السبت، 10 مايو 2014

جدل الهُوية .. حوار أهل السمع والبصر (4)

تحدثنا فيما سبق من قول عن انقسام خطاب الهوية إلى فريقين، فريق يبحث عنها في الماضي وفريق يبحث عنها في مضارب خيام الآخرين. وكلا الفريقين لم يدرك إن الجوهرة الثمينة التي يبحث عنها أقرب إليه من شراك نعله بل أنما تقترب منه إلى درجة المطابقة التامة معه . إليس الإنسان هو ، هو ألم نذكر أن "هوية الشيء هي حقيقته التي تميزه عن غيره" أم لعلنا ذكرنا أم لم نذكر تعريف قاموس أكسفورد الذي يقول أن  الهوية هي "حالة الكينونة المتطابقة تمام التطابق والمتماثلة إلى حد التطابق التام أو التشابه المطلق" فكيف ندرك اذاً من الباحث ومن المبحوث عنه ولكن السؤال هو هل ما نبحث عنه في مطال الأيادي أم أنه يلعب معنا لعبة التخفى والإختباء.  فكلما وردت إشارة بوجوده في مكان ما غير ذلك المكان . أو ليس يعلم ما يدور في خلد الباحث إن كان هو الباحث وهوالمبحوث . ان حالة البحث عن هوية في ذاتها حالة قلق وجودي عميق لأنها محاولة تتكرر باستمرار للتواصل مع كنه الذات . تلكم الذات ذات المجاهيل الداجية الدامسة. ذلكم الجوهر الذي يلتمع في الظلمات ولكنه لا يبقى على حال ولا يحل في مقام . فيظل على قربه الدانى منا أنأى وأبعد من كل نائي بعيد.
أزمة هوية أم أزمة خطاب:
        ولئن كان حال الهوية هكذا فلا غرو أن  تشتبك حولها المفاهيم وأن ترتبك المدارك حتى نكاد نسلم يقول ميشيل فوكو أن أزمة الهوية هي أزمة العبارة. وأصحاب المدرسة الألسنية يزعمون "أن الواقع المادي الذي يتأثر به ويؤثر فيه الانسان يكون من عبارات منطوقة أو مكتوبة ودلالتها هي التي تصنع فعل الانسان الذي يصنع متغيرات الحياة جميعاً. فهل نعاني من أزمة هوية أم من أزمة خطابات هوية متناقضة ومتعارضة . وهي التي تحول دون تشكل وعى جماعيثم فعل متفق عليه فاعل ومؤثر. لا رغبة لدي في ولوج ساحة الجدل حول أيهما أسبق البيضة أم الدجاجة؟ هل القلق الهوياتى الوجودى هو ما يصنع هذا الارتباك الخطابي ؟ أم أن هذا الارتباك الخطابي هو ما ينتج أزمة الهوية. والحديث ههنا عن الهوية الجمعية ابتداء والهوية الفردية انتهاء . ويمكننا أن نأتي الأزمة من أية جهة شئنا من طرفيهما فالجمعي مأزوم بقدر الفردي . فالهوية الفردية ليست إلا جنيناً دائم الوجود في مشيمة الهوية الجمعية فاذا تخثرت المشيمة فما حال الجنين ؟ واذا تهرأ الجنين فما حال المشيمة ؟ ومما لاشك فيه ان الخطاب لا يكون الا تفاعلاً بين شخص وجماعة أو بين شخص وشخص أو بين جماعة وجماعة . وصفة الخطاب كما يُعرفه اصحاب المدرسة الألسنية فهو منظومة من العبارات المرتبطة وفق قواعد متميزة في إطار ممارسة خطابية محددة . وكل خطاب له طرفان طرف مرسل وآخر معني بالمخاطبة (مرسل إليه). وأما خطابات الهوية فنعنى بها منظومة الكلام الموجه لتعريف واقناع وتحفيز جماعة محددة . ربما شخص محدد لتتخذ أو يتخذ هو موقفاً فكرياً وحركياً مطلوباً من الجهة المخاطبة له أو لها . ونقصد بالخطاب حول الهوية السودانية أو العربية أو الأفريقية أو الإسلامية الخطاب الذي يحدد للمخاطبين سمات وصفات وخصائص تلك المجموعة كما يراها الطرف الذي يخاطبها . وهذه السمات والصفات تتضمن الدين واللغة والتاريخ المشترك والتراث المشترك والعادات والتقاليد والقيم الجمالية والاخلاقية. والخطاب الذي يحويها هو ذلك الخطاب الذي يشتمل على أفكار ودلالات ونصوص وأقوال وقواعد ناظمة لصياغة الافكار والأقوال لتُعبر للناس عن هويتهم افراداً وجماعات بصفة المطابقة مع الذات والمخالفة للأغيار . وتبين آثار هذا الموقف على الواقع الملموس في تمظهراته الاجتماعية والثقافية والسياسية وفي علاقة هذه الهوية الجمعية أو الفردية بالآخر المغاير.
إشكالية تصادم الخطابات
ومن هذا المنطلق فان عمل الخطاب هو محاولة تحديد وتوصيف للذات الأصلية للفرد أو الجماعة . وعلاقة ذات التحديد والتوصيف براهن الحال إن كان مقيولاً مرضياً أو غير مرضي ولا مقبول. ولاشك أن كل خطابات الهوية تلخص إلى إجابة واحدة وهي ان واقع الحال ليس مقبولاً "بيد أن الخطابات المتعددة تختلف حول أسباب الواقع البئيس المشتكي منه" وتتفاوت التفسيرات بين من يعزو حالة التخلف عن المراد إلى مشكلة تكوينية للعقل العربي أو الأفريقي بسبب اسطوريته وجزئيته وعدم قدرته على التماهي مع الواقع . وآخرون أعتبروه بخلاف ذلك نتيجة طبيعية للابتعاد عن المنابع الصافية والاعتماد على الدخيل من الأفكار ومنظومات السلوك والاخلاق . فبينما ترى جماعة ان المشكلة في الانغلاق على الذات الواهمة يرى آخرون ان المشكلة هي في إنكار تلكم الذات والتنكر لها .  وتجشم محاولة مستحيلة للتماهي مع الآخر المنفصل والمتميز بفكره وقيمه وسبل معاشه وحياته. وآخرون  لا يؤسسون خطابهم عن الهوية على فكرة التواصل بل على التباين بين ما هو عربي وأفريقي . وربما بين هو مركز وما هو هامش وما هو ديني وما هو علماني . ويقابل هؤلاء من يقول أن هوية المسلم دينه وأن لا إعتبار لأي إنتماء آخر . فالانتماء الوطني شوفونية والقومي شعوبية والقبلي عصبية . وكل لغة غير اللغة العربية التي هي لغة القرآن رطانة لا ينبغي أن يؤبه لها. ألو كانت تلكم اللغة هى الماعون الحاوي للتراث التاريخي للوطن حتى قبل ظهور الإسلام ؟ وهكذا تتصادم الخطابات ويعجز جميع الفرقاء عن التوصل إلى إطار ناظم تتداخل فيه دوائر الانتماء التي يعزز بعضها بعضاً على الرغم من التعدد والتنوع . وهذه الخطابات التي تتأسس على التباين لا على التعدد الذي يتجمع وعلى التنوع الذي يتكامل فيكمل بعضه بعضاً هي أس أزمة الهوية. فعندما تعجز الهوية الجمعية عن تصور ما هي عليه بسبب تنازع الخطابات الفكرية فكأنما تدخل في مرحلة من عدم اليقين حول ما هي عليه وحول منطلقاتها ومقاصدها . فاذا صار الحال إلى ذلك فليس ذلك إلا الضلال المبين.
أزمة الأفكار وأزمة الخطاب:
        إن أزمة الخطاب حول الهوية انما هى ناشئة من أزمة الأفكار التي باتت تعاني منها منطقة الحوض العربي الإسلامي بامتدادها في المنطقة الأفريقية . ومشكلة الأفكار ذات صلة لصيقة وعميقة مع مشكلة الوعي بالذات. فحالة الجمود الفكري والإبداعي التي شهدها الحوض العربي الإسلامي في القرون الأخيرة هي التفسير الوحيد لحالة العجز والوهن والتخلف الحضاري التى تشهدها المنطقة . مهما عُظم رصيدها من الموارد الهائلة التي تزخر بها وتتميز بها دون مناطق كثيرة في العالم سبقت إلى النهضة . ويمكن المقارنة بين بلد مثل اليابان وبلد آخر في الحوض الإسلامي هو اندونيسيا . فالأخيرة التي تتشكل من آلاف الجزر ذات الأراضي الخصبة والموارد المتعددة لا تزال تعاني من التخلف ( رغم كونها نسبياً على رأس البلدان الإسلامية النامية) بينما يعلم الجميع أن اليابان ليست إلا جزيرة بركانية قاحلة مهددة بالزلازل والتسونامي . ولكنها ناهضة بأنسانها الذي يعيش حالة مع التناسق التام في مكونات هوية شعبه . وكذلكم في قدرته الفائقة على التميز عن الآخر والتفاعل بحيوية معه في ذات الوقت . ولئن ذلك هو حال المقارنة بين اندونيسيا وبين اليابان فلا حاجة بنا إلى ذكر باقي الأوطان العربية والإسلامية والأفريقية مهما احتوت عليه من ثروات أرضية ونفطية هائلة . فأنها مهما شهقت فيها عمارات وعقارات وتكاثرت فيها  السلع  ونيسرت الخدمات فان ذلك لن يخفي حقيقة التخلف الحضاري المتمثل في العجز عن العطاء المادي والحضور الفكري والتقانى . وكذلكم عن الشراكة الفاعلة في رسم صورة العالم المعاصر بما هو عليه من نهضة وتقدم مادي وبؤس وفقر روحي . أكبر أسبابه هو أزمتة الروحية والاخلاقية التي يزعم الزاعمون منا أن علاجها ميسور موفور في تراث حضارتنا ولكن من يصدق طريح الاسقام قعيد الدهور والأيام إن أدعى أنه هو الطبيب المعالج والنطاسى العليم.

ونواصل،،،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق