الجمعة، 25 أبريل 2014

جدل الحرية : حوار أهل السمع والبصر (3)

ذكرنا آنفاً أن حرية الإنسان في التفكير والاعتقاد هو أم الحريات بل هي جوهر إنسانية الإنسان. ذلك أن مشيئة الإنسان الذاتية التي تطلقها اختياراته العقلية والفكرية الحرة هي أساس التكليف الدنيوي والأخروي . ولا شك أن الفكر سيرورة لا تتولد باطنياً وأنما هي عملية مساجلة وتفاعل مع الآخرين . وكذلك مع البيئة والطبيعة ولذلك فإن قدرة الإنسان على البيان والتبين للآخرين وقدرته على الفهم عنهم تصبح هي القاعدة التي يتأسس عليها الإدراك والتفكير والتعلم . ولقد جاءت تلكم الخصيصة  التي  هى خصيصة  البيان مقارنة لخلق الإنسان ، ولذلك يصح لنا أن نزعم أن الإنسان انما هو معرفة . وأن انساناً بلا معرفة يصبح جسداً بشرياً بلا إنسانية بل ربما يتعذر أو يتعسر بغياب المعرفة استمرار هذا الجسد البشري في الحياة. فالمعرفة بصنوفها كافة جوهرية لبقاء الإنسان حياً . ولاعطائه المعنى والرسالة والمقصد لحياته الإنسانية.  فالمعرفة ليست ضامناً لكرامة الإنسان فحسب بل لأفضليته الكونية وقدرته في الإستمرار في الحياة وترقيتها رتبة من بعد رتبة.
حرية التعبير سبيل حرية التفكير
        ولأن حرية الإنسان في التعرف على الآخرين والتواصل معهم أمرُ جوهري لبقائه ولتطوره الإنساني أصبحت حريته في التعبير عن فكره واحتياجاته المعنوية والمادية تكاد تتسنم ذات المرتبة مع حريته في التفكير المستقل. وحرية التعبير هي أوسع الحريات الإنسانية قاطبة. ذلكم أنها تشتمل على حرية الكلام والكتابة والتعبير الفني بكل شكوله . وتحتوي الحريات  الكبري مثل حرية العبادة والحريات السياسية وحرية التعبير بالتظاهر السلمي وحرية النشر والصحافة. وهي كذلك تضم حريات جماعية وحريات فردية. وغالب الجدل والسجال حول قضية الحرية إنما ينصب على حرية التعبير . والسبب هو تداخلاتها الشائكة مع قضايا الدين والاخلاق والنظام العام . وهي أشد الحريات تأثراً بالمتغيرات الإجتماعية والسياسية. ولئن كانت الحرية مفهوماً شديد التكيف مع البيئة الطبيعية والإجتماعية والسياسية فان أكثر الحريات تأثراً وتكيفاً مع متغيرات هذه البيئة هي حرية التعبير . وقد أشتد الجدل حول قضية حرية التعبير  في السنوات المتأخرات بسبب انتشار وسائل الأعلام الحديثة والشبكة العالمية للمعلومات . وذلك بعد أن أتسعت قدرة الأفراد والجماعات في الأفلات من رقابة الرقباء الأهليين والرسميين . وبدأ الحوار الفلسفي حول حرية التعبير يتجدد فكأنه زمن المراجعة لاعلان الثورة الفرنسية عن حرية التعبير . ولمقولات جون استيورات ميل في تحصين حرية الفرد في التعبير وترفيعها حتى قال (أن أسكات صوت معارض واحد مساوٍ في الدرجة لاسكات جميع الناس ) . ولكن جون استيورات ميل يعود إلى فكرة المعيار الضابط لحرية التعبير الفردي . وهو ذات المبدأ الإسلامي (لا ضرر ولا ضرار) . فالحد الذي تتوقف عنده حرية التعبير هو عدم الإضرار بالآخرين. ولأن قضية الضرر هذه مسألة تختلف حولها التقديرات فهو يجعل من مبدأ الأغلبية هو المبدأ الحاكم عليها . بحيث أنه أذا تحققت مصلحة الأغلبية من قول أو فعل فذلك  اذاً هو القول أو الفعل الحسن الذى لا يؤاخذ قائله أو فاعله. ولاشك أن هذه الفكرة تناقض المعيار الأخلاقي . فالنفعية تهدم حقوق الأفراد والأقليات ولكن معيار الأخلاق المطلق هو الذي يحمي حقوق الفرد الواحد والأقلية بإزاء الأغلبية.  ولكن لا مندوحة من اللجوء إلى مبدأ الأغلبية في تشريع تنظيم ممارسة حرية التعبير. بيد أن هذا التشريع يتوجب أن لا يعارض المباديء الدينية والأخلاقية في ضمانة حقوق الإنسان وكرامته وتساويه في هذه الكرامة الإنسانية مع الآخرين مهما عظُم قدرهم أو عددهم . ولأن الدين والأخلاق هما الضامنان لهذه الحقوق فإن حفظ الدين والاخلاق من الاهدار بدعوى حرية التعبير لا يصبح أمر منطقياً فحسب بل يتموضع موضع الضرورة القصوى . ولأن انتشار الشبكة الدولية للمعلومات قد أفسح حيزاً واسعاً للتعبير الفردي والجماعي دون قدرة موازية للمؤسسات الإجتماعية والرسمية الضابطة فقد انتشر التجديف والإساءة للأفكار والرموز الدينية . الأمر الذي جدد الحوار بين مدرسة حرية التعبير المطلقة ومدرسة كبح نشوذ الحرية الهدامة . وبرز التعارض بين ايدولوجيا حرية التعبير التي تقودها وسائل الاعلام الحديثة وبين نصوص القوانين الجنائية في غالب دول العالم . تلكم التي تحرم النيل من الرموز الدينية وتعتبر ذلك تهديداً للسلم الإجتماعي. وارتفعت أصوات كثيرة تطالب بتشريعات جديدة لضبط التطرف الالحادي الذي يُخشى ان يحرك تطرفاً دينياً موازياً فيُدخل المجتمعات في دُوامة من الفوضى والنزاعات وربما الحروبات الأهلية. و كان الإسلام منذ عهد قديم قد حرم الإساءة والسب للأديان الأخرى لئلا يُقحم الجميع في دائرة خبيثة من السباب المتبادل والكراهية . مما يمنع التواصل الاجتماعي والفكري ويحول بذلك دون انتشار دعوة الإسلام السلمية . و ذلك المنطق  ذاته هو الذي يوجب وضع تشريعات معتدلة توازن بين حرية الفرد في التفكير والتعبير وقدرة المجتمع على الانسجام والعيش بسلام.
حرية التعبير والاخلاق والقانون
        الدين والأخلاق معاً هما الضامن الأكبر لحرية الإنسان ولحقوقه ولكرامته . ذلكم أن جوهر الدين والأخلاق هو تحريم الظلم وتعظيم الرأفة والرحمة . والدين والأخلاق ضابطان ذاتيان للأفراد والجماعات . والضبط الذاتي أوسع أثراً من الضبط الخارجي بواسطة وسائل انفاذ القانون . وهما في الوقت ذاته  القاعدة التي تُستمد منها الدساتير والقوانين . فالمعايير الدينية والاخلاقية الى جانب المصلحة والمنفعة هي أساس التشريع في كل أمة من الأمم سواءً وصفت بأنها ذات مرجعية دينية أو علمانية . فالعلمانية ليست محصنة إلا من النصوص والأحكام الجزئية للأديان منعاً لها من التأثير المباشر في مجريات الحكم والسياسة . وأما روح الشرائع والاخلاق المنبثقة عنها فلا يمارى مماري في أثرها الضخم في توجيه الحياة العامة والخاصة حتى في تلكم البلدان التي توصف بالعلمانية المتشددة. فالتشريع المعبر عن دين الأمة وأخلاقها هو بذاته فرع من فروع حرية التعبير عن خصوصية تلك الأمة وثقافاتها وامتثالاتها ورؤية انسانها للكون والحياة . وهو الأمر الذي بات يُطلق عليه مصطلح (النسبية الثقافية) . فلئن كان من حق الفرد ان يُعبر عن خصوصيته الفكرية فمن حق الشعب أن يعبر عن خصوصيته الثقافية وهويته وعبقريته الخاصة بين الأمم.
        والأمم تعبر عن هذه الخصوصية من خلال التعليم والتوجيه والتشريع والتقنين . بيد أن هذا وان عنى تفاوتاً في تفسير حرية التعبير بين الأمم والشعوب فأنه لا يعنى أن ليس لحرية التعبير أساس انساني تشترك وتتفق عليه سائر الأمم .  وهو الأصل الذى يُصار اليه لتعريف تلكم الحرية . والاختلافات الثقافية في تفسيرها لحرية التعبير ينبغي أن لا تتناقض مع الحق الأصيل للانسان في التحرر من اكراهات الرأي والفكر والثقافة.
        ولئن كانت حرية التعبير هي أوسع الحريات فلا غرو ان تكون مركز اهتمامات الجماعات المطالبة بالحرية والتحرر. ولكن لأن الحرية كلمة جذابة وذات طبيعة جمالية وثورية فكثيراً ما تبالغ هذه الجماعات في مطالبها حتى تكاد تبلغ إلى المطالبة بالحرية المطلقة التي لا يحدها قانون. ونحن نسمع مراراً وتكراراً عبارة (الغاء القوانين المقيدة للحريات ) وهي عبارة مفرطة فى السذاجة لأن كل قانون هو مقيد للحرية بصفته قانوناً . فالحوار لا يجب أن يكون حول فكرة التقييد لأنه مُسلم بها وأنما حول مدى هذا التقييد وجدواه وشرعيته في الظروف الماثلة والأحوال السائدة . ومن اعتقد أن الحرية لا تتقلص وتتمدد مع تحولات المناخ الإجتماعي والسياسي وحالات الحرب والسلم فهو شخص أعشى لا يرى فى نهار الحقيقة من وقائع الحال إلا ما يتمنى.

نواصل،،،،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق