السبت، 10 مايو 2014

جدل الهُوية .. حوار أهل السمع والبصر (4)

تحدثنا فيما سبق من قول عن انقسام خطاب الهوية إلى فريقين، فريق يبحث عنها في الماضي وفريق يبحث عنها في مضارب خيام الآخرين. وكلا الفريقين لم يدرك إن الجوهرة الثمينة التي يبحث عنها أقرب إليه من شراك نعله بل أنما تقترب منه إلى درجة المطابقة التامة معه . إليس الإنسان هو ، هو ألم نذكر أن "هوية الشيء هي حقيقته التي تميزه عن غيره" أم لعلنا ذكرنا أم لم نذكر تعريف قاموس أكسفورد الذي يقول أن  الهوية هي "حالة الكينونة المتطابقة تمام التطابق والمتماثلة إلى حد التطابق التام أو التشابه المطلق" فكيف ندرك اذاً من الباحث ومن المبحوث عنه ولكن السؤال هو هل ما نبحث عنه في مطال الأيادي أم أنه يلعب معنا لعبة التخفى والإختباء.  فكلما وردت إشارة بوجوده في مكان ما غير ذلك المكان . أو ليس يعلم ما يدور في خلد الباحث إن كان هو الباحث وهوالمبحوث . ان حالة البحث عن هوية في ذاتها حالة قلق وجودي عميق لأنها محاولة تتكرر باستمرار للتواصل مع كنه الذات . تلكم الذات ذات المجاهيل الداجية الدامسة. ذلكم الجوهر الذي يلتمع في الظلمات ولكنه لا يبقى على حال ولا يحل في مقام . فيظل على قربه الدانى منا أنأى وأبعد من كل نائي بعيد.
أزمة هوية أم أزمة خطاب:
        ولئن كان حال الهوية هكذا فلا غرو أن  تشتبك حولها المفاهيم وأن ترتبك المدارك حتى نكاد نسلم يقول ميشيل فوكو أن أزمة الهوية هي أزمة العبارة. وأصحاب المدرسة الألسنية يزعمون "أن الواقع المادي الذي يتأثر به ويؤثر فيه الانسان يكون من عبارات منطوقة أو مكتوبة ودلالتها هي التي تصنع فعل الانسان الذي يصنع متغيرات الحياة جميعاً. فهل نعاني من أزمة هوية أم من أزمة خطابات هوية متناقضة ومتعارضة . وهي التي تحول دون تشكل وعى جماعيثم فعل متفق عليه فاعل ومؤثر. لا رغبة لدي في ولوج ساحة الجدل حول أيهما أسبق البيضة أم الدجاجة؟ هل القلق الهوياتى الوجودى هو ما يصنع هذا الارتباك الخطابي ؟ أم أن هذا الارتباك الخطابي هو ما ينتج أزمة الهوية. والحديث ههنا عن الهوية الجمعية ابتداء والهوية الفردية انتهاء . ويمكننا أن نأتي الأزمة من أية جهة شئنا من طرفيهما فالجمعي مأزوم بقدر الفردي . فالهوية الفردية ليست إلا جنيناً دائم الوجود في مشيمة الهوية الجمعية فاذا تخثرت المشيمة فما حال الجنين ؟ واذا تهرأ الجنين فما حال المشيمة ؟ ومما لاشك فيه ان الخطاب لا يكون الا تفاعلاً بين شخص وجماعة أو بين شخص وشخص أو بين جماعة وجماعة . وصفة الخطاب كما يُعرفه اصحاب المدرسة الألسنية فهو منظومة من العبارات المرتبطة وفق قواعد متميزة في إطار ممارسة خطابية محددة . وكل خطاب له طرفان طرف مرسل وآخر معني بالمخاطبة (مرسل إليه). وأما خطابات الهوية فنعنى بها منظومة الكلام الموجه لتعريف واقناع وتحفيز جماعة محددة . ربما شخص محدد لتتخذ أو يتخذ هو موقفاً فكرياً وحركياً مطلوباً من الجهة المخاطبة له أو لها . ونقصد بالخطاب حول الهوية السودانية أو العربية أو الأفريقية أو الإسلامية الخطاب الذي يحدد للمخاطبين سمات وصفات وخصائص تلك المجموعة كما يراها الطرف الذي يخاطبها . وهذه السمات والصفات تتضمن الدين واللغة والتاريخ المشترك والتراث المشترك والعادات والتقاليد والقيم الجمالية والاخلاقية. والخطاب الذي يحويها هو ذلك الخطاب الذي يشتمل على أفكار ودلالات ونصوص وأقوال وقواعد ناظمة لصياغة الافكار والأقوال لتُعبر للناس عن هويتهم افراداً وجماعات بصفة المطابقة مع الذات والمخالفة للأغيار . وتبين آثار هذا الموقف على الواقع الملموس في تمظهراته الاجتماعية والثقافية والسياسية وفي علاقة هذه الهوية الجمعية أو الفردية بالآخر المغاير.
إشكالية تصادم الخطابات
ومن هذا المنطلق فان عمل الخطاب هو محاولة تحديد وتوصيف للذات الأصلية للفرد أو الجماعة . وعلاقة ذات التحديد والتوصيف براهن الحال إن كان مقيولاً مرضياً أو غير مرضي ولا مقبول. ولاشك أن كل خطابات الهوية تلخص إلى إجابة واحدة وهي ان واقع الحال ليس مقبولاً "بيد أن الخطابات المتعددة تختلف حول أسباب الواقع البئيس المشتكي منه" وتتفاوت التفسيرات بين من يعزو حالة التخلف عن المراد إلى مشكلة تكوينية للعقل العربي أو الأفريقي بسبب اسطوريته وجزئيته وعدم قدرته على التماهي مع الواقع . وآخرون أعتبروه بخلاف ذلك نتيجة طبيعية للابتعاد عن المنابع الصافية والاعتماد على الدخيل من الأفكار ومنظومات السلوك والاخلاق . فبينما ترى جماعة ان المشكلة في الانغلاق على الذات الواهمة يرى آخرون ان المشكلة هي في إنكار تلكم الذات والتنكر لها .  وتجشم محاولة مستحيلة للتماهي مع الآخر المنفصل والمتميز بفكره وقيمه وسبل معاشه وحياته. وآخرون  لا يؤسسون خطابهم عن الهوية على فكرة التواصل بل على التباين بين ما هو عربي وأفريقي . وربما بين هو مركز وما هو هامش وما هو ديني وما هو علماني . ويقابل هؤلاء من يقول أن هوية المسلم دينه وأن لا إعتبار لأي إنتماء آخر . فالانتماء الوطني شوفونية والقومي شعوبية والقبلي عصبية . وكل لغة غير اللغة العربية التي هي لغة القرآن رطانة لا ينبغي أن يؤبه لها. ألو كانت تلكم اللغة هى الماعون الحاوي للتراث التاريخي للوطن حتى قبل ظهور الإسلام ؟ وهكذا تتصادم الخطابات ويعجز جميع الفرقاء عن التوصل إلى إطار ناظم تتداخل فيه دوائر الانتماء التي يعزز بعضها بعضاً على الرغم من التعدد والتنوع . وهذه الخطابات التي تتأسس على التباين لا على التعدد الذي يتجمع وعلى التنوع الذي يتكامل فيكمل بعضه بعضاً هي أس أزمة الهوية. فعندما تعجز الهوية الجمعية عن تصور ما هي عليه بسبب تنازع الخطابات الفكرية فكأنما تدخل في مرحلة من عدم اليقين حول ما هي عليه وحول منطلقاتها ومقاصدها . فاذا صار الحال إلى ذلك فليس ذلك إلا الضلال المبين.
أزمة الأفكار وأزمة الخطاب:
        إن أزمة الخطاب حول الهوية انما هى ناشئة من أزمة الأفكار التي باتت تعاني منها منطقة الحوض العربي الإسلامي بامتدادها في المنطقة الأفريقية . ومشكلة الأفكار ذات صلة لصيقة وعميقة مع مشكلة الوعي بالذات. فحالة الجمود الفكري والإبداعي التي شهدها الحوض العربي الإسلامي في القرون الأخيرة هي التفسير الوحيد لحالة العجز والوهن والتخلف الحضاري التى تشهدها المنطقة . مهما عُظم رصيدها من الموارد الهائلة التي تزخر بها وتتميز بها دون مناطق كثيرة في العالم سبقت إلى النهضة . ويمكن المقارنة بين بلد مثل اليابان وبلد آخر في الحوض الإسلامي هو اندونيسيا . فالأخيرة التي تتشكل من آلاف الجزر ذات الأراضي الخصبة والموارد المتعددة لا تزال تعاني من التخلف ( رغم كونها نسبياً على رأس البلدان الإسلامية النامية) بينما يعلم الجميع أن اليابان ليست إلا جزيرة بركانية قاحلة مهددة بالزلازل والتسونامي . ولكنها ناهضة بأنسانها الذي يعيش حالة مع التناسق التام في مكونات هوية شعبه . وكذلكم في قدرته الفائقة على التميز عن الآخر والتفاعل بحيوية معه في ذات الوقت . ولئن ذلك هو حال المقارنة بين اندونيسيا وبين اليابان فلا حاجة بنا إلى ذكر باقي الأوطان العربية والإسلامية والأفريقية مهما احتوت عليه من ثروات أرضية ونفطية هائلة . فأنها مهما شهقت فيها عمارات وعقارات وتكاثرت فيها  السلع  ونيسرت الخدمات فان ذلك لن يخفي حقيقة التخلف الحضاري المتمثل في العجز عن العطاء المادي والحضور الفكري والتقانى . وكذلكم عن الشراكة الفاعلة في رسم صورة العالم المعاصر بما هو عليه من نهضة وتقدم مادي وبؤس وفقر روحي . أكبر أسبابه هو أزمتة الروحية والاخلاقية التي يزعم الزاعمون منا أن علاجها ميسور موفور في تراث حضارتنا ولكن من يصدق طريح الاسقام قعيد الدهور والأيام إن أدعى أنه هو الطبيب المعالج والنطاسى العليم.

ونواصل،،،

جدل الهُوية .. حوار أهل السمع والبصر (3)


                
             

ذكرنا آنفاً أن هوية الشخص هى تطابقه مع ذاته الأصلية . وتميزه بذلك عن الأغيار. وهذا التعريف يطرح بقوة مسألة الأصالة في تعريف الهوية . وأثر هذه الأصالة على قدرة الإنسان على العطاء وعلى الحضور متميزاً بسماته وصفاته وأفعاله بين الأغيار. ونحن نلاحظ أن الإنسان بحضوره المادي يبقى هو ذاته رغم التحولات التي تحدث له عبر السنوات وعبر المتغيرات . فهو ينمو ويتطور ويتغير وفي أثناء ذلك تتغير خلاياه وتُستبدل بأخرى . ويصنع مما يأكل ويشرب جسداً طازجاً جديداً . ولكنه يبقى هو ذاته يُسهل التعرف عليه من القريب والبعيد  . فهو يدوم على حاله رغم التغيرات . وما يحدث جسمانياً للإنسان يحدث بأكبر وأكثر منه عقلياً ونفسياً وروحياً . لأن التفاعلات العقلية والنفسية والروحية أكثر حرية وأكثر طلاقة من التفاعلات الجسمانية. وهذه الإستمرارية للذات الإنسانية هي مثارٌ للاسئلة الفلسفية الأكثر تعقيداً وغرابة . فكيف نفسر ثبات الهُوية رغم التغيرات؟ ألانها هي الجوهر التي تتولد منه المتغيرات مثل النواة للشجرة كما يقول الجرجاني ؟ أم هي الثابت الذي لا يتغير كما يقول باسكال (أساس الهوية هو ما لا يتغير) ؟ وعند باسكال القيم الجمالية والأخلاقية ليست أساس الهوية لأنها متغيرة فما وراء الجمال والأخلاق يوجد جوهر روحي هو أساس الهوية . فكأنه يستوحى فلسفة المثُل من أفلاطون . والهوية الأصلية عند مونيه إنما تُعرف من الداخل أي عبر الأحساس الحميم بها . والعيش معها وتعايشها مع الأغيار هي محاولة للتفاعل والاندماج لا تتحقق إلا بقوة الشعور بالذات. وهو بذلك يقترب من جون لوك الذي يجعل الشعور الباطن وسيرورة الفكر جوهراً للهوية . فالفكر والشعور عنده هما وجهان للشيء نفسه . فلا شعور بلا فكر ولا فكر بلا شعور. وهذا التفاعل العميق بين فكر المرء وشعوره هو الذي يصنع الذات الفريدة للأنسان. وشوبنهور يقول (أن كل انسان يمتلك نواة باطنية لا هي بالفكر ولا بالشعور لأن كلاهما يتأثر بالنسيان إنما هي الإرادة التي تتجسد في الذات العارفة بنفسها وبغيرها ). وما يتوصل إليه شوبنهور هو ذات ما انتهى إليه المتفلسقة من أهل التصرف الإسلامي . ذلك أنهم أدركوا أن الإنسان أنما يتحقق في الوجود بالمعرفة وأدنى ذلك المعرفة بنفسه لتكون هي هي راضية مطمئنة بوجودها . وهذا الرضى والإطمئنان هو الذي يرتقى بها في مراقى العرفان . وبذلك  تعرف مُوجدها الذي لا يكتمل عرفانُ إلا به . وفي الأثر عندهم "من عرف نفسه فقد عرف ربه" . لأن العارف بنفسه هو وحده من يُمعن النظر إلى صنع الربوبية وأعلام لطائف المعرفة "الامام أحمد الرفاعي– حالة أهل الحقيقة مع الله" . فالعرفان الذي هو الوعي والمسئولية الاخلاقية هو مفتاح فرادة الانسان التي أستحق بها الكرامة . فصار المحور الذي تطوف حوله الموجودات والمخلوقات وتُسخر له بنعمة من الله وفضل. وفي ذلك يقول الفيلسوف كانط "الإنسان غاية في ذاته وليس وسيلة للاستعمال يستعملها الغير أو يستعملها هو نفسه لتحقيق هدف ما .  ولهذا السبب فهو شخص وليس بشيء كسائر الأشياء" والإنسان قيمه لا تقوم بغيرها فليس له سعر ولا ثمن . وقيمته مطلقة "من أحياها فكانما أحيا الناس جميعاً" ولأن القيمة مطلقة يتساوى فيها الفرد والجمع لأن حد الإطلاق واحد. وهذه الفرادة الإنسانية ليست للجماعة الإنسانية في حالة الاجتماع ولا هي خاصة ببعض الأفراد بل هي فرادة لكل أنسان . فكما الإنسان يتميز ببصمته الابهامية والوراثية فهو يتميز أيضاً بجوهره الانساني الأصيل الفريد . وهذا الجوهر الانساني هو الهوية التي لا تتطابق مع غيرها مهما اختلفت الأمكنة والأزمنة .  فهي تتطابق مع ذاتها وتتميز عن من سواها. ومن اصالتها هذه ينبثق فعلها في الزمان وحضورها في التاريخ.

هوية الأمة هي أصالتها:-
        وكما أن هوية الشخص هي فرادته وأصالته فان هوية الجماعة الوطنية "الأمة" هي اصالتها وفرادتها. ومن اصالتها هذه تنبثق عبقريتها في فعلها المتميز عن الأغيار. فاذا غفلت الأمة عن هويتها وتناست أصالتها بأن سمحت للآخر أن يجعل فكرته فوق فكرتها . وشعوره أسمى من شعورها وارادته أعلى من أرادتها حينئذ يصيب الوهن فعلها فيعجز ويطغى فعل الآخرين وحضورهم على فعلها وحضورها . فلا ترى إلا بعين الآخر ولا تسمع إلا بسمعه ولا تجب ولا تكره إلا ما يجب وما يكره. فكانها نسخة زائفة منه أو كأن الآخر الشخص وهي الظل التابع؟ والهوية التي نعنيها في هذا السياق هي ذلك الجوهر الفريد المميز الذي يستخدم الحرية فيما يفعل وما يمتنع وما يأخذ وما يدع. لا بدافع من الشهوة أو الغريزة ولا بالخنوع والخضوع لسطوة الآخر ولكن بالكدح تشحيذاً لفكره وتعبيراً عن شعوره وامضاءً لمشيئته . والأمم الحرة هي الأمم الأصيلة التي تفعل ما يرتضيه فكرها وشعورها . وما تقضي به ارادتها ومشيئتها الذاتية بلا خشية من الغير ولا مداهنة للآخر . وجوهر الحرية هو الاستجابة للمشيئة النابعة من فكر متميز وشعور فريد. فالانسان الحر هو الانسان الذي يستعلى بارادته فوق الضرورات والعوائق. ويوقن في قرارة نفسه أن نفساً حرة بين جنبيه لو تعلقت همتها بالثريا لنالتها . والامم الحرة كذلك هي التي تنفك من أسر الأنا الصغرى التي تكبلها الغرائز والشهوات و تتحرر من قيد التقليد والاعتباد وتنطلق من عقال المسايرة والاستتباع فحينئذ تبذل غاية وسعها في تشحيذ الأذهان اجتهاداً وابتكاراً وغاية الوسع في تسخير الجوارج والأبدان عملاً وانجازاً وغاية الوسع في ترقية الوجدان خلقاً وذوقاً فتبلغ من الحضارة شأواً علياً وتؤتي رآية الشهادة على الآخرين.


أزمة الهوية ... لماذا صرنا هكذا؟
        فاذا كان ما ذكرنا هو الشرح الصحيح العميق لمعنى الهُوية التي هي جوهر النفس فماذا أصاب هويتنا ؟ فما عادت مُشعة على أفكارنا لتصير مبدعة فاعلة . وما فتئت  مؤثرة في أفعالنا لتكون دائبة ناشطة . لماذا تعاني جماعتنا الوطنية من حالة من خمود الفكر وخمول العمل ؟ والأمر لا يحتاج الى طبيب نطاس ليخبرنا ما هو التشخيص السليم للحالة. فاعراض الداء دالة عليه. فهويتنا الخاصة وهويتنا الجمعية تعانى من حالة من حالات الفصام النكد عن الذات. البعض يسمى الحالة بالتغريب "الألينة (alienation ) ويسميها آخرون أزمة الهوية. فنحن مغتربون عن ذلكم الجوهر المشع الفريد داخل ذواتنا أو ذلكم الجوهر الذي تبلور في الذات الجمعية  ليهبها عبقريتها المخصوصة. فبعضنا يعيش مع الآخر الداثر الذاهب من الأباء والأجداد والأسلاف . يسعى عبثاً لاستعادة صورتهم من الماضي لينصبها أمامه ليقلدها ويحاكيها بلا وعي بعدم دقة الصورة المستعادة . وعدم ملائمتها لمقتضى الوقت والمحل الذي هو أساس الإختيار من  بين الاحتمالات المتعددة والإختيارات المتكاثرة ولئن اشتمل تراثنا الديني والفكري على جواهر مشعة وكنوز لا تقدر بثمن فأنه ايضاً بمرور الزمان عليه اشتمل على أفكار ميته فاقدة الفاعلية . لأن الوقت ما عاد ذلك الوقت واختلف المحل فما عاد ذات المحل . وجاء أناس آخرون هم أبناء هذا المكان وهذا الزمان هم أبناء هذا العصر . وباختلاف العصور تتغير الأمور . وقدأدرك ذلك أهل العلم الفقهاء فلم يجعلوا اجماع أهل عصرما ملزماً لأهل العصور اللاحقة . أن قضية التعامل مع التراث تظل واحدة من أهم أشكالات الهوية . وسوف نتعرض لها لاحقاً " . فكثير من الناس يفترض حصول المطابقة بسبب وحدة الدين أو الفكره أو المحل بينهم وبين الأسلاف وهذا افتراض غير صحيح . فالمطابقة لا تحدث إلا بين الإنسان ونفسه ولا أحد سواه . والذات الجمعية التي تتشكل من المتعايشين المتساكنين في محل واحد تأخذ فرادتها من جماع العبقريات المخصوصة لجميع من يشكلون تلك الجمعية . ولأن الناس لا يتطابقون وتكرر نسخ لهم عبر الزمان محال . فكذلكم الجماعات المتشكلة منهم لا تتطابق بل تعيش كل جماعة منهم تجربتها الخاصة الفريدة. وكما يحيا البعض في التاريخ الماضي حالماً باستعادته يحاول الآخر ان ينسلخ من هويته ليصنع صورة زائفة بمحاكاة الآخر الذي ينصبه أمامه رمزاً  للنجاح والفلاح العلمي والعملي . وما يدري أنه بالتقليد وبالمحاكاة لن يبلغ روما التي يروم  ولن يبلغ إلى مقام الآخر المتميز . ولن يتمكن من التقدم بسرعة اللحاق إلا إذا تميز على الآخر . ولن يتميز عن الآخر المعاصر الذي يراه قدوة وأسوة إلا إذا انخلع عن حالة التبعية له فصار هو هو مطابقاً لنفسه ومتميزاً عن الأغيار كل الأغيار.

ونواصل،،،

جدل الهُوية .. حوار أهل السمع والبصر2


ذكرنا آنفاً أن الهوية هي حقيقة الشخص أو مطابقة سمات الشخص وصفاته وأفعاله لما هو عليه. فهي إثبات لكون الإنسان هو نفسه ولا أحد سواه. أو كما قال فولتير (هذا المصطلح العلمي لا يعني سوى الشخص نفسه) ويمكن ترجمة المصطلح للغة الفرنسية والإنجليزية كما أسلفنا ليعنى التساوي Identical  . والهوية تعني في جانب منها المطابقة وذلك بمطابقة الشيء أو الشخص لنفسه . وتعنى المخالفة بمغايرته لمن هو سواه . وما لم تكن مغايرة لا تكون هناك مطابقة . فللهوية ركنان ركن للأثبات وركن آخر للنفي . وقد ذكرنا كذلك أنه يمكن ان يُنظر لهوية الشخص من الخارج كما يفيد المصطلح  هو الذى هو ضمير الغائب المنفصل أو يمكن ان ينظر إليها من الباطن من داخل الشخص نفسه وعياً منه بذاته وسمات هذه الذات وصفاتها واحساسها ومشاعرها. والهوية إما ان تكون فردية فهي هُوية شخصية أو تكون جماعية . وهي في كل الأوقات تعني المطابقة مع الذات والإمتياز عن ا لأغيار . والمعاجم الأجنبية نترجم منها وصفها للهوية بأنها (حقيقة الشيء أو الشخص المطلقة ( الكفوي لا يجعل الهوية إلا للأشخاص دون الأشياء) المشتملة على صفاته الجوهرية والتي تميزه عن غيره).
الهوية من الخارج
        هل الهوية نظرٌ وتأثيرٌ من الخارج أم هي تفاعل بين الداخل (الباطني الإنساني) والخارج ؟ وإذا كانت تفاعلية فهل هو تفاعل تأثيراته المتبادلة متساوية أم أن لأحد الفاعلين (الخارج والداخل) أفضلية على الآخر. من المعلوم أن الإنسان هو سيد النقائص لأنه يولد عاجزاً ناقصاً بصره ناقص وسمعه ناقص ومعرفته ناقصة وهو عالة على الأغيار (وبخاصة الأم) . وهو يستكمل هذا النقص بالتفاعل مع الأغيار . وكل تفاعل أما ان يكون متساوياً في التأثير والتأثر أو غير متساوي. فاذا كانت الهوية أكثر تأثراً بالاغيار فهي اذاً بطابعها مكتسبة أو كما يقول بعض الوجوديين هي هوية مستلبة. فهل هي هوية مطابقة لذاتها كما هي كائنة أم كما هي متكونة . والكينونة هي الحالة الأصلية والتكون هو سيرورة التحول عبر التفاعل مع الأغيار . وهو ما يطلق عليه التشخصن . فنحن نقابل هنا بين الحالة القارة العميقة والحالة المتفاعلة المتكيفة او بعبارة أخرى هى تفاعلٌ بين كُنه الشخص وتحوله . والتحول إنما يكون بالتفاعل مع هوية جمعية قد تكون هي الأكثر تأثيراً . وربما أيضاُ هُويات فردية متفاعلة مع الشخص . وهنا تتداخل الهوية الذاتية مع الهوية الجمعية . فهوية الشخص ذاته هي جزء من ذات جمعية أعم . بيد أن سؤالاً مهماً يرد في هذا السياق وهو أن الهوية الجمعية اذا كانت ذات التأثير الأكبر على الهوية الشخصية فهل تبقى مؤثرات الخارج (الجمعية) على حالها عند اندغامها بالذات الفردية ؟ أم انها تتغير عند الاتحاد مع  المعطيات الذاتية كما تتفاعل العناصر الكيمائية فينتج محلول جديد هو فريد بذاته . وهذه الفرادة الناتجة عن التفاعل بين الباطن والظاهر هي التي تعطي كل شخص خصوصيته وفرادته . فلا يكون إلا نفسه ولا يُصبح تكراراً لأي شخص أو شيء سواه . فكأنها مطابقة في حالة السيرورة لا مطابقة في حالة السكون . والسكون حالة مستحيلة عندما يكون الحديث عن الإنسان . فلا جسده ولا نفسه ولا روحه تعرف السكون لبرهة واحدة . وإذا كنا نتحدث عن تواصل وتفاعل مستمر فنحن نتحدث عن نفي وأثبات باستمرار . فالاثبات هو تأكيد الإنسان لنفسه من خلال المطابقة . والنفي من خلال التميز رغم غازيات التأثيرات من الخارج وهى حالة رفض الاستلاب وقبول التحول . فالإنسان في حالة مدافعة وممانعة مستمرة بين عبقريته وتفرده الذاتي وبين المشروطية الاجتماعية التي تُفرض عليه من الخارج من خلال التنشئة الإجتماعية والتفاعل مع الآخرين . وكل استجابة لتأثيرات الهوية الجمعية هو إنكار أو تطوير لجزء من الهُوية الباطنة . فالانكارللذات يؤدي إلى مسايرة دون تأكيد للذات . بينما التطور يعني استيعاب المؤثرات الخارجية داخل مشروطية الذات العبقرية المتميزة . لتزداد قدرة الشخص على التأثير على اللآخرين بقدر ما هو متأثرٌ بهم أو قد تزيد.
الهوية والأصالة
        وقد أطلنا الحديث في العلاقة بين الشخص والآخرين لأن أصالة الذات الإنسانية جوهرية لتحقق وجودها. فالإنسان المستلب الذي هو بين يدى  الذات الجمعية (المجتمع) كالجثمان بين يدي من يغسله لن يكون وجوده في الحياة إلا سطحياً , ولن يكون حضوره في الزمان إلا هامشياً . يصدق ذلك على الهوية الشخصية الفردية وعلى الهويات الجمعية الثقافية والحضارية والوطنية والمهنية . فالجماعة الثقافية التي تأخذ ولا تعطي والتي ولا تمثل ما تأخذه فتدرجه في سياقها هي جماعة سرعان ما تندثر ثقافياً وتحتويها أمواج الألينة (التغريب) .  والأمة التي تصبح عالة على منتوجات الأمم الأخرى الفكرية والاستهلاكية والصناعية بل والمزاجية (المودات والصرعات) هي أمة تفقد معنى كونها أمة . لأن المعنى الصميم للأمة أنها الجماعة التي تعرف ذاتها ووجهتها فتييم مقصداً مطلوباً ومعروفاً للجميع. والشعب الذي لا يستلهم خصوصيته في المكان (الوطن) وعبقريته في الزمان (تميزه بصفة جماعة مخصوصة معروفة بتراثها وأواصرها الثقافية وتاريخها المشترك ومقاصدها في العيش الكريم بين الشعوب ) فهو المثال لشعب لن يعرف النهضة ولا التقدم ولا الرقي الإجتماعي . فالأصالة ليست جوهر الهوية فحسب بل هي زادها للنهضة وللتقدم . وسواء كانت الهوية شخصية أو جماعية فإن أهم ما يميزها هو أصالتها . نعنى تمسكها بأن تكون هي هي ولا شيء سواها .  فالهوية هي دينامية متواصلة تنمو بهدم ما نفد وأستُهلك وبناء ما هو طاقة للنمو والتقدم .  فكما يستهلك الجسم خلاياه النافدة ويطردها خارج الكيان . فان الذات الباطنة الحقيقية تهدم كل ما هو غير قابل للنمو والتطور في كيانها وتأخذ من الأغيار ما يعبيء ذاتها الباطنة بطاقات متجددة . فالهُوية ليست ساكنة بل هي لا توجد إلا في حالة مدافعة بين الذات والآخرين . يقول كلود ليفي اشتراوس فيلسوف المدرسة البنيوية ان (الهوية عمليه ادراكية تتعلق بعملية تقييم متبادلة ما بين تقييم الفرد لذاته وتقييم الآخرين له) والاصالة هي الإنتصار الدائم للفرد لذاته لا برفض التفاعل ولكن بتمثُيل المؤثرات الخارجية وهضمها وادماجها في الذات الأصيلة . ونفي وطرد كل ما لا يلائم تلك الذات الأصيلة . والصراع ههنا صفرى الطابع فإما أن يُقصى الفرد العناصر المؤثرة غير المنسجمة مع أصالته أو أن هذه العناصرالناشزة هي التي سوف تُقصى وجوده الأصيل . وتسبدله بذات زائفة مستلبة غير قادرة على التميُز عن الأغياربينما التميز وحده هوالذي يعطيها معنى كونها (هوية).
السؤال الأجدى في قضية الهوية
        إن السؤال الأجدى في قضية الهوية هو السؤال الذي لا نسمعه يتردد في أبهاء الحوار والمجادلة حول الهوية. وهو ليس سؤال من نحن؟ بل هو سؤال لماذا نحن على ما نحن عليه ؟ ان غالب الجدل السياسي حول الهوية يدور حول هامشيات في مسألة الهوية مثل علاقة المركز بالهامش او علاقة الأعراق بأعراق سواها أو خصوصيات الثقافات المحلية. وكل هذه الأسئلة تستبطن افتراضاً مُسلماً به وهو أننا جماعة واحدة تشتمل على هويات متعددة . وهذا أمرٌ مُسلم به فكل هُوية هي حالة من انشاء الدوائر أي الهويات المتعددة المتداخلة. فشأن الهوية أن تتعدد لأن الانسان بطبيعته عميق ومتعدد ومتمدد بطاقته الحيوية . فلا يمكن أن نُعرفه بسمةُ واحدة من سماته ولا صفة واحدة من صفاته . وسوف نتطرق في وقت لاحق إلى مسألة تداخل الهويات هذه ولكن سؤال اللحظة هو أننا إن كنا نُسلم بأن لنا هوية جمعية وطنية واحدة متداخلة مع هويات أخرى فالسؤال الأهم ليس هو من نحن؟ لأن الأجابة عليه سابقة لطرح السؤال فنحن بالبداهة سودانيون (بحكم الهوية الوطنية) . ولكن السؤال الأجدى هو لماذا نحن في الحال الذي نحن عليه؟  لماذا نحن متأخرون ؟ لماذا نحن متخلفون؟ لماذا نأخذ من الآخرين (الأوطان والأمم الأخرى ) ، أكثر مما نحن نعطيه لهم؟ لماذا نحن مستهلكون للثقافة وللفكر وللمصنوعات وللسلع وللازياء وصرعات (المودة) ؟ ولماذا رموز وطنيتنا منخفضة عند التقويم (التقييم: والمفردة هكذا خطأ شائع  ) ؟ لماذا تتراجع عملتنا أمام العملات الأخرى؟ لماذا تنهزم فرقنا الرياضية في المنافسة مع (الاتيام) الأخرى؟ وما علاقة كل هذه الأسئلة بقضية الهوية والأصالة الوطنية وقضية تداخل الهويات وتنازعها أو قدرتها على التوافق والانسجام!!

نواصل ،،،

الأربعاء، 7 مايو 2014

جدل الهُوية ... حوار أهل السمع والبصر (1)





جدل الهوية في السودان لم يكن كله بالكلمات بل تحول في إحيان كثيرة الي التعبير من خلال صندوق الذخيرة. فهل كانت قضية الهوية حقاً سبباً في تشعب الخلافات وتكاثر النزاعات؟ أم انها اتُخذت مبرراً مناسباً وغطاء سابغاً لطموحات او ظُلامات لا تمت للهُوية أو الثقافة والانتماء بصلة. وإنما كانت شعاراً ودثاراً ألفاه المتزملون به خير إستمالة عاطفية لموقفهم من الخلاف او النزاع او الحرب. بيد أنه وفي كل الأحوال فإن سؤال الهوية يظل غاية في الأهمية وتشكل الاجابات المختلفة عليه استجابات متعددة تتمظهر فيما بعد في المواقف الايدولوجية والسياسية . وتؤثر باعمق مما يتصور كثيرون في التحالفات الداخلية والخارجية وتوازنات القوي . كما تؤثر علي السياسات العامة في كافة المجالات وبخاصة في مجال التعليم والتوجيه والاعلام والثقافة العامة. ورغم كل هذه الاثار الهائلة إلا انه ما من سؤال آخر يضاهي سؤال الهوية في حالة الارتباك الكبري والاختلافات الفلسفية والفكرية العميقة التي وسمت مقاربات أهل الفكر والسياسة عند محاولتهم الاجابة علي السؤال والسؤالات الاخري المتفرعه عنه.
الانسان.. وهُويته
كلمة هُوية هي نظرٌ للانسان من الخارج ولو كانت نظراً من الداخل لكانت هى "الانوية"من اأنا أو "النحنوية"من نحن . ذلك ان المفردة ترتكز علي ضمير الغائب (هو) ولا تكاد تجد لها تعريفاً في المعاجم العربية القديمة . وإنما استخدمها الفلاسفة العرب القدماء استخدامات متعددة ومختلفة . فالجرجانى فى كتاب التعريفات عرفها (الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة  فى الغيب المطلق.)  وقال أبو البقاء الكفوى فى كتاب الكليات ( أن ما به الشىء هو باعتبار تحققه يسمى حقيقة وذاتاً وباعتبار تشخصه يسمى هُوية واذا أخذ أعم من هذا الاعتبار يسمى ماهية ) . والفارآبي عرفها ( انها اسم مصاغ إنطلاقاً من الضمير المنفصل هو) ولعل الفارآبي لتأثرة بالفلسفة اليونانية قد اختار هذا الاشتقاق الذي يتصل بكلمة Idem  اللاتينية التي تعني الشئ نفسه المطابق لذاته. والمعاجم الأوروبية المعاصرة كلها استخدمت مشتقاً من اللفظة اللاتينية Idem الذي اشتقت منه لفظة Identity  ولم يقتصر الاشتقاق علي اللغات ذات الاصل اللاتيني مثل الفرنسية والاسبانية والإيطالية بل استخدم في اللغات الجرمانية ايضاً مثل الانجليزية والالمانية والهولندية. فالمصطلح كما استُخدم في العربية او اللغات الاوروبية هو نفسه مفردة "هوية"  أي الشئ المطابق لنفسه . فكأن الهوية تعني تحصيل الحاصل . وهي أشبه بمفردة الحقيقة فحقيقة الشئ هو ما يطابقه. فكأننا نقول كما قال الجرجانى  ان هوية الانسان هي حقيقته . وتعسر شرح الهُوية لما كان الانسان كائناً معقداً عسيٌر علي التفكيك والتحليل فان حقيقته مطابقه لحالته المستعصية علي التحليل والتبسيط.  وهنا ترد مفارقة تتمثل في الاستخدام الدارج لمفردة هوية بالفتح لا بالضم والهوية بالفتح تعني البئر العميقة . وأما الهُوية بالضم فتعني الشئ نفسه او الانسان نفسه . ولعل ما يجمع بينهما هو ن الهوية نفسها هوية تتميز بالعمق لما كان موضوع الدرس والفحص هو  الانسان والنفس الانسانية ذات الاعماق البعيدة السحيقة .  وكما أسلفنا أن الهوية هي نظر للانسان من الخارج لما كان المستخدم هو ضمير الغائب بيد أن الأغرب في الأمر أن غالب المقولات والتفسيرات إنما تنظر للهوية من الداخل لا من الخارج . فالانسان كما يشعر بحقيقته أهم وأصدق من المنظور الخارجي حين ينظر اليه الآخرون . واشهر تعريفات الهوية هو تعريف اهم المشتغلين بدراستها "أريكسون" والذى عرفها (بأنها الوعي الذاتي ذو الأهمية للاستمرارية النفسية والايدولوجية وفلسفة الحياة التي يعتنقها الفرد وتعينه علي الاختيارات التي يجريها . كما تحدد اتجاهاته وسلوكه الشخصي.) وهذا مما لاشك فيه نظرٌ من الداخل لا من الخارج. وهو يشبه نظر (هيجل)  والذي يركز علي الذات وعلاقتها بالموضوعات . والتفكير والارادة لدي هيجل لا يمكن ان تكون إلا لهوية ذاتية وهي المنظار المطل على الموضوعات خارجها. وقد سار ماركس دائماً علي خطي هيجل ولكن في الاتجاه المغاير . فالعلاقة ايضاً عنده بين الذات العارفة وبين الموضوع . ولكن البداية عنده تأتي من تلقاء الموضوعات أى من الخارج لا من الداخل . فالتحول في الاشياء هو الذي ينشيء معرفة عند الاشخاص . لأن المعرفة عند ماركس تنشئها الضرورة وهي تحدد ارادة الانسان وترسم حدود اختياراته وحريته . ولأن مقولة ماركس  الكبري هي ان الأرادة أو "الحرية هي معرفة الضرورة" . وبخلاف اريكسون وهيجل واقرب الي ماركس جاء تعريف جورج ميد أشهر دارسى الهوية المعاصرين الي جانب اريكسون . وهو صاحب نظرية "التفاعلية الرمزية" التي تجعل التواصل مع الآخرين ونظرة الآخرين للشخص أمراً جوهرياً في تحديد  هويته . فالتفاعلية هي تدخل الآخر في تكوين الأنا أو الهُوية . وقد دخل الحوار حول الهُوية الي مجال فلسفة اللغة بانضمام فلاسفة البنيوية بهذا المجال . ومثل ما هو شائع لديهم ومعروف عنهم فأن العلاقة الأهم ليست بين المفهوم والذات بل هي علاقة بين المفهوم والصورة الصوتية أو الرمزية "الكتابة والرسم" وفريناند دي سوسير هو رائد السيمالوجيا التي تجعل الهُوية مجرد تواضعات وتكيفات مع المفهومات السائدة اجتماعياً والمعبر عنها باللغة وسماتها واشاراتها . وترسخت هذه القناعات لدي فلاسفة  اللغة فلدى يورغن هابرماس فأن التواصل اللغوي جوهريٌ في رسم حدود الذات وتعريفها، ولعل مداخلة أصحاب الألسنية وفلسفة اللغة تكتسب أهمية بالغة بسبب تركيزها على معطى اللغة في تعريف الهوية، ومما لا شك فيه أنه مهما اختلفت الأفكار والفلسفات فإن أهم معطيات الهوية ومحدداتها تبقى هي اللغة والمكان أو الوطن . واللغة تكاد تتصل بالمكان اتصالاً فريداً حميماً بخلاف معطيات أخرى مثل العنصر والعرق والجنس والمهنة وما إلى ذلك مما تُعرف به هُوية الانسان في أي مكان .  بيد أنه من المُسلم به أن الهُوية ليست سمة واحدة بل سمات وصفات متعددة متداخلة مثل إنشاء الدوائر بعضها داخل بعض . وما من دائرة ألا وهي متولدة من دائرة أخرى . فعندما تُعرف الإنسان يمكن أن تقول (هو جعلي، سوداني، أفريقي، عربي، مسلم، مالكي، متدين أو غير متدين وهو مهندس ناطق العربية ومتحدث بالإنجليزية  وهوشاعر وسياسي وإصلاحي وناشط إجتماعي وهلمجرا، توصيفاً للعلامات المميزه له وللصفات الناعته له. ) وقد يختلف الناس في ترتيب هذه الدوائر فمن يرى من الداخل فهو يرتب ما هو عليه، وما ينتمى اليه  بحسب مشاعره وتحيزاته الباطنة .  فلدى المتديين فدائرة الدين هي الدائرة الأوسع . وللبدوي في الصحراء اذ يشعر بتهديد الآخرين فالقبيله هي الدائرة الأوسع . وللفنان مرهف الإحساس فإنتماؤه للفن هو الدائرة الأوسع .  فلا معنى إذاً للمجادلة حول الهوية كونها متعددة فهي متعددة بواقع الحال الإنسانية . وأما كيفية ترتيب دوائرها فأمر متروك للانسان إذا نظرنا إليها من الداخل . بيد أن  الجدل الماثل لا يرتكز على الهوية الشخصية بل يدور أغلبه حول الهوية المشتركة هوية الجماعة والمجتمع والدولة. ولربما تأثرت هوية الأفراد بهذا الجدل الدائر حول الهوية المشتركة لأن أصحاب المدرسة التي تُعرف الهُوية من الخارج اعتمادا على التفاعلية والتواصلية فإنهم يجرؤن أن يحددوا  للإنسان هويته . وقد يخبرونه أن هويته العربية أهم من هويته الأفريقية. بل ربما قالوا أن هويته القبلية أهم من هويته الوطنية . وأن إنتماءه الوطني أهم من إنتمائه الديني . وهو ما نلاحظه في السجالات السياسية التي يدور رحاها حول تعريف الهوية.



نواصـــــــــــــل،،،