الحرية هي العلامة المائزة لانسانية الإنسان . بيد أن الإنسان هو ذلك الكائن المسؤول القادر على البيان والتبين. وأمانته ومسئوليته التي تأبت أن تحملها السموات والأرض والجبال هي مسئولية حرية الاختيار. وهي تعنى استخدام مشيئته الذاتية في الأخذ والترك وفي الفعل والامتناع. فلئن كانت الحرية هي القلادة الماسية التي تطوق عنق الإنسان وتخبر عن فضله وكرامته على سائر المخلوقات فهي في ذات الوقت امتحانه المستدام ما دامت انفاسه تصعد وتهبط . وما دام يجرى نسغ الحياة في شريانه ووريده. فالحرية هي اطلاق الطاقة الحيوية الابداعية للانسان . وهي في ذات الوقت كبح تلك الطاقة الحيوية ومنعها من الاندفاع في الأتجاهات الخاطئة . فسبيل الصواب في جميع الأحوال سبيل واحد . وسبل الضلال عن الصواب كثيرة لا تعد ولا تحصر . (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) سورة يوسف الآية 108. (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) سورة الأنعام آية 153 فسبيل الحق والصواب سبيل واحد في كل لحظة إختيار . ويتوجب على الإنسان الراشد أن يحسن تقدير كل موقف في لحظة الحقيقة التي هي لحظة الأختيار.
حرية التفكير هي الحرية الكبرى
والتفكير هو منهج الإنسان ووسيلته ليختار أن يفعل أو لا يفعل. والتفكير هو سيرورة العقل عند تفاعله وانفعاله . والعقل معنى لا يوصف بجسم ولا كتلة ولا يتحيز في زمان ولا مكان بل هو وعي الإنسان . وهو احساسه بالحياة الروحية النابضة في وجدانه كما تنبض الدماء في عروقه. يقول الجرجاني في تعريفاته عن العقل (أنه جوهر مجرد عن المادة في ذاته مقارن لها في فعله . فهو جوهر روحاني خلقه الله مقارناً للبدن ، وهذا المعنى يشرح الآية او نصف الآية (خلق الإنسان علمه البيان) فالخلق والتعقل مقترنان في برهة واحدة من الزمان . فكانهما الشيء نفسه والفعل نفسه . ولأن العقل والتفكير هما أخص خصائص الإنسانية أن لم يكونا جوهر وجودها فأنه لا يتصور أن الخالق سبحانه وتعالى الذي كرم الإنسان بهذه الخاصية أعطاها أياه بحكم الخلق ليأخذها بحكم الشرع. لذلك فأن ذروة سنام الحرية هي حرية الاعتقاد والتفكير. والاعتقاد ليس شيئاً بخلاف التفكير بل هو درجة سامقة من درجات التفكير. فلا أحد يبلغ مبلغ الايمان والاعتقاد أصالة لا تقليداً إلا بعد أن يبلغ من درجات التفكير شأواً علياً . وأما الاعتقاد الذي هو ثمرة للتقليد لا ثمرة للتفكير فهو مذموم عقلاً وشرعاً . (قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه أباؤنا . أو لو كان أباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) . فالعبرة بهداية العقل وهداية الشرع . ولا بلوغ لهداية الشرع إلا بهداية العقل . فكل شريعة لابد من إضاءتها بمصباح التفسير والتأويل العقلى .
إعتقاد بلا أكراه
حرية الاعتقاد والتفكير حرية مقدسة . ولا يجوز المساس بها ولا يحق لأحد من الناس أن يكره الناس على انتهاج نهج من التفكير أو الاعتقاد ولو كان نبياً مرسلاً. (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) (لست عليهم بمسيطر ) فإن كان لا يجوز لنبي أن يكره الناس أو يسيطر على عقولهم ومشاعرهم فلن يجوز ذلك لأحد من الناس من بعد الأنبياء . ذلك أن الله سبحانه وتعالى لو شاء لأكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعاً) وهو الجزء الأول من الآية الآنفة الذكر . وحرية التفكير هي السبيل الى حرية الاعتقاد (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة) سورة سبأ الآية 46 فالتفكير في حقيقة الرسول والرسالة ومضمون الرسالة ومعقوليتها وبعدها عن اللامعقول هو السبيل المفضى للاعتقاد السليم الصحيح. والله سبحانه وتعالى يدعو أولى الألباب لاستخدام تلك العقول في معرفة سبيل الحق اتباعاً له لا تقليداً لمن يتبع بغير بصيرة ولا تفكير ولا تدبر. وحرية التفكير تعنى حرية الخيال وحرية السؤال كما تعنى حرية التفكيك والتحليل وحرية التركيب والإبتكار . ولا يجب أن يقيد كل ذلك بقيد من عرفٍ أو تقليد أو قانون أو تشريع . ما لم يكن ذلك العرف أو التشريع موافقاً لمقتضى التفكير السليم الصحيح . فصريح المنقول شرعاً لا يخالف صحيح المعقول عقلاً أو كما قال الأمام تقي الدين بن تيمية. وحرية الأختيار الفكري حرية هي أم الحريات . فلا يجب أن يؤاخذ انسانُ على فكره ورأيه . ولكن الإنسان يؤاخذ على قوله وفعله . وذلك اتباعاً للقاعدة العادلة الشاملة (لا ضرر ولا ضرار) . فلا يجب ان تتحول حرية القول أو الفعل أداة للاضرار بالآخرين أو الانتقاص من حقهم المتساوى في إمضاء مشيئتهم الذاتية وحريتهم في التفكير والقول والعمل. ولئن كان لابد لكل حرية من حد فان حدود حرية الاعتقاد والتفكير تتسع إلى أوسع مدى حتى تلامس جدار الضرر والإضرار بالآخرين. ولان مسألة تقدير الضرر والإضرار قضية قد تختلف في تقديرها العقول فإن مرد تقدير ذلك للشرع وللعقل . ونقصد بالشرع الشرع الرباني المنزل من عند حكيم خبير والشرع الذي هو استمداد وتخريج من تلكم الأصول الشرعية بما يوافي متطلبات الوقت والمحل . ولربما يسأل السائل ان كان ذلك كذلك فماذا يؤاخذ المسلم عند تبديل عقيدته من الايمان إلى الكفران.
فكر بلا ضرار
والسؤال مشروع والأجابة عليه سهلة فمجرد تبديل أتجاه التفكير ووجهته لن يعلمه أحد . كيف يُعلم وهو أمر باطني وجداني لا يحيط به إلا صاحبه . ولكن تلكم الفكرة المرتدة المنكرة إذا تلبست الكلمات فتحولت مما وقر في الصدر إلى قول يتردد وترتجع اصداؤه فحينذ يكون النظر في مقتضى ذلك القول ومآلاته . فان كان محض فكرة شكوكة أو منكرة لا مناجزة ولا مبارزة فيها للعقيدة وللدين ولا تثير فتنة ولا تبغى تحريضاً للخروج عن الديانة فأفضل الرأي أن العقوبة على ذلك مؤجلة كما أجلت عقوبة المنافقين الى يوم القيامة . وأما إذا تحولت الى حرب على الإسلام بالكلام أو السنان أي بالحرب أو المظاهرة لمن نأوى الإسلام فعندئذ يستتاب صاحب القول لا محاسباً على فكرته واعتقاده ولكن محاسباً على فعله ونيته الهدامة.فمجتمع المؤمنين أمة واحدة متضامنة ومظاهرة الأعداء على الأمة خيانة فى عرف كل الأمم والملل والنحل .
حرية الفكر أساس النهضة:
أن حرية التفكير أمر حيوي لنهضة الأمة ولا يمكن لجماعة أو أمة من الناس تكبح حركة النوابغ من أبنائها وبناتها بأفكار التقليد والتخويف ان تنهض أبداً إلى مراقى الرفعة والتقدم . ويلزم من حرية التفكير حرية الجدل بالحسنى وباللتي هي أحسن من الحسنى. ولئن كان المسلم مأموراً ان يجادل الأغيار من أهل الكتاب وسواهم من اللذين لا يعلمون باللتي أحسن (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم باللتي هي أحسن) أفليس المؤمن أولى بالحسنى من غيره؟ والجدل شيء والمراء شيء آخر. فالجدل مأمور به والمراء منهى عنه. والجدل هو استخدام مقتضيات الحكمة والعقل واستجاشة المشاعر الخيرة عند الانسان . وأما المراء فهي محض الانتصار بالحجة وافحام الآخر ولو بالسفسطة والمغالطة . وأضطرار الآخر إلى أضيق السبيل بالابتزاز والاستفزاز. فمنهج الجدل هو منهج الحوار الذي هو المحاورة والمساجلة . مما يعني أن تدلو بدلوك وأن تنظر الآخر ليدلو بدلوه بين الدلاء . وأن لا تُحسم نتيجة تلكم المباراة والمساجلة مقدماً بالاصرار والتعصب بل يقال (وإنا أو أياكم على هدى أو فى ضلالٍ مُبين) ويقال ( قل لا تُسألون عن ما أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون) فأنظر إلى كلمة (ما أجرمنا ) منسوبة للنفس وكلمة (تعملون) منسوبة للآخر . وليس في ذلك أقرار بجريمة أو عمل غير صالح بل هو أدب (التي هي أحسن ) تطبيقاً وبياناً بالعمل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق