الأربعاء، 28 ديسمبر 2011

الحكومة الفضلى (3)



تحدثنا في مقال سابق أن مجلس الوزراء الذي هو مصنع السياسات العامة هو مركز ماكينة الحكم .  فهو مبتدر التوجهات وواضع السياسات والتشريعات . ووزراؤه هم القادة السياسيون للخدمة العامة. بيد أن القسم الأكبر من آلة الحكم هو الخدمة العامة بشقيها المدني والعسكري. وقد ذكرنا ونحن في وارد الحديث عن الإصلاح إن الحديث عن إصلاح الخدمة العسكرية وان كان لا يستغني عنه فليس مقامه المناسب صحائف الصحف . والحكمة أن لكل مقام مقال وأن السر في محل السر والجهر في محل الجهر . وأما الجهر المباح فهو الحديث عن اصلاح الخدمة المدنية فهى الصلة الواصلة بين الحاكمين والمحكومين.
الخدمة المدنية..الرؤية والمهمة:-
لابد من رؤية للخدمة المدنية كيف تكون وما هي مهماتها ومقاصدها وغايتها. ولقد تأسست الخدمة المدنية علي عهد الاستعمار علي رؤية ثاقبة وواضحة لما يُراد لها ومن يُراد منها. فقد أراد لها المستعمرون أن تكون محدودة العدد محدودة المهام .  تنهض علي فكرة ضبط المواطن أكثر من فكرة تقديم الخدمات اليه. وهي فكرة مخالفة تماماً لفلسفة الخدمة المدنية في بريطانيا وغيرها من الدول المستعمرة والتي أنشأت الخدمة المدنية فيها لتنظيم حراك المواطنين بما يتيح  حركية أسرع في الانتاج والانجاز . فالاصل هنالك هو شعار (دعه يعمل دعه يمر) واما القاعدة هنا فلا حركة ولا حراك الا باذن ورخصة . فحتى ركوب الحمار يحتاج لرخصة من الجهات المالكة لزمام كل حركة في الحياة العامة. والخدمة المدنية في الغرب إنما جعلت وسيلة لتقديم الخدمات للمواطنين ولكي تكون وسيطاً فاعلاً بين الحكومة والمواطن في ارساء السياسات وإنفاذ التشريعات. والإصلاح الأكبر للخدمة المدنية اليوم سواء علي المستوي الولائي أو الاتحادي هو اعتناق رؤية جديدة للخدمة المدنية . تجعلها أشبة بكاسحة العوائق والصعوبات عن طريق المواطن .ليتمكن من المرور الآمن السريع لتجسيد أفكاره وتحقيق أهدافه. وهذا يعني أنها يجب أن لا تسمن علي حساب هزال دافع الضريبة.  وان لا تستقوي عليه بنفوذها وسلطانها بل أن تستخدم ما أؤتيت من سلطان وتمكين لتسهيل حركته وتسيير مروره وتأمين حقوقه وتحصيل مصالحه. وهذا يعني أول ما يعني أن لا تنشأ الوظائف في الخدمة المدنية لتشغيل العاطلين بل لخدمة المواطنين . فلا تنشأ وظيفة إلا إذا مست الحاجة إلي انشائها مع تحديد مهمتها بكل دقة .  وتأهيل شاغلها للاضطلاع بهذه المهمة. وهذا يعني عدة أشياء:-
أولها الاستيعاب الأمين النزيه للوظائف بلا محاباة ولا محسوبية. والمحسوبية داء عضال يقتات من ثقافة مجتمع تزدهر فيه المجاملة . وإيثار أولي القربى علي أولي الصحبة. والمحسوبية غالبها مُظاهرة للأقرباء وللمعارف . ولكن شقاً منها ليس بالقليل مظاهرة للأولياء السياسيين أو حتى غير السياسيين. ومحاربة المحسوبية تقتضي أن نسميها باسمها الصحيح خيانة لأمانة التولية . فمن ولي فرداً وهو يعلم من هو أفضل منه فقد خان الأمانة واستحق الملامة. ولن يكفي لمحاربة المحسوبية أن نذكر الناس بأنها ظلمٌ بينٌ  ولكن لابد لنا من سن التشريعات . واتخاذ التحوطات التي تسد منافذ المحسوبية فللعالم تجارب يمكننا الاستظهار بها في إطار منظومة شاملة لتعزيز النزاهة  العامة في الحياة العامة.
بناء القدرات لتقديم الخدمات:
       والأمر الثاني الذي يلي الاختيار الأوفق للفرد المناسب للمهمة هو الإعداد الأولي من خلال التعريف النظري بالوظيفة ثم التدريب العملى علي الوظيفة إثناء ممارسة الآخرين لها on the job training  ثم خطة مرسومة لبناء القدرات عبر مراحل الترقي المختلفة. وثالث الأمور هيكل مرن فاعل ومتفاعل قادر علي انجاز المهمات بشكل متسق ومتناسق ومنسجم. رابعاً تدريب أصحاب الوظائف علي التفكير الايجابي المبادر والسلوك المتواضع المتعاطف مع المواطنين. ولقد كان من دأب قدامي كبار الموظفين أن يمهروا رسائلهم لمن يراسلون علوا فوقهم أم أتضعوا، بخادمكم المخلص أو خادمكم المطيع . ولعل ذلك بعض ما يبذل لترويض النفس علي التواضع وإن علا بها الموضع أو الموقع . خامساً من المعلوم أن جزءاً من وظيفة الخدمة المدنية هي وظيفة تنظيمية regulative .  ولذلك يتوجب تدريب خُدام الشعب علي أن مهمتهم التنظيمية هي مثل مهمة رجل المرور لتسريع حركة المرور لا إعاقتها كما تجب المحاسبة الصارمة لكل سلوك يؤدي إلي تعقيد أو تأخير معاملات المواطن.
       ونحن في السودان اليوم نعيش واقع حكومة فيدرالية اتحادية . ما يعني أن غالب الخدمات التي تقدم مباشرة  للشعب صارت من مهام الخدمة المدنية في الولايات.  ولذلك فان الحديث عن اصلاح الخدمة المدنية يعني اكثر ما يعني اصلاحها في الولايات ولا يستثني هذا الحكومة الاتحادية . والخدمة الاتحادية والتي ضمرت بالحكم الاتحادي يتوجب عليها ان تضمر اكثر بالتفسح لحكومات الولايات وبتحويل كثير من المهمات للقطاع الخاص وللمجتمع المدني . وتحويل الحكومة الي مهمة التنظيم ليكون جوهر العمل الحكومي الاتحادي . فتصبح الحكومة منظماً للنشاط لا مُشغلاً له Regulator not operator . ولا شك أن الاتجاه العام يمضي الي ذلك المسار ولكنه لا يمضى بغير مقاومة تتأبي علي التكيف مع الرؤي الجديدة والمتغيرات المتبدلة.
       واصلاح الخدمة المدنية تعني المزيد من الحرية والكفاءة المؤسسية . بيد انه يعني في ذات الوقت المزيد من التنسيق والتفاعل و تكامل الأدوار في خدمة رؤية استراتيجية تبدو واضحة للجميع . ويبدو لكل مؤسسة دورها في انفاذها . ولعله من حسن الطالع ان فرصة سانحة عظيمة تتاح الآن لانجاز تفاعلية سريعة . وتحقيق الاتساق والتنسيق بقدر لم يكن متصوراً  من قبل. وذلك من خلال اغتنام فرصة تكنولوجيا المعلومات . والتي تطورت الآن الي مرحلة الادارة بالمعرفة . حيث يحصد الناس ثمرة ذلك سرعة في الانجاز وكفاءة في الاداء . واقتصاداً في المدخلات وتعظيماً للفوائد. ومما يفعم النفس بالسعادة ان الاستظهار بتطبيقات ما عاد يعرف اليوم بالحكومة الاليكترونية e-government  أصبح في متناول الجميع بغير مال كثير ولا جهد جهيد . ثم أن هذه التطبيقات يمكن ان تتنزل علي الأداء الحكومي تدريجياً في إطار خطة زمنية معلومة لأكمال تطبيقاتها بقدر الحاجة اليها. ولقد دار حديث كثير عن الحكومة الاليكترونية . وسنواصل في مقال قادم حديث مفصل عن الحكومة الاليكترونية وإمكانات انزال تطبيقاتها علي كثير من معاملات الحكومة ليكون التحرك نحو المقاصد أسرع وأنجاز المعاملات علي المواطنين أسهل أيسر.

نواصـــــــــــــــــــــــــــل،،،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق