ذكرنا آنفاً أن
حرية التعبير هي أوسع الحريات ذلك أنها الوسيلة لاظهاروجود الإنسان وحضوره بين
الآخرين وهويته التي يحب أن يُعرف بها. ولكن حرية التعبير في تمظهرها الجماعي تسمى
بأسم آخر وهو الحرية السياسية أو هي الحريات العامة. وأصل الحرية السياسية أنها المشاركة
بالرأي بين كل الأحرار . وطبيعة الحرية السياسية أنها توافقية ومدنية . فلا يمكن
تصور وجودها دون توافق مجتمع مدني على أن يحيا بمجموعه حراً وأن يكفل الحرية لكافة
أعضائه. والتوافق المدني هو الذي يعطي الحرية في إطار المجتمع والدولة تعريفها وهو
الذي يرسم حدودها. وإلا لصارت الحرية نجمة بعيدة يتغزل كل فرد في جمالها ولكنه يظل
بعيداً عن مطالها. وجان جاك رسو لم يكن الأول حديثاً عن أهمية هذا التعاقد والتوافق
الإجتماعي لتحصين الحرية من الضياع بل لعله أستوحى أفكاره من أبن خلدون الذي
استشفها من الأفكار الإسلامية في الشورى والبيعة وحرية الإختيار . بيد أن جان جاك
رسو هو الذي عبر بلسان الفيلسوف عن فكرة توافق المجتمع المدني . وقدم نظرية
متكاملة لكيفية (ايجاد شكل للتجمع يحمي ويحفظ بمجموع القوة المشتركة شخص كل مواطن
وممتلكاته . ويظل كل مواطن وإن اتحد مع الجميع لا يطيع سوى نفسه ويبقى حراً بنفس
الدرجة التي كان عليها في حالة الطبيعة) فما يتحدث عنه رسو وما تعلمه لنا تعاليم
الإسلام هي ان الحرية المدنية هى التي تجعل الإنسان حراً ومتمدناً في آن واحد.
والمدنية تعنى
الخروج من حالة التوحش الى حالة الاستئناس أوهى الأنسنة بأن يكون الفرد أنساناً . والانسان
اجتماعي ومدني بخلقته التي خلقه الله عليها (خلق الإنسان علمه البيان) وما حاجة
الإنسان إلى بيان ؟ ان كان سيعيش وحيداً فريداً تحكمه احتياجاته البيولوجية
وغرائزه وشهواته المتوثبة . يقول جان جاك رسو (ان ما يفقده الإنسان بالعقد
الاجتماعي هو حريته الطبيعية وربما حقاً لا محدوداً في كل ما يغريه وما يستطيع ان
تبلغه يداه أما ما يكسبه بالعقد الاجتماعي فهو الحرية المدنية التي هي وحدها التى تجعل
الإنسان سيد نفسه حقيقة. إذ أن نزوة الشهوة وحدها عبودية وطاعة القانون الذي نسنه
اتفاقاً هو الحرية.)
الحرية السياسية وسيادة القانون صنوان
لا يمكن
الحديث عن حرية أو حريات سياسية دون أقتران ذلك بمفهوم سيادة القانون . و إقتران الحرية
السياسية بل سائر الحريات في المجتمع المدني بحتميه سيادة الإرادة الجماعية من خلال
سيادة القانون هو ما يفتقر إليه التطور السياسي في بلادنا. ذلك أن الحديث عن
الحرية في غالب الأحوال حديث أدبي شاعري . ولا عجب فقد سبق أن قلنا أن الحرية كلمة
شاعرية جمالية بذاتها . وهي أمر حميم العلاقة بوجدان كل إنسان وبشعوره بالحياة
ومعناها ومغزاها ووجوده وهويته فيها . بيد أن أفكار القانون والإنتظام والطاعة
أفكار ناشزة عن تلكم الروحانية الشاعرية الناعمة. لذلك فالناس فريقان فى فسطاطين ، أحدهما يريد ان
ينظم اشعاراً في تلكم النجيمة البعيدة ، والفريق الآخر يريد أن ينعم بما يُمكن يُنال
منها وهي على أرض الواقع . فالحرية المدنية السياسية انما هى تسوية يجريها المجتمع
الحر ويقننها القانون . ولاشك أن في كل تسوية انتقاص. ذلكم ان التسوية إنما هي
إقتسام وكل إقتسام هو إختصام فتذهب حصة لهذا وتذهب حصة آخرى لذاك. وهذه التسوية
الكبرى لاقتسام ساحات الحرية تسوية يجريها المجتمع المدني . وقد اختلف الفلاسفة
حولها فالفيلسوف هوبز يرى أن كل ترتيب يؤدي إلى دولة النظام والقانون ترتيب مدني
ومشروع ولو تم فرضه بالغلبة لا بالاتفاق . بينما يرى رسو ولوك ان المشروعية لا
يمكن أن تُضفى إلا على تسوية وفاقية تعاقدية بين من يحكم ومن يُحكم . وهي تسوية يجب
ألا تُترك لتقديرات اطرافها . وأنما يجب أن يتم تقنينها في عقد مكتوب (دستور
باللغة المعاصرة) وفي قوانين تنبع من إرادة المجتمع وأعرافه وامتثالاته . وبذلك تكون
الطبيعة الديمقراطية للقانون.
سيادة القانون الديمقراطي
ولأن
الحرية جوهرة ثمينة فلا يُتصور إن لا يُبالغ في الاحتراز والتحوط للحفاظ عليها.
لأن التفريط في الحرية تفريط في أمان المجتمع وكرامته وقدرته على العطاء والتطور
والتقدم . ولذلك فإن علاقة الحرية بذريعة المحافظة عليها هي كمثل علاقة الصدفة
باللؤلوة ، إن تحطمت الصدفة ضاعت اللؤلوة في امواج البحر الهادر. يلزم من ذلك أن يكون الحديث عن الحرية موصولاً
دائماً بمبدأ سيادة القانون. فلا حرية في المجتمع والدولة بغياب سيادة القانون بل انما
هي الفوضى والفتنة والنزاع الذي تُضاع فيه الأوقات وتُهرق فيه الدماء. بيد أن
القانون ينبغي ان يكون وسيلة المشرع لحماية الحرية لا لإغتصابها أو حبسها
وارتهانها. وما ينبغي أن يتوثق عليه الإتفاق فلا يشذ عنه أحد هو التسليم أن
القانون يفقد مشروعيتة ما لم يحظ بمقبولية السواد الأعظم من المطلوب منهم الامتثال
لنصوصه. ولا يكون ذلك ممكناً إلا بالتوافق على نظام ديمقراطي الناس فيه فيما يلي
الحق والواجب سواسية مثل أسنان المشط . لا يتفاضلون بدين ولا مذهب ولا عرق ولا جنس
ولا لون ولا قبيلة ولا جهة. وهذا هو معنى فكرة المواطنة وهي أن الناس جميعاً احرار
في وطن واحد يتعايشون بحرية وسماحة .ويقوم بذمتهم أدناهم وهم يدً على من عداهم ممن
خاصمهم وعداهم. فكل مواطن سيد على نفسه سيد بنفسه في وطنه . ولا يتأتى ذلك ولا
يتيسر إلا بسيادة قانون يتوافق عليه جميع
الاحرار إلا من أبى أن يمتثل للارادة العامة . ولذلك فان الحوار الدائر الآن عن علاقة
الحرية والقانون ينبغي أن يلج إلى طور النضوج والمسؤولية . وأن ينأى عن الطفولية
السياسية والمزايدة الفجة. فلا حرية بلا قانون وكل قانون انما يختصم من الحرية في
ذات الوقت الذي يضمن فيه لها أن تبقى وأن تزهو وتزدهر. ولسنا نسيج وحدنا في السودان
وليس يُطلب منا أن نعيد اكتشاف العجلة التي اكتشفها الأولون منذ آلاف السنين. لذلك
علينا أن نأخذ بافضل الممارسات التي عرفتها الأمم من قبلنا في رسم العلاقة المثلى
بين الحرية والقانون. وفي شريعتنا هوادي كثيرة مُعينة على ذلك . وفي تجاربنا
السابقة خبرة مما نجح وعبرة مما أخفق او
فشل ففيها المثال والأمثولة . إن خطابنا السياسي يتوجب عليه ان يرتقى من وهدة
الهجاء والمراء إلى رتبة الجدل والحوار . وأن يتحلى الحوار بالنزاهة والموضوعية
لئلا ينتهى الى حوار الصُم البُكم العُمى الذي لا يصل فيه منه الى الآخرصوت ولا تُبلغه
منه إشارة . والله المستعان على كل حال وهو الهادي إلى سواء السبيل.
انتهى،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق