر 2014

اصلاح الحكم الاتحادي.. الأدنوية هي الحل( 1)

مقدمة
        أستسمح  القراء الكرام لانقطاعي عن مواصلة مقالات "الخلافة.. عودة الجدل القديم" . وسأعاود باذن الله الكتابة في ذلك الموضوع المهم . ولكن طرح قضية إصلاح الحكم الاتحادي دعاني للمداخلة بالرأي في مسألة في غاية الأهمية قد يعم بها النفع وقد تعظم بها البلوى. ولا أحب أن تفوتني المداخلة في هذا الأمر في أوانها.  وبخاصة والهيئة التشريعية تتأهب للمدارسة في شأن اصلاحات وتعديلات مهمة للحكم الاتحادي.
هل ثمة حاجة لاصلاح الحكم الاتحادى :
الاجابة بكلمة "لا" إجابة لا شك خاطئة في كل الاحوال . فليس من حال كائن هو أحسن الأحوال . ولن يصدق ابداً القول القائل "ليس في الامكان أبدع مما كان" . فقد برزت مع انصرام السنوات علي التجربة عيوب عديدة ينبغي استدراكها وثغرات كثيرة يجب سدها. وأهم هذه العيوب هو أن الممارسة قد رسخت للتعصب القبلي والجهوي . فأصبح الاختيار للمناصب محاصصة بين القبائل والجهات. وهي محاصصة لا تُتخذ الجدارة والكفاءة شرطها الأول. وتحولت المافسات القبلية الي مناجزة أهدرت موارد كثيرة وأحياناً دماء غزيرة في سبيل الفوز بجائزة المنصب. فاُهدرت بذلك قيم غالية نفيسه مادية وأدبية ومعنوية. وتحول الحكم الولائي الي هيكل سياسي وادارى ضخم يستنزف الموارد ويحول دون تنزلها الي المواطنين في صورة خدمات وتنمية محلية. وكانت أكبر الثغرات هي جعل الحكم المحلي تحت رعاية الحكم الولائي . فلم تتحقق تلك الرعاية لأنها تحولت الي وصاية بدلاً من كونها وكالة عن المواطنين أصحاب الامر والشأن. وشتان ما بين الوصاية والوكالة. فالوكالة تعني سيادة صاحب الشأن ومرجعيته فلا يجوز للوكيل الانفراد بالقرار والاستبداد به . ولا يجوز له التصرف إلا في حدود التوكيل الذي تتحقق به المصلحة والمنفعة. ويجوز لصاحب الشأن الذي هو المواطن علي المستوي الشعبي أن يسترجع وكالته من الوكيل متى ما فشل الأخير في تحقيق المصلحة والمنفعة . ( فالتصرف بالسياسه منوط بالمصلحة ) وهذه قاعدة الأساس في شريعة السياسة الاسلامية. وأما الوصاية فلا تُفرض إلا علي السفيه وناقص العقل لعجزه عن تدبير شأنه .  فيُوكل أمر التصرف بالنيابة عنه لأدني الناس قرباً منه وأكثرهم حرصاً علي مصلحته ومنفعته.  ولا يكون أجل الوصاية الا بأمد ومشروطاً ببلوغ صاحب الشأن رشده أو استعادته حسن التصرف في شؤونه وأموره.
الحكم الاتحادي ما له.. وما عليه:
        ولئن ذكرنا بعض ما يُحسب علي الحكم الاتحادى فيتوجب علينا ذكر ما يحسب له . واذا عددنا تضخم الهيكل السياسي والاداري وتركيز السلطة في الولاية علي حساب المحليات والتنافس القبلي والجهوي غير الرشيد في حساب السلبيات فأن حساب الايجابيات فيه بنود كثيرة . وأولها تحويل صلاحيات كثيرة وموارد حقيقية للولايات . وإن لم يحُسن التصرف فيها في جميع الأحوال بالأولويات الصحيحة والخيارات الرشيدة. كذلك فان انتقال جزء مقدر من ممارسة السياسة والادارة للولايات وسع الي مدي بعيد دائرة المتعاطين مع الشأن القيادي السياسى والادارى . وحُظي كثيرون بدُربة وخبرة مقدرة في هذه المجالات . كذلك فان اقتراب صعيد القرار في التنمية المحلية في الولايات نجم عنه قدر غير قليل من التنمية في التعليم والي حد ما في الصحة . وكان هذا كسباً مقدراً للولايات التي كان مواطنوها يحتاجون للمجئ الي الخرطوم للحصول علي مدرسة ابتدائية. وقد نجم عن  الحكم الاتحادى  تسارع بناء القيادات التي يمكن ان تُرفد بها القيادة علي المستوي المركزي الاتحادي . مما يعني تمثيلاً أكبر لكل انحاء السودان في السلطة الاتحادية المركزية.
الحلول والمعالجات :
        انما يطرح بقوة في وسائل الاعلام ومنابر السياسة حلاً لمشكلة القبلية يتمحور حول  مسألة إعادة النظر في طريقة نصب الولاة  والعودة بالأمر الي مربع التعيين. ولا أعتقد أن مقصود التعديلات المطروحة هو حصر سلطة تعيين الولاة في الرئاسة لأن ذلك إن حدث فإنه مُشعرٌ بتراجع كبير عن مبدأ تخويل السلطات . والحل الأمثل لإحداث التوازن في هذه القضية هو استحداث نوع من الشراكة بين السلطة الولائية والمركزية للرقابة علي الحكم الرشيد بالولاية. ويمكن أن يكون الحل في إلغاء الانتخاب المباشر للولاة وترشيحهم بدلاً من ذلك بواسطة المجالس الولائية المنتخبة.  بأن تتقدم  المجالس بعدد من الترشيحات دون حصر الترشيح في القاطنين بالولاية. وهذا الأمر يحدث الآن وفى كل مرة . وأعني به ترشيح غير القاطنيين بالولاية ولكنهم ممن ينتمون قبلياً للولاية . وبذلك تصبح  الانتماء القبلى قيداً علي إختيار الاكفأ والأجدر لادارة الولاية . فاذا اصبح للمجلس المنتخب الحق  أن يتخير من أولي الكفاية والجدارة من المواطنين السودانيين فإن ذلك سوف يعالج مسألة التنافس القبلي المحتدم . ويدنو اكثر للمعيار الشرعي المتمثل في تولية الأفضل  والمعياوة وأمانة . وكذلك هو أقرب  للمعيار  الوطني المتمثل في كون كل مواطن سودانى جدير بأي منصب في أية ناحية من نواحي البلاد ما أن تتوافر فية شروط الجدارة والكفاية . وأهمية ان يأتي الترشيح من مجلس الولاية تكمن فى الاحترازحتي لا يتهيأ لبعض الناس من دعاة التهميش أن هنالك جهة عليا تفرض عليهم من يتولي أمرهم. كما أن هذا الخيار يتناسب مع مقتضي الاتفاقيات الموقعة . والتي تجعل الأمر في الولاية شوري بين أبنائها . ولكن ذلك لا يتعارض مع امكانية أختيارهم ممن هم خارج الولاية . وقد حدث ذلك خلال تجربة الحكم الاتحادي بعد العام 2005 أي في ظل الدستور الانتقالي أكثر من مرة. أما مشاركة الرئاسة فتجعل من الممكن أن تتحقق درجات أعلي من التنسيق بين المركز والولاية والحكم المحلي . ويكون للوالي في السلطة المحلية مثلما للرئيس في السلطة الاتحادية . بيد أن المشروط هو تنزيل غالب الصلاحيات في الخدمات والتنمية المحلية للمحليات بينما تكون الولاية هي صلة الموصول بين المركز والمحلية.
الأدنوية هي الحل:-
أن مسالة كيفية اختيار الوالي  ليست هي المسألة الاكثر أهمية وان قُرعت لها الطبول . لكن الأهم من ذلك هو تمكين المواطن العادي من امتلاك زمام أمره فيما يلي شأنه المحلي . والسبيل الى ذلك معروفة ومُجربة في أفضل الممارسات التي عرفها الحكم الفيدرالي فى تجارب العالم . وهي  تتمثل فى تنزيل السلطات في كافة الأمور التي تلي مصالح الناس مباشرة الي سلطتهم المباشرة . والمبدأ هذا صار يُعرف في علم السياسة بمبدأ Subsidiarity principle    وأُعربه باجتهاد مني إلي مبدأ "الأدنوية" أي أن السلطة تتركز في المستوي الأدني لا في المستويات العليا. ويعني ذلك أن كل أمر يُمكن أن يُقضي فيه في المستوى الأدني يتوجب أن يُخول التقرير فيه لذلك المستوى فشؤون الحي  تؤول الي لجنة الحي . وشؤون البلدية للبلدية وشؤون المحلية للمحلية . وتتناقص السلطات و الصلاحيات  عُلواً حتي لا يبقي منها إلا ما لا يمكن أن يُقضي إلا وكالة عن سائر الناس لاستحالة توليهم إياه بانفسهم. وهذه الديمقراطية الهرمية هي الديمقراطية الراسخة الواسعة القابلة للاستمرار . ومثلما بقيت الأهرام من حولنا رغم عوادى الزمان لقرون وقرون  طويلة فأن الديمقراطية الهرمية هي التي تتسع قاعدتها أضعافاً مضاعفة أكثر من قمتها وهي الاقوي والأبقي . واذا أضرت حادثات الزمان بتلك القمة النابية يظل الهرم ثابتاً وراسخاً كالطود المنصوب.


نواصـــــــــــــل،،،

الاثنين، 3 نوفمبر 2014

الخلافة.... عودة الجدل القديم (4)

ظلت قضيه الخلافه تطرح جنبا الي جنب قضيه استعاده الدولة الاسلاميه منذ ان اعلن الغاء الخلافه العثمانيه . بيد أن الفرقاء اقتسموا الي فرقين فريق يراها متصله اتصالاً وثيقاً بايجاد الدوله الاسلاميه  وفريق يراها نظاما اقليمياً ينشأ بعد نشوء دول اسلاميه عديده تنشئ تلك الدول نظاما إقليميا للتضامن السياسي والتكامل الاقتصادي والتداخل والتماذج الاجتماعي بين مواطنيها. اما فريق الجماعات السلفيه جهاديه او دعوية فقد كانت رؤيته دائما هي ان الدوله الاسلاميه هي بعينها الخلافه الاسلامية. وانها انما تتوسع فتشمل اقاليمأ متعدده بالفتح كما فتحت الاقاليم الاسلاميه من قبل . لذلك لا عجب ان سارعت الدوله الاساميه في العراق والشام بمجرد استيلائها علي ثاني كبرى المدن العراقية  الي اعلان الخلافه الاسلاميه . ثم مضت بقوة في مشروع توسعها الذي قد بدا بالعراق وبالشام ولكنه لم يتوقف حتي يستعيد ديار الاسلام كما كانت من قبل او ربما تكون أوسع من ذلك بكتير .
الفكره السلفيه ....... بمظهرها السياسي .
عندما نشأت الفكره السلفيه في تبديها المعاصر كانت أبعد ما يكون خطابها عن السياسه والدوله ومسائلها وانما كان خطابها مقتصراً علي تصحيح العقائد ومحاربة البدع وترسيخ الرؤيه التوحيدية السلفيه . ولربما لا نحتاج الي التذكير ان الدعوه السلفيه ضاربه الجذور في التاريخ الاسلامي . ولكن الامام احمد ابن حنبل هو من يعتبره المؤرخون الأب المؤسس لمدرسه السلفيه . وكانت سلفية الامام أحمد بن حنبل وقفه في وجه الخليفه المامون ومن بعده الخليفه المتوكل الذين اعتنقا الفكرة الفلسفيه الاعتزالية وارادا اجبار كل  علماء الامه علي القول بها والقول بخلق القران اتساقاً مع منهجها في التفلسف. كانت الفكره عند الامام احمد رحمه الله (انه يسعنا ما وسع السلف الصالح من اصحاب رسول الله )) فالعقيدة عنده تقتضي بعد التصديق التسليم.  وان اثارة  قضايا فلسفيه يشق علي عامه الناس فهمها يلبس على الناس ايمانهم ويفسد عليهم اسلامهم . ولذلك صمد الامام  احمد وصبر علي الابتلاء والتعذيب ولم يسلم للسلطة القائمه آنئذ بما تريد ان تحمل الناس عليه . فانتصر الامام وتراجع الخلفاء وتراجع معهم الاعتزال . وصار غالب الناس سلفيون علي الطريقة الحنبليه التي تقتدى باصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم . فتتحدث بما تحدثوا به وتسكت عن ما سكتوا عنه . وعندما نشأت المدرسه الأشعرية التي كانت تطويراً لرؤيه بن حنبل بما أنها تتيح القول في العقيده باقوال لم يقل بها الصحابة عليهم الرضوان ولكن مع الالتزام بمنهجهم ونبذ الطريقه الفلسفيه . وجاء الأمام الغزالي ومن قبله شيخه وشيخ الاسلام الحارث بن أسد المحاسبى ليعطيا دفعه قويه للمنهج الاشعرى والذي اصبح هو الأوسع انتشارا في كل ارجاء العالم الاسلامي. وجاءت دوره جديده بمجىء الأمام تقي الدين بن تيمية وتلميذه أبن قيم الجوزية . وكان الأمام أبن تيميه فريد عصره وأيقونة زمانه .  فقد كان جامعا بين أمرين يراهما الناس متناقضين فهو بين سلفية في العقيده وتجديد في الفقه . وأعتبر الأمام أبن تيمية أمام لمدرسه التجديد السلفية. ورغم أنه أمتحن وسُجن أكثر من مرة لارائه التجديدية المخالفه لجمهور العلماء في زمانه الا أنه بعث روحاً جديدة في الرؤيه السلفية . ورؤيته تناهض الفلسفه وتنقض منطقها الأرسطي الهيليني  . فهي لا تدعو لاتباع منهج السلف  في التسليم وتتوقف عند هذا الحد بل تذهب الي نقض الافكار الفلسفيه في العقيدة وكذلك فلسفة المتصوفين الذين أشاعوا اتجاها فلسفيا انتشر بانتشار افكار أخوان الصفا وأبن عربي وكانت معارك ابن تيمية في زمانه مع أبن سبعين . ولكنه كان علي وفاق مع المتصوفه من اهل النظر التأملى والتفكير لا التفلسف من أمثال الأمام أبن عطاء الله السكندرى وأشياخه من قبله أبو العباس المرسي وأبوالحسن الشاذلي . وكان ابن تيمية أول من تحدث من السلفين بقوة في أمور السياسه . وبخاصة والعالم الاسلامي في ابانها كان يواجه فتنة التتار الذين هدموا بغداد . وكادوا يهدمون كل انجازات الحضاره الاسلاميه لولا ان تصدي لهم المجاهدون وعلي رأسهم العلماء . وكان ابن تيمية مجاهداً وداعية للجهاد ولذلك يمكن أن يُقال أنه هو الأب الأول للسلفيه الجهادية والي بعض مقولاته يستند السلفيون المعاصرون . ولكنهم يخطئون تأويلها في احيان كثيرة وهم يتداولونها بإنتقائية لا تعين علي حسن التأويل . بيد ان نهضة الرؤية السلفيه علي يدي أبن تيمية ثم تواصل نهضتها علي يدي ابن القيم الذي أضفي عليها روحا صوفيه بكتاباته في مدارج السالكين  وطريق الهجرتين وكتاب الروح فأصبحت أكثر تصالحأ مع موجة التصوف التي اكتنفت العالم الاسلامي من أقصاه الي ادناه .
السلفيه الموجه الثالثه :
كانت الموجه الثالثه للمدرسه السلفيه هي تلك التي قادها الامام محمد ابن عبدالوهاب . وقد تأثرت رؤيته كثيرا بواقع الانحطاط الفكرى و الفقهي في العالم الاسلامي . فجاءت ثورة سلفيه علي مظاهر هذه الجهالات التي اختلطت بالتقاليد الاجتماعيه والممارسات الصوفية وجهل  الحكام وظلمهم . والأمام محمد بن عبدالوهاب هو أمام السلفيه المعاصره التي انطلقت من نجد . وكانت دعوته أقرب للثورة منها للدعوة . وكذلك سُميت بالثوره الوهابيه لأنها اقترنت بالثورة علي الممارسات الاجتماعيه والصوفية والثوره علي أولي الأمر من الجهلاء والظلمة في آن واحد . كانت الجزيرة العريبة ابانها يحكمها العثمانيون عبر وكلاء لهم محليون وأقليمون . فانشأ الامام محمد عبدالوهاب حركة تمرد عسكرى واجتماعي . وتحالف مع أحد شيوخ نجد وهو الشيخ ابن سعود الذي صار ساعده الأيمن . ونشأ تحالف عريق من يومذاك بين آل الشيخ محمد بن عبد الوهاب وآل الشيخ أبن سعود  . ونشأت أول أمارة سلفية في نجد ثم توسعت بالثورة الوهابية في إرجاء الجزيرة العربية . ومضت أفكارها وآثارها الي ابعد من الجزيرة العربية فبلغت إلي المغرب . ووصلت الي السند والهند . وكان نهج محمد بن عبد الوهاب في المزاوجة بين الدعوة والثورة المسلحة فكان ذلك أول إنفاذ علي ارض الواقع لمنهج السلفية الجهادية . بيد انه لم يكن يواجه احتلالاً أجنبياً وانما كانت حربه ضد مشايخ وحكام محليين . ولم يكن حريصاً علي الدولة بقدر حرصه علي الدعوة. وتركزت دعوته علي ما يسميه نشر التوحيد الصحيح ومحاربة البدع والمذاهب والملل والنحل الضالة..
وتأسست الدولة السعودية بعد انتصارها الأخير علي يد الملك عبد العزيز آل سعود في ثلاثينيات القرن الماضي علي تراث هذا الحلف بين آل الشيخ وآل سعود في نجد.  وأمتثلت الدولة للمنهج السلفي الوهابي وجعلته مرجعية للدولة في التعليم والحكم والقضاء. ولأن الدعوة ارتبطت بالدولة فلم يكن من أولويات الدعوة السلفية في هذا الطور من الدعوة إلي أكثر من الجهاد الدعوي ضد الشرك والبدع . وتبني دعوة التوحيد علي الطريقة الوهابية السلفية . كما أنه في هذا الطور اتسمت الدولة السلفية رغم شدتها في الخطاب بالسلمية ولم تدع الي جهاد المخالفين حكاماً او محكومين ممن تراهم من اهل البدع.
عودة السلفية الجهادية :
 عادت الدعوة السلفية الجهادية للبروز عندما نشأت فيها جماعات اعتراض علي اختيارات الدولة في تحالفاتها وسياستها الخارجية . وكان أبرز ظهور لذلك حركة جهيمان التي أعلنت ظهور المهدي المجدد في مطلع القرن الهجري الراهن (1980 ) فاحتلت الحرم المكي لفترة قاربت الشهر . ودعت الي انشاء دولة اسلامية ينطلق منها الجهاد لتحرير العالم الاسلامي . وتراجع التيار السلفي المتشدد الجهادي لم يهزم أفكاره فقد تمددت هذه الافكار في المملكة السعودية وخارجها . وبخاصة في اليمن والخليج والعراق وشمال افريقيا . وكانت السلفية الجهادية علي موعد مع فرصتها التاريخية عندما حدث الغزو الشيوعي لافغانستان. وليس شىء مثل مجاهدة الشيوعية ما يؤجج روح الجهاد في أنفس شباب بعد حالة الاستضعاف بصورها المتعددة التي اكتنفت العالم الاسلامي . وعادت العلاقات تتحسن بين النظم الحاكمة والتيار السلفي من جديد . فالخطر الشيوعي يهدد الدول كما يهدد المجتمعات. وساهمت كل الدول في تشجيع حركة المجاهدين السلفيين في تصديهم للعدوان السوفيتي . فنالوا دعماً غير مباشر حتي ممن يراه بعضهم الشيطان الاكبر المتمثل فى الولايات المتحدة الامريكية . ووجدت السلفية الجهادية فرصتها مرة اخري لاختبار افكارها في الواقع المعاش . وبعد انتصار الثورة في افغانستان انقسمت البلاد الي أمارات جهادية متقاتلة . وانقسم معها المجاهدون المناصرون القادمون من الشرق الاوسط وشمال افريقيا . ثم ما لبثوا أن عاد أغلبهم سأماً من اقتتال الفرقاء  الي بلدانهم الأصلية التي لم تمنحهم ترحيباً . وباتت ترى فيهم خطراً عظيماً بما أكتسبوه من الجرأة والدُربة علي القتال . فتعرض عدد غير  قليل منهم للاعتقال او الاضطهاد أو النفي. وضاقت عليهم الأرض بما رحُبت الا قليلاً . فبدأت الفكرة تراود الزعماء منهم وبخاصة بعد الحرب الأولي علي العراق أنه لا مناص من البحث عن أرض للمجاهدين تكون قاعدة للفكرة وللجهاد. ولم يكن أحدهم يتصور أن هذه القاعدة يمكن أن تكون في مكان غير افغانستان . وعند خروج أبو عبد الله أسامة بن لادن من السودان في العام 1996م الي افغانستان لحق به الدكتور الظواهري وحلا جميعاً فى ضيافة أحد أمراء الجهاد في افغانستان .وكان معلوماً ان الحركة الجهادية السلفية تدخل طوراً جديداً . وكان بيانها الأول وهدفها الجهادي الأكبر هو اضطرار القواعد الامريكية  التي نشأت في الخليج الي مغادرة المنطقة . وذلك تحت شعار (اخلاء جزيرة العرب من الكفار ) فكان الهدف تحريرياً اذاً ولم يكن اصلاحياً  دعوياً . و تحركات القاعدة ضد الوجود الامريكي وضعها وجهاً لوجه أمام السلطات المحلية التي كان عليهما تحمل العواقب الوخيمة لما تطلق عليه القاعدة الجهاد ضد الكفار . ورغم ادراك زعماء القاعدة لعقابيل هذه المواجهة التي قد تضطرها الي المواجهة مع السلطات المحلية إلا انها لم تلجأ الى تكفير الحكام ولم تدع الي خلعهم . ولم يبدأ هذه النهج إلا في العراق وفي العام 2006 بعد مقتل الزرقاوي وصعود قيادة جديدة لتنظيم (التوحيد والجهاد) حيث أُعلنت الدولة وأصبح الموقف منها معياراً لمن يناصر  الحق ومن يوالي الكفر والكافرين.


نواصـــــــــــــــــــــــــــــــــل،،،









الخلافة .. عودة الجدل القديم 3

إعلان تنظيم (التوحيد والجهاد) للخلافة أثار ضجة كبرى لم تهدأ من المساجلات والمجادلات حول مفهوم وتنظيم التوحيد والجهاد  للخلافة . ذلكم التنظيم الذي عُرف أولاً باسم الدولة الإسلامية في العراق (داع) ثم بعد إندلاع الثورة في سوريا وقدوم جبهة النصرة إليها أعلن التنظيم عن أسم جديد له وهو الدولة الإسلامية في العراق والشام. وكان التنظيم في حقبته الأولى في العام (2003 – 2006) يكتفي بالسعي لإنشاء دولة اسلامية في العراق في أراضي محررة يفتكها من سلطة الاحتلال الأمريكي للعراق . وقد صادف التتظيم في فترته الأولى نجاحات مقدرة إلا ان الدائرة ما لبثت ان دارت عليه بعد أن أثار سخط العشائر العربية السنية. فهذه ما لبثت أن تعاونت مع السلطات المؤتمرة بأمر الاحتلال في العاصمة بغداد لطرده من مناطقها . جاء هذا الموقف بعد أن كانت تتعاون معه طوال فترة أبو مصعب الزرقاوي الذي أسس التنظيم لمقاومة الاحتلال . وكانت  عملياته تستهدف قوات الاحتلال وعناصر المليشيات الشيعية التي أعتبرها نصيراً للاحتلال . وذهبت الحركة في عدائها للقائمة الطائفة إلى مدى تكفير أفراد تلك الطائفة واستباحة دمائهم. ورغم مبايعة الزرقاوي في أوائل العام 2006 للقاعدة وتسمية التنظيم بأسم (القاعدة في بلاد الرافدين) بدلاً عن اسم (التوحيد والجهاد) إلا أن الحركة الأم لم تكن راضية عن توسع الحركة في تكفير كل من يخالفها من المسلمين وبخاصة الشيعة منهم. وفي خواتيم العام 2006 اغتيل الزرقاوي وخلفه على زعامة التنظيم (أبو حمزة المهاجر) الذي أعلن تحويل التنظيم من جماعة منظمة إلى (دولة ) وبويع أبو عمر البغدادي أميراً على الدولة. ولكن انقلاب العشائر السنية فيما عُرف بقوات الصحوة ضد التنظيم أدى إلى انحسار كبير في قدراته وعملياته. وأدى التعاون بين العشائر وحكومة بغداد إلى النجاح في اغتيال الزعيم المؤسس للدولة أبى حمزة المهاجر وابي عمر البغدادي فآلت زعامة التنظيم ورئاسة الدولة لأبى بكر البغدادي . وهو الدكتور إبراهيم عواد البدرى السامرائي . وقد كان استاذاً في قسم الشريعة في جامعة بغداد وعُرف بمعرفته الواسعة بالشريعة ومهارته  الفائقة في التلاوة والتجويد . ولكنه لم يكن مشتهراً بنسبة إلى الحركة السلفية. فهو عراقي الأصل والمنبت  . درس في العراق وما أثير حوله من اقاويل نسبته إلى الأردن وبلاد عربية أخرى زعم غير صحيح . وقد ارتقى إلى زعامة التنظيم في زمن العد التنازلي للتنظيم وللدولة . بيد أن تطور الأحداث في البلد المجاور سوريا سرعان ما أحيا حركة المناصرة السلفية للثورة التي اندلعت في سوريا . ثم ما لبثت أن أخذت الثورة منحى الحرب الأهلية والصراع الطائفي. وجذب البعد الطائفي للصراع آلاف السلفيين إلى جبهة النصرة في سوريا . كما أن مئات آخرين من السلفيين السوريين الذي أضطر النظام السوري أبان الأيام الأولى للثورة إلى إطلاق سراحهم انضموا هم الآخرون إلى جبهة النصرة . ثم ما لبثت الأخيرة ان أصبحت هي القوة الرئيسة في الحرب ضد النظام السوري . وهاجر إليها السلفيون من كل حدب وصوب وبخاصة من السعودية والخليج والعراق . وكان مجيء جيش الدولة الإسلامية في العراق وانضمامه لجبهة النصرة سبباً في صراعات سُفكت فيها دماء المقاتلين أكثر من مرة . مما دعا الظواهري زعيم القاعدة الى دعوة جيش الدولة الإسلامية في العراق إلى العودة للعراق والتمركز فيها . وترك الثورة تمضي إلى سبيلها في سوريا وليقود أبو محمد الجولاني السوري جبهة النصرة . وكان رد فعل الدولة الإسلامية في العراق اعلان انفصالها عن القاعدة وإنضمام جبهة النصرة إليها لتكوين الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش ). إلا أن الفصيل الذي يرأسه أبو محمد الجولاني أعلن تبرؤه  من هذا الإندماج . وأعلن عن استمرار ولائه للقاعدة الأصل. وكانت الدولة الإسلامية في العراق قد مارست ضغوطاً على أبي محمد الجولاني لاعلان انشاء امارة في الأراضي المحررة  التي تسيطر عليها الجبهة في سوريا ؟ ولكن ممانعة الأخير وحرصه على المضي في مسيرة التنسيق مع قوى المقاومة الأخرى أدى الى صراع بين منظمته وتنظيم الدولة والعناصر الموالية له في جبهة النصرة.
        كان لثورة العراقيين السنة وانمحاق حركة الصحوات العشائرية نتيجة لسياسة رئيس الوزراء العراقي المالكي أثآرها في تمهيد الطريق لعودة نفوذ تنظيم الدولة الإسلامية إلى العراق . وبخاصة عودتها إلى الفلوجة غير البعيدة عن بغداد وبعض جهات محافظة الأنبار ونينوي ومحافظة ديالى وكركوك . أما في سوريا فقد كان لجبهة النصرة الفصيل السوري والآخر التابع للبغدادي وجود كبير في المحافظات السورية الشمالية مثل الرقة وأدلب ودير الزور واجزاء ريف حلب. وبعد الانقسام انحاز قسم كبير من المقاتلين للدولة الإسلامية في العراق والشام والتي اعلنت في العام 2013م . وباندماج هذه القوات  فى سوريا إلى آلاف مناصريها في العراق أصبح للدولة الإسلامية في العراق والشام جيش لجب . حيث يناهز العشرين ألف مقاتل موزعين بين محافظات في العراق وآخرين في سوريا.
المفاجأة المذهلة :
        بيد أن التحول الكبير الذي شكل مفأجاة هائلة مذهلة لكل العالم هو سيطرة التنظيم بقوات محدودة على ثانية أكبر مدن العراق الموصل . وانهيار الجيش العراقي المكون مما يربو على 22 ألف مقاتل وفرقتين أمام بضعة آلاف من المقاتلين من تنظيم الدولة الذي ما لبث ان انتشر وتوسع في آنٍ واحد في كلا البلدين العراق وسوريا . فاحتل مدينة تكريت وهدد مدينة كركوك واحتل جلولاء ومناطق كثيرة في محافظة ديالي وبابل وجعل من بعقوبة عاصمة له .  ونقل عشرات المدرعات والاسلحة الثقيلة لسوريا حتى وطد سيطرته على كامل محافظة الرقة ودير الزور وشن هجمات صاعقة على مخالفيه من حركات المقاومة السورية الأخرى .تلك الحركات التي جرى تصنيفها في القائمة التكفيرية. ونمت قدرات الدولة العسكرية حتى قدرها المرصد السوري لحقوق الإنسان  بخمسين ألف مقاتل في سوريا وثلاثين ألف مقاتل في العراق . وحصل التنظيم على مئات المدرعات وعدد من طائرات الهيلوكوبتر والإسلحة الحديثة الأخرى . كما حصل على مئات الملايين من الدولارات بعد ان وضع يده على مؤسسات الحكومة الرسمية ومصارفها في الموصل وتكريت وغيرها من المدن العراقية التي استولى عليها . واصبحت قدرته على التجنيد والتنظيم والتعبئة قدرة هائلة اذهلت كل المراقبين . ولا غرومن ثم بعد أن توطد سلطانه في مساحة شاسعة من الارض وضمن ولاء عشرات آلالاف من المقاتلين ان يعلن استحقاقه لقيام دولته بين العراق والشام . واعلانها نواة للخلافة الإسلامية التي يُراد لها تعود كما كانت على يد التنظيم . بيد أن التنظيم رغم نجاحاته الباهرة على الأرض قد فشل فشلاً ذريعاً ان يحقق انجازات مثلها في قناعات ملايين المسلمين الذين وقعوا تحت سلطان دولته ومئات ملايين المسلمين الآخرين في أرجاء العالم الإسلامي الأخرى. لماذا حدث ذلك الفشل في كسب الولاء الطوعي للمسلمين في دولته ونيل تعاطف المسلمين خارج الدولة . يظل هذا السؤال سؤالاً جديراً بمقاربة الاجابة عليه . ذلك ان توق المسلمين لدولة اسلامية راشدة تعيد أمجاد الماضي التليد توق كبير ومتعاظم وقد كان متوقعاً للبروز المبهر للتنظيم ان يكون حافزاً قوياً لمناصرته من مواطني دولته وسائر المسلمين ولكن ذلك لم يحدث. وكانت اسباب الفشل عديدة وأهم اسبابه مذهبية التنظيم واسلوبه في ادارة معاركه . وكذلك طرائقه في تعامله مع مواطني دولته على اختلاف مللهم ونحلهم وذلك التفصيل ربما يصبح موضوع لمقالات قادمة باذن الله.

نواصل،،،

الاثنين، 13 أكتوبر 2014

الخلافة .. عودة الجدل القديم 2

بدأت الفتنة الكبرى بمقتل الخليفة الراشد عثمان ذي النورين عليه الرضوان. فعثمان رضي الله عنه الذي حاز الخلافة بالتزامه  بشرط اتباع مهج الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أتهمه بعض المخالفين له بعدم تحري نهج الخلافة الحقة للشيخين ومن قبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذلكم بحجج ووحيثيات لا نحب ان نخوض فيها فإحترامنا موفور لجميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالخلافة كما فهمها الأولون ليست هي ذات الشيء الذي يفهمه المتأخرون في يومنا هذا. الخلافة عندهم هي إتباع (سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء المهديين من بعده) وذلك في كل الأبواب وبخاصة في باب تولي الإمرة على المؤمنين. ولأن المصطلحات قد أصبحت ملتبسة في كثير من الأذهان حرى بنا مراجعة المفاهيم التي تحتويها هذه المصطلحات . وبخاصة مصطلح الحاكمية والحكم ومصطلح الخلافة ومصطلح الدولة لأننا أن أخطأنا الفهم لهذه المصطلحات ولما بينها من موافقات ومفارقات قادنا ذلك لالتباس وجدل قد يفضي إلى إختلاف وإشتجار.
الحاكمية والحكم:
        الحكيم هو الذي يضع كل شيء موضعه المناسب له في الوقت والمحل المناسبين . ولا يكون ذلكم متحققاً بصورة مطلقة إلا لله رب العالمين. وأما الحكم فهو الخطاب المتعلق بالفعل المناسب في المحل والوقت المناسب . وهو قد يكون على سبيل الإيجاب أن كان صاحب الأمر صاحب سلطان أو نفوذ على المأمور بالفعل . وقد يكون على سبيل التخيير من صاحب الأمر للمأمور بالفعل أن شاء فعل وان شاء امتنع . ولاشك أن مفارقة رأي الحكيم تورد المرء موارد الشر إن لم تورده موارد الهلاك . ولأن الحكم تابع للحكمة والحكمة تابعة للعلم ولا يعلم كل أمر ولا يحيط بكل شيء إلا الله سبحانه وتعالى فأن مركز العقيدة الايمانية التوحيدية هو الإقرار بالحاكمية المطلقة لله رب العالمين . لأن له الخلق والأمر وهذا المعنى هو أس توحيد الالوهية فالخالق حاكم والمخلوق محكوم . والطلب الإلهي أمراً أو نهياً هو صورة الحكم الشرعي . والحاكمية الإلهية ليست سياسية فحسب بل هي شاملة ومحيطة بكل مجالات السلوك الإنساني . فالمسلم لا يكون مسلماً إلا إذا سلم بالحاكمية لله في دقيق إمره وخطيره. (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) فالإسلام هو التسليم الكامل لله رب العالمين. فالمسلم مخاطب بأن يجعل كل فعل يفعله وانتهاء ينتهى عنه وفاقاً للتوجيه الإلهي إتساقاً مع إيمانه بان الله وحده هو صاحب العلم المحيط والقدرة القاهرة . وأما الحكم بمعناه الإداري والسياسي فهو التمكن من التصرف في الأمر بقصد دفع الأذى ودرء المفسدة وجلب المصلحة وتحقيق المنفعة . وهو يحب ان يتحلى بالاتقان والاحسان وان يؤسس على الحكمة التي هي التصرف بمقتضى الحق وان يؤسس على مبدأ الوكالة عن الأمة لا على الغلبة والتسلط . واضفاء صفة الحاكمية لله سبحانه وتعالى يعني أن المرجعية العليا لإنشاء الإلزام والقضاء هي لله سبحانه وتعالى وحده  ولا يجوز إشراك أحداً غيره معه . وتؤكد هذا آية سورة الكهف (ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحداً) يقول ابن كثير في شرح معناها (أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر الذي لا معقب لحكمه وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير تعالى الله وتقدس) ويقول الطبري في تفسير نفس الآية (ولا يجعل الله سبحانه وتعالى في قضائه وحكمه في خلقه أحداً سواه شريكاً بل هو المتفرد بالحكم والقضاء فيهم وتدبيرهم وتصريفهم في ما يشاء وما يحب) فالحاكمية بمعنى المصدرية الأولى والمرجعية الأخيرة للأحكام لا تجوز إلا لله رب العالمين . فلا يجوز لأحد أن يدعى  الايمان ثم لا يصدر فيما يأخذ وما يدع عن احكام الله سبحانه وتعالى (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا لله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) . فالحكم بمعنى المصدرية والمرجعية لما يؤمر به وما ينهى عنه لا يجوز إلا لله سبحانه وتعالى . بيد أن الحكم الذي هو تراث النبؤة علماً وحكمة فيجوز بحق الاستخلاف للائمة اتباعاً للسنة كما جاز للنبي صلى الله عليه وسلم تبليغاً واستقراء. والحكم الذي هو خلافة الأئمة والرسول صلى الله عليه وسلم في نشر علوم الشريعة وتطبيق أحكامها هو حكم مشروط بتحقيق المصلحة والمنفعة العاجلة والآجلة للمؤمنين، ودرء المفسدة والمضرة العاجلة والآجلة عنهم . ولذلك فان القاعدة الحاكمة في هذا السياق هي (أن التصرف بالسياسة الشرعية منوط بالمصلحة) فلا يكون الحكم شرعياً ولا يكون التصرف بموجبه سياسة شرعية إلا إذا تحققت به المصلحة العامة. والخلافة تعنى تحري إتباع النبي صلى الله عليه وسلم وتحري سبيل خلفائه الراشدين المهديين من بعده فان استقام أولى الأمر على الخلافة  صارت طاعتهم من طاعة الله ورسوله (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم) ولم تتكرر كلمة أطيعوا قبل أولى الأمر بل عُطفت الطاعة لهم على الطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم فلا طاعة لهم ما لم يلتزموا السيرة النبوية ويتخذوها قدوة واسوة.
الخلافة بمعنى الرابطة الإسلامية:
        بيد أن المعنى السائد والدارج لكلمة الخلافة فى عصرنا هذا هو أنها الرابطة السياسية بين مجتمعات المسلمين بحيث تكون لهم إمرة واحدة وأمام واحد. فالتركيز في هذا المعنى على ينصب على معنى وحدة الأمة المسلمة والتعبير السياسي عن هذه الوحدة بالسلطان الواحد والأمرة الواحدة النافذة. وهذا النوع من الرابطة لم يوجد على وجه المثال طوال التاريخ الإسلامي . فقد ظل كثير من الحكام المنفردين بالسلطان فى أقاليمهم لا يقرون إلا بولاء رمزي لخليفة المسلمين في دمشق أو بغداد أو الاستانة. لكنه رغم تفرق الأمصار واستقلال الولاة فان نوعاً من الرابطة السياسية كان يصل بلدان الأمة ببعضها البعض . فكانت هناك أقاليم مستقلة ولم تكن هنالك بلدان قطرية كما هو الحال اليوم. وعندما جاء الاستعمار الذي استفرد باقاليم المسلمين اقليما من بعد اقليم جعل نصب عينه إزالة هذه الرابطة الرمزية التي تصل الإقاليم بعضها بالبعض الآخر . وبخاصة ان هذه الأقاليم كانت فيما يتعدى السلطان السياسى المباشر تتصل اتصالاً وثيقاً ببعضها البعض بحركة العلم والعلماء وحرية الحراك الإقتصادي وحرية وسهولة الانتقال من أقليم إلى اقليم. فكل بلاد الإسلام بلد للمسلم لا يحتاج فيه إلى هوية قطرية ولا بطاقة شخصية. وكانت هذه الصلات تستند إلى وشيجة الرابطة الشعورية بين المسلمين، فالمؤمنون أخوة . وهذا الإخاء هو وحده الذي استعصى على التمزيق والتقسيم . فقد مزق الاستعمار وشائج الاتصال الأخرى في السياسة والاقتصاد ومنع هجرة المسلمين من بلد إلى آخر . وعمل جاهداً على تفريقهم لاحكام سيادته عليهم جميعاً . ولا يزال الاستعمار الجديد يفعل ذلك بل ويفعله بكفاءة أعلى بكثير مما كان يقدر عليه الإستعمار بوجهه القديم. والاستعمار الجديد الذي أدخل الدويلات الإسلامية في روابط جديدة تستتبعهم عمل جاهداً لئلا يلتئم شمل المسلمين في أية رابطة فاعلة . ولذلك ظلت اشواق المسلمين متأججة إلى رابطة سياسية تلم شملهم وتعمل على تعزيز المصالح الاقتصادية بينهم . ومنذ الغاء الخلافة في عشرينات القرن الماضي ظلت الحركات التحريرية في العالم الإسلامي تتوق إلى إعادة رابطة الخلافة مرة أخرى . ولكن كثير من علماء المسلمين الذين درسوا عبرة الماضي وأدركوا حقائق الواقع علموا أن الخلافة لن تعود إلى صورتها المثالية في أذهان كثير من المسلمين. ولذلك دعا عبدالرازق السنهوري في رسالته للدكتوراة بُعيد الغاء الخلافة إلى العمل على إعادة تأسيسها على نحو جديد . يستوعب نشؤ الدويلات القطرية ويراعى الاختلافات التي نشأت بين مجتمعات المسلمين بفعل نشؤ الدولة القطرية . وكذلك فعل مالك بن بني في خمسينات القرن الماضي عندما دعا إلى كمونولث إسلامي . وكذلك دعا سيد قطب في كتابه الإسلام والسلام العالمى وآخرون كثيرون .
        بيد أن التنظيم الوحيد الذي نشأ حول فكرة الخلافة ودعا لاحيائها بصورتها المثالية هو حزب التحرير الذي أنشأه تقي الدين النبهاني . وفكرته هي أحياء الدولة الإسلامية على نهج الخلافة الأولى . وتمكينها من حكم العالم الإسلامي في دولة واحدة موحدة. واتبع هذا السبيل جماعة من الفقهاء والعلماء والمنتسبين إلى المدرسة السلفية والتي كانت هي المحضن الأول للسلفية الجهادية . والسلفية الجهادية التي آنشأت (الدولة الإسلامية في العراق ) في العام 2006 ثم أنشأت الدولة الإسلامية في العراق والشام 2012 هي التي تدعو المسلمين اليوم لتحقيق حلم انشاء دولة إسلامية موحدة تحت رآية واحدة وخليفة واحد يدين له الجميع بالولاء ولتتمايز الصفوف بين أهل الولاء في دار الإسلام وأهل البراء في دار الكفر.
نواصل ،،،


الخميس، 2 أكتوبر 2014

الخلافة .. عودة الجدل القديم 1


أثار ظهور وتوسع تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام (داعش) ارتباكاً عظيماً في العلاقات الإقليمية والدولية . ويوشك هذا الحدث أن يرسل  تسلسلاً خطيراً للأحداث الكبرى في المنطقة . وقد تتغير على إثره خرائط وحقائق كثيرة. والانبثاق الكبير الخطير لتنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام من غياهب الفكر التاريخى الماضوي كان هو التفجير البركاني الذى أذهل المراقبين والمحللين . وقد سبقه تراكم الحمم وغليان مراجل  السخط والإحباط . وكذلك الحيرة والريب والشكوك في نفوس أجيال من أبناء المسلمين الصالحين الذين تعلقت أرواحهم وقلوبهم بالإسلام عقيدة وشريعة . ولكنهم لم يروا في واقعهم الماثل إلا التبعية للأجنبى والاستبداد على الأهلي والجشع والشره في استهلاك موارد البلاد والعباد . ورأت أعينهم الحائرة كيف يقُتل مئات الآلآف من المسلمين بل الملايين منهم فلا يذكرهم أحد . ولا يندب عليهم أحد فما للمسلمين من بواكى . وكانوا قد رأوا أمريكا تغزو أفغانستان وتقتل مئات الآلاف للقبض على ثلة ترى فيهم تجسد الإرهاب الذي يهدد هدأة وطمانينة مواطنيها. وكما رأوها من بعد تغزو العراق باكذوبة وفرية اسلحة الدمار الشامل فلا يحيق الدمار الشامل إلا بأهل العراق جراء حرب أمريكا التى لا تبقى ولا تذر . وهو دمار مزق البلاد إلى طوائف وعشائر ونخب متصارعة . يلوذ جميعها بالمنطقة الخضراء بينما تدخل البلاد ذات  التاريخ العريق باسرها إلى المنطقة الرمادية من التاريخ . ثم رأوا العالم لا تهدأ ثائرته  غضباً على اختطاف ثلاثة يهود مستوطنين مغتصبين لارض فى مدينة الخليل لم يكونوا من أهلها يوماً من الأيام  . ورأوا قادة العالم وسادته يداهنون الدولة الصهيونية وهي تهدم غزة حجراً حجراً على رؤوس سكانيها مرة من بعد مرة . فكيف لا تخرج داعش من غياهب التاريخ شاهرة سيفها ونطعها في وجوه الجميع معلنة بزوغ فجر الخلافة من جديد.
الخلافة .. أمس واليوم:
        كان الخلاف على الخلافة هو أس البلاء وآفة الآفات في التاريخ الإسلامي . فقد أنقسم الناس حولها وجثمان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الطاهر مسجى والناس يتجادلون في السقيفة : وتبذر يومئذ البذرة الخبيثة (رغم تجاوز الأزمة بحكمة الفاروق ومقبولية الصديق )، بذرة الخلاف التى لا تزال تقسم الأمة الواحدة الموحدة إلى ملل ونحل وطوائف  يبغض بعضها بعضاً ويقتل بعضها بعضاً . وكأنهم لا يقرأون في كتاتيبهم قول الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) ولا يعلمون أن الخلافة التي يصطرعون عليها فكرياً وسياسياً انما هي التجسيد السياسي لمعنى الأمة الواحدة المتناصرة.
ومفردة ( خلافة ) التي أهتدى إليها عمر رضي الله عنه ليست وصفاً للدولة وأنما هي وصف لحالة استمرار الدولة على سابقتها التى هى نهج النبوة . ولعل عمراً رضي الله عنه . وهو من يوقن أن أبابكر هو أولى الناس بخلافة النبي صلى الله عليه وسلم على أمامة الحكم مثلما هو أحقهم بخلافته على أمامة الصلاة التي قدمه اليها الرسول صلى الله عليه وسلم .  لعله كان يريد أن يذكر الأصحاب المجتمعين في سقيفة بني ساعدة بأن أولى الناس باتباع نهج النبي صلى الله عليه وسلم هو أبابكر بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم وبشهاداتهم جميعاً. فلم يدعِ واحد منهم أنه يفضُل أبا بكر قوة ولا أمانة ولا تقوى ولا رجاحة عقل . ولكنهم أدعوها لانفسهم بحجة أن الدار دارهم والحاضرة حاضرتهم (سعد بن عبادة رضى الله عنه )أو أن العرف المعروف عند العرب من قدمٍ ان الرجل يخلفه أقرب الأقربين إليه (على بن أبي طالب كرم الله وجهه ) . ولكن عمراً رضي الله عنه الموفق الى الحق بنور الحق والذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم (لو كان في أمتي محدثين لكان عمر منهم) محدثين أى ملهمين .
ذلكم هو عمر الذي جاءت آيات القرآن لأكثر من مرة مطابقة لمقالته فكأنه يقرأ من اللوح المحفوظ . أراد عمر باستخدام تلكم المفردة أن تكون شهادة بشرعية تولى إبي بكرٍ للأمرة .  والإ فان عمراً  يعلم أن الأمر هو بيد المؤمنين . والإمرة إمرتهم يولون عليها من شاؤءا طوعاً لا كرهاً وإختياراً لا إجباراً وفاقاً لنص القرآن الكريم الذي يقرر (وأمرهم شورى بينهم) . فالشورى تابعة للإمرة فالإمرة إمرة المؤمنين ولئن كانوا مالكين للأمر فمن البديهي إلا يقُضي في أمرهم بما لا يحبون أوما يكرهون. كان عمر رضي الله يعلم إن الإمرة هي للمؤمنين وهؤلاء هم المؤمنين ومن يختارون هو أميرهم. وكلمة الأمير ليست مثل كلمة الآمر فالآمر أسم فاعل والأمير اسم مفعول وأصلها مؤمر . والأمير مؤكل بالأمر ما هو بمالك له فهو أمير وليس بآمر . ولا يجوز له أن يستبد بالأمر وإلا صارت وكالته باطلة. فالأصل في الخلافة أنها أمارة طوعية للمؤمنين . فلا يجوز لأحد من الناس ان يتأمر على المؤمنين غلبة واقتداراً وإلا صارت إمارته باطلة . مثلما تبطل أمامة الرجل يفرض نفسه أماماً ليصلى بالناس. وقد كانت سيرة أبي بكر رضي الله عنه مصداقاً لمفردة الخلافة كما أرادها عمر وأصحابه عليهم الرضوان جميعاً . فقد كان خليفة للنبي بحق لا كذب فسار بالناس على هدى النبؤة حذو القذة بالقذة حتى اتاه اليقين . ولم تطل إمارته على المؤمنين أكثر من عامين. بيد أن أبا بكر بعدما رأي ما رأي في سقيفة بني ساعدة رشح للمؤمنين عمراً رضي الله عنه وأخذ على أكابر الصحابة ان يرشحوه للمؤمنين وأن يأخذوا البيعة له . وقد تساءل بعضهم أهو خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابهم عمر رضي الله عنه بحكمته وحنكته : (أنتم المؤمنون وأنا أميركم فأنا أمير المؤمنين) . الأمر في غاية البساطة الجماعة المؤمنة هى صاحبة الأمر وهي من تولى صاحب إمرتها وتعاقده وقد تشترط عليه الشروط . وقد أشترط الصحاية عليهم الرضوان على عمر رضي الله عنه ان يسير فيهم بسيرة الشيخ أبي بكر الصديق وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم من قبله فقبل الشرط . ووعد بان يخلف أبا بكربالاحسان  مستمراً على نهجه بلا تحويل ولا تبديل . فكانت تلكم هي الخلافة على نهج النبوة التي بشر بها الرسول صلى الله عليه سلم أصحابه. وعندما اغتيل عمر رضي الله عنه على يد أبي لؤلوة اللعين سمي لهم قبل وفاته هيئة سداسية من الصحابة ليرشحوا لعامة المسلمين من يعاقدونه ويبايعونه على الأمارة . وكان الشرط المشروط من هيئة الترشيح أن الأمير الجديد عليه أن يقبل بالسير على نهج الشيخين أبي بكر وعمر . وكان عثمان رضى الله عنه وعلى كرم الله وجهه كفرسى رهان في السباق إلا ان عثمان قبل بشرط إتباع سيرة الشيخين ولم يقبل به على كرم الله وجهه . فأختارت هيئة الترشيح عثمان وقدمته للبيعة فبايعه السواد الأعظم من الناس فصحت بيعته وإمارته وخلافته.


نواصل،،،

الأربعاء، 24 سبتمبر 2014

هسا .. وقروشي والمحفظة .. خطوة نحو التعافي الإقتصادي4 د. أمين حسن عمر وردتني سؤالات وملاحظات حول ما سبق من مقالات حول إستخدام تطبيقات مناقلة الأموال عبر الهاتف السيار غالبها يسأل عن فوائدها للاقتصاد بصورة عامة وعن أثرها على الفقراء على وجه الخصوص. وقد كان الحافز الرئيس لكتابة هذه المقالات والمغزى الاساس للاهتمام بشأن هذه التقنية الجديدة هو أن التجربة دلت على أثرها الفاعل في إدخال طوائف واسعة من محدودي الدخل والفقراء إلى دائرة التعامل مع المصارف . ومن ثم الانتفاع من خدمات التمويل التي تقدمها المصارف والتي اقتصرت الى حد بعيد قبل إستخدام هذا التطبيق المتصل بمناقلة الأموال عبر الهاتف السيار على تمويل الأغنياء والمقتدرين. وقد ختمت المقال الثالث بعدد من الأسئلة والأجابة عليها هى مادة هذا المقال الأخير في هذه السلسلة . والسؤال الأول هو كيف يمكن للفقراء ان يحصلوا على منافع من المصارف اذا كانت غير منتشرة في أريافهم وبواديهم وأحيائهم القصية . وتكمن الأجابة في كون التقنية الجديدة تستخدم ما يعرف بالمحفظة الإلكترونية والتي يدخر فيها المتعامل ما يستطيع إدخاره بارساله عبر أرسال رصيد إلى هذه المحفظة ثم هو ينفق منها من بعد على دفعياته . وذلك مثل ارسال رصيد لشخص مال أو دفع فاتورة أو شراء إحتياجات من متجر أو دفع أقساط لمدرسة أو لشركة تأمين أو دفع أتعاب لعيادة أو سائق أجرة. وفي بلد مثل كينيا حيث أنتشرت هذه الخدمة أصبح بامكان الشخص البقاء لمدة شهر كامل دون استخدام النقود أو الشيكات المصرفية إعتماداً على أنجاز كل دفعياته من خلال المحفظة الإليكترونية . ثم أن هذه المحفظة الإلكترونية يمكن ان تكون الأموال فيها مستحفظة لدى شركة الاتصالات كما كان الشأن فيما عرف في كينيا بأم بيسا (M-PESA) أو مستأمنة لدى البنك فيما عرف فيما بعد في كينيا بأم كيشو (M-Kesho) . ففي الحالة الأولى تكون الأموال لدى شركة الاتصالات والتي هي بدورها تحفظ هذه الأموال في المصارف . وفي الحالة الثانية والتي اختارها بنك السودان والزم المصارف وشركات الاتصالات ان تعمل بها من خلال شراكة ثنائية اجبارية تكون الأموال في المصارف . وتستطيع المصارف من خلال فوائض هذه الأموال المستودعة لديها ان توسع دائرة التمويل المصرفي . وبخاصة للفقراء عبر التمويل الصغير والتمويل الأصغر. وإذا توفرت هذه الأموال لدى المصارف فأن المُكنة للتمويل لدى المصارف سوف تتضاعف ليس لتراكم هذه الأموال لديها عند استخدامها بواسطة العملاء بل لأن وجود هذه الأموال يشكل قاعدة للائتمان والضمان البنكي الذي يتيح صنع أموال إليكترونية . وذلك بذات الطريقة المستخدمة لدى بطاقات الدفع مثل الفيزا والماستر كارد وامريكان اكسبرس وغيرها من بطاقات الدفع الإلكتروني . وفي هذه الحالة فان الهاتف يصبح هو بطاقة الدفع الإلكترونية. علماً بأن بطاقات الدفع نفسها قد باتت تستخدم الهاتف بديلاً عن البطاقات . وسوف تجد في متجر تطبيقات (الاندرويد) و(أي فون) تطبيقات بطاقات دفع الفيزا و (بيي بال) وغيرها . واتصالاً للاجابة على السؤال فان وكلاء شركات الاتصالات المنتشرة في كل أنحاء القطر هم الذين سوف يقومون بالإجراءات الأولية لأدخال الخدمة في الأرياف والبوادي . وتعليم الناس كيفية التعاطي معها كما حدث في خدمة تحويل الرصيد التي أصبحت الآن بديلاً موثوقاً للحوالات المصرفية والبريدية . وانتشار الخدمة على مدى واسع مع ما توفره من فوائض ضخمة لدى المصارف وما تتيحه من فرصة لتخليق الأموال الإلكترونية سوف يوسع دائرة التبادلات والمعاملات الاقتصادية ويدفع بالتنمية لتتحرك بخطى متسارعة. وبذلك ندرك ان مناقلة الأموال عبر الهاتف السيار ليست مجرد وسيلة دفع بل هي اختراع تقني يعين على ملء الفجوة في التأمين والإئتمان المالي . ويوسع دائرته ليصل إلى خدماته من كانوا محرومين من هذه الخدمات التي لا يكون الاقتصاد عصرياً إلا بواسطتها . فلم يعد مفهوم المال في زماننا المعاصر هو ذات المفهوم الذي كان سائداً في الماضي . بل ان صناعة الأموال بواسطة المصارف والوكالات المالية أصبحت هى الاطار الذى يصنع اموالاً طائلة يستأثر بها المتعاملون مع المصارف والوكالات وحدهم ويُحرم منها السواد الأعظم من الناس بل يكتون بنارها اللاهبة. ذلك ان صناعة الأموال وتمكين الأثرياء من استخدامها يؤدي الى تضخم السيولة سواء كانت نقدية أو إلكترونية بأيدي الأغنياء . مما يؤدي في علاقته بالمعروض من السلع والخدمات إلى ارتفاع نسبة التضخم في الاقتصاد وارتفاع الاسعار الذي يكتوي بناره المحرومين من الفقراء دون الأغنياء. ولاشك أن اعتماد هذه التقنية الجديدة سوف يساعد في خفض التضخم . أولاً لأنه سوف يسحب الأموال من الأيادي إلى محافظ إدخارية إليكترونية وبذلك يتوسع الأدخار على حساب الإستهلاك فينخفض التضخم. كذلك فأن توفير أموالالهاتف السيار لتمويل الفقراء عبر التمويل الصغير والتمويل الأصغر يوسع إلى مدى بعيد دائرة المنتجين . مما يعني زيادة واسعة في انتاج السلع والخدمات وتوسع دائرة الخدمات والسلع يعني توسعاً في الإقتصاد الحقيقي . مما يعني بصورة تلقائية بسبب زيادة عرض السلع والخدمات الى تراجع نسب التضخم العالية. وهكذا فان تراجع المعروض من السلع والخدمات واتساع دائرة التشغيل عبر التمويل الصغير والأصغر سيؤدي بالنتيجة إلى تسارع النمو التنموي . وهذا ما لوحظ في جميع البلدان التي أتسع فيها إستخدام تطبيقات مناقلة الأموال عبر الهاتف السيار . وبخاصة في بلدان مثل البرازيل والفلبين وبنجلاديش وكينيا وتنزانيا وبلدان كثيرة أخرى. وهنالك بلاد أخرى قررت خوض التجربة لتسريع النمو الاقتصادي وعلى رأس تلك البلاد الأفريقية جمهورية مصر العربية التي أدخلت الخدمة في ذات الوقت الذي أعلن فيه عن ادخالها في السودان . ولاشك أن للخدمات فوائد كثيرة أخرى قد يكون أحدها زيادة تحويلات المغتربين خاصة بعد معالجة المشكلة مع المصارف الأجنبية التي تتراسل مع مصارف محلية . ولاشك أن توسع موجودات المصارف السودانية سوف يُعظم من الثقة فيها ويجعل التعامل معها جاذباً للمصارف العالمية التي قد تتراسل معها. كذلك فان توسيع خدمات التأمين عبر استخدام هذه التقنية الجديدة سوف تتمظهر فوائده في اتساع الخدمات وتجويدها وتوسع دائرة التشغيل . خاصة اذا توسع التأمين في مجالات تأمين الزراعة والصناعات وسائر الخدمات الأخرى. كذلك فإن تصميم بنك السودان على جعل المصارف مركزاً وقاعدة للخدمة سيوفر الضمانات الكافية لانفاذ السياسات النقدية التي سوف يؤدي تنفيذها إلى استقرار ملحوظ في سعر العملة الوطنية وخفض معدلات التضخم وزيادة انتاج السلع والخدمات وزيادة نسبة نمو الناتج الإجمالي المحلي . وبالتالي توازن الميزان الخارجي ليفتح أفقاً واسعاً لتعافٍ سريع للاقتصاد الوطني. أنتهى ،،،



              

            وردتني سؤالات وملاحظات حول ما سبق من مقالات حول إستخدام تطبيقات مناقلة الأموال عبر الهاتف السيار غالبها يسأل عن فوائدها للاقتصاد بصورة عامة وعن أثرها على الفقراء على وجه الخصوص. وقد كان الحافز الرئيس لكتابة هذه المقالات والمغزى الاساس للاهتمام بشأن هذه التقنية الجديدة هو أن التجربة دلت على أثرها الفاعل في إدخال طوائف واسعة من محدودي الدخل والفقراء إلى دائرة التعامل مع المصارف . ومن ثم الانتفاع من خدمات التمويل التي تقدمها المصارف والتي اقتصرت الى حد بعيد قبل إستخدام هذا التطبيق المتصل بمناقلة الأموال عبر الهاتف السيار على تمويل الأغنياء والمقتدرين.
            وقد ختمت المقال الثالث بعدد من الأسئلة والأجابة عليها هى مادة هذا المقال الأخير في هذه السلسلة . والسؤال الأول هو كيف يمكن للفقراء ان يحصلوا على منافع من المصارف اذا كانت غير منتشرة في أريافهم وبواديهم وأحيائهم القصية . وتكمن الأجابة في كون التقنية الجديدة  تستخدم ما يعرف بالمحفظة الإلكترونية والتي يدخر فيها المتعامل ما يستطيع إدخاره بارساله عبر أرسال رصيد إلى هذه المحفظة ثم هو ينفق منها من بعد على دفعياته . وذلك مثل ارسال رصيد لشخص مال أو دفع فاتورة أو شراء إحتياجات من متجر أو دفع أقساط لمدرسة أو لشركة تأمين أو دفع أتعاب لعيادة أو سائق أجرة. وفي بلد مثل كينيا حيث أنتشرت هذه الخدمة أصبح بامكان الشخص البقاء لمدة شهر كامل دون استخدام النقود أو الشيكات المصرفية إعتماداً على أنجاز كل دفعياته من خلال المحفظة الإليكترونية . ثم أن هذه المحفظة الإلكترونية يمكن ان تكون الأموال فيها مستحفظة لدى شركة الاتصالات كما كان الشأن فيما عرف في كينيا بأم بيسا (M-PESA) أو مستأمنة لدى البنك فيما عرف فيما بعد في كينيا بأم كيشو (M-Kesho) . ففي الحالة الأولى تكون الأموال لدى شركة الاتصالات والتي هي بدورها تحفظ هذه الأموال في المصارف . وفي الحالة الثانية والتي اختارها بنك السودان والزم المصارف وشركات الاتصالات ان تعمل بها من خلال شراكة ثنائية اجبارية تكون الأموال في المصارف . وتستطيع المصارف من خلال فوائض هذه الأموال المستودعة لديها ان توسع دائرة التمويل المصرفي . وبخاصة للفقراء عبر التمويل الصغير والتمويل الأصغر.  وإذا توفرت هذه الأموال لدى المصارف فأن المُكنة للتمويل لدى المصارف سوف تتضاعف ليس لتراكم هذه الأموال لديها عند استخدامها بواسطة العملاء بل لأن وجود هذه الأموال يشكل قاعدة للائتمان والضمان البنكي الذي يتيح صنع أموال إليكترونية . وذلك بذات الطريقة المستخدمة لدى بطاقات الدفع مثل الفيزا والماستر كارد وامريكان اكسبرس وغيرها من بطاقات الدفع الإلكتروني . وفي هذه الحالة فان الهاتف يصبح هو بطاقة الدفع الإلكترونية. علماً بأن بطاقات الدفع نفسها قد باتت تستخدم الهاتف بديلاً عن البطاقات . وسوف تجد في متجر تطبيقات (الاندرويد) و(أي فون) تطبيقات بطاقات دفع الفيزا و (بيي بال) وغيرها . واتصالاً للاجابة على السؤال فان وكلاء شركات الاتصالات المنتشرة في كل أنحاء القطر هم  الذين سوف يقومون بالإجراءات الأولية لأدخال الخدمة في الأرياف والبوادي . وتعليم الناس كيفية التعاطي معها كما حدث في خدمة تحويل الرصيد التي أصبحت الآن بديلاً موثوقاً للحوالات المصرفية والبريدية . وانتشار الخدمة على مدى واسع مع ما توفره من فوائض ضخمة لدى المصارف وما تتيحه من فرصة لتخليق الأموال الإلكترونية سوف يوسع دائرة التبادلات والمعاملات الاقتصادية ويدفع بالتنمية لتتحرك بخطى متسارعة. وبذلك ندرك ان مناقلة الأموال عبر الهاتف السيار ليست مجرد وسيلة دفع بل هي اختراع تقني يعين على ملء الفجوة في التأمين والإئتمان المالي . ويوسع دائرته ليصل إلى خدماته من كانوا محرومين من هذه الخدمات التي لا يكون الاقتصاد عصرياً إلا بواسطتها . فلم يعد مفهوم المال في زماننا المعاصر هو ذات المفهوم الذي كان سائداً في الماضي . بل ان صناعة الأموال بواسطة المصارف والوكالات المالية أصبحت هى الاطار الذى  يصنع اموالاً طائلة يستأثر بها المتعاملون مع المصارف والوكالات وحدهم ويُحرم منها السواد الأعظم من الناس بل يكتون بنارها اللاهبة.
            ذلك ان صناعة الأموال وتمكين الأثرياء من استخدامها يؤدي الى تضخم السيولة سواء كانت نقدية أو إلكترونية بأيدي الأغنياء . مما يؤدي في علاقته بالمعروض من السلع والخدمات إلى ارتفاع نسبة التضخم في الاقتصاد وارتفاع الاسعار الذي يكتوي بناره المحرومين من الفقراء دون الأغنياء. ولاشك أن اعتماد هذه التقنية الجديدة سوف يساعد في خفض التضخم . أولاً لأنه سوف يسحب الأموال من الأيادي إلى محافظ إدخارية إليكترونية وبذلك يتوسع الأدخار على حساب الإستهلاك فينخفض التضخم. كذلك فأن توفير أموالالهاتف السيار لتمويل الفقراء عبر التمويل الصغير والتمويل الأصغر يوسع إلى مدى بعيد دائرة المنتجين . مما يعني زيادة واسعة في انتاج السلع والخدمات وتوسع دائرة الخدمات والسلع يعني توسعاً في الإقتصاد الحقيقي . مما يعني بصورة تلقائية بسبب زيادة عرض السلع والخدمات الى تراجع نسب التضخم العالية. وهكذا فان تراجع المعروض من السلع والخدمات واتساع دائرة التشغيل عبر التمويل الصغير والأصغر سيؤدي بالنتيجة إلى تسارع النمو التنموي . وهذا ما لوحظ في جميع البلدان التي أتسع فيها إستخدام تطبيقات مناقلة الأموال عبر الهاتف السيار . وبخاصة في بلدان مثل البرازيل والفلبين وبنجلاديش وكينيا وتنزانيا وبلدان كثيرة أخرى. وهنالك بلاد أخرى قررت خوض التجربة لتسريع النمو الاقتصادي وعلى رأس تلك البلاد الأفريقية جمهورية مصر العربية التي أدخلت الخدمة في ذات الوقت الذي أعلن فيه عن ادخالها في السودان . ولاشك أن للخدمات فوائد كثيرة أخرى قد يكون أحدها زيادة تحويلات المغتربين خاصة بعد معالجة المشكلة مع المصارف الأجنبية التي تتراسل مع مصارف محلية . ولاشك أن توسع موجودات المصارف السودانية سوف يُعظم من الثقة فيها ويجعل التعامل معها جاذباً للمصارف العالمية التي قد تتراسل معها. كذلك فان توسيع خدمات التأمين عبر استخدام هذه التقنية الجديدة سوف تتمظهر فوائده في اتساع الخدمات وتجويدها وتوسع دائرة التشغيل . خاصة اذا توسع التأمين في مجالات تأمين الزراعة والصناعات وسائر الخدمات الأخرى. كذلك فإن تصميم بنك السودان على جعل المصارف مركزاً وقاعدة للخدمة سيوفر الضمانات الكافية لانفاذ السياسات النقدية التي سوف يؤدي تنفيذها إلى استقرار ملحوظ في سعر العملة الوطنية وخفض معدلات التضخم وزيادة انتاج السلع والخدمات وزيادة نسبة نمو الناتج الإجمالي المحلي . وبالتالي توازن الميزان الخارجي ليفتح أفقاً واسعاً لتعافٍ سريع للاقتصاد الوطني.
أنتهى ،،،

                د. أمين حسن عمر

            وردتني سؤالات وملاحظات حول ما سبق من مقالات حول إستخدام تطبيقات مناقلة الأموال عبر الهاتف السيار غالبها يسأل عن فوائدها للاقتصاد بصورة عامة وعن أثرها على الفقراء على وجه الخصوص. وقد كان الحافز الرئيس لكتابة هذه المقالات والمغزى الاساس للاهتمام بشأن هذه التقنية الجديدة هو أن التجربة دلت على أثرها الفاعل في إدخال طوائف واسعة من محدودي الدخل والفقراء إلى دائرة التعامل مع المصارف . ومن ثم الانتفاع من خدمات التمويل التي تقدمها المصارف والتي اقتصرت الى حد بعيد قبل إستخدام هذا التطبيق المتصل بمناقلة الأموال عبر الهاتف السيار على تمويل الأغنياء والمقتدرين.
            وقد ختمت المقال الثالث بعدد من الأسئلة والأجابة عليها هى مادة هذا المقال الأخير في هذه السلسلة . والسؤال الأول هو كيف يمكن للفقراء ان يحصلوا على منافع من المصارف اذا كانت غير منتشرة في أريافهم وبواديهم وأحيائهم القصية . وتكمن الأجابة في كون التقنية الجديدة  تستخدم ما يعرف بالمحفظة الإلكترونية والتي يدخر فيها المتعامل ما يستطيع إدخاره بارساله عبر أرسال رصيد إلى هذه المحفظة ثم هو ينفق منها من بعد على دفعياته . وذلك مثل ارسال رصيد لشخص مال أو دفع فاتورة أو شراء إحتياجات من متجر أو دفع أقساط لمدرسة أو لشركة تأمين أو دفع أتعاب لعيادة أو سائق أجرة. وفي بلد مثل كينيا حيث أنتشرت هذه الخدمة أصبح بامكان الشخص البقاء لمدة شهر كامل دون استخدام النقود أو الشيكات المصرفية إعتماداً على أنجاز كل دفعياته من خلال المحفظة الإليكترونية . ثم أن هذه المحفظة الإلكترونية يمكن ان تكون الأموال فيها مستحفظة لدى شركة الاتصالات كما كان الشأن فيما عرف في كينيا بأم بيسا (M-PESA) أو مستأمنة لدى البنك فيما عرف فيما بعد في كينيا بأم كيشو (M-Kesho) . ففي الحالة الأولى تكون الأموال لدى شركة الاتصالات والتي هي بدورها تحفظ هذه الأموال في المصارف . وفي الحالة الثانية والتي اختارها بنك السودان والزم المصارف وشركات الاتصالات ان تعمل بها من خلال شراكة ثنائية اجبارية تكون الأموال في المصارف . وتستطيع المصارف من خلال فوائض هذه الأموال المستودعة لديها ان توسع دائرة التمويل المصرفي . وبخاصة للفقراء عبر التمويل الصغير والتمويل الأصغر.  وإذا توفرت هذه الأموال لدى المصارف فأن المُكنة للتمويل لدى المصارف سوف تتضاعف ليس لتراكم هذه الأموال لديها عند استخدامها بواسطة العملاء بل لأن وجود هذه الأموال يشكل قاعدة للائتمان والضمان البنكي الذي يتيح صنع أموال إليكترونية . وذلك بذات الطريقة المستخدمة لدى بطاقات الدفع مثل الفيزا والماستر كارد وامريكان اكسبرس وغيرها من بطاقات الدفع الإلكتروني . وفي هذه الحالة فان الهاتف يصبح هو بطاقة الدفع الإلكترونية. علماً بأن بطاقات الدفع نفسها قد باتت تستخدم الهاتف بديلاً عن البطاقات . وسوف تجد في متجر تطبيقات (الاندرويد) و(أي فون) تطبيقات بطاقات دفع الفيزا و (بيي بال) وغيرها . واتصالاً للاجابة على السؤال فان وكلاء شركات الاتصالات المنتشرة في كل أنحاء القطر هم  الذين سوف يقومون بالإجراءات الأولية لأدخال الخدمة في الأرياف والبوادي . وتعليم الناس كيفية التعاطي معها كما حدث في خدمة تحويل الرصيد التي أصبحت الآن بديلاً موثوقاً للحوالات المصرفية والبريدية . وانتشار الخدمة على مدى واسع مع ما توفره من فوائض ضخمة لدى المصارف وما تتيحه من فرصة لتخليق الأموال الإلكترونية سوف يوسع دائرة التبادلات والمعاملات الاقتصادية ويدفع بالتنمية لتتحرك بخطى متسارعة. وبذلك ندرك ان مناقلة الأموال عبر الهاتف السيار ليست مجرد وسيلة دفع بل هي اختراع تقني يعين على ملء الفجوة في التأمين والإئتمان المالي . ويوسع دائرته ليصل إلى خدماته من كانوا محرومين من هذه الخدمات التي لا يكون الاقتصاد عصرياً إلا بواسطتها . فلم يعد مفهوم المال في زماننا المعاصر هو ذات المفهوم الذي كان سائداً في الماضي . بل ان صناعة الأموال بواسطة المصارف والوكالات المالية أصبحت هى الاطار الذى  يصنع اموالاً طائلة يستأثر بها المتعاملون مع المصارف والوكالات وحدهم ويُحرم منها السواد الأعظم من الناس بل يكتون بنارها اللاهبة.
            ذلك ان صناعة الأموال وتمكين الأثرياء من استخدامها يؤدي الى تضخم السيولة سواء كانت نقدية أو إلكترونية بأيدي الأغنياء . مما يؤدي في علاقته بالمعروض من السلع والخدمات إلى ارتفاع نسبة التضخم في الاقتصاد وارتفاع الاسعار الذي يكتوي بناره المحرومين من الفقراء دون الأغنياء. ولاشك أن اعتماد هذه التقنية الجديدة سوف يساعد في خفض التضخم . أولاً لأنه سوف يسحب الأموال من الأيادي إلى محافظ إدخارية إليكترونية وبذلك يتوسع الأدخار على حساب الإستهلاك فينخفض التضخم. كذلك فأن توفير أموالالهاتف السيار لتمويل الفقراء عبر التمويل الصغير والتمويل الأصغر يوسع إلى مدى بعيد دائرة المنتجين . مما يعني زيادة واسعة في انتاج السلع والخدمات وتوسع دائرة الخدمات والسلع يعني توسعاً في الإقتصاد الحقيقي . مما يعني بصورة تلقائية بسبب زيادة عرض السلع والخدمات الى تراجع نسب التضخم العالية. وهكذا فان تراجع المعروض من السلع والخدمات واتساع دائرة التشغيل عبر التمويل الصغير والأصغر سيؤدي بالنتيجة إلى تسارع النمو التنموي . وهذا ما لوحظ في جميع البلدان التي أتسع فيها إستخدام تطبيقات مناقلة الأموال عبر الهاتف السيار . وبخاصة في بلدان مثل البرازيل والفلبين وبنجلاديش وكينيا وتنزانيا وبلدان كثيرة أخرى. وهنالك بلاد أخرى قررت خوض التجربة لتسريع النمو الاقتصادي وعلى رأس تلك البلاد الأفريقية جمهورية مصر العربية التي أدخلت الخدمة في ذات الوقت الذي أعلن فيه عن ادخالها في السودان . ولاشك أن للخدمات فوائد كثيرة أخرى قد يكون أحدها زيادة تحويلات المغتربين خاصة بعد معالجة المشكلة مع المصارف الأجنبية التي تتراسل مع مصارف محلية . ولاشك أن توسع موجودات المصارف السودانية سوف يُعظم من الثقة فيها ويجعل التعامل معها جاذباً للمصارف العالمية التي قد تتراسل معها. كذلك فان توسيع خدمات التأمين عبر استخدام هذه التقنية الجديدة سوف تتمظهر فوائده في اتساع الخدمات وتجويدها وتوسع دائرة التشغيل . خاصة اذا توسع التأمين في مجالات تأمين الزراعة والصناعات وسائر الخدمات الأخرى. كذلك فإن تصميم بنك السودان على جعل المصارف مركزاً وقاعدة للخدمة سيوفر الضمانات الكافية لانفاذ السياسات النقدية التي سوف يؤدي تنفيذها إلى استقرار ملحوظ في سعر العملة الوطنية وخفض معدلات التضخم وزيادة انتاج السلع والخدمات وزيادة نسبة نمو الناتج الإجمالي المحلي . وبالتالي توازن الميزان الخارجي ليفتح أفقاً واسعاً لتعافٍ سريع للاقتصاد الوطني.

أنتهى ،،،

هسا...وقروشي والمحفظة خطوة نحو التعافي الاقتصادي




                 الخبر الحسن ان خدمة مناقلة الاموال عبر الهاتف السيار تتطور بالسرعة الفائقة التي توقعنا . فمنذ بدء كتابة هذه المقالات أعلن اكثر من مصرف انه بصدد تقديم الخدمة شراكة مع واحدة من شركات الهاتف السيار. فقد اعلنت أربعة مصارف متضامنة تقديم خدمة المحفظة لتنضم هذه الخدمة الجديدة الي خدمتي هسا وقروشي اللتين يقدمها بنك الخرطوم مع شركة زين و بنك فيصل الاسلامي مع شركة سوداني . ولربما هب من يسأل لماذا نبدى كل هذا الاهتمام بهذه الخدمة المصرفية ؟ والإجابة يسيرة وهي اننا نعتقد مستندين الي افضل تجارب الدول انها ذات اثر حميد وسريع علي الاقتصاد. وقد يلي السؤال سؤال  من أين تأتي هذه الاثار الحميدة؟وقد يلي السؤال سؤال من هم المستفيدون من هذه الثمار الجيدة لتطبيق الخدمة؟ويليه سؤال كيف يحدث ذلك؟ 

صنع الأموال :
               كان المال في الماضي يتمثل في السلع والخدمات التي يحتاجها الانسان فينتجها . ولما لم يكن كل انسان بقادر علي انتاج وتلبية كل احتياجاتة من السلع والخدمات نشأت التبادلية والمقايضة . فالسلعة مقابل السلعة والخدمة مقابل الخدمة . ولما لم تكن الخدمات والسلع متكافئة دائماًبسبب ندرة السلعة او عظم ما يُبذل فيها من جهد اختار الناس سلعتين هما الذهب والفضة ليكونان معيارا لتقدير قيمة السلع والخدمات. ولم يكن الاختيار ضرب عشواء بل كان لأن البشر جميعا تتعلق قلوبهم بهاتين السلعتين . وذلك رغم كونها من السلع الكمالية التي لا تستهلك في ذاتها ولا تفني مع مرور الأزمان.كذلك فانه من السهل معرفة الخالص من المخلوط والصحيح من الزائف منهما . ولذلك صارت معرفة النقدين الذهب والفضة رمزا للبصيرة الثاقبة في معرفة الجيد من الردىء من كل شىء وكل فعل وكل قول.  واستمر الحال علي هذا المنوال في كل مكان وكل عصر. حتي سولت العجرفة والعنجهية والاسنبداد للولايات المتحدة الامريكية في العام ١٩٧٠ أن تعلن للعالم ميلاد عصر جديد وان عصر الذهب ولى وأن المعيار الجديد هو العملة الامريكية بلا غطاء ذهبي .فعلت أمريكا ذلك استخفافا بالعالم فأطاعتها غالب دول العالم ثم كلها من بعد .ذلك ان رجال الاعمال في العالم لم يكن يسعهم الاستغناء عن أكبر أسواق العالم شراء وبيعا. وهكذا صار بإمكان دولة واحدة في العالم ان تسيطر علي التسعير اى المكنة  لإعطاء السلع والخدمات القيم التي تلائم مصالحها أى مصالح أمريكا . ولم يقف الامر عند هذا الحد فبعد ان كانت قيم السلع والخدمات ثابتة بثبات النقدين اصبحت كل النقود اصطلاحية. ونعني بذلك ان ثلة من المضاربين بوسعهم ان يرتقوا بقيمة سلعة من السلع ويمكنهم ان يهووا بها الي أسفل سافلة السلع . وليس لذلك علاقة بالضرورة بالندرة والوفرة . ولا بأقدار العمل المطلوب لإنتاجها بل لمجرد معلومة أو شائعة تصح او لا تصح او لأن وكالة من وكالات المال أعطتها تصنيفا معينا او توقعت لها مستقبلا زاهرا او قاتما. وهكذا اصبح صنع القيم النقدية  صناعة كبري بل أصبح أكبر صناعة عرفتها البشرية. ومن يمارى فلينظر الي أرباح ما يعرف بأسواق المال وكم تتدفق فيها من ترليونات ألدولارات. واصبح المغزي من صنع الاموال هو صنع الفقر .فالمال الاعتباطي والتسعير الاعتباطي يكون فيه الخاسرون هم الضعفاء الفقراء

صناعة المال وصناعة الفقر :
                            لا يحتاج الأمر الي إطناب ولا إسهاب فلئن كنت تملك المال فانت تملك السوق . وان كنت تملك السوق فانت تملك المعروض فيها من سلع وخدمات. يمكنك ان تغلى أسعارها متي شئت وأن ترخصها متي شئت .فاما الخاسرون فهم أولئك الفقراء الذين لا يملكون الا جهد عملهم . ذلك الذي أصبح السلعة الأرخص. وانتشرت مصانع الأموال من بورصات ومصارف وكالات تأمين ووكالات تصنيف . ولا يملك هذه الوكالات الا الفئة الباغية الثرية التي لا يتجاوز أفرادها الواحد بالمائة وتملك خمسين بالمائة من ثروة البشرية . ولا يتعامل مع مصارفها ووكالاتها وشركاتها المالية الا القلة القليلة من الناس . وغذا عو الحال بخاصة في بلدان العالم الثالث.ولذلك يلزم القول ان من لا يتعامل مع وكالات صنع النقود وعلي راسها المصارف والبورصات فانه سيصبح بلا شك الطرف المغبون. ومن المعلوم ان السواد الأعظم من الانتاج والتجارة في العالم يعتمد علي ضمانات وائتمان تقدمه المصارف . وغالب ذلك التمويل مال مفترض يقوم علي الثقة والاعتماد . ولا يقوم علي توفر تلك الاموال في المصارف بالفعل. وتزيد الاعتمادية بقدر ثقة الجمهور ليستامن المصرف علي حفظ ماله او مناقلته أو استثماره. ولما كان الحال كذلك فانه يعني أن ثلة قليلة تستفيد من المال المصنوع مصرفيا لتوسيع أعمالها وتعظيم أرباحها . وأما الغالب من الناس فيحرمون .لالانهم لا يريدون  المزابنة للمصارف ووكالات الاموال بل لان هذه المصارف  أسست من الناحيتين التنظيمين والاجرائية لخدمة الأغنياء الأثرياء.فحسب لا غير . ولقد ظلت الأحبار تهرق والدراسات تعد للإجابة علي سؤال كيفية أخراج الفقراء من داترة المحرومية من الخدمة المالية وإدخالهم الي عالم التعاطي مع مال الائتمان والضمان. فنشأت مصطلحات مثل بنوك الفقراء والتمويل الصغير والتمويل الأصغر . وكانت كلها أفكار جيدة ولكنها لا تصمد عند الممارسة.ذلك ان أهل المال ملة واحدة وهم يتآزرون علي سد الطريق علي أمواج الفقراء و التي ان تكاثرت علي أبواب المصارف فإنه التسونامي الذي لا يبقي ولا يذر.ولذلك كان البحث دائماً عن العوائق لا عن الجسور وعن المشكلات لا عن الحلول .

الهاتف السيار جاء بالحلول:

                            كان السؤال الاول كيف للفقراء ان يحصلوا علي منافع البنوك ان كانوا لا يتعاملون معها وهي بعيدة المنتأي من بواديهم وأريافهم بل وحتي أحيائهم التي يزعم الزاعمون انها لا يتوفر فيها الأمن لمؤسسات مالية ؟ والسؤال الاخر هو كيف تكفي الاموال لتمويل العدد الغفير من الناس وهي لا يضع المال فيها الا القليل منهم؟ والثالث هو سؤال الضمانات للأموال التي تعطي تمويلا لمن لا يملك ضمانا الا جهد عضله وحسن خلقه. وقد جاء الهاتف السيار بالاجابات كلها لهذه السوالات .كيف كان ذلك هو موضوع المقالة الخاتمة لهذه المقالات في الاسبوع القادم بإذن الله.