الثلاثاء، 21 مايو 2013

نحن والديمقراطية حوار أهل السمع والبصر3



لماذا فشل المجتمع المدني في السودان في تجسيد إرادته العامة في نظامه السياسي؟ لماذا يحدث ذلك رغم المفارقة البارزة في كون أن درجة الاهتمام بالشأن السياسي في السودان تفوق مثيلاتها في جواره العربي والإفريقي؟ لماذا يفشل مجتمع مدني متحضر مفعم بالنشاط عن تأسيس نظام سياسي ينال الرضا من غالب إفراده؟ هذه بعض الأسئلة التي ربما مقاربة الإجابة عن بعضها قد يلقى شعاعاً من الضوء يعين علي الفهم وربما يدفع للتحرك في الاتجاه الصحيح.
ما هو النظام السياسي؟
لعلنا قد أجبنا  ببعض الإجابات الضمنية فيما تقدم من قول . ومن ذلك أن النظام السياسي هو تلك الشبكة من العلاقات البينية والتراتبية التي تستند إلي السلطة وتعمل على تقسيمها وترتيبها في المجتمع بغرض إدارة الموارد العامة وتحصيل المصالح وتحقيق الأمن والسلامة ودرء وفض النزاعات في المجتمع. والنظام السياسي يصف السلوك والأدوار المرغوبة وغير المرغوبة من الإفراد والجماعات والمؤسسات . ويقنن ذلك في شكل أعراف أو تشريعات . وهو بالضرورة لابد له أن يؤسس مؤسسات اجتماعية وهيكلية للتعبير عن قيمة ومقاصده . ولإصدار القرارات المنظمة للمرور السياسي . وهذه إما منظمات مجتمع مدني مثل الأحزاب وجماعات المصالح والعمل الطوعي أو مؤسسات دولة مثل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية . وكلمة نظام كيفما استعملت فهي كلمة تصف أو تؤسس الأوضاع القياسية فيما يجب أن يفعل أو يترك. وعندما نتحدث عن النظام السياسي يكون الحديث عن منظومة لا عن منظمات أو مؤسسات منثورة تتواجد علي صعيد واحد ولكنها عاجزة عن التواصل أو التفاعل بما ينشئ وضعاً اعتبارياً جديداً . يكون فيه كل جزء بعضاً من كل . فالنظام الحزبي علي سبيل المثال ليس عدداً من الأحزاب علي صعيد واحد بل هو في الأساس جمعية متكونة من أحزاب متعددة . تتصرف أحيانا بالروح الجمعية وأحيانا تتعدد استجابتها للقضايا قيد النظر أو التفاعل أو التنافس أو النزاع. والكلمة الانجليزية التي أعطيت للنظام الحزبي أفضل تعريفاً وتوصيفاً للمطلوب منه . وهي كلمة pluralism  وتعني الجمعية . والجمع لا يكون إلا لأعداد  اجتمعت فإذا وقفت فرادي قلت قيمها العددية . وإذا تراصت إلي جانب بعضها البعض عظُمت القيمة والفائدة منها . ولكن المعرب السياسي اختار أن يستخدم كلمة تعددية لوصف النظام الحزبي  . واختار بذلك القيمة الأدني ووأختار الفصل دون الوصل والشتات بديلاً للاجتماع. فالنظام الحزبي في بلادنا قائم علي فكرة الافتراق علي فكرة الاجتماع. ولذلك فالاحزاب تحرص اكثر الحرص علي ابراز المفارقات اكثر من حرصها علي ابداء الموافقات . والتوافق الحزبي لفظة لا تقترن الا بالازمات . وتستخدم حينها لتهدئة الخواطر لا لتطوير بدائل وفاقية لمواجهة الاوضاع المتأزمة. وهنالك خلط مريع بين معني التوافق والتحالف. فالوفاق يفهم وكانه ائتلاف بين القوي الحزبية للحكم . وليس لتحقبق التقاء للوصول الي حلول للقضايا الشائكة. والحال مع منظمات المجتمع المدني الاخري سواء اكانت جماعات مصالح او جماعات عمل طوعي ليس بافضل من هذا الحال . فهي اما ان تستظل بمظلة القوي السياسية او تنحو نحوها . و فكرة التشبيك التي أصبحت هي شعار العمل الطوعي او عمل منظمات الضغط غائبة عن الثقافة التنظيمية . فان حضرت فلا تكون إلا صورة شكلية لا يُعبر عنها في الرؤي ولا اقتسام الموارد ولا تحديد الادوار بله عن القيادة الفاعلة الموحدة. ثم أن هذه الانظمة المقسمة منذ الانشاء تخضع لتقسيمات جديدة متكاثرة بسبب التحيزات الجهوية والقبلية والفئوية . فيقسم المقسم اصلاً ويجزءاً المجزأ . وأنظر الي حال الاحزاب السياسية من داخلها. هل تري اجتماعاً علي رؤية او اتفاقاً علي مقصد او قبولاً بزعامة إلا ان يكون تسليماً لطائفة. وانظر الي اسباب الخلاف والنزاع وبؤره وكيفية ادارته فستعلم حينئذ أن نظامنا السياسي معلول حتي نخاعه الغظمي ....فماالعمل؟
الثقافة السياسية هي السبب
إن علة النظام السياسي في السودان او علة عدم القدرة علي انشائه علة ثقافية بادئ الرأي. وقد أشرنا الي فقر الثقافة الحقوقية في المجتمع السوداني . وهذا أمر يدعو للعجب في مجتمع يتحلي افراده بحساسية عالية تجاه الكبرياء والكرامة الشخصية. وهذه الخصلة خصلة الكبرياء الذي يتجاوز المعدل يمكن ان تكون أحدي المناقب التي تدفع النهضة السريعة والتقدم . لأنها ستكون من أقوى محفزات استفراغ الوسع في ترفيع شأن الذات . ولكنها يمكن أن تكون من الوجهة الأخرى واحدة من منقصات المسعي المتسارع الي التقدم والرقي الاجتماعي. والكبرياء الزائدة رغم أنها قد تحفز صاحبها للتعلم السريع بصورة ذاتية الا أنها تقلل من قدرته على التعلم من الآخرين .  ذلك ان هاجس الكبرياء يقول له من هذا حتي يتسنم هذا المقام العالي, مقام الاعنراف له بالتفوق . فالاعتراف للآخرين بالتفوق العلمي او بالبراعة والمهارة أمرُُ يشق علي المرء شديد الكبرياء. وكما يتمظهر ذلك في مسألة تلقى العلم يبرز ايضاً في قبول سلطة الآخرين . وعدم قبول مبدأ التراتبية في السلطة معوق رئيس دون بناء أية مؤسسة فاعلة في المجتمع او الدولة. والكبرياء الزائد يتجه بالضرورة الي غمط الناس أشياءهم . ولذلك يشق علي بعض الناس الاعتراف بفضل الآخرين فضلاً يترتيب عليه التسليم لهم بسلطان او نفوذ. أن المجتمع السياسي لن يتطور مالم يكن الاعتراف بالقانون ويمن ينفذ القانون من أول أولياته وأعلي أولوياته. وتشريع القوانين وتنفيذها يقتضي وجود مجتمع مدني يؤمن بالتراتبية وبوجوب التسليم لسلطة القانون . ولمن أعطي سلطان تنفيذه . ومجتمعنا يعاني مشكلة شائكة في هذا المطلوب. فالقانون نفسه ظل موضعا للنزاع في أصول اشتتراعة . ومؤسساته التشريعية والتنفيذية ظلت هي الأخري موضع التجاذب والتخاصم . ولذلك فان مسألة الشرعية تقع في مركز المحور من بناء النظام السياسي. ونعني بلفظة  الشرعية اولاً الاتفاق علي اصول الاشتراع أي علي مرجعيات استنباط الشرائع والقوانين. ولا شك ان الشريعة الدينية والاعراف الاجتماعية هي اصول الاشتتراع في كل انحاء الدنيا حتي في تلك البلاد التي تزعم انها علمانية تفصل بين الدين والسياسة . ولكن الدين متلبس بالثقافة ولا يمكن ان تفصل بين الثقافة والسياسة إلا اذا تصور البعض إمكانية الفصل بين الانسان وجلده. فالثقافة متمكنة في اعتقادات المجتمع وامتثالاته وتصرفاته . وما السياسة الا جلب المنافع التي تراها ثقافة المجتمع منفعه ودرء المفاسد التي تراها ثقافة المجتمع مفسده . سواء اكانت تلك المصالح والمفاسد مادية او معنوية. وفي بلادنا ظلت قضية المرجعية عالقة بين القوي السياسية . رغم ان غالب الاحزاب الاكبر تزعم انها تسلم بان الشريعة الاسلامية والعرف المعروف بين اهل السودان هي المرجعيات . ولكن لأن الاصل لديها هو ابراز المختلف عليه واخفاء المؤتلف حوله فقد ظلت قضية المرجعية التشريعية موضعاً للخلاف حتي بين الاحزاب التي تنادي بالصحوة الاسلامية والجمهورية الاسلامية والشريعية الاسلامية . ومرجع ذلك الي ضعف الاتصال والحوار الفكري بين فرقاء السياسة . فقلما يجتمع هؤلاء في منابر الحوار والتفكير الجماعي هذا ان وجد وجوه القوم وقتاً لشئون التفكير او شجونه . ومسألة الشريعة لها وجه آخر غير شرعية الاستنباط وهو شرعية الاختيار . فمن يقرر أن ها الأمر شرعي او إسلامي او مقبول او غير مقبول. هل هى بيوتات طائفية او نخب علمية شرعية او جماعات اسلامية ناشطة او تجمعات قومية او يسارية او مثل هذا او غير هذا. لا تزال قضية الشرعية قائمة . لأنه يشق علي الجميع التسليم بسلطة الشعب العلمية . فالمثقفون والمتعلمون والزعامات الدينية والنخب العلمية لا تري أن الخيار يجب أن يترك للشعب ليحدد ما هو الإسلامي وغير الإسلامي . وما هو المقبول لديه وغير المقبول في أوساطه. ولئن كان الدين والشرع قد سلم بالشرعية العلمية للشعب في مبادئ الإجماع والعرف فكيف لا يسلم بذلك من يزعمون انهم مهتدون بهداه؟ ونعني بالشرعية العلمية للشعب تحكيم العرف المعروف في التحسين والتقبيح والتخطئة والتصحيح . وسوف يسارع البعض للزعم أن التسليم بذلك يعني اعلاء شرعية العامة والدهماء العلمية علي شرعية العلماء والخبراء والفقهاء وليس هذا بصحيح. فعامة الناس أحكم من ذلك بكثير . ولذلك فقد ظلت الأعراف تهتدي بعلوم العلماء وخبرات الخبراء ولكنها تثبت ما تراه صادراً عن ثقة مؤتمن وتراه جالباً للخير والنفع والصلاح . وتترك جانباً ما تراه بخلاف ذلك . وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم في هذا المعني "ما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن" . أن الاسلام الذي تختلف عليه رجال الاحزاب لا تختلف علي جوهرة ولا أصوله ولا محكمات احكامه عامة الناس.  ولذلك فان شرعية الاختيار هي لعامة الناس . والاجماع الذي يُعتد به هو اجماعهم . والعرف الذي يُعمل هو عرفهم . وهم علي شروطهم كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم "إلا شرطاً احل جراماً أو حرم حلالاً".

نواصــــــــــــــــل

نحن والديمقراطية حوار أهل السمع والبصر 4



عندما شق مفهوم "القابلية للاستمرار Sustainability طريقه بقوة في وسط نظريات الحداثة أعتبر فتحاً فكرياً فلسفياً لا نظير له. وما لبثت اللفظة أن تحولت إلى مفهوم راسخ غير قابل للتخطي عند الحديث عن ابتدار خطط أو تنفيذ مشروعات تنموية. ولكن المصطلح أمضى زماناً متطاولاً في إطار المفاهيم الاقتصادية التنموية قبل أن يشق طريقه من التنمية الاقتصادية إلى التنمية السياسية .ومن ثم  أصبح عامل القابلية للإستمرار سواء أطلق عليه البعض Sustainability   أو Durability واحداً من أهم عوامل نجاح المؤسسات السياسية مثلما هو عامل في نجاح المشروعات الاقتصادية. والمصطلح عريق النسب بمفهوم الثقافة ببعديها المادي والمعنوي . وهذا ما يجعل حديثنا موصولاً مع آخره في المقال السابق عندما تحدثنا أن اشكالات الديمقراطية ومشكلاتها في المجتمع السوداني مردها إلى حالة عدم توافق كامل مع الثقافة السائدة.
مفهوم الاستدامة:
        ويُعني بمفهوم الاستدامة مواءمة المشروعات والمؤسسات مع معطيات المجتمع والبيئة . بحيث تكون قادرة على الاستمرار وتلبية احتياجات الحاضر دون التأثير على قدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها من ذات المصادر البيئية والطبيعية والثقافية. ومفهوم الاستدامة لاتصاله بالبيئة والثقافة وجد رواجاً لدى مثقفى العالم الثالث . وجرى تبني المفهوم رسمياً في قمة الأرض بالبرازيل في العام 1992م . ولأن قمة الأرض كان محورها الحفاظ على البيئة والطبيعة فقد كان قميناً بها أن تتبنى مفهوماً للتنمية متصالحاً مع مفاهيم احترام البيئة والطبيعة وعدم إهدارها. ومفهوم الاستدامة متصل بالمفهوم الحيوي Organic concept  ذلك أن الانسان أدرك أن النظم الحيوية قادرة على التكيف مع متغيرات البيئة مع البقاء متنوعة ونامية ومنتجة ومستمرة مع مرور الأوقات. وبمحاكاة النظم الحيوية أدرك الانسان أن أفضل أسلوب للنماء والاستمرار هو محاكاة النظم الحيوية في ارتباطها المتفاعل مع البيئة . وهذا يعني ان حفظ النظم التي ينشئها البشر يمكن يستدعى القدرة الفائقة على التعامل المسئول مع معطيات المحل والوقت. ومهما كان المفهوم تأشيرياً فأنه يجمع بين الاحتياجات المادية والمعنوية للبشر ومعطيات البيئة والطبيعة. ولئن كان ليس من السهل تحديد المفهوم في الجانب الاقتصادي واعتماد مقاييس للاستدامة في نطاق الاقتصاد فإن الأمر يصبح أشد عسراً عندما ينتقل مفهوم الاستدامة أو القابلية للاستمرار إلى نطاق التنمية الاجتماعية والسياسية. ذلك أن التعامل مع البشر لا ينحصر على الناحية الحيوية العضوية وأنما يتعداه إلى نواحٍ نفسية وعقلية أشد تعقيداً . بيد أن ذلك لن يقدح في صحة المفهوم على وجه الإجمال . فان النظم الاجتماعية والسياسية لا تُمنح الاستمرارية إلا بمقدار تلاؤمها مع معطيات الوقت والمحل. والتنمية السياسية لكي تضمن القيام على أسس راسخة لابد لها من مراعاة خصوصية المكان وخصوصية اللحظة التاريخية . وأثار تلك الخصوصيات على معتقدات الانسان وأفكاره وميوله ومزاجه العام.
الديمقراطية القابلة للإستمرار:
        والنظم الديمقراطية هي الأخرى نظم ذات طبيعة إجتماعية وثقافية. ومما لاشك فيه أنه لا يوجد شكل واحد للنظام الديمقراطي إلا على وجه التقريب. فللأمم عبر المسافة والزمان تجارب متعددة ونظم متعددة يمكن أن تُحظى باضفاء صفة الديمقراطية عليها. وقد يحتاج البعض إلى إضافة الديمقراطية إلى لفظة أخرى لاعطائها معنىٍ أكثر تحديداً . مثل الحديث عن الديمقراطية الليبرالية  أو "الديمقراطية الاجتماعية" . وقد أختلفت تجارب البشر الديمقراطية عبر الزمان. ولا يستطيع أحد بغير الاعتساف ان يسوى بين ديمقراطية أثينا وديمقراطية كميونة باريس وديمقراطية وستمنستر .  والمعاني المشتركة شديدة العموم وهي نوع من اشتراك الشعب في حكم نفسه مباشرة أو عبر وكلاء أو وسطاء . ومراعاة مبدأ الأغلبية في ذلك عند الافتقار إلى الإجماع مع ضمان حرية الاختيار عبر نظام للاقتراع متوافق عليه. ولكن هذه المفاهيم تضيق وتتسع وتحوي مباديء أخرى قد يختلف عليها الناس . فالديمقراطية الاجتماعية تخالف الديمقراطية الليبرالية لتركيز الأولى على أولوية حق الجماعة والثانية على أولوية حق الأفراد. وهنالك سجالات عديدة ذات طابع فكري وفلسفي يدور رحاها في ساحة مصطلح الديمقراطية . تتأثر إلى مدىٍ بعيد بالايدولوجيات المختلفة. ولكن كل هذه السجالات تدور على مستوى النظر . وقلما يتركز الانتباه على ما يعتقده الناس العاديون . وما يرونه ناجحاً وناجعاً وما يحسبونه صالحاً . وما يرونه مفسداً فاسداً وغير ملائم . وقد يعيدنا هذا الى خواتيم المقال السابق لدى الحديث عن الثقافة والمرجعية لنؤكد على القول أن تجاهل الواقع الشعبي والثقافة الشعبية والإرادة الشعبية هو أس الداء في عدم قدرة النظم الديمقراطية للإستمرار في الساحة السياسية السودانية. ذلك أن جميع الإيدولوجيات الليبرالية واليسارية والمذهبيات الإسلامية تجاهلت مرجعية الشعب وحقه في الاختيار وقوله الفصل في القرار. وحجة الجميع أنهم أعلم من الناس العاديين باحوالهم واحتياجاتهم . وأنهم هم العين البصيرة التي ترى الفرق بين الحق والباطل والصالح والطالح والمناسب وغير المناسب . وكلهم خطاءون وكلهم مخطئون وقليل منهم التوابون الآوابون.
نواصل،،،