السبت، 10 مايو 2014

جدل الهُوية .. حوار أهل السمع والبصر (3)


                
             

ذكرنا آنفاً أن هوية الشخص هى تطابقه مع ذاته الأصلية . وتميزه بذلك عن الأغيار. وهذا التعريف يطرح بقوة مسألة الأصالة في تعريف الهوية . وأثر هذه الأصالة على قدرة الإنسان على العطاء وعلى الحضور متميزاً بسماته وصفاته وأفعاله بين الأغيار. ونحن نلاحظ أن الإنسان بحضوره المادي يبقى هو ذاته رغم التحولات التي تحدث له عبر السنوات وعبر المتغيرات . فهو ينمو ويتطور ويتغير وفي أثناء ذلك تتغير خلاياه وتُستبدل بأخرى . ويصنع مما يأكل ويشرب جسداً طازجاً جديداً . ولكنه يبقى هو ذاته يُسهل التعرف عليه من القريب والبعيد  . فهو يدوم على حاله رغم التغيرات . وما يحدث جسمانياً للإنسان يحدث بأكبر وأكثر منه عقلياً ونفسياً وروحياً . لأن التفاعلات العقلية والنفسية والروحية أكثر حرية وأكثر طلاقة من التفاعلات الجسمانية. وهذه الإستمرارية للذات الإنسانية هي مثارٌ للاسئلة الفلسفية الأكثر تعقيداً وغرابة . فكيف نفسر ثبات الهُوية رغم التغيرات؟ ألانها هي الجوهر التي تتولد منه المتغيرات مثل النواة للشجرة كما يقول الجرجاني ؟ أم هي الثابت الذي لا يتغير كما يقول باسكال (أساس الهوية هو ما لا يتغير) ؟ وعند باسكال القيم الجمالية والأخلاقية ليست أساس الهوية لأنها متغيرة فما وراء الجمال والأخلاق يوجد جوهر روحي هو أساس الهوية . فكأنه يستوحى فلسفة المثُل من أفلاطون . والهوية الأصلية عند مونيه إنما تُعرف من الداخل أي عبر الأحساس الحميم بها . والعيش معها وتعايشها مع الأغيار هي محاولة للتفاعل والاندماج لا تتحقق إلا بقوة الشعور بالذات. وهو بذلك يقترب من جون لوك الذي يجعل الشعور الباطن وسيرورة الفكر جوهراً للهوية . فالفكر والشعور عنده هما وجهان للشيء نفسه . فلا شعور بلا فكر ولا فكر بلا شعور. وهذا التفاعل العميق بين فكر المرء وشعوره هو الذي يصنع الذات الفريدة للأنسان. وشوبنهور يقول (أن كل انسان يمتلك نواة باطنية لا هي بالفكر ولا بالشعور لأن كلاهما يتأثر بالنسيان إنما هي الإرادة التي تتجسد في الذات العارفة بنفسها وبغيرها ). وما يتوصل إليه شوبنهور هو ذات ما انتهى إليه المتفلسقة من أهل التصرف الإسلامي . ذلك أنهم أدركوا أن الإنسان أنما يتحقق في الوجود بالمعرفة وأدنى ذلك المعرفة بنفسه لتكون هي هي راضية مطمئنة بوجودها . وهذا الرضى والإطمئنان هو الذي يرتقى بها في مراقى العرفان . وبذلك  تعرف مُوجدها الذي لا يكتمل عرفانُ إلا به . وفي الأثر عندهم "من عرف نفسه فقد عرف ربه" . لأن العارف بنفسه هو وحده من يُمعن النظر إلى صنع الربوبية وأعلام لطائف المعرفة "الامام أحمد الرفاعي– حالة أهل الحقيقة مع الله" . فالعرفان الذي هو الوعي والمسئولية الاخلاقية هو مفتاح فرادة الانسان التي أستحق بها الكرامة . فصار المحور الذي تطوف حوله الموجودات والمخلوقات وتُسخر له بنعمة من الله وفضل. وفي ذلك يقول الفيلسوف كانط "الإنسان غاية في ذاته وليس وسيلة للاستعمال يستعملها الغير أو يستعملها هو نفسه لتحقيق هدف ما .  ولهذا السبب فهو شخص وليس بشيء كسائر الأشياء" والإنسان قيمه لا تقوم بغيرها فليس له سعر ولا ثمن . وقيمته مطلقة "من أحياها فكانما أحيا الناس جميعاً" ولأن القيمة مطلقة يتساوى فيها الفرد والجمع لأن حد الإطلاق واحد. وهذه الفرادة الإنسانية ليست للجماعة الإنسانية في حالة الاجتماع ولا هي خاصة ببعض الأفراد بل هي فرادة لكل أنسان . فكما الإنسان يتميز ببصمته الابهامية والوراثية فهو يتميز أيضاً بجوهره الانساني الأصيل الفريد . وهذا الجوهر الانساني هو الهوية التي لا تتطابق مع غيرها مهما اختلفت الأمكنة والأزمنة .  فهي تتطابق مع ذاتها وتتميز عن من سواها. ومن اصالتها هذه ينبثق فعلها في الزمان وحضورها في التاريخ.

هوية الأمة هي أصالتها:-
        وكما أن هوية الشخص هي فرادته وأصالته فان هوية الجماعة الوطنية "الأمة" هي اصالتها وفرادتها. ومن اصالتها هذه تنبثق عبقريتها في فعلها المتميز عن الأغيار. فاذا غفلت الأمة عن هويتها وتناست أصالتها بأن سمحت للآخر أن يجعل فكرته فوق فكرتها . وشعوره أسمى من شعورها وارادته أعلى من أرادتها حينئذ يصيب الوهن فعلها فيعجز ويطغى فعل الآخرين وحضورهم على فعلها وحضورها . فلا ترى إلا بعين الآخر ولا تسمع إلا بسمعه ولا تجب ولا تكره إلا ما يجب وما يكره. فكانها نسخة زائفة منه أو كأن الآخر الشخص وهي الظل التابع؟ والهوية التي نعنيها في هذا السياق هي ذلك الجوهر الفريد المميز الذي يستخدم الحرية فيما يفعل وما يمتنع وما يأخذ وما يدع. لا بدافع من الشهوة أو الغريزة ولا بالخنوع والخضوع لسطوة الآخر ولكن بالكدح تشحيذاً لفكره وتعبيراً عن شعوره وامضاءً لمشيئته . والأمم الحرة هي الأمم الأصيلة التي تفعل ما يرتضيه فكرها وشعورها . وما تقضي به ارادتها ومشيئتها الذاتية بلا خشية من الغير ولا مداهنة للآخر . وجوهر الحرية هو الاستجابة للمشيئة النابعة من فكر متميز وشعور فريد. فالانسان الحر هو الانسان الذي يستعلى بارادته فوق الضرورات والعوائق. ويوقن في قرارة نفسه أن نفساً حرة بين جنبيه لو تعلقت همتها بالثريا لنالتها . والامم الحرة كذلك هي التي تنفك من أسر الأنا الصغرى التي تكبلها الغرائز والشهوات و تتحرر من قيد التقليد والاعتباد وتنطلق من عقال المسايرة والاستتباع فحينئذ تبذل غاية وسعها في تشحيذ الأذهان اجتهاداً وابتكاراً وغاية الوسع في تسخير الجوارج والأبدان عملاً وانجازاً وغاية الوسع في ترقية الوجدان خلقاً وذوقاً فتبلغ من الحضارة شأواً علياً وتؤتي رآية الشهادة على الآخرين.


أزمة الهوية ... لماذا صرنا هكذا؟
        فاذا كان ما ذكرنا هو الشرح الصحيح العميق لمعنى الهُوية التي هي جوهر النفس فماذا أصاب هويتنا ؟ فما عادت مُشعة على أفكارنا لتصير مبدعة فاعلة . وما فتئت  مؤثرة في أفعالنا لتكون دائبة ناشطة . لماذا تعاني جماعتنا الوطنية من حالة من خمود الفكر وخمول العمل ؟ والأمر لا يحتاج الى طبيب نطاس ليخبرنا ما هو التشخيص السليم للحالة. فاعراض الداء دالة عليه. فهويتنا الخاصة وهويتنا الجمعية تعانى من حالة من حالات الفصام النكد عن الذات. البعض يسمى الحالة بالتغريب "الألينة (alienation ) ويسميها آخرون أزمة الهوية. فنحن مغتربون عن ذلكم الجوهر المشع الفريد داخل ذواتنا أو ذلكم الجوهر الذي تبلور في الذات الجمعية  ليهبها عبقريتها المخصوصة. فبعضنا يعيش مع الآخر الداثر الذاهب من الأباء والأجداد والأسلاف . يسعى عبثاً لاستعادة صورتهم من الماضي لينصبها أمامه ليقلدها ويحاكيها بلا وعي بعدم دقة الصورة المستعادة . وعدم ملائمتها لمقتضى الوقت والمحل الذي هو أساس الإختيار من  بين الاحتمالات المتعددة والإختيارات المتكاثرة ولئن اشتمل تراثنا الديني والفكري على جواهر مشعة وكنوز لا تقدر بثمن فأنه ايضاً بمرور الزمان عليه اشتمل على أفكار ميته فاقدة الفاعلية . لأن الوقت ما عاد ذلك الوقت واختلف المحل فما عاد ذات المحل . وجاء أناس آخرون هم أبناء هذا المكان وهذا الزمان هم أبناء هذا العصر . وباختلاف العصور تتغير الأمور . وقدأدرك ذلك أهل العلم الفقهاء فلم يجعلوا اجماع أهل عصرما ملزماً لأهل العصور اللاحقة . أن قضية التعامل مع التراث تظل واحدة من أهم أشكالات الهوية . وسوف نتعرض لها لاحقاً " . فكثير من الناس يفترض حصول المطابقة بسبب وحدة الدين أو الفكره أو المحل بينهم وبين الأسلاف وهذا افتراض غير صحيح . فالمطابقة لا تحدث إلا بين الإنسان ونفسه ولا أحد سواه . والذات الجمعية التي تتشكل من المتعايشين المتساكنين في محل واحد تأخذ فرادتها من جماع العبقريات المخصوصة لجميع من يشكلون تلك الجمعية . ولأن الناس لا يتطابقون وتكرر نسخ لهم عبر الزمان محال . فكذلكم الجماعات المتشكلة منهم لا تتطابق بل تعيش كل جماعة منهم تجربتها الخاصة الفريدة. وكما يحيا البعض في التاريخ الماضي حالماً باستعادته يحاول الآخر ان ينسلخ من هويته ليصنع صورة زائفة بمحاكاة الآخر الذي ينصبه أمامه رمزاً  للنجاح والفلاح العلمي والعملي . وما يدري أنه بالتقليد وبالمحاكاة لن يبلغ روما التي يروم  ولن يبلغ إلى مقام الآخر المتميز . ولن يتمكن من التقدم بسرعة اللحاق إلا إذا تميز على الآخر . ولن يتميز عن الآخر المعاصر الذي يراه قدوة وأسوة إلا إذا انخلع عن حالة التبعية له فصار هو هو مطابقاً لنفسه ومتميزاً عن الأغيار كل الأغيار.

ونواصل،،،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق