الأربعاء، 30 نوفمبر 2011

الإسلاميون والدولة المدنية (1-3)



        يدور سجال في عدة إتجاهات بعد تسنم الإسلاميين سدة السلطة في تونس وإتجاههم نحوها بخطىٍ ثابتة في المغرب وليبيا ومصر. وهذا السجال يدور بين الإسلاميين وخصومهم حول طبيعة الدولة التي سوف يحكمها الإسلاميون هل هي أسلامية أم مدنية أم هي علمانية. وهنالك سجال آخر يدور بين الإسلاميين أنفسهم بين التيار العملي والتيارات الشكلية حول شرعية قيام دولة مدنية ، وهل يتماهى ذلك مع الدولة الإسلامية التي هي الحلم التاريخي للإسلاميين ؟ أم هل يتوافق معها؟. وفي الحالتين فأن الحوار فيه كثير من الشطط واللغط والبعد عن التحليل البارد للمعطيات والتفكير الهادي في الأمور. وهي حالة تنتج عن حالة التعصب الإيدولوجي أو الحزبي لدى هذا الطرف أو ذاك ، ولكن الحقائق حول الموضوعات ستظل ثابتة لن تجد لها تبديلاً ولا تحويلاً ولا تتأثر بما يحب هؤلاء وما يكره أولئك.
الدولة المدنية ..  لماذا السجال؟
        لم يبدأ احتدام السجال حول ضرورة الدولة المدنية ومعناها وتوافقاتها وتناقضاتها إلا مؤخراً. وذلك بسبب اشتعال الثورات الشعبية في المنطقة العربية. ولكن الحديث عن مدنية الدولة قديم وليس بالجديد، بيد أن بروز المظهر الإسلامي للثورات العربية جاء بالقضية إلى واجهة الحوار السياسي. ذلك أن دولاً غربية كثيرة كانت تخشى وتدفع مجيء الإسلاميين للسلطة وليس ما جرى في تركيا من قبل والجزائر ببعيد ، ولكنها أدركت الآن أنه لا مدفع لأقدار الله  التي التقت بإرادة الشعوب العازمة على تغيير ما بها (لا يغير الله ما بقومٍ حتى يغيٌروا ما بأنفسهم)، والذي يماري ويكابر في الهوية الإسلامية للثورة العربية مخادع لنفسه. وتلك رذيلة لم تبتلي بها الدول الغربية وأن إبتلي بها فئام كثير من أهل الأيدولوجيا في العالمين العربي والإسلامي. سواءً العلمانيون منهم أو الإسلاميون . وباتت دوائر الغرب الرسمية وغير الرسمية تدرك أن عليها التعامل مع واقع يسوده سياسياً الإسلاميون . ولذلك بدأت معركة الأفكار تحتدم. والصراع بين الإسلام وخصومه هو أولاً صراع عقائد وأفكار ثم صراع ثقافات وقيم ثم صراع مصالح ومنافع ثم صراع سلطان وقوة. والغرب يدرك أنه يملك أدوات فاعلة لتحقيق الغلبة في الميدان الرئيس للصراع وهي ميدان العقائد والأفكار. وهذه الأدوات التي لا يكابر عاقل في فاعليتها هي قوة الإعلام القاهرة وقوة المعلومات التي تتدفق كما تتدفق المحيطات الموارة عبر الشبكات و هي القوة الأقل تكلفة والأبعد أثراً في حسم المعركة مع الإسلام والإسلاميين. ولذلك بدأت معركة التشكيك الكبرى في قدرة الإسلاميين على إدارة الدولة الحديثة وكأنهم جاءوا للتو من الكهوف . وأستمر التشكيك في قدرة الفكرة الإسلامية على الاستجابة لتحديات الراهن الإنساني . وهو تشكيك ينصب على الشعوب وعلى الإسلاميين على حدٍ سواء. فالإسلاميون يقال لهم لقد وصلتم للسلطة وبأمكانكم النجاح وفي مكنتكم الإصلاح . وها لديكم قصة نجاح كبرى في تركيا لماذا لا تحتذونها وتركبون مركبها وتتجهون نحو مقصدها. فهي ستقودكم إلى الاستجابة لحاجات شعوبكم وإلى قبول الغرب لكم كما تقبل حكام تركيا من الإسلاميين المعتدلين. وكما قيل من قبل عن تجربة محاضر محمد الإسلامية المعتدلة في ماليزيا. وأما الشعوب فيقال لها أن الإسلاميين متعصبون وأنهم أهل إملاء وتحكم وأنهم ايدولوجيون متطرفون. وأنهم بسبيل انشاء دولة الإسلام السياسي التي لا تتسع إلا لهم. وان ديمقراطيتهم هي مثل ديمقراطية هتلر تعمل لمرة واحدة لايصالهم للحكم ثم يرمى بها إلى مذبلة التاريخ. ليعودوا إلى الدولة الشمولية ذات الفكرة الواحدة والعقيدة الواحدة والوجهة الواحدة. ويضربون لذلك أمثالاً من أقوال مسموعة ومكتوبة لاسلاميين من التيار الشكلي الظاهري الذي يعرف من الإسلام شكوله ومظاهره بأكثر مما يعرف عدالته ورحمته وإكرامه وأعزازه للإنسانية العابدة والجاحدة على حدٍ سواء.
التجربة التركية والدولة المدنية
        ولقد راج كثيراً في الأوقات الأخيرة حديث كثير عن ملاءمة الانموذج التركي الذي أرسى تجربته حزب العدالة والتنمية لواقع المنطقة العربية والإسلامية . وأنه الانموذج الذي يحب أن يحتذيه الإسلاميون حتى أن أحزاباً أغرمت بالاسم نفسه فتسمت به كلياً أو جزئياً. ولا تثريب على أحدٍ ان يُعجبُ بالتجربة التركية. فهي قصة نجاح لا شك فيها ولكن الملامة على من يريد ان يتبع سبيلها حذو القذة بالقذة. وأن يحاكي تجربتها كما يتعلم الطفل رسم الخط أو كتابة الأرقام. فلاشك أن حزب العدالة والتنمية قد أنشأ دولة مدنية ناجحة في تركيا . وأنه نقل البلاد من الهيمنة المطلقة للعسكرية التركية على مقاليد الأمور إلى تحول تدريجي للسلطة إلى أيدى المدنيين. وأنه حقق نحاجات كبرى في مجال تعزيز الحقوق السياسية والمدنية للمواطنين دون تمييز. وأنه يتنقل بخطوات بطيئة ولكنها واثقة لإدماج الأكراد في الوطنية التركية بتعزيز حقوقهم السياسية والمدنية والثقافية. وأنه يعمل بجدية لتكريس حقوق المرأة وتطويرها وحقوق الأقليات وصيانتها. ونجح الحزب في احترام قواعد الممارسة السياسية وفي توسيع صلاحية المواطن بتمكينه من انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة. ولم يتلاعب الحزب بالقواعد السياسية أو القواعد الإنتخابية لتعزيز حظوظه في السلطة. ومن جانب آخر حقق حزب العدالة والتنمية نجاحات كبرى في مجال التنمية والاقتصاد. فتحسنت أوضاع المواطنين وتطورت أحوال الأعمال والإستثمار. وشهدت البلاد نهضة غير مسبوقة منذ العصر الذهبي للعثمانيين. ولاشك أن في تلك الانجازات جميعاً تحقيق لرؤى ولمقاصد أسلامية . وأن أنموذج حزب العدالة والتنمية التركي قد أقام دولة مدنية متطورة في تركيا إلا أنه تبقى أن يُعرب وان يقال بوضوح أنه مهما كانت قوة الإلتزام الإسلامي لرجال مثل أردوغان وقل فان مرجعية الدولة في تركيا ظلت مرجعية علمانية. وأنهم بالفعل فى حزب العدالة والتنمية قد عززوا الدولة المدنية في تركيا ولكنها دولة مدنية بمرجعية علمانية. وتحري العدل يدعونا إلى القول ان المرجعية العلمانية على عهد العدالة والتنمية ليست هي ذات المرجعية العلمانية على عهد من سبقوهم. فلئن كان الاسلام مذاهب ومدارس فأن العلمانية نفسها مذاهب ومدارس . والمدرسة العلمانية التركية والمرجعية العلمانية التركية لم تكن هي علمانية الحياد بازاء الأديان كما هي في بلدان أوربية كثيرة بل كانت هي علمانية العداء للدين، وبخاصة الدين الإسلامي. فلقد كانت العلمانية التركية علمانية متشددة متطرفة متعصبة. وحاولت على عهد كمال اتاتورك أن تنزع الناس من جذورهم العقدية والفكرية والثقافية والاخلاقية. وسعت إلى فرض الانموذج الغربي بما هو موجب فيه وما هو سالب على الناس جميعاً بقوة القانون وبقهر السلطة بل بعسفها وتجاوزها على كل ما هو ديمقراطي أو إنساني. ولكي يتمكن الحكام العلمانيون من قهر شعبهم سعوا إلى وضع قوة العسكرية التركية التي أذاقت أوربا المرارات تحت إمرة حلف الأطلسي. فأصبح الجيش التركي أكبر قوة برية تابعة للحلف الأطلسي. وجرى إعادة بناء الجيش ليكون أداة ردع في يد الأطلسي بازاء حلف وارسو. واداةً بيد القوى الغربية بازاء إي تهديد ناشيء من انبعاث الإسلام من جديد في تركيا التي وصلت جيوشها في يوم من الأيام إلى فينا في قلب أوربا. كل هذا الفضل نعزوه لحزب العدالة والتنمية الذي غيَر علمانية تركيا من علمانية متوحشة إلى علمانية مستأنسة. ونحن نحفظ له الفضل في ذلك ولكننا نريد في منطقتنا العربية دولة مدنية  بمرجعية تشابه هوية شعوبها وأعرافها وميراثها العقدي والفكري والثقافي ، وهذه المرجعية ليست إلا المرجعية الإسلامية. ومهما كانت نجاحات حزب العدالة والتنمية في إقامة دولة مدنية متطورة فأن هذا لن يحبب إلينا العلمانية ولن بجعلها سائغة في عقولنا ولا قلوبنا. ولئن كان مفروضاً على حزب العدالة والتنمية أن يرتضي في مراحل التحول نحو تحقيق الإرادة الشعبية الكاملة القبول بالعلمانية وتطويرها من علمانية معادية إلى علمانية محايدة ثم ربما من بعد إلى علمانية متوافقة مع الهوية الوطنية ثم إلى دولة مدنية بمرجعية أسلامية تقطع مع العلمانية لتصل مع الشعب التركي المسلم الصميم فذلك قدر الأتراك ولكن الأمة العربية قد نهضت لتصنع اقدارها بالعزائم التي لا تلين وبالإستجابة لوطنها ولدينها ولربها الهاديها إلى صراط مستقيم.
ونواصل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق