الثلاثاء، 24 أبريل 2012

الفقر في السودان .. المواجهة الشاملة (1)



الصورة الخلفية لمغامرة الحركة الشعبية فى هجليج وفى جنوب كردفان والنيل الأزرق هي رغبة دوائر دولية عديدة أن ترى ما جرى في دول ما يسمى بالربيع العربي يجرى فى السودان . فلئن كرهت هذه الدول من ما جرى من تغيير في تونس ومصر وربما في ليبيا فقد ظلت تحاول إحداث التغيير في السودان بشتى السبل . بدءاً من الحصار والخنق الاقتصادي إلى استراتيجية الشد من الأطراف . وتحريض الجوار المباشر فما أجدى كل ذلك. وقد ظن هؤلاء أن الفرصة قد سنحت لتكرار السناريو الليبى في السودان بمزج الغضب الشعبى بالعمل العسكرى، وأما العمل العسكرى فعملاؤه حاضرون . والغضب الشعبى يمكن أن يُصنع صناعة بتجويع الشعب. وذلك من خلال تعويق الاتفاق على قسمة الموارد النفطية . ثم فرض ايقاف ضخ نفط السودان بالقوة العسكرية مع تشديد الحصار من خلال ما يسمى بالعقوبات الأمريكية والأوروبية. بحجة عدم تجاوب السودان مع جهود العمل الانسانى .  ليفضى كل ذلك إلى إنهيار الإقتصاد السودانى. وظل بعض السفراء الغربيين يسألون كل مسؤول عند كل زيارة ومناسبة عن كيفية صمود الاقتصاد السوداني الذي فقد 90% من صادراته و50% من موارد الموازنة . وكأنهم يستعجلون ذلك الانهيار المطلوب.
الفقر والانكسار:
كانت تلك توقعات خصوم السودان أن ينهار الاقتصاد . فتنهار الحكومة تبعاً له فيرثها من يُرتب له أولئك أن يرثها . فيرفعون عنه الحصار ويضعون عنه الديون في مقابل المسايرة التابعة وإنهاء تمرد الدولة السودانية على الهيمنة الأجنبية،  ولا يخفى على هؤلاء أن واقع علاقة حكومة الانقاذ بشعبها لا يُشابه واقع نظام مبارك أو القذافي أو بن على ،  ولكنهم يعتقدون  أن افقار الشعب سيقود إلى إنكساره . وإنكساره سيقود إلى غضبه وثورته، فيثور في الربيع أو غير الربيع على ثورة الانقاذ. ولكن جهالة هؤلاء بشعبنا أحبطت مقاصدهم . ذلك أن المعادلة فى بلادنا بخلاف ذلك . فالفقر لا يصنع الانكسار في بلادنا بل يُنمى الشعور بالكرامة والكبرياء .  حتى أن المتسول عندما يمد يده للناس يقول (كرامة) . فهو يطلب ما يحفظ كرامته لا ما يسد رمقه . الفقر لا يصنع الانكسار في بلادنا لإن العفة والتعفف خلق ركين أصيل من أخلاق شعبنا . فلو حسب هؤلاء أن شعبنا سوف يستبدل الكبرياء بالطعام فقد خابوا وخسروا . ولو ظنوا أن شعبنا سيقبل بعبد العزيز الحلو ومالك عقار وعرمان وأتباعهم قادة وزعماء لأمتنا وهم ليسوا إلا بيادق بأيدي حكومة عميلة تابعة يقضي في شؤونها مجموعات الضغط الصهيوني والصليبي فقد خابوا وخسروا. وقد كان غضب الشعب العارم على احتلال هجليج هو الإجابة على ما يتوهمون . وكان خروجه التلقائي الكبير فرحاً بانتصاره هنالك هو الإجابة الوحيدة المتوقعة من شعب كريم عزيز.
الفقر ....التحدي الأكبر:
لا شك أن تآمر المتآمرين على شعبنا وبلادنا تحدٍ لا يجوز لنا أن نستخف به أو نهون من شأنه . فهو يستحق أن نستنفر له كل طاقتنا وأن نحشد له كل قوتنا،  وأن نرتب أوضاعنا على حرب استنزاف قد تتطاول بقدر ما يمد الخصوم دولة الجنوب من إمداد لكي لا تكون هي الطرف الذى يتهاوى أولاً.  وهذه استراتيجية أسنتها ورماحها هى القوة الحربية . ولكن الطاقة التي تدفعها هي قوة الاقتصاد وقدرته على الصمود . وإعادة تكييفه وفق رؤية تُعطى الأولوية لكفاية حاجات الفقراء قبل حاجات الأغنياء.  فلابد من إستراتيجية مرحلية للنهضة بالاقتصاد في الظروف الراهنة . ومواجهة الفقر مواجهة شاملة .   ولقد اطلعت في الأيام الماضية على مسودة افكار جيدة أعدتها لجان متعددة تحت عنوان (وثيقة الإستراتيجية المرحلية للحد من الفقر في السودان). وأرغب من خلال المقالات المتتالية أن أستجيش أفكاري مُضياً على اثرها . وبخاصة في الظرف الاقتصادي الراهن. ولربما يسأل السائل وهو محق هل هذا هو الوقت الملائم للحديث عن الفقر وقد شددوا الحصار على السودان؟  والإجابة لدى أنه الوقت الأنسب للحديث عن الفقر وقد شددوا الحصار على السودان. فإن وطأة هذا الحصار ستقع أشد ما تقع على الأفقر ، فالأفقر . وما لم يٌعين من يملك  من لا يملك فإن الله سبحانه وتعالى لن يرفع تلك الوطأة عن الجميع . ولن يُبارك في كد وجهد أهل السودان لترفيه حياتهم وسد الخلل في معيشتهم. أن أفضل ما نواجه به المؤامرة هو توحيد الأمة والتأليف بين أهلها وعناصرها وشرائحها الاجتماعية،  والطريق إلى ذلك هو بناء إقتصاد من القاعدة إلى القمة لتكثيف الانتاج ولتوزيعه تناسباً مع حدة الفقر للحد من غلوائه على الفئات الأضعف.
تشخيص حالة الفقر:
تقول الوثيقة المرحلية أنه طبقاً لملخص بيانات الأسر الذي أجرى في عام 2009 يتبين أن 46.5 من الأسر أي قرابة 14.4 مليون شخص ممن يقطنون في السودان (قبل الانفصال: 40 مليون) يعيشون تحت خط الفقر "أي بدخل أدنى من دولارين في اليوم الواحد" . وهذا المعدل يرتفع بين سكان الأرياف ليبلغ 57.6 من الأسر تحت خط الفقر . بينما الفقر الحضري 26.5 وبذلك فإن 75% من سكان الريف يقعون تحت خط الفقر . وبخاصة أولئك الذين يرتزقون من الزراعة . وتقول الوثيقة أن الوقوع في براثن الفقر يرتبط ارتباطاً قوياً بمستوى تعليم عائل الأسرة . فالأسر التي لم ينل عائلها تعليماً تشكل 60% من الأسر الفقيرة . وذلك فى مقابل 9% فقط للأسر التي تلقى عائلها تعليماً جامعياً. ويُقدر عدد من يعانون الحرمان الغذائي 31.5%  . وهو ما يعنى أن استهلاكهم الغذائي يقل عن الحد الأدنى من استهلاك الفرد للطاقة الغذائية المقدر في السودان 1751 سعراً حراريا . وكما يتجلى الحرمان الغذائي في نقصان الطاقة الحرارية بتجلي في نقص الوزن بنسبة 26.6 من الأطفال دون الخامسة " حسب تقدير جرى في 2006" يعانون من نقص الوزن . وهذه المشاهد من تقرير بيانات الأسر ومن المصادر الأخرى رغم أنها جرت قبل الانفصال ويتوقع تحسن مؤشراتها بعد الانفصال إلا أنها توضح بجلاء أن الصحة والغذاء السليم والتعليم يتوجب أن تكون هى المرتكزات في أية مواجهة للفقر في السودان . فنقص المعرفة ونقص الطاقة الغذائية هما برواية أخرى هما نقص حيلة الانسان للتعاطى مع بيئته لاستثمارها على أفضل وجه "نقص المعرفة".  ونقص الطاقة الجسمانية على الكد بأقصى جهد لتحقيق ذلك. ولذلك لا مطمح لنا في نهضة اقتصادية شاملة دون استراتيجية شاملة لمكافحة نقص المعرفة "التعليم" ونقص الصحة والطاقة " ونقص الغذاء" . فالاقتصاد لن ينهض نهضة شاملة بجهود رجالات الصناعة التي لم تبلغ في الناتج الاجمالي 4% ولا بالاستثمار الخارجي المباشر الذي لن تتدفق على السودان بشكل مؤثر حتى يبلغ مرحلة من العافية ظاهرة وبارزة . والخطة الفضلى هو استثمار طاقة كل الشعب من خلال مناهضة فقر الطاقة وفقر المعرفة .


نواصـــــــــــــــــــــــــــــــــل،،،

الحركة الإسلامية..سؤالات وإجابا ات 5


ذكرنا  في مقالٍ سابق أن الحركة الإسلامية مثلما تشربت بالفكر الصوفى وتربت بالآداب الصوفية فهي أيضا حركة سلفية بالمعني الحقيقي للحركة السلفية . تلك التى تعنى رد الحياة لتستقى من المشارب الصافية الأصلية المتمثلة في الكتاب والسنة وفي نهج السلف الصالح المتبع للكتاب . والحركة السلفية إنما نشأت علي عهد الإمام أبن تيميه حركةً لإحياء الأصول . وكذلك على عهد الإمام  محمد عبده . وقد أخذ عنه منهجه الإمام رشيد رضا أستاذ الأمام البنا . فالسلفية حركة إحيائية تسعى نحو إصلاح الشأن الخاص والعام بما صلُح به أولاً . وهي بهذا المعنى إنما نشأت حركة تجديد لأن التجديد انما هو إحياء الأصول وتذكير الناس بها وإزالة ما شاب الإفهام مما ليس هو أصل في الدين . مثلما هو اجتهاد وإضافة للفقه والفكر ليؤائم ويلائم متغيرات العصر والزمان . فما صلح به الأمر في الفروع في عصر من العصور ليس صالحاً بالضرورة لإصلاح الشأن فى عصر آخر. ولذلك اجمع العلماء علي أن الإجماع الملزم هو إجماع أهل عصر من العصور لأهل عصرهم ولا يتعداهم لأهل العصور الأخرى.  والحركة الإسلامية في السودان حركة تجديد بكلا المعنيين الأول الإحيائي والمعني الثاني الاجتهادي. فهي تُعيد قراءة الأصول وتعيد مراجعة الفهم لهذه الأصول.  للعودة بالافهام إلي المشارب الصافية النقية . وهي تتبع المنهج الإحيائي عند تناولها لفهم أصول الفقه لإحياء ما أندرس من المعانى ولتصحيح ما غلط وأخطأ فيه اللاحقون . وتصويب الإفهام للنظر الصحيح للكتاب والسنة ولسيرة النبي صلي الله عليه وسلم وسيرة أصحابة عليهم الرضوان . وسيرة السلف ممن اتبعهم بإحسان من التابعين والصالحين. وهو تجديد يرتكز علي تجديد رؤية المسلم لعلاقة الإنسان والكون والحياة بالله الخالق الواحد الأحد. تجديداً يرتكز علي مفهوم التوحيد. فالمنطلق للتجديد يبدأ من قضية الإيمان التوحيدي . وإعادة طرح رؤية التوحيد بصورة تتجاوز نظر المتكلمين وأدلتهم وبراهينهم العقلية و شروحات الفقهاء ومباحثهم اللغوية والحكمية وهي تتجاوز كذلك نظر المتصوفة الذين اهتموا بمعاني الإيمان وعلائقه ووشائجه بالنفس الإنسانية . ولكنهم لم يمُعنوا النظر في مغازيه ومعانيه في حياة الجماعة والأمة لأنهم ركزوا علي التجارب الوجدانية الذاتية. ورؤية الحركة الإسلامية لا تستغني عن ذلك كله . فهى تستفيد من عقلانية الفلاسفة وتحقيقات الفقهاء ورؤى المتصوفة . وتضم كل ذلك إلي معاني القرآن المتجددة الخالدة. فالقرآن أوقيانوس للمعرفة لا تنفد ذخائره . ولا يبلغ المتأملُ فيه حداً ولا يدرك افقاً. وهي أى الحركة الإسلامية تستجيب في إحيائها لمعاني الدين الأصلية لما أنكشف من مستور علوم الإنسان والطبيعة فعزز قدرة الإنسان علي فهم كتاب المقروء والكتاب المشهود. وأما تجديد الفقه فيعنى لدى الحركة الإسلامية الإدراك بضرورة المتغيرات في حياة  الأفراد والجماعات والمجتمعات . وأهمية وصل هذه الضرورة بمنابع الهداية التي لا تنضب المتمثلة في القرآن والسنة . ونهج النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وسلفه الصالح فى تمُثل معاني ومقاصد الكتاب والسنة . لتكون مشيئة الإنسان الحرة موافقة لمشيئة الله سبحانه وتعالى العُليا،  كما عبر عنها القرءان وكما أوضحتها وفسرتها السنة المطهرة المباركة.
ولا يمكن تصور تجديد الحياة على نهج الإسلام دون تجديد الأحكام الفقهية التي يُراد أن تتصل بها حركة الحياة وتهتدي بهديها.  وكذلك لا يمكن تجديد الأحكام الفقهية دون تجديد الفهم لأصول الفقه.  وكلمة أصول كلمة جامعة تدل على المصادر الأصلية في الكتاب والسنة . كما تدل على القواعد الاستنباطية والقواعد اللغوية والتفسيرية . ولعلم الأصول صلة وثيقة بالعقيدة التوحيدية.  ذلك أن مقصود الفقه هو الاستقامة على المراد الإلهى . فالفقه أصله ومقصده هو توحيد الله.  والقرآن هو أصل الأصول . وهو كلمة الله الذي يجب أن يُعليها الانسان إعلاءً للحق وحكم الله الذي يجب أن نمضيه طلباً للخير وللجمال.  والإنابة إلى مراد الله سبحانه وتعالى تكون بإطاعة القطعي (المحكم) من أحكام القرآن .  كما تكون  بالاجتهاد في طلب معرفة المراد الإلهي للالتزام به فيما يقبل التفسير من آي القرآن الظاهر المؤول . وعلوم القرآن وأصول التفسير وقواعد اللغة ومقتضيات المنطق ومعرفة الأحوال وإدراك الظواهر هي عدة الفقيه للتوصل لمراد الشارع الحكيم الرحيم.
وأما السنة فهي القرآن مفسرا ومطبقاً ومنزلاً على الأحوال والأحداث والنوازل.  وهي الالتزام بالخطة السوية والصراط المستقيم ( ومن يطع الرسول فقد أطاع الله) سورة النساء الآية (80) . وأما الإجماع فهو تطابق آراء الجميع في تأويل نص أو تبيان حكم . وبذلك هو ردٌ للأمر للشارع العليم الرحيم . وكذلك القياس والاستحسان فإنما هو حملُ مسألة ليس فيها حكم منصوص على مسألة فيها حكم موضح مبين . والاستصلاح هو نشدان المصالح وتبيان المنافع من المفاسد على هدى أصول الكتاب ومقاصده . والأعراف باب من أبواب الاستصلاح الجماعي والذرائع باب من أبواب الاستصلاح . وأما الاستصحاب فهو الأخذ بكل ما لم يحُرمه الكتاب والسنة . وما لم يستبن ضرره أو مفسدته . والأخذ بذلك هو الأخذ من رحمة الله الواسعة والتي شاءت أن تُسخر الأرض وما عليها للإنسان الذي كرمه الله ورحمه وأعلى مقامه بين الخلائق. وهكذا يتضح أن أصول الفقه هى هادية المرء الى السبل التي ترد المسلم إلى الصراط المستقيم وإلى هدي ومراد العليم الحكيم. وهى المنهج التوحيدى لأنها هي وحدها طريقة توحيد الله فلا يثرى علم ولا حكم ولا نفع إلا بالاهتداء بالهدي الربانى . وإلا بالأوبة إلى المصدر القرآنى الذي هو طريق التقرب من مثالات الحق والخير والجمال . تلكم التي لا تكتمل إلا في إرادة الرفيق الأعلى الذى ليس كمثله شيء في الأرض ولا فى السماء.
والتجديد الذي تنشده الحركة الإسلامية على هدى الله وسنة نبيه هو تجديد شامل للفهم والشعور والوجدان . وللعمل وللتصرف والسلوك.  وهو يشمل تجديد اللسان وتجديد الوجدان وتجديد الإفهام علماً وعملاً.  لترتقي إنسانية الإنسان وقدرته على التعبير والبيان . وقدرته على الارتقاء بحياته النفسية والاجتماعية والمادية . ومآل ذلك إلى ارتقاء جماعة المؤمنين والمسلمين ومن سالمهم وسأكنهم وعاشرهم .ليكون المؤمنون خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتدعو إلى الخير لا يضرها  من خذلها إلى يوم القيامة .

نواصـــــــــــــــــــــــــــــــــل،،،

الحركة الإسلامية .. سؤالات وإجابات (4)



          إتصالاً مع سؤال التربية يرد السؤال عن علاقة الحركة الإسلامية بالتصوف. فالحركة الصوفية هي الطابع العام للتدين في السودان بل في سائر أفريقيا. ولذلك فان تحديد موقف الحركة الإسلامية من التصوف والطرق الصوفية يصبح أمراً مهماً للغاية. ذلك أن معرفة البيئة الثقافية والقدرة على التكيّف معها يبقى أمراً ذا أهمية بالغة لتيسير وتعجيل وصول الحركة الإسلامية لتحقيق هدفها في بعث معاني  الدين ومقاصده في الحياة من جديد . وتمليك رسالة تمكينه في الوجدان والأوطان للمجتمع بأسره. ورؤية الحركة الإسلامية للتصوف هي ذات رؤيتها لسائر المذاهب العقدية والفقهية السائدة في المجتمعات الإسلامية. فهي تراها طرقاً تفضى إلى ذات الطريق اللاحب الواسع المؤدي إلى إعلاء كلمة الله وإشاعة هديه في العالمين. وموقف الحركة الإسلامية منذ أيام الامام البنا أنها ترى نفسها جماعة صوفية لا باتباعها النهج التربوي الوجداني فحسب بل أن الأمام حسن البنا قد أخذ عن الطريقة  الشاذلية الحصافية التي كان ينتمي إليها قبل تأسيس الحركة طريقتها في بناء المجموعة المتآخية والتي أسماها البنا بالأسرة . وجعل أهم وظائف الأسرة التعارف والتواصل في الله . ثم أن الأمام البنا أخذ الوظائف والأوراد وأعتمد الوظيفة الصغرى والكبرى . وأهتم بالاذكار الراتبة المأثورة . كما أهتم بالسيرة النبوية اهتماماً يشبه اهتمام السادة الصوفية بها في موالدهم وحضراتهم. وأهتم بكتب المعاني والرقائق . وإحياء المناسبات الدينية مثل المولد النبوي والأسراء والمعراج . لتجديد بذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وتعطير الأمكنة والأزمنة بذكره الشريف. و فى السودان قل أن تجد زعيماً من زعماء الحركة الإسلامية أو عضواً من اعضائها لا ينتمي إلى أسرة متصوفة ، ولذلك فان الحركة الإسلامية قد تشربت ثقافة التصوف وانسربت معانيه وتقاليده في وجدان أفرادها. وأدى ذلك إلى تجسير الفجوة بينهما و الطرق الصوفية التي هي شعبية الطابع بينما الحركة الإسلامية نخبوية التكوين . ولم يكن ذلك القرب ثقافياً فحسب بل أدى إلى أقتراب العديد من الطرق الصوفية سياسياً من الحركة الإسلامية . فشاركت طرق رئيسة مثل التجانية والسمانية وبعض جماعات القادرية في تأسيس جبهة الدستور الإسلامي بعد الاستقلال ثم  بعد تأسيس جبهة الميثاق الإسلامي بعد ثورة أكتوبر 1964م . بيد أن تقارب الحركة الإسلامية والطرق الصوفية لم يعن أنه لم تكن للحركة الاسلامية ملاحظات على بعض صور الفكر والممارسات السائدة في بعض الطرق الصوفية. فالحركة الإسلامية حركة مراجعة فكرية ومحاسبة ذاتية وهي لا تزكي فرداً ولا فكراً ولا ممارسة داخلها . وكما انها ناقدة لنفسها فهي ناقدة لغيرها. ولكنها تعرف لأهل الفضل فضلهم وتعرف للطرق الصوفية في السودان جهادها ومجاهداتها . فتذكر جهاد العبيد ود بدر والشيخ المجذوب وشيخ مدثر الحجاز الأكبر . وتعرف لرجال أمثال الشيخ أحمد الطيب والشيخ قريب الله والسادة الأدارسة والسيد الحسن وأمثالهم قيادتهم لمجتمعاتهم للبر والتقوى وتدرك الأثر التربوى والثقافي الذي خلفه الشيخ البرعى ومن قبله رجال مثل حياتي وود سعد وحاج الماحى وأمثالهم. لاشك أنه سوف يتعسر على أي مؤرخ أن يتحدث عن تاريخ التدين في السودان دون ان يعرف لرجال الجهاد والدعوة والتربية من الطرق الصوفية مكانهم وفضلهم الكبير. بيد أنه وعلى الرغم من ذلك فإن الحركة الإسلامية كانت دائماً حركة مراجعة وتجديد للفكر الدينى الصوفى منه والسلفى فهى لم تر نفسها بعيدة من هؤلاء ولا من أولئك . ولكنها أدركت أن أفضل ما يليق بها أن تكون جسراً بين مدرستين عتيقتين في الفكر والسلوك الدينى هما المدرسة الصوفية والمدرسة السلفية. والمقاربة بين النهجين السلفى والصوفى ليس أمراً محدثاً فقد تجشمها الأمام الحارث المحاسبى والأمام الأصفهانى والأمام الغزالى . وحاولها الأئمة أبن قدامة وأبن تيمية وأبن قيم الجوزية. وقد كان بعض أولئك الرجال سلفياً صوفياً في آن واحد . فالصوفي السلفي هو الأمام أبن تيمية وكذلك تلميذه أبن القيم صاحب مدارج السالكين . والسلفى الصوفى هو الأمام الحارث المحاسبى وكذلك الأمام الغزالى. بيد أن الشُقة قد تبتعد بين مبتدعة الصوفية ومتشددة السلفية والتشدد نفسه ضربٌ من ضروب الإبتداع. فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالرفق ونهى عن التشدد . ولذلك فإنما يتبعد الشقة بين المبتدعة من الفريقين . وأما أهل التمسك بالمنهج النبوى المحمدى فانما يسلكون مذاهب تقودهم جميعاً إلى سبيل السنة وإلى صراط الله المستقيم.
            والسؤال عن الصوفية يقود إلى سؤال عن موقف الحركة الإسلامية من الجماعات السلفية وإلى أي مدى تلتقى معها وأين مواضع الافتراق والاختلاف ؟ وشأن الجماعات السلفية هو شأن الطرق الصوفية فهى متعددة ومتنوعة ومتفاوتة في أفكارها وفي مناهجها العملية. ولذلك فليس من السهل تحديد موقف واحد منها وكأنها فئة واحدة. ولكن الأمام البنا الذي قال عن الحركة الإسلامية أنها طريقة صوفية قال أنها حركة سلفية. ولاشك ان ارتباط الأمام البنا بالحركة السلفية معلومٌ بسبب تتلمذه على استاذه رشيد رضا الذي  هو امتداد لمدرسة محمد عبده السلفية التجديدية . والسلفية أساسها  أتباع نهج السلف الصالح الذين هم الجماعة المهدية بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليهم الرضوان . ومنهج السلف هو منهج الإتباع لا الإبتداع . والأتباع هو أتباع الكتاب والسنة والإبتداع هو الإتيان بأمر فى التدين ليس له أصل في الكتاب والسنة. فالكتاب والسنة هما منارة الهداية للصراط المستقيم ومن عمي عن الإهتداء بهما فقد ضل ضلالاً بعيدا. والحركة السلفية هي حركة احيائية تجديدية . ذلك أنها أنما جاءت استدراكاً لفتنة الصراع المذهبي والتناحر بين النحل والفرق والجماعات في أمور العقيدة والشريعة. فجاءت لترد الأمر إلى أصله الذي صُلح به ابتداءً والذى هو الكتاب والسنة . ودعوة الحركة الإسلامية إنما هي العودة للمنابع الصافية في الكتاب والسنة ومحاكمة كل المذاهب والآراء والفتاوي والإجتهادات إليهما. وبهذا المعنى الحقيقي للدعوة السلفية فإن الحركة الإسلامية حركة سلفية تريد رد الحياة لتستقى من المشارب النقية وتهتدى بالأنوار الباهرة للقرآن المجيد والسنة المطهرة. وهي لا تحتاج أن تختار بين الصوفية والسلفية فهما لا يتوازيان بل هي صوفية متبعة للمنهج السلفى.  فشأنها شأن غالب أهل السودان الذي يبغضون البدعة ويكرهون التشدد ويحبون الاستقامة وأهلها والزهد وأهله ويحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ينبغي أن يُحب فوق حب المال وحب الولد وحب النفس الثاوية بين الجنبين.
نواصل ،،،،

الحركة الإسلامية .. سؤالات وإجابات (3)



                د. أمين حسن عمر
aminhassanomer.blogsprt.com
        سؤال آخر يُسأل عن الحركة الإسلامية ودورها في تربية أفرادها وتنمية الوجدان المؤمن لديهم؟  وبعض قدامى الإخوان يزعمون أن هذا الدور قد تضاءل كثيراً بتعاظم الدور السياسي والأدوار الأخرى التي تضطلع بها الحركة الإسلامية في الحياة العامة . ولاشك أن هذا الدور كان مرئياً أكثر في الماضي عندما كان لا يزاحمه مهمات أخرى كبرى في الحياة العامة، ولكن القول أن هذا الدور قد أختفي أو أنه تضاءل قول يحتاج أن تُساق الأدلة والبراهين عليه. فلربما اتحذ هذا الدور شكولاً أخرى وعبر عن نفسه في مظاهر مختلفة. بيد أن الاحتمال المفترض  بتضاؤله لا يعدم قرائن تعضده. فعلى الرغم من أن وجود الإخوان لم ينحسر في المساجد إلا أنه وجود أفراد بأكثر منه وجود جماعة منظمة كما كان الشأن في الماضي. ففي تلك الأيام كانت حلقة القرآن أنما تتحلق بتنظيم الأخوان لها . والصيام الجماعي في المسجد كان يُعمر بأواني الأفطار التي يجلبونها . وعيادة المسجد كان يقوم عليها طبيب  من رواد المسجد أو ممن جلبه الأخوان من حي آخر لعيادة المسجد . ولا أزال أذكر جلسات الأنس التي تنعقد بين عيادة مريض ومريض آخر مع أخواننا من الاطباء أمثال مطرف صديق ومصطفى أدريس وغيرهم من الأطباء . كانت المناسبات الإسلامية يُذكر بها وتُحى ذكراها بالمحاضرات التي يلقيها العلماء والدعاة من الأخوان. وبلا شك فلا تزال المناسبات تُحى وتقام المحاضرات ولكن كل ذلك خرج من المسجد ، ولذلك فلابد تدارس الوضع وتداركه باحياء المسجدية لا في نوافل الصلوات وحلقات التلاوة والذكر فحسب بل باتخاذ المسجد منطلقاً لعمل الخير جميعا . عوناً للفقراء واحياءً للجان الزكاة . وإعداداً لناشئة العلماء والخطباء . وأحياءً لليالي النورانية في كل المناسبات الاسلامية . واسترجاعاً لخدمات العيادات الطبية والدروس الإضافية والبرامج الصيفية في المساجد . فقد كان لكل ذلك دورٌ كبير في تنمية الايمان وتزكية نوازع الخير والعمل الصالح لدى أفراد الحركة الإسلامية.
            ولا نقصد بالتربية النشاط المسجدي فحسب وان كان النشاط المسجدي هو بؤرة الإنطلاق لإصلاح الوجدان الفردي ثم الحياة العامة. إلا ان مفهوم التربية يشمل شعاباً أخرى مثل تربية ملكة القراءة والتفكر والتأمل . واكتساب الدُربة على محاورة النفس والحوار مع الآخرين. فالإنسان المتأمل في حالة تفاعل مستمر بين نفس أمارة تمنيه وتُغريه ونفسٍ لوامة تحذره وتهديه . ومحاورة النفس باب من أبواب التربية الذاتية والترقي الوجداني . يتقنه المرء من خلال التلاوة المتدبرة والذكر الذي لا تلهى فيه المباني عن المعاني ولا الألفاظ عن الأفكار ، ولذلك لئن كان الأمام البنا رحمه الله قد أوصى باوراد ووظائف على طريقة السادة الصوفية فلأنه أدرك ان تكرار تلك الأوراد الجامعة والأذكار المأثورة سيدفع المرء في لحظة من اللحظات إلى تأمل طليق وإلى تفكر عميق في تلك المعاني. فالذكرُ ليس مجرد عبارات يتمتمهن الذاكر بل هي كلمات يراد بها طرق أبواب العقل والقلب التي أرتجتها الغفلة والإنشغال بلُعاعات الدنيا عن كنوز الأخرة الروحية والمادية. وقد كان من دأب الأخوان في ذلك الزمان التداعي أسبوعياً إلى ما يسمونه بالجلسات الايمانية التي يبتدرونها بتكرار قول الصحابة عليهم الرضوان جميعاً (هيا بنا لنؤمن ساعة) فقد علموا أنه مثلما لغذاء الجسم ساعة ولشراب الجسم ساعة فإن لغذاء الفكر والروح ساعة فساعة.
التكوين والبناء التربوي
            وتكوين الأفراد وتربيتهم يجرى على المساقين العام والخاص. فالعام مقصده إكسابهم الشجاعة الأدبية . وحفزهم على الإطلاع والمدارسة والمذاكرة . وتشجيعهم على الحوار والتناظر والخطابة والدعوة . وجعل بعضهم حسبة على البعض الآخر يراعون انتظامهم في الشعائر . ويحث بعضهم بعضاً على النوافل . وينشدون الرياضة والسياحة سوياً مرة مراكضة وأخرى منافسة في شتى ضروب الرياضة . وأخرى عيادة لمريض أو تشييعاً لميت أو زيارة لقبر. وأما المساق الخاص فأذكارٌ وأوراد وتلاوة . وتأملٌ وتفكر وتدبر . تتبعها نقاشات حول ما ذكره الحارث المحاسبي وما واظب عليه السكندري وما أورده الغزالي في كتابه (يا أيها الولد المحب) أو كتابه (المنقذ من الضلال) أو هي مناقشات فيما ذكره سيد قطب في مشاهد القيامة أو ما ورد في كتاب (الحيل النفسية) أو غيرها من كتب الرقائق أو الفوائد الرائجة آنذاك . لاشك ان الملهيات اليوم قد تكاثرت على الناس . ليس من قبل مسئوليات الحياة العامة فحسب بل من تكاثر مُلهيات الحياة الخاصة من قنوات تلفازية ومواقع أسفيرية وبرامج للهو الحديث ولهو الأبدان لا تكاد تنفد ولا ينقضى له زمن . ولا يُحدد لها ميقات مبدأً أو منتهى. وما لم نملك زمام المبادرة في تحديد ما نريد أن نفعله في فراغ أوقاتنا من مسئوليات كسب المعاش أو مسئوليات الشأن العام فسوف تنقضى الأوقات في انشغال عن كل سانحة تعبد خاشع أو تفكر ثاقب أو تأمل دقيق عميق فنحيا في ضحضاح من الحياة لا نستطعم فيه حلاوة المدارك الصافية ولا المعاني السامية ولا أفراح الروح المتعالية على سفساف الشؤون وصغائر الهموم.
            وكان ممن نذكر به انفسنا في ذلك الزمان قول الصحابى عليه الرضوان (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الخشوع كما يعلمنا الآية من القرآن ) فكنا نساءل بعضنا البعض كيف السبيل إلى تعلم ذلك العلم النادر المضنون به على غير أهله من الغافلين غير الحافلين إلى أى وجهة تدفع الرياح الشراع . وإلى أي مرفأ أو أى قاع يكون المنتهى.
الأسرة والشُعبة الأدوار المنسية:
            وليس الغفلة الراهنة وليدة الصوارف المتكاثرة فحسب بل أنها نتيجة لاهمال الروابط التنظيمية التي كانت تصل الأخوان بعضهم البعض. وعلى رأس ذلك ما كنا نسميه بالأسرة. والأسرة هي أساس التنظيم المتسع مثلما الأسرة هي أساس المجتمع. والأسرة تمتد لتكون أسرة ممتدة . وكنا نسميها بالشعبة وهي تتكون من أسر عديدة في ناحية من النواحى .  فاذا أتسعت الشعبة أصبحت واحدة من شعب متعددة تحت إمرة مكتب المحلية أو المدينة حسب الترتيب الإداري المعتمد. وكان هذا التنظيم الدقيق لا يوفر مجالاً للترابط الإجتماعى والتنظيمى فحسب بل كان إطاراً  للمدارسة والتعليم والتربية . ثم أن القيادة آنذاك رأت بعد إنفتاح الحريات أنه لا معنى لإقامة الدروس وحلقات الذكر سراً فمضى التوجيه للأخوان لاقامة الدروس الأسرية علناً في المساجد. ولكن الخروج بالأسرة في طابعها الثقافي والدعوى إلى العلن قد أضعف جانبها الاجتماعي والتنظيمي . فأصبح الأخوان يتقاعسون كثيراً عن حضور اجتماعات الأسر . فضعفت أدوارها الأخرى بصفتها الخلية الأساس للتنظيم التي فيها تُجبى الأشتراكات وتجمع الصدقات . وينظم الصيام والقيام والرحلات والزيارات والعيادات والتفقدات، ولما ضُعفت الخلية الأساس ضُعفت الشُعب التي هي الأسر الممتدة . وأصبح التنظيم علنياً وكأنه حزب من الأحزاب أو جمعية من الجمعيات العامة. ولا شك أن خروج الأسر إلى العلن قد أجدى نفعاً كثيراً . وجذب مجموعات كبيرة للحركة الإسلامية . ولكنه في ذات الوقت أضعف الترابط الخاص بين العضوية الملتزمة . وأوهي روابط الإنتظام وأعرافه وآدابه الخاصة. ولاشك عندي أن إحياء نظام الأسرة والشعبة بما كان لهما من أدوار في تمتين الروابط بين الأخوان سيكون له أثر كبير في تكوين الأعضاء الفكرى والوجدانى . وفى تعزيز التنظيم من خلال تقوية الإرتباط به إلتزاماً بتمويله ذاتياً من خلال إشتراكات اعضائه . وتفعيله اجتماعياً من خلال تعزيز رابطة الإخاء المخصوصة بين اعضاء الأسرة التنظيمية والشعبة الممتدة . ومن خلال تحويل تلك المؤسسات التنظيمية إلى ماكينة تدفع آلة النشاط العام وتوجهها نحو مقاصد الحركة الإسلامية لاستعادة الدور الإسلامي فى قيادة الحياة وبعث معانى الدين في شعابها وانحائها من جديد.
نواصل،،،،

أفكار حول الإعلام الجيد (6)



عندما نشأت الصحافة كان غرضها الأساس هو حث القراء والمستمعين أن يقولوا نعم . فالشركات المعلنة عن السلع والخدمات تريد منهم كلمة نعم . والحكومات والأحزاب تريد منهم أن يقولوا نعم . وناقلو الحكايات والقصص والشائعات يريدون كلمة نعم . بيد أن ثورة الاتصالات والمعلومات تفعل  شيئا آخر . أنها تعزز قدرة المواطنين أن يقولوا لا . وبهذا تضطلع الصحافة بالدور المنوط بها في تعزيز سيادة المواطن . لأنه لا سيادة  لمن لا يملك ان يقول لا أو كما قال عمر بن ابي ربيعة:
واستبدت مرة واحدة             إنما العاجز من لايستبد
 ولئن كان هنالك ضرب واحد من الاستبداد مُتسامح بشأنه  فهو استبداد المواطن أو على الأقل تعزيز قدرته علي أن يقول لا .
الأعلام وتمكين المواطن 
أن اهم الأدوار التي ينبغى ان يضطلع  بها الاعلام  الجيد هو فتح بوابة المعرفه امام الجمهور.  ولئن كان الناس يتحدثون في السابق عن حق الجمهور في المعلومات فإن شعار اللحظه الراهنة هو حق الجمهور في المعرفه access to knowledge .  فنحن في زمن مجتمع المعرفه knowledge society   . والحقائق الاجتماعية الجديدة تتطلب منظوراً جديداً لدور وسائط ووسائل الإعلام والصحافة . والاعلام الذي يعيد تعريف أدواره اليوم بوصفه أقوى المؤسسات لدعم الحكم الراشد good governance  يتوجب عليه أن يدرك أن اسهامه في تحقيق هذا المقصد إنما يقُاس  بقدرته  علي مساعدة المجتمع في التحول من مجتمع الذاكرة memory society  الي مجتمع المعرفة knowledge society .
والسبيل الي تحقيق ذلك يمر من خلال تحول وسائل الاعلام ووسائطه الي مُعينات للتعليم الذاتي للمواطنين self learning  . فالتعلم من خلال الاندماج في مجتمع المعرفة الجديد سيؤدي الي تغيير جذرى في المعلومات والمفهومات . وسيقود حتما الي رؤى وتطلعات جديدة.  تحفز سير المجتمع نحو آفاق التقدم والرقي الاجتماعي . ومجتمع المعرفة الذي نشير اليه هو المجتمع الذي تتوفر فيه للافراد والجماعات المعرفة التي تُعزز قدرتهم علي التعرف والتحرك الي تحقيق مقاصد  كلية ترتقى بنوعية الحياة المعنوية والمادية التي يحياها المجتمع . ومما لا شك فيه أن المجتمعات تتطور مادياً واقتصادياً بتطور قدراتها التقنية ووسائلها ونظمها و بتطور انجازاتها المعرفية . وقد كانت هذه الانجازات تقُاس في الماضي بالعلماء والخبراء الذين يقودون هذه النهضة . فكانت المجتمعات مُوصلة الي قاطرة معرفيه تسحبها الي الامام .  بيد أن ثورة الاتصالات والمعلومات التي تتحول الآن أمام أعيننا الي ثورة معرفية هائلة تُوشك أن تغير هذه الصوره من مشهد القاطرة الساحبة الي مشهد السيارة ذات الدفع الرباعى التي تدفعها ماكينة المعرفة. فلم يعد المجتمع مقطورة مسحوبة بقوة العلماء والخبراء . وإنما اصبحت مجتمعات المعرفة تتحرك حركة ذاتية لتحقيق مقاصدها وغايتها . وما يجري اليوم يؤكد مقولة جون ستيورات ميل التي ذكر فيها أن القدرة علي نشر العلم والمعرفة علي أوسع نطاق هي التى تنهض بالمجتمعات وليس وجود  بؤر علمية ومعرفية هنا وهناك في اوساط المجتمعات المعاصرة. واذا كان نشر العلم والمعرفة هو ما ينهض بالمجتمعات جاز لنا ان نقول أن الدور الأعظم في النهضة والتنمية إنما تضطلع به وسائط الاتصالات والإعلام المتطورة الجديدة .فهذه الوسائط التي باتت تحيط بالمواطنين من كل جانب فلا تكاد أبصارهم أو أسماعهم تغفل عنها للحظة هى وحدها  التى تنشئ المجتمعات الجديدة .  مجتمعات المعرفة التي يكون فيها كل مواطن بما يتوفر له من معلومات علي مدار كل لحظة وأخرى قادرا علي إصدار حكم متزن فيما يريد أن يفعل وما يريد أن يمتنع عن فعله .
الإعلام ومجتمعات المعرفة
ولئن كان الوقود أحفوريا  أو حيوياً هو الطاقة التي تدفع حركة السيارات والقاطرات والسفن والماكينات في حياتنا المعاصره فان المعرفة هى الطاقة العظمى اليوم . وذلك من  خلال تدفقها الذي لا ينقطع وتفاعلها الذي لا ينتهي الي حد . وهى الطاقة الجديدة التي تدفع بالمجتمعات المعاصرة الي آفاق لم تكن لمجتمع من المجتمعات في يوم من الايام بحسبان . ذلك أن المعرفة هي التي تعيد تعريف المواقف الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية والأدوار الاجتماعية . فالعلاقات بين الناس هي التى تنُشئ الوقائع الجديدة . وإن شئت فأقرا " هو الذي جعلكم شعوباً وقبائل لتعارفوا " . ووسائل الاتصالات والمعلومات الجديدة تُعيد صياغة الشعوب والقبائل والعشائر وتهدم الجدر الفاصلة . وتمد الوشائج الواصلة وتختصر المسافات وتقلل الاوقات اللازمة لانجاز المهمات . و تفسح المجال للأفكار  لتتلاقح وللعقائد لتتفاعل وللسلع والخدمات لتدفق في سرعة هائلة من مكان لمكان . وللصناعات لتتكامل فتُصنع قطعة هنا وقطعة هناك . وتجتمع كل القطع في مكان آخر . وتصبح التجارة الافتراضية هي التجارة الحقيقية . وتتدفق الأموال من حساب الي حساب و من قارة الي اخرى في ثوانٍ معدودات . وكما أن السرعة الفائقة تستعصى علي السيطرة فإن سيطرة مركز واحد علي هذه التدفقات الهائلة يُصبح مستحيلا يوماً بعد اليوم الاخر . وبذلك تسقط كثير من المسلمات والتوازنات  . وتنشأ حقائق جديدة وتوازنات جديدة . فلم يعد أحد الأطراف في موضع التلقى والأخر في موضع التأثير بل أن التحول الى مجتمعات المعرفة يجعل المجتمع فى موضع وموقع التأثيرات المتبادلة .
اللإعلام الوطني والفجوة الرقمية :ــ 
بيد انه وعلي الرغم من ذلك فإن الفجوة الرقمية والتفاوت  المعرفي الهائل بين المجتمعات يجعل ولوج المجتمعات الي عالم مجتمعات المعرفة ولوجاً يتطلب وعياً يقظاً وعزماً حازماً باتراً . والإعلام في مثل هذه البلاد التي تعانى من الفجوة الرقمية والتخلف الاتصالي يحتاج الي أن يكون رائداً في مجال الترقي الرقمي .  ليستخدم تقانة المعرفة ونظمها في ترقية الفكر والوجدان الشعبي .وأول المطلوبات من أعلامنا الوطني هو المعرفة عن مجتمع المعرفة . ثم التكيف مع مقتضيات مجتمعات المعرفة من خلال التعلم المستمر والتطور المضطرد . لأن فاقد الشئ لا يعطيه . وواقع الحال في أعلامنا الوطني أن علاقته بثورة المعلومات ومجتمع المعرفة علاقة واهية سطحية . و مهارات أفراده في ذلك المجال شحيحة ونادرة . ولا يمكن أن نتصور وثبة اعلاميه تنقل الاعلام الوطني الي دوره المرتقب في إرشاده الشأن العام good governance  إلا اذا سبق ذلك وعى جديد لدى مؤسسات الإعلام ورجاله ونسائه إنهم سيظلون خارج الراهن الإعلامي المتداخل وطنياً وعالمياً ما لم يؤهلوا  أنفسهم لذات مستوي التأهيل المعرفى الذي يتحلى به نظراؤهم في العالم .
وهذا جهد تضطلع فيه المؤسسات بدور كبير والدولة بدور آخر . ولكن الدور الأعظم يقع علي عواتق الإعلاميين أنفسهم . فما لم يتسابقوا استباقاً للتعلم المستمر والترقى المتواصل فان طموحاتهم في تحقيق الإعلام الجيد ستؤول الي بوار. ذلك أن مضمار السبق مضمارٌ واحد لا يعرف الحدود بين الدول والقارات . فهو اوقيانوس عظيم للمعلومات وللمعرفة يسبح فيه من يسبح ويغرق فيه من يغرق ومن غرق فلا بواكى له .                  

انتهى

الثلاثاء، 3 أبريل 2012

أفكار حول الإعلام الجيد (5)


تحدثنا في المقال السابق عن المهنية في الأعلام والصحافة وتدريب الإعلاميين . ذلك أن الأخلاق والقيم الإعلامية يُعبر عنها في ما يعرف بالميثاق الإعلامي Professional code . والتزام الصحف ووسائل الإعلام بالمُثل الإعلامية Code of ethics  هو الذي يضفى عليها الصدقية والسمعة الجيدة. بيد أن الاتفاق علي ما يُعرف بالميثاق الأخلاقي اتفاق فضفاض . يشتمل علي تفاوتات وفروق ليست بالقليلة . وبعض مفردات هذا الميثاق تُثير اختلافاً أكثر مما تُوطد له من اتفاق . وأشهر تلك المفردات هي مفردة الموضوعية Objectivity . وهي تعني أن يكون الموضوع هو موضع التركيز وليست رؤى الناس له من زوايا متعددة . ولا إحساسهم به من مشاعر مختلفة . فالموضوعية تعنى الوصف الدقيق المحايد للحدث . ولكن هل يمُكن للشاهد أو الناقل أن يكون في الحياد التام؟
عدل الشهود والرواة:-
لأن أمر العدالة في القول والشهادة أمر إلهي "وإذا قلتم فاعدلوا" واللذين لا يشهدون الزور  وإذا مروا باللغو مروا كراما" فإن التراث الإسلامي لم تفترض العدالة التلقائية فى الرواة والشهود . وإنما جعل لها موازين ومعايير لقياسها وامتحانها. فنشأت علوم ليُعرف من خلالها عدل رواة الأخبار . وهل ورد في سلوكهم أو سيرهم ما يحرج تلك العدالة؟  أو هل ورد في سلوكهم المعتاد وسيرتهم المعلومة ما يؤكد استمساكهم بالدقة في النقل والعدالة في الأداء؟  وأشترط علماء الحديث شرطان يشكلان الأساس لإعلان عدالة الراوى وقبول روايته . وهما العدالة والضبط . والعدالة تُقاس لديهم بحسن تدين المرء ورشد تفكيره ونقاء سلوكه . واختلفوا في تقدير أسباب الجرح ما بين متشدد وآخر يتجنب التشدد. وأما الضبط فيُقاس بمقاييس عدة . أولها سلامة العقل من النسيان وسؤ الحفظ والتوهم  ثم التحرز من الخطأ والغلط . ودقة العبارة وعدم مخالفة الثقات من الرواة . وللتعبير عن عدالة الراوى كان يُقال أثبت الناس أو أوثقهم . ويقال ثقة ثبت ويقال حجة صدوق أو أن يُقال يُكتب حديثه أو يُؤخذ عنه وهذه أقل رتبة في التعديل . ويُقال في الجرح لين الحديث أو يقال لا يُحتج به أو يُقال لا يُكتب حديثه إلى أن تيذهب للتصريح باتهامه بالكذب أو الوضع أو السرقة و حتى يقال أكذب الناس أو إليه منتهي الكذب. وهكذا تري أن علماء الخبر لم يتوانوا عن الحديث الصريح عن عدالة العدل أو القول القاطع في تجريح الكاذب والفاسق. بيد أن رواة الأخبار اليوم وإن عمت بها البلوى لا يخضعون لمثل هذه المعايير ولا أدني منها ببون شاسع. وصارت مصطلحات مثل الموضوعية Objectivity والدقة  Accuracyمصطلحات فضفاضة . فيُكتفي عن التعبير عن الموضوعية  برواية مصدر مستقل دون التعريف بهذا المصدر المستقل سوى الجهة التي ينتمى إليها. وأما الموضوعية فقد صارت بضاعة بائرة منذ تحولت وسائل الإعلام للاستخدام الكثيف للاستمالات العاطفية . واستجاشة المشاعر بالتركيز علي بعض جوانب الصورة وإهمال الجوانب الأخرى . أو بالتصنيع الدقيق وإعادة تركيب المشهد  ليوائم صورة ذهنية يُراد رسمها للحدث وبناء الانطباعات علي أساسها. ومنذ انتقال وسائط الإعلام إلى تقانة الصورة انخفضت درجة الصدقية علي خلاف ما يقتضيه المنطق . ذلك أن الصورة هي أكبر شاهد علي نقل الحقيقة وبخاصة إذا كانت مشهداً مصوراً. ولكن تطور تقانة الصورة التي تسمح بالتكبير والتصغير وبالتحوير والتحرير والإضافة والحذف أتاح فرصاً كانت نادرة لتزييف الحقائق وتحوير الوقائع لاستمالة عواطف المشاهدين نحو اختيارات رواة الأخبار. وهؤلاء صار جلُهم أما وكلاء لقوى سياسية أو مجموعات ضغط أو أسري لتحيزات ثقافية أو عرقية أو أيدولوجية فضاعت الحقيقة بين هؤلاء وأولئك . وكانت هى الضحية الأولي لضياع المُثل الصحفية.
رسالة الصحافة وأخلاقها:-
لا يمكن التحدث عن أخلاق العمل الصحفي ومُثله دون الاتفاق علي رسالة الصحافة. ولا شك أن الآراء قد اشتجرت وأختلفت حول رسالة الصحافة ومهمتها . ونعنى بالصحافة هنا كل المهنة الإعلامية بكافة وسائطها المعروفة قديمة وجديدة. فلاسفة الأعلام وخبراؤه في الغرب تحدثوا عن المسئولية الاجتماعية كما تحدثوا عن نشر العدالة والديمقراطية وثقافة الحرية. وقد برز تيار ما يسمى Advocacy journalism  والتى ترفض مبدأ الموضوعية . وهؤلاء يقولون بعدم الحياد بين ما يسمونه الحق والباطل والضحية والجلاد . ولكنهم يغفلون الحقيقة الساطعة أن ما يسمونه الحق قد يكون هو الباطل بعينه عند طائفة من الجمهور . مثل من يدافع عن الحقوق المتساوية للمثليين وحقهم في الحصول على حرية اختيار الشريك . والحقوق المتصلة بالعلاقة الحميمة بين الشركاء . ومن يدافع عن هذا الحق يعتبرها نظرة ظالمة وباطلة تلك النظرة الأخلاقية التي ترفض اعتبار الحق في الانحراف صورة من صور المساواة الاجتماعية. وأقل من ذلك هو الجدل الدائر الآن بين أنصار الحق في الحياة "رفض إعطاء حق الإجهاض للمرأة الحامل" وبين أنصار حق الاختيار  للمرأة الحامل أن تكون أماً أو لا تكون. وليست المشكلة الكبرى  فى طبيعة هذا السجال ولكن المشكلة هى أن يعمل  صحفيو الدعوة علي ترويج معتقداتهم من خلال بناء الانطباعات . تأسيسا علي تزوير الحقائق والوقائع أو اجتزائها أو تحويرها . وهذا ما نراه  الآن  فى كل لحظة في الممارسة الدارجة للإعلام الغربى والإعلام المستتبع للإعلام الغربى. ولا شك انه ومع اشتداد التنافس الحامى بين القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية ومواقع الإخبار ووكالات الأنباء فإن الانتباه لمتطلبات الأداء المهني الأخلاقي قد تضاءل كثيراً بسبب البحث عن الترتيب الأعلى   Rating أو المسموعية والمشاهدية الأعلى . للحصول علي موارد إعلانية أكبر أو سبق خبري  Scoop يرتقي بمقام القناة أو المحطة أو أحيانا بكبار محرريها ومراسليها.  وليست الموثوقية والضبط والصدق هي الضحايا فحسب بل وضاعت في هذه الحمى في أحيان كثيرة الذائقة السليمة والاحتشام والسلوك المقبول عرفاً وثقافة لدي الجمهور المتلقي. ثم أن عالمية وسائط الإعلام تكاد تطيح جملة واحدة بالنسبية الثقافية والخصوصيات الدينية والعرقية. فأصبحت بعض قنوات مركز الشرق الأوسط التلفزيونى وما يماثلها ويشابها تنقل ذات البرامج المقدمة لجمهور أمريكى في ذات الوقت للجمهور العربى المسلم. علماً بان عنصر التوقيت عنصر مهم في الإعلام . فالكثير من البرامج المعدة للكبار يُؤخر بثها في بلادها الأصلية لكيلا يتعرض الأطفال لرؤية مشاهد أو سماع ما لا يليق بالصغار الاستماع إليه حتى في تلكم البلدان . ولكن قنوات الإستتباع الثقافي تنقل هذه العبارات الفاسقة والمشاهد الفاضحة إلي جمهورنا في رائعة النهار. وربما تكون البلوى من نقل برامج أجنبية إلى بيئة ثقافية أخرى أقل من بلوى استنساخ ذات البرامج وتقديمها بأسماء عربية مسلمة وبشخوص عربية مسلمة  وبذات تجردها عن القيم الديننية  و رسالتها  المناقضة للأعراف المحافظة في بلدان مالكو ومسيرو تلك القنوات نفسها . وقد أنجزت  تلك القنوات المسماة عربية وشرق أوسطية نجاحات ساحقة في مجال والاستتباع الإعلامى فشلت في تحقيقها قنوات أوربا وأمريكا الموجهة للعالم العربى والإسلامى. واستطاعت أن تحقق اختراقاً غير مسبوق في جدار المُثل والأعراف المقبولة في الحوض العربى الإسلامى. ولا نستطيع أن نختم الحديث عن رسالة الصحافة وأخلاقها دون التأكيد أن الصحافة هي أداة المجتمع في التخاطب مع العالم لاظهار خصوصيته وتميزه وعبقريته المتفردة . والتخاطب مع نفسه لترسيخ القيم والمثل والأخلاق وللتوافق علي تحقيق المصالح والمنافع العامة ولتحقيق النهضة والتنمية والتقدم الاجتماعي لا للقول لما يسمى بالعالم المتقدم نحن نهرع عل اعقابكم فأعيرونا نظرة .


نواصـــــــــــــــــــــــــــــــــل،،،










الحركة الإسلامية – سؤالات واجابات (2)



         سؤال آخر لا يزال يطرح حول ماهية الحركة الإسلامية هل هي حركة دعوية أم سياسية؟ والسؤال يطرح بسبب ما تركته الثقافة العلمانية على العقول من آثار وأوضار وإلا فإن السياسة فرع من فروع الدعوة للخير والعمل به .  وأصل الدعوة أنها تعريف بالحق والخير والجمال وحثٌ على إلتزام صراطها. والدعوة لها ثلاثة آبعاد . بعدٌ يتعلق بنقل الحقائق والمعلومات أو كما يقول خبراء الإعلام اليوم To inform  . وبعدٌ يتعلق بالاقناع بهذه الحقائق وبناء وجدان متقبلٌ لها وعقل متفهم لها . وهو ما يسميه خبراء الاعلام To persuade  . فمجرد العلم بالشيء لا يخلق القناعة به بل قد يؤدى إلى مدافعته ومعارضته . فأنت تقرأ في محكم التنزيل (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً). فهم بلغوا من العلم بالحقيقة مرحلة اليقين ولم يردعهم هذا العلم عن رفض الحقيقة وجحدها ظلماً واستعلاءً . وكان الظلم والجهل المتعالى من جبلة الانسان (  انه كان ظلوماً جهولاً). فليس مجرد الالمام بالحقائق والإدراك لها ولو تيقناً منها باستخدام المنهج العلمي بكافى لتحقيق الرضا والقناعة والتسليم . ولذلك فالدعوة ليس مجرد نقل للعلم بحقائق الدين والحياة بل هي تبليغ وتبيين . والتبليغ توصيل الأمر إلى غايته.  وغاية الدعوة توصيل الحقيقة إلى شغاف القلوب حتى تتقبلها راضية بها. والبعد الثالث للدعوة هي التحويل من بعد التوصيل . وهو تحويل هذه القناعة والرضا إلى طاقة للفعل وللعمل وللحركة . وعلماء النفس يسمون هذه الظاهرة بالنزوع . ذلك أن العلم بالشىء يحرك في وجدان الانسان ما يدعوه للفرح أو القلق أو الخوف وفي كل الأحوال يدفعه للتصرف على نحو ما.  وبقدر ما يكون وقع الحقيقة قوياً على الوجدان يكون أثرها في دفع الإنسان إلى الفعل والتحرك بذات القوة أو بأقوى من ذلك. ولذلك فإن خبراء الاعلام يسمون البعد الثالث بالبعد الحركي To actuate أى ما يحرك ويدفع. ويعبر عن هذا المعنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم (ليس الايمان بالتحلى ولا بالتمنى ولكن ما وقر في الصدر وصدقه العمل). فالعلم بأن الله هو الإله الواحد الذي لا إله غيره ليس حقيقة باردة بل هي حقيقة مدوية . تملأ القلب والنفس وتوقظ الجوارح . وتملأها بمعانى الخشية منه والرجاء له . والمحبة لصفاته والشكر على نعمه وآلائه . والاستغناء بالاعتماد عليه عن الاعتماد على غيره.
        الدعوة إذاً ليست إلا التعريف بالحقائق . حقائق الكون والحياة والإنسان كما أنزلها الله على رسله . وكما أدركتها العقول المفكرة  المتدبرة . وتبليغ هذه الحقائق إلى القلوب لتضخها كما فعلها بالدماء إلى الجوارح والجوانح فتدفعها للاستجابة و إلى تفاعل منسجم مع حركة الأكوان المسبحة لله العلي العظيم. ولأن الدعوة كذلك فهي بطبيعتها دعوة شاملة لكل معانى الحياة العاجلة والآجلة . ولكل حقائق الكون البادية والخافية . ولكل شعاب النفس ما يهديها وما يضلها . ولكل سنن الاجتماع الانسانى التي لا تتبدل ولا تتحول. ولأنها شاملة فهي تشمل حسن الطلب للدنيا . وحسن الطلب للأخرة . فتشمل علوم الفقه توحيداً وامتثالاً . وعلوم الكون وعلوم النفس .  الاجتماع البشرى بما في ذلك علوم السياسة والاقتصاد التبادلي . وتعارف الاجناس والأنواع وتعايشها .
السياسة فرع الدعوة:
        فالسياسة فكراً وممارسة فرع من فروع الدعوة . وكما يغذى الفرع بأوراقه سائر  اجزاء الشجرة بالتمثيل الضوئي فإن السياسة الجيدة احياءً وتحريك وتنشيط للدعوة في سائر مساقاتها الأخرى. بيد أن الدعوة هى الأصل والسياسة هي الفرع. والدعوة هي رسالة الانسان لأخيه الانسان لأن الله سبحانه وتعالى خلق الانسان وهداه النجدين . فأهتدى أناس وضل آخرون. فشاءت مشيئته الرحيمة ان لا يُترك من ضل إلى ضلاله بل أوجب على من أهتدى إن يسعى فى هداية من إفترق عن سواء السبيل. وإصطفى الله سبحانه وتعالى  الانبياء الذين تهيأت نفوسهم لتلقى العلم الالهي . وأرسل من هؤلاء الرسل رحمة بالعالمين . وجعل العلماء ورثة للأنبياء يتابعون رسالتهم بعد موتهم . فلئن كان محمداً قد مات فإن دين الله لن يموت . وكرم الله سبحانه وتعالى أمة محمد بتكرمة خاصة بقوله وتكليفه (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتدعون إلى الخير) والمعروف ما عرفه الناس خيراً بهداية الوحى والعقل . والمنكر ما رآه الناس نُكراً بهداية الوحى والعقل . والخير ما كانت ثمرته رحمة وتيسييراً على الناس أجمعين . والحركة الإسلامية أدركت ان واجبها الكلي هو الدعوة الشاملة المستمرة . وأن مراد الدعوة هو هداية الخلق إلى مراد الله سبحانه وتعالى . وهو الرحمة لعباده في العاجلة والآجلة. والسياسة هي إدارة شأن الناس بالمعروف لتحقيق مصلحتهم . ولذلك قال العلماء قالوا فى تعريفها (إن التصرف بالسياسة منوط بالمصلحة) . فما لم يتوخى المصلحة العامة فليس بسياسة أو على الأقل ليس بسياسة شرعية رشيدة. وتعريف الناس بالسياسة الشرعية الرشيدة باب من أبواب الدعوة بالقول والعمل وبالإسوة والقدوة.  وكذلك كان شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فان صلاح السياسة مؤداه صلاح الشأن العام . وصلاح شأن الناس العام يهيىء لصلاح الأنفس كما هيأ لصلاح المجتمعات. بيد أن كثير من الناس عندما يتحدثون عن السياسة لا يتحدثون عن السياسة التي هي إصلاح الشأن العام . وأنما يتحدثون عن السياسة التي هي الصراع على السلطة على الشأن العام . وشتان ما بين معنىٍ ومعنى وسياسة وسياسة . بيد ان تنظيم التنافس على حيازة السلطان على الشأن العام فرع من فروع السياسة . ولكي يكون معدوداً في السياسة الجيدة يجب أن يراعى عدة مباديء أولها:-
1-               أن يكون الحكم الحقيقي لله لرب العالمين والحاكمية المطلقة له ، وأما حاكمية البشر فمقيدة بالامتثال لهداية الوحي ولاحكام الشرع.  فهي حاكمية وكيل أو مستخلف لا حاكمية مسيطر ولو كان رسولاً نبياً (لست عليهم بمسيطر) ، (لست عليهم بوكيل) فالوكلاء على الشأن العام هم  الناس أنفسهم لأن (أمرهم شورى بينهم).
2-               أنه لا يجوز لأمرىء أن يفرض سلطته على جماعة وهي له كارهة وإلا برئت ذمة الله وذمة رسوله . وما برئت منه ذمة الله ورسوله برئت منه ذمة المؤمنين. فلا يحكم حاكم إلا بشروط المحكومين لا تغلباً واستبداداً بأمرهم.
3-               أن لا يحكم حاكم لشهوة الحكم . وأنما للمصلحة وللمنفعة العامة . ولذلك فلابد لكل حاكم من برنامج للإصلاح . يعرضه على الناس كما عرض أبوبكر وعمر مرادهما للناس جميعاً .  وكما عرض عثمان وعلي مرادهما للخاصة والعامة . فلا يقدمن أحدٌ نفسه بانتمائه لقبيلة أو حزب . وأنما بإلتزامه ببرنامج للإصلاح ليكون ذلك عقده وشرطه مع الناس.
4-               ومثلما يعرض المرشح شرطه للجمهور فعليه الامتثال لشروطهم إن كان ذلك فى دستور أو قانون أو ميثاق أو عهد (فالمؤمنين عند شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً او أحل حراماً).
فالسياسة المقصودة عندنا هي الإصلاح والترقى في الخيرات والصالحات . ولذلك فهي فرع من فروع دعوتنا . وليست هى شأناً آخر موازياً للدعوة ننشغل به عنها . ثم أننا لا ننزه أنفسنا عن التقصير في أمر الدعوة أو أمر السياسة . فإن من شأن البشر النقص والتقصير عن جهل أو عمد .  ولكننا نذكر أنفسنا بالاستغفار عن خطأنا وعمدنا وكل ذلك عندنا. لا يصرفنا ذلك عن مواصلة السعى بل الاستغفار صنو الاستمرار . فعلى الرغم من النقص والتقصير تبقى من المؤمنين طائفة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتدعو إلى الخير لا يضيرها من خذلها إلى يوم القيامة . ونحن نحدث أنفسنا أن نكون من  أهل هذه الطائفة.
نواصل،،،