جدل الحرية : حوار أهل السمع والبصر (1)
د. أمين حسن عمر
الحوار المحتدم في الساحة السياسية حول قضايا السلام والحريات والإقتصاد والهوية حوار تدور الرحى فيه حول مفهوم مركزي مهما تعددت الموضوعات وهو مفهوم الحرية. فمزاعم الذين يشنون حرباً على الدولة تستند إلى دعاوى التحرير والعدالة السياسية . وأهل الممارسة والمناجزة السياسية بالداخل من دعاة المقاومة المدنية يدندنون حول ذات المعنى. والحديث عن الإقتصاد حديث حول الحرية ، حرية الأسواق . وحرية الفقراء الكادحين من الاستغلال لفائض قيمة عملهم وكدحهم بواسطة من صار المال دولة بين أياديهم ، وكذلك فان الحديث عن الهوية . فإنه حديث في جوهره عن الحريات والحقوق الثقافية . فلا معدى اذاً عن جدل الحرية . وهو جدل تكتنفه كثير من المشاعر الوجدانية القوية والتحيزات الفكرية والعاطفية . وتحيط به هالة من التصورات الجمالية والمفاهيمية الجذابة . فلا غرو أن صارت الحرية أغنية في أفواه الثوريين وترنيمة في شفاه السياسيين . ولهذا السبب ذاته فإن ضباباً كثيفاً يظلل المعنى الحقيقي والذي تترتب عليه الأفعال والأعمال الموجبة لصالح الأفراد والمجتمعات. وجدل الحرية في بلادنا جدل كثيف ومستمر ومتطاول ولكنه جدل فيه كثير من الرياء والمراء . وفيه ما فيه من المغالطات اللفظية والمنطقية والتناقضات بين قول وفعل وبين فعل وفعل.
معنى الحرية:
لا يزال الفلاسفة والمتفلسفون والمثقفون وأنصافهم يديرون حديثاً ما له من منتهى حول معنى الحرية وفلسفتها . بل زعم البعض ان مفردة الحرية مفردة عصية على التحليل فهى زئبقية القوام ما وضعتها في شيء إلا واتخذت شكلاً مغايرا. ولكننا نؤمن بأن للحرية مفهوماً قابلاً للاستيعاب . بيد أنه يستعصى تصوره في غيرما بيئة او إطار من الوقت والمحل والفكرة.
و السؤال حول الحرية هو سؤال القيود. ولعله من المفارقة العجيبة إن مفتاح باب الحرية هو القيد. فالسجال يدور منذ قديم حول سؤال هل الحرية مطلقة أم مقيدة ؟ فاذا كانت مطلقة فمطلقة بازاء ماذا ومن ؟ أو ليس الإنسان محدود مقيد بقيود من الطبيعة والبيئة ومحكوم بحدوده الذاتية؟ فلئن كان ذلك كذلك فهل يريد البعض إطلاق حرية الإنسان بإزاء المجتمع؟ وهل يمكن في تلكم الحالة ان تكون هناك أية قاعدة موضوعية للاجتماع البشري؟ لاشك أن العقلاء جميعاً إلا طائفة من أصحاب الفلسفة الفوضوية قد خلصوا إلى أن أفضل تعريف للحرية وهو تعديد وتحديد ما يقيدها !! وعود على بدء معالجة التعريفات فالأجدى عند تعريف المفردات أن نشرع من تلقاء اللغوي مروراً إلى العملى الإجرائي . وفي الدلالة العربية لمفردة الحرية يقول أبن منظور قال أبن الاعرابي : حر يحر حراراً إذا عُتق والحُر بالضم نقيض العبد وحرية العرب أشرافهم وحُر الفاكهة خيارها . فها هو أبن الاعرابي يُعرف الحرية بالعبودية فمن لم يكن عبداً أو كان عبداً فعتق فهو حر . وكما يقول حرية الناس أشرافهم أي أولئك الذي لا قيد على تصرفاتهم ممن هم دونهم . وفي اللغة الإنجليزية والفرنسية في القواميس الأحدث فأن الحرية هي القدرة على القيام بالفعل دون أكراه. فالخلو من الأكراه هو ما يُعرف الحرية. بيد أن هذا التعريف يعيبه أن الخلو من سائر الإكراهات الفكرية والنفسية والإجتماعية والبيئية والطبيعية أمر يستحيل تحققه . فكانما الحرية هى رابع المستحيلات مع الغول والعنقاء والحل الوفي أو كما يزعم الزاعمون . وقد يسأل السائلون عن مفردة الحرية ولماذا لم ترد بهذه اللفظة في القرآن الكريم ؟ والسؤال مشروع والإجابة سهلة وهي أن القرآن يعبر عن الحرية بمصطلح أكثر إيجابية . وهو مصطلح المشيئة والمشيئة تعنى ان يفعل الإنسان ما يشاء وأن يعتقد ما يشاء وان يتخيل ما يشاء . فالمشيئة معنى أقوى في نفي الأكراه. لأن الإنسان العاقل لا يرى في قيود العقيدة والاخلاق والطبيعة والبيئة وما توافق عليه المجتمع من أعراف طوعية لا يرى في ذلك أكراهاً . بل ان تلكم التحديدات هي مسارات سريعة للحرية لئلا يعوقها الإصطدام أو الاشتجار فكأنها مسارات مثل أشارات المرور السريع يراها البعض قيداً واكراهاً ويراها العقلاء طرقاً ممهدة للسلامة مع المرور السريع. وهذا المعنى فطن إليه أهل الحكمة اليونانية لأنهم لم ينظروا إلى الحرية إلا في إطار المدنية . وأعنى إطار التوافق الاجتماعي على العيش المشترك. ولذلك فمفهوم الحرية اليوناني مرتبط بمفهوم المواطنة في ذلك المجتمع المدني . فمن كان هو أو هى بعض من التوافق المدني فهو حر وإلا فليس للعبيد ولا للأجانب حرية في بلاد الأغريق . ولا تزال بقية من هذا المعنى للحرية وللديمقراطية راسبة في مفاهيم المجتمعات الغربية . فليس للأجنبي أن يطالب بحرية متساوية في بلادهم مع مواطنيهم وأما في بلاده فهم أهل الحرية غير المنقوصه والأحق بها من أهلها !
مشروعية الحرية:
ولربما يسأل السائل من أين تنبع الحرية؟ ما مبررها العقلي والإخلاقي ؟ ومن أين تستمد مشروعيتها ؟ هل هي شيء فطري وجداني داخلي . فيستمد من دواخل الإنسان ؟ أم هي منحة اجتماعية مستمدة من المعايير والأعراف الاجتماعية؟ وهل يتساوى الناس جميعاً في الحق في الحرية ؟ ولئن كان ذلك كذلك فلماذا حدثت ظاهرة العبودية؟ وإذا كان الناس يتساوون في الحق في الحرية فهل يتساوون في القدرة على أمضاء المشيئة الفردية؟ هل يستوى الضعيف مع القوى والغني مع الفقير والذكر مع الأنثى في امضاء المشيئة الذاتية ؟ أم أن الحق في الحر شيء وامضاء المشيئة الذاتية شيء آخر ؟ وسؤال آخر متى تكون الحرية مستحقة ؟ أم أنها مستحقة بموجب الطبيعة الانسانية . أو كما قال عمر رضي الله عنه متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحراراً؟ فإن كان الإنسان مستحق للحرية بموجب الإنسانية فما هي الإنسانية هذه التي استحق بها ان يكون حراً ؟ أن قصة الخلق كما وردت في القرآن الكريم تقدم الإجابات الواضحة لتلك السؤالات . فإن الإنسان استحق التكريم والتفضيل بالعلم وإدراك وجه الحق من الأشياء . فقد سمي آدم كل شيء بسمته وعلامته ووضع كل شيء في موضعه المستحق . وبذلك قبس من أقباس العلم الإلهي الكوني. فالإنسان يكون إنساناً عندما يدرك العلامة والبينة الحقة (خلق الإنسان علمه البيان) سورة الرحمن . فأقوى أسباب إطلاق المشيئة الإنسانية هو قدرة الإنسان على استبانة الحق من الباطل . وقدرته من التخلص من اكراهات الغرائز والرغبات والأهواء والعيش بمنطق العقل الذي يميز بين الحق والباطل . وبهداية النهي الذي ينهاه عن موافقه الغريزة في طلب الفاكهة المحرمة . تلكم التي قد تهوى به من العافية إلى المرض ومن القوة إلى الضعف ومن الخلود إلى الموت . إن أقوى علامات الإنسان الحر هو قدرته على الضبط الذاتي. ذلك أن الإنسان أدرك بعقله انه محدود بمحددات لا حصر لها من طبيعته الذاتية . وكذلكم هو مقيد باكراهات الطبيعة والبيئة من حوله . فأدرك أنه يتوجب علىه أن يعقل تفكراته وتحركاته لكي لا يحدث تصادم بينه والاغيار فيطاله منهم أذى أو يحدث هوما يؤذى به للأشياء أو المخلوقات الأخرى. فالإنسان العاقل الراشد يدرك أن مفهوم التوازن بينه وبين الآخرين مفهوم مركزي لوجوده ولبقائه حياً ولحضوره الفاعل بين الأغيار . وذلكم المعنى هو عين مفهوم الحرية التي هي القسمة بالسوية بين الإنسان وغيره ألا يجور بمشيئته عليهم ولا يتعدون هم الأخرين عليه . وجوهر ذلك هو التقيد بالعقل وبالضمير الإنساني أو بالعرف الإجتماعي والتعاقد الدستورى السياسى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق