تحدثنا فى المقال السابق عن اصلاح الجسم الأكبر للحكومة والذي هو الخدمة المدنية وذكرنا فى ذلكم السياق أهمية الارتباط الوثيق بالمواطن . وتبني شعار (أن المواطن غالباً على حق ) مع مراعاة تصغير الهيكل وترشيد التكلفة . ومراعاة العلانية والشفافية في اعمال الحكومة واستهداف أعلي مراتب الجودة . وتحقيق أعلى درجات التنسيق بين المؤسسات الحكومية في سعيها لخدمة المواطن الذي يتوجب عليالحكومة أن تسعي إليه لا أن يسعي إليها. بيد أننا أسلفنا القول بأن فرصة هائلة سانحة تلوح لتحقيق كل هذه الأهداف بسبب الثورة التقنية في مجال المعلومات . وكيف جعلت هذه الثورة اصلاح الحكومة ليس بالامكان فحسب وانما بتكلفة زهيدة تقل كثيراً عن التكلفات الراهنة التي تبهظ دافع الضريبة.
الحكومة الالكترونية.. ما هي:-
أقصر تعريف للحكومة الاليكترونية أنها هي الحكومة الافتراضية التي تهدف الي تحقيق تواصل وثيق مع المواطنين . وتهدف الي تقديم الخدمات الحكومية لهم علي اختلافها عبر الوسائط الاليكترونية والأدوات التقنية . وأهمها شبكة الانترنت ووسائط الاتصالات المختلفة وأهمها الهواتف المتنقلة . وهي بهذا المعني ليست بديلاً للحكومة الحقيقية ولكنها (انترفيس) وجه آخر للحكومة الحقيقية . تنوب عنها في تحقيق الاتصال وتقديم الخدمات بكفاءة ليس لها نظير في الحكومة العادية. وأهم اهدافها هي تحقيق تواصل كثيف وفاعل مع المواطنين لتقديم المعلومات لهم . وبناء شراكة فاعلة معهم في ادارة الشأن العام وتعزيز الديمقراطية. وهذه الشراكة سيكون نفعها الأكبر القضاء علي الداء الأخطر للخدمة المدنية وهو الفساد . فأن الضؤ الباهر الناجم عن توفر المعلومات لا يمُكن اللصوص من أن يعسوا في ظلمات غياب الشفافية ليسرقوا مال الشعب. وكما أن الحكومة الالكترونية حصانة ضد الفساد فهي ايضاً وسيلة لتقليل النفقات ورفع التكلفة الباهظة عن كاهل المواطنين. فمن المعلوم أن مكأفآت ورواتب العاملين بالخدمة العامة تبلغ 70% من مصروفات الدولة . والحكومة الالكترونية بامكانها قلب هذه المعادلة لتذهب 30% للرواتب والمخصصات وتذهب 70 % للخدمات التي من أجلها أستُحدثت الوظائف والمناصب. وكما أن خدمات الحكومة الالكترونية زهيدة فأنها غاية في الجودة . وهي لا تعرف التمييز بين طالبى الخدمات ولا تعرف المجاملة ولا المحسوبية . فالجميع يضغط علي ذات الأزرار ليتحصل على نفس النتيجة. وأهم ما يكسبه الناس منها ليس المال بل هو الزمن . وما المال إلا ثمرة الكد في الزمن . واكبر تضييع للمال هو تضييع الزمن . والحكومة الالكترونية ستعيد المعادلة الصحيحة لتجعل الحكومة خادماً يسعي للمواطن بخلاف الحال الراهن حيث يسعي المواطن لينال حقه فلا يناله إلا بالجهد الجهيد. وريما ناقصاً غير كامل وربما عاد بالخيبة والندم. كذلك فان الحكومة الالكترونية سوف تدعم النشاط الاقتصادي والاستثماري كما لم يحدث من قبل . وذلك عبر تسريع الاتصال وتبسيط الإجراء وإبعاد الوسطاء . لتمضي الدورة الاقتصادية في سلاسة وسهولة ويسر. وتموت اثناء ذلك كثير من ألوان الرشوة والعمولات والفوائد التي لا تدفع إلا من مال الشعب بصورة غير مباشرة . لأن كل ذلك يعود ليصبح جزءاً من تكلفة السلع والخدمات. وتوفر المعلومات بصورة هائلة عبر وسائط الحكومة الاليكترونية سيتيح فرصاً واسعة لجذب الاستثمارات وتطوير السياحة . ورفع الكفاءة المؤسسية للأداء وتحقيق التنسيق الكامل بين مؤسسات الحكومة . فلا يستطيع متهرب من الضريبة أن يفلت منها بالتحايل أو الرشوة . ولا يستطيع أحد أن يحُول مجري الرسم الحكومي من العام إلي الخاص.
الحكومة الالكترونية..الموقف الآن:-
ظل الحديث يدور ويتصاعد عن الحكومة الالكترونية في السودان منذ نحو عقد من الزمان . ولم يأت العمل بمثل قوة القول . ولم يتسارع المضى فى هذا السبيل إلا العام الماضي في ولاية الدكتور العالم يحى في وزارة الاتصالات والمعلوماتية . ونرجو ان لا يكون التغيير الوزاري سبباً في إبطاء تلك الجهود. بيد أن الحديث المبكر عن الحكومة الالكترونية لم يجُدنا كثيراً . فقد سبقت الي تطبيقاتها حتي الآن ثلاث حكومات عربية . وتهرع في ذات السبل ثلاث حكومات عربية اخري . والسودان رغم ما يتميز به من شبكة اتصالات وبنية تحتية تفوق غالب تلك الحكومات العربية لا يزال متثاقلاً في البدء في التطبيق العملي للحكومة الالكترونية. ولئن كانت الحكومة متمثلة في وزارة الاتصالات قد انجزت الخطة الموجهة للحكومة الالكترونية وبدأت في استكمال بعض البنيات الضرورية لجعل تطبيقاتها ممكنة وآمنة فتلك بداية جيدة . بيد أن الجهد التشريعي التنظيمي Regulative effort لايزال بطئياً وخاصة في جوانب تحقيق الأمن الاليكتروني . والقواعد التنظيمية المالية التي يتوجب ان يضطلع بتشريعها بنك السودان ووزارة المالية. الأعلام هو الآخر متكاسل ومتثاقل . وربما غير عالم ولا أقول (جاهل) بمغزي وفوائد تطبيقات الحكومة الالكترونية. وللأعلام دور اكبر من دور التعريف بالمشروع بل لابد من استخدام الوسائط الاعلامية لتعريف الشعب بكيفية التعامل مع الوسائط الالكترونية. وقد نحتاج الي حملة مشابهة للحملة الأعلامية التي صاحبت اجراء الانتخابات واجراء التعداد العام لتوعية المواطنين . ورفع قدراتهم في التعامل مع الوسائط التقنية.
الهاتف الذكي للمواطن الذكي:-
أمتداداً للطالع الحسن الذي يلوح لتطوير الحكومة الكلاسيكية إلي حكومة اليكترونية فان التطوير الكبير في الهواتف المتنقلة . وبخاصة التطور السريع والانتشار المذهل للهواتف المتنقلة الذكية smart phone يؤذن بتحول كبير يجعل تطبيق الحكومة الالكترونية اكبر وانجع مما يؤملة الخبراء. فقدرة المواطنين ارتفعت كثيراً في التعامل مع الهواتف المتنقلة بصورة عامة والهواتف الذكية المشتملة علي خدمة الانترنت. وتطورت في بلاد مجاورة خدمات مذهلة عبر هذه الهواتف واشهرها كينيا في استخدام الهواتف للمعاملات البنكية الالكترونية عبر نظام M-PESA أي (النقد المتنقل)Mobile Money . فقد أدخلت هذه الخدمة الملايين من الكينيين في مجال التعامل البنكي . وارتفعت نسبة المتعاملين مع البنوك من 15% وهي ذات النسبة الراهنة في السودان الي اكثر من 70% من السكان الراشدين في اقل من ثلاث سنوات . وأغرى النجاح الباهر للتوسع في ادخال خدمات الصحة الالكترونية E-health وخدمة التعليم الالكترونية وغيرها في كينيا . واهم الطرفيات المستخدمة في هذا التوسع هى الهواتف المتنقلة. والاحصاءات تدل علي أن انتشار الهاتف المتنقل في السودان مقارب جداً لمستوي الانتشار في كينيا . كما ان البنية التحتية للاتصالات في السودان افضل والسودان بأتي متقدماً في المرتية في استخدام الانترنت علي كينيا . كما انه يأتى متقدماً عليها اقتصادياً بمعايير الناتج الكلي الاجمالي وحصة المواطن في هذا الناتج الكلي الاجمالي. وكذلك فان مستويات التعليم الأولى والعالي افضل في السودان . وكل هذه ميزات تجعل نجاح السودان في ما نجحت فيه كينا مرجحاً. الا ان التجربة الكينية أتسمت بالشجاعة في اتخاذ القرار وانفاذه . والسرعة في انجاز التشريعات والقواعد الضابطة للمعاملات. وأما السودان فلا يزال يرفع قدماً في الهواء ولا يضعها علي الارض. ولا تزال المؤسسات التي يتوجب عليها المسارعة في انجاز التشريعات تتلكأ في هذا السبيل. ولكي لا نغمط أهل الحق حقهم فقد تسارعت في العام الماضي خطي وزارة الاتصالات لتحريك أمر الحكومة الاليكترونية . ولكن الامر أكبر من ذلك . ويقتضي رعاية رئاسية متصلة لأننا وان كنا نتحدث عن الجمهورية الثانية بوصفها الحكومة الأفضل فان الحكومة الفضلي لن تتحقق الا بمزيد من الكفاءة والشفافية والتفاعل مع المواطن . واقصر السبيل الي تحقيق ذلك هي الحكومة التي تدخل مع كل مواطن الي بيته بل الي جيبه في هاتفه المحمول.
إنتهـــــــــــــــــــــــــــــــــي،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق