د. أمين حسن عمر
aminhassanomer.blogsprt.com
سؤال آخر يُسأل عن الحركة الإسلامية ودورها في تربية أفرادها وتنمية
الوجدان المؤمن لديهم؟ وبعض قدامى الإخوان
يزعمون أن هذا الدور قد تضاءل كثيراً بتعاظم الدور السياسي والأدوار الأخرى التي
تضطلع بها الحركة الإسلامية في الحياة العامة . ولاشك أن هذا الدور كان مرئياً
أكثر في الماضي عندما كان لا يزاحمه مهمات أخرى كبرى في الحياة العامة، ولكن القول
أن هذا الدور قد أختفي أو أنه تضاءل قول يحتاج أن تُساق الأدلة والبراهين عليه.
فلربما اتحذ هذا الدور شكولاً أخرى وعبر عن نفسه في مظاهر مختلفة. بيد أن الاحتمال
المفترض بتضاؤله لا يعدم قرائن تعضده.
فعلى الرغم من أن وجود الإخوان لم ينحسر في المساجد إلا أنه وجود أفراد بأكثر منه
وجود جماعة منظمة كما كان الشأن في الماضي. ففي تلك الأيام كانت حلقة القرآن أنما
تتحلق بتنظيم الأخوان لها . والصيام الجماعي في المسجد كان يُعمر بأواني الأفطار
التي يجلبونها . وعيادة المسجد كان يقوم عليها طبيب من رواد المسجد أو ممن جلبه الأخوان من حي آخر
لعيادة المسجد . ولا أزال أذكر جلسات الأنس التي تنعقد بين عيادة مريض ومريض آخر مع
أخواننا من الاطباء أمثال مطرف صديق ومصطفى أدريس وغيرهم من الأطباء . كانت المناسبات
الإسلامية يُذكر بها وتُحى ذكراها بالمحاضرات التي يلقيها العلماء والدعاة من
الأخوان. وبلا شك فلا تزال المناسبات تُحى وتقام المحاضرات ولكن كل ذلك خرج من
المسجد ، ولذلك فلابد تدارس الوضع وتداركه باحياء المسجدية لا في نوافل الصلوات
وحلقات التلاوة والذكر فحسب بل باتخاذ المسجد منطلقاً لعمل الخير جميعا . عوناً
للفقراء واحياءً للجان الزكاة . وإعداداً لناشئة العلماء والخطباء . وأحياءً
لليالي النورانية في كل المناسبات الاسلامية . واسترجاعاً لخدمات العيادات الطبية
والدروس الإضافية والبرامج الصيفية في المساجد . فقد كان لكل ذلك دورٌ كبير في
تنمية الايمان وتزكية نوازع الخير والعمل الصالح لدى أفراد الحركة الإسلامية.
ولا نقصد بالتربية النشاط المسجدي
فحسب وان كان النشاط المسجدي هو بؤرة الإنطلاق لإصلاح الوجدان الفردي ثم الحياة
العامة. إلا ان مفهوم التربية يشمل شعاباً أخرى مثل تربية ملكة القراءة والتفكر
والتأمل . واكتساب الدُربة على محاورة النفس والحوار مع الآخرين. فالإنسان المتأمل
في حالة تفاعل مستمر بين نفس أمارة تمنيه وتُغريه ونفسٍ لوامة تحذره وتهديه . ومحاورة
النفس باب من أبواب التربية الذاتية والترقي الوجداني . يتقنه المرء من خلال
التلاوة المتدبرة والذكر الذي لا تلهى فيه المباني عن المعاني ولا الألفاظ عن
الأفكار ، ولذلك لئن كان الأمام البنا رحمه الله قد أوصى باوراد ووظائف على طريقة
السادة الصوفية فلأنه أدرك ان تكرار تلك الأوراد الجامعة والأذكار المأثورة سيدفع
المرء في لحظة من اللحظات إلى تأمل طليق وإلى تفكر عميق في تلك المعاني. فالذكرُ
ليس مجرد عبارات يتمتمهن الذاكر بل هي كلمات يراد بها طرق أبواب العقل والقلب التي
أرتجتها الغفلة والإنشغال بلُعاعات الدنيا عن كنوز الأخرة الروحية والمادية. وقد
كان من دأب الأخوان في ذلك الزمان التداعي أسبوعياً إلى ما يسمونه بالجلسات
الايمانية التي يبتدرونها بتكرار قول الصحابة عليهم الرضوان جميعاً (هيا بنا لنؤمن
ساعة) فقد علموا أنه مثلما لغذاء الجسم ساعة ولشراب الجسم ساعة فإن لغذاء الفكر
والروح ساعة فساعة.
التكوين
والبناء التربوي
وتكوين الأفراد وتربيتهم يجرى على
المساقين العام والخاص. فالعام مقصده إكسابهم الشجاعة الأدبية . وحفزهم على
الإطلاع والمدارسة والمذاكرة . وتشجيعهم على الحوار والتناظر والخطابة والدعوة . وجعل
بعضهم حسبة على البعض الآخر يراعون انتظامهم في الشعائر . ويحث بعضهم بعضاً على
النوافل . وينشدون الرياضة والسياحة سوياً مرة مراكضة وأخرى منافسة في شتى ضروب
الرياضة . وأخرى عيادة لمريض أو تشييعاً لميت أو زيارة لقبر. وأما المساق الخاص
فأذكارٌ وأوراد وتلاوة . وتأملٌ وتفكر وتدبر . تتبعها نقاشات حول ما ذكره الحارث
المحاسبي وما واظب عليه السكندري وما أورده الغزالي في كتابه (يا أيها الولد
المحب) أو كتابه (المنقذ من الضلال) أو هي مناقشات فيما ذكره سيد قطب في مشاهد
القيامة أو ما ورد في كتاب (الحيل النفسية) أو غيرها من كتب الرقائق أو الفوائد
الرائجة آنذاك . لاشك ان الملهيات اليوم قد تكاثرت على الناس . ليس من قبل
مسئوليات الحياة العامة فحسب بل من تكاثر مُلهيات الحياة الخاصة من قنوات تلفازية
ومواقع أسفيرية وبرامج للهو الحديث ولهو الأبدان لا تكاد تنفد ولا ينقضى له زمن . ولا
يُحدد لها ميقات مبدأً أو منتهى. وما لم نملك زمام المبادرة في تحديد ما نريد أن نفعله
في فراغ أوقاتنا من مسئوليات كسب المعاش أو مسئوليات الشأن العام فسوف تنقضى الأوقات
في انشغال عن كل سانحة تعبد خاشع أو تفكر ثاقب أو تأمل دقيق عميق فنحيا في ضحضاح
من الحياة لا نستطعم فيه حلاوة المدارك الصافية ولا المعاني السامية ولا أفراح
الروح المتعالية على سفساف الشؤون وصغائر الهموم.
وكان ممن نذكر به انفسنا في ذلك
الزمان قول الصحابى عليه الرضوان (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الخشوع
كما يعلمنا الآية من القرآن ) فكنا نساءل بعضنا البعض كيف السبيل إلى تعلم ذلك
العلم النادر المضنون به على غير أهله من الغافلين غير الحافلين إلى أى وجهة تدفع
الرياح الشراع . وإلى أي مرفأ أو أى قاع يكون المنتهى.
الأسرة
والشُعبة الأدوار المنسية:
وليس الغفلة الراهنة وليدة الصوارف
المتكاثرة فحسب بل أنها نتيجة لاهمال الروابط التنظيمية التي كانت تصل الأخوان
بعضهم البعض. وعلى رأس ذلك ما كنا نسميه بالأسرة. والأسرة هي أساس التنظيم المتسع
مثلما الأسرة هي أساس المجتمع. والأسرة تمتد لتكون أسرة ممتدة . وكنا نسميها
بالشعبة وهي تتكون من أسر عديدة في ناحية من النواحى . فاذا أتسعت الشعبة أصبحت واحدة من شعب متعددة
تحت إمرة مكتب المحلية أو المدينة حسب الترتيب الإداري المعتمد. وكان هذا التنظيم
الدقيق لا يوفر مجالاً للترابط الإجتماعى والتنظيمى فحسب بل كان إطاراً للمدارسة والتعليم والتربية . ثم أن القيادة آنذاك
رأت بعد إنفتاح الحريات أنه لا معنى لإقامة الدروس وحلقات الذكر سراً فمضى التوجيه
للأخوان لاقامة الدروس الأسرية علناً في المساجد. ولكن الخروج بالأسرة في طابعها
الثقافي والدعوى إلى العلن قد أضعف جانبها الاجتماعي والتنظيمي . فأصبح الأخوان
يتقاعسون كثيراً عن حضور اجتماعات الأسر . فضعفت أدوارها الأخرى بصفتها الخلية
الأساس للتنظيم التي فيها تُجبى الأشتراكات وتجمع الصدقات . وينظم الصيام والقيام
والرحلات والزيارات والعيادات والتفقدات، ولما ضُعفت الخلية الأساس ضُعفت الشُعب
التي هي الأسر الممتدة . وأصبح التنظيم علنياً وكأنه حزب من الأحزاب أو جمعية من
الجمعيات العامة. ولا شك أن خروج الأسر إلى العلن قد أجدى نفعاً كثيراً . وجذب
مجموعات كبيرة للحركة الإسلامية . ولكنه في ذات الوقت أضعف الترابط الخاص بين
العضوية الملتزمة . وأوهي روابط الإنتظام وأعرافه وآدابه الخاصة. ولاشك عندي أن
إحياء نظام الأسرة والشعبة بما كان لهما من أدوار في تمتين الروابط بين الأخوان
سيكون له أثر كبير في تكوين الأعضاء الفكرى والوجدانى . وفى تعزيز التنظيم من خلال
تقوية الإرتباط به إلتزاماً بتمويله ذاتياً من خلال إشتراكات اعضائه . وتفعيله
اجتماعياً من خلال تعزيز رابطة الإخاء المخصوصة بين اعضاء الأسرة التنظيمية
والشعبة الممتدة . ومن خلال تحويل تلك المؤسسات التنظيمية إلى ماكينة تدفع آلة
النشاط العام وتوجهها نحو مقاصد الحركة الإسلامية لاستعادة الدور الإسلامي فى
قيادة الحياة وبعث معانى الدين في شعابها وانحائها من جديد.
نواصل،،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق