الثلاثاء، 24 أبريل 2012

أفكار حول الإعلام الجيد (6)



عندما نشأت الصحافة كان غرضها الأساس هو حث القراء والمستمعين أن يقولوا نعم . فالشركات المعلنة عن السلع والخدمات تريد منهم كلمة نعم . والحكومات والأحزاب تريد منهم أن يقولوا نعم . وناقلو الحكايات والقصص والشائعات يريدون كلمة نعم . بيد أن ثورة الاتصالات والمعلومات تفعل  شيئا آخر . أنها تعزز قدرة المواطنين أن يقولوا لا . وبهذا تضطلع الصحافة بالدور المنوط بها في تعزيز سيادة المواطن . لأنه لا سيادة  لمن لا يملك ان يقول لا أو كما قال عمر بن ابي ربيعة:
واستبدت مرة واحدة             إنما العاجز من لايستبد
 ولئن كان هنالك ضرب واحد من الاستبداد مُتسامح بشأنه  فهو استبداد المواطن أو على الأقل تعزيز قدرته علي أن يقول لا .
الأعلام وتمكين المواطن 
أن اهم الأدوار التي ينبغى ان يضطلع  بها الاعلام  الجيد هو فتح بوابة المعرفه امام الجمهور.  ولئن كان الناس يتحدثون في السابق عن حق الجمهور في المعلومات فإن شعار اللحظه الراهنة هو حق الجمهور في المعرفه access to knowledge .  فنحن في زمن مجتمع المعرفه knowledge society   . والحقائق الاجتماعية الجديدة تتطلب منظوراً جديداً لدور وسائط ووسائل الإعلام والصحافة . والاعلام الذي يعيد تعريف أدواره اليوم بوصفه أقوى المؤسسات لدعم الحكم الراشد good governance  يتوجب عليه أن يدرك أن اسهامه في تحقيق هذا المقصد إنما يقُاس  بقدرته  علي مساعدة المجتمع في التحول من مجتمع الذاكرة memory society  الي مجتمع المعرفة knowledge society .
والسبيل الي تحقيق ذلك يمر من خلال تحول وسائل الاعلام ووسائطه الي مُعينات للتعليم الذاتي للمواطنين self learning  . فالتعلم من خلال الاندماج في مجتمع المعرفة الجديد سيؤدي الي تغيير جذرى في المعلومات والمفهومات . وسيقود حتما الي رؤى وتطلعات جديدة.  تحفز سير المجتمع نحو آفاق التقدم والرقي الاجتماعي . ومجتمع المعرفة الذي نشير اليه هو المجتمع الذي تتوفر فيه للافراد والجماعات المعرفة التي تُعزز قدرتهم علي التعرف والتحرك الي تحقيق مقاصد  كلية ترتقى بنوعية الحياة المعنوية والمادية التي يحياها المجتمع . ومما لا شك فيه أن المجتمعات تتطور مادياً واقتصادياً بتطور قدراتها التقنية ووسائلها ونظمها و بتطور انجازاتها المعرفية . وقد كانت هذه الانجازات تقُاس في الماضي بالعلماء والخبراء الذين يقودون هذه النهضة . فكانت المجتمعات مُوصلة الي قاطرة معرفيه تسحبها الي الامام .  بيد أن ثورة الاتصالات والمعلومات التي تتحول الآن أمام أعيننا الي ثورة معرفية هائلة تُوشك أن تغير هذه الصوره من مشهد القاطرة الساحبة الي مشهد السيارة ذات الدفع الرباعى التي تدفعها ماكينة المعرفة. فلم يعد المجتمع مقطورة مسحوبة بقوة العلماء والخبراء . وإنما اصبحت مجتمعات المعرفة تتحرك حركة ذاتية لتحقيق مقاصدها وغايتها . وما يجري اليوم يؤكد مقولة جون ستيورات ميل التي ذكر فيها أن القدرة علي نشر العلم والمعرفة علي أوسع نطاق هي التى تنهض بالمجتمعات وليس وجود  بؤر علمية ومعرفية هنا وهناك في اوساط المجتمعات المعاصرة. واذا كان نشر العلم والمعرفة هو ما ينهض بالمجتمعات جاز لنا ان نقول أن الدور الأعظم في النهضة والتنمية إنما تضطلع به وسائط الاتصالات والإعلام المتطورة الجديدة .فهذه الوسائط التي باتت تحيط بالمواطنين من كل جانب فلا تكاد أبصارهم أو أسماعهم تغفل عنها للحظة هى وحدها  التى تنشئ المجتمعات الجديدة .  مجتمعات المعرفة التي يكون فيها كل مواطن بما يتوفر له من معلومات علي مدار كل لحظة وأخرى قادرا علي إصدار حكم متزن فيما يريد أن يفعل وما يريد أن يمتنع عن فعله .
الإعلام ومجتمعات المعرفة
ولئن كان الوقود أحفوريا  أو حيوياً هو الطاقة التي تدفع حركة السيارات والقاطرات والسفن والماكينات في حياتنا المعاصره فان المعرفة هى الطاقة العظمى اليوم . وذلك من  خلال تدفقها الذي لا ينقطع وتفاعلها الذي لا ينتهي الي حد . وهى الطاقة الجديدة التي تدفع بالمجتمعات المعاصرة الي آفاق لم تكن لمجتمع من المجتمعات في يوم من الايام بحسبان . ذلك أن المعرفة هي التي تعيد تعريف المواقف الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية والأدوار الاجتماعية . فالعلاقات بين الناس هي التى تنُشئ الوقائع الجديدة . وإن شئت فأقرا " هو الذي جعلكم شعوباً وقبائل لتعارفوا " . ووسائل الاتصالات والمعلومات الجديدة تُعيد صياغة الشعوب والقبائل والعشائر وتهدم الجدر الفاصلة . وتمد الوشائج الواصلة وتختصر المسافات وتقلل الاوقات اللازمة لانجاز المهمات . و تفسح المجال للأفكار  لتتلاقح وللعقائد لتتفاعل وللسلع والخدمات لتدفق في سرعة هائلة من مكان لمكان . وللصناعات لتتكامل فتُصنع قطعة هنا وقطعة هناك . وتجتمع كل القطع في مكان آخر . وتصبح التجارة الافتراضية هي التجارة الحقيقية . وتتدفق الأموال من حساب الي حساب و من قارة الي اخرى في ثوانٍ معدودات . وكما أن السرعة الفائقة تستعصى علي السيطرة فإن سيطرة مركز واحد علي هذه التدفقات الهائلة يُصبح مستحيلا يوماً بعد اليوم الاخر . وبذلك تسقط كثير من المسلمات والتوازنات  . وتنشأ حقائق جديدة وتوازنات جديدة . فلم يعد أحد الأطراف في موضع التلقى والأخر في موضع التأثير بل أن التحول الى مجتمعات المعرفة يجعل المجتمع فى موضع وموقع التأثيرات المتبادلة .
اللإعلام الوطني والفجوة الرقمية :ــ 
بيد انه وعلي الرغم من ذلك فإن الفجوة الرقمية والتفاوت  المعرفي الهائل بين المجتمعات يجعل ولوج المجتمعات الي عالم مجتمعات المعرفة ولوجاً يتطلب وعياً يقظاً وعزماً حازماً باتراً . والإعلام في مثل هذه البلاد التي تعانى من الفجوة الرقمية والتخلف الاتصالي يحتاج الي أن يكون رائداً في مجال الترقي الرقمي .  ليستخدم تقانة المعرفة ونظمها في ترقية الفكر والوجدان الشعبي .وأول المطلوبات من أعلامنا الوطني هو المعرفة عن مجتمع المعرفة . ثم التكيف مع مقتضيات مجتمعات المعرفة من خلال التعلم المستمر والتطور المضطرد . لأن فاقد الشئ لا يعطيه . وواقع الحال في أعلامنا الوطني أن علاقته بثورة المعلومات ومجتمع المعرفة علاقة واهية سطحية . و مهارات أفراده في ذلك المجال شحيحة ونادرة . ولا يمكن أن نتصور وثبة اعلاميه تنقل الاعلام الوطني الي دوره المرتقب في إرشاده الشأن العام good governance  إلا اذا سبق ذلك وعى جديد لدى مؤسسات الإعلام ورجاله ونسائه إنهم سيظلون خارج الراهن الإعلامي المتداخل وطنياً وعالمياً ما لم يؤهلوا  أنفسهم لذات مستوي التأهيل المعرفى الذي يتحلى به نظراؤهم في العالم .
وهذا جهد تضطلع فيه المؤسسات بدور كبير والدولة بدور آخر . ولكن الدور الأعظم يقع علي عواتق الإعلاميين أنفسهم . فما لم يتسابقوا استباقاً للتعلم المستمر والترقى المتواصل فان طموحاتهم في تحقيق الإعلام الجيد ستؤول الي بوار. ذلك أن مضمار السبق مضمارٌ واحد لا يعرف الحدود بين الدول والقارات . فهو اوقيانوس عظيم للمعلومات وللمعرفة يسبح فيه من يسبح ويغرق فيه من يغرق ومن غرق فلا بواكى له .                  

انتهى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق