الأربعاء، 18 يناير 2012

الإسلاميون والمسألة الإجتماعية (2)


                د. أمين حسن عمر
Aminhassanomer.blogsprt.com

          تحدثنا في المقال السابق عن تركيز الحركة الإسلامية في السودان على التغيير السياسي والقانوني وضعف تركيزها على التغيير الإجتماعي والثقافي . ولا يعني ذلك أن جهوداً لم تبذل في هذين الصعيدين، ولكن تلك الجهود قصرت عن المأمول ولم تتموضع على رأس أولويات الحركة الإسلامية. فقد كان تنظيم شعيرة الزكاة  خطوة واسعة باتجاه معالجة قضية الفقر . ولكنها مهما اتسعت فان مشوار مكافحة الفقر يمتد طويلاً على الطريق . كذلك فأن الجهود الذي بُذلت لتعميم التعليم الأساس وتوسيع التعليم العالي جميعها خطوات في تعزيز قدرة الفرد على الكدح وكسب العيش . وأن كان التعليم نفسه سبباً في سحب قطاعات واسعة من حقول الانتاج الريفي إلى المدن التي تضيق فيها فرص العمل كثيراً . وكان توسيع الخدمات الطبية والسعي لتعميم التأمين الصحي لأعانة الفقراء على تكاليف العلاج خطوات أخرى مهمة . ولاشك أن مقارنة ما أنجزته الانقاذ إلى جهود من سبقها يضعها في المقدمة ولكن مقارنة ذلك بما كان بالإمكان إنجازه يجعل الكسب مهما أمتلأت به الأعين ضئيلاً ضيئلاً.
الإسلاميون وشعار العدالة الإجتماعية
            كان شعار العدالة الإجتماعية أعظم شعارات الحركة الإسلامية . لأنه أكثر تلك الشعارات التي رفعتها الحركة الإسلامية تجاوباً مع احتياجات الإنسان. ولئن كانت الحركة الإجتماعية الأوربيةSocialist movement  قد رفعت أعظم الأفكار التي أنتشرت في القرنين التاسع عشر والعشرين . وكان لها أثارها المشهودة في كافة أنحاء العالم فإن تلك الفكرة العظيمة قد ذكرت الإسلاميين بماضي المسلمين التليد في التضامن والتكافل الإجتماعي . عبر وسائل ومؤسسات ظلت فاعلة في المجمعات الإسلامية قروناً طويلة مثل مؤسسات الزكاة والوقف والعاقلة كما أثارت في النفوس القيم الراسخة في العقيدة الإسلامية مثل قيم وصل الرحم والاستيصاء بالجار وأكرام الضيف وأبن السبيل. وعندما رفع الاشتراكيون العرب شعار الاشتراكية ناهضهم سيد قطب والسباعي وبابكر كرار بشعارات العدالة الإجتماعية . بل لم يستنكف البعض مثل السباعي وكرار من إستخدام مصطلح اشتراكية لوصف منهج العدالة الإجتماعية في الإسلام . ولكنهم نزهوه عن الالحاد و العلمانية والفلسفة المادية. واليوم ما أشد حاجتنا إلى إحياء شعار العدالة الإجتماعية بقوة ، شعاراً نرفعه في وجه الفقر والمسغبة . وبخاصة ونحن نشهد ارتحالاً هائلاً من الريف إلى المدن . وضيقاً في فرص العمل في الحضر والمدائن التي يتدفق إليها المهاجرون الريفيون مما يعني اتساعاً في دائرة الفقر الحضري.
            ولاشك أن دائرة الفقر الحقيقي تضيق باحراز نسب عالية من النمو . والأرقام تقول أنه قبل انفصال جنوب السودان كانت دائرة الفقر المطلق في السودان 40% وهي نسبة عالية بالمقاييس العالمية . ولكن الفقر الحضري قد تفوق نسبته هذه النسبة . لأن الناس يرتحلون من الريف حيث فرص كسب العيش إلى المدينة حيث تضيق تلك الفرص . وتتسع التطلعات التي لا تطولها آيادي المعدمين الفقراء.
نحو استراتيجية شاملة لمكافحة الفقر
            لئن كان الفقر هو أخطر مهددات الإستقرار الإجتماعي وأكبر معوقات النمو الاقتصادي فلابد من إستراتيجية شاملة لمكافحة الفقر. وقد التفتت الحكومة مؤخراً  إلى أهمية توسيع دائرة الإئتمان ليشمل الفقراء الذين لا يكادون يجدون نصيباً من التمويل البنكي للاستثمار أو الاستهلاك بينما يفوز أغنى الأغنياء بالتمويل حتى لرحلاتهم الخارجية.
            وإهتمام الحكومة بالتمويل الأصغر  جاء خطوة موفقة بذلك الاتجاه . بيد أن التمويل الأصغر لا يزال يواجه عقبات كثيرة لابد من أن تزال عن طريقه .  كما أن الجهاز المصرفي يتطلب إصلاحاً جذرياً ليتلاءم مع مقتضيات التوجه الجديد نحو إدخال الفقراء إلى مظلة الائتمان والتمويل المصرفي. ومهما يكن التوجه نحو التمويل الأصغر موفقاً فأنه لن يؤتي أكله إلا في إطار إستراتيجية شاملة لمكافحة الفقر. ولذلك فان الحاجة ماسة إلى التشاور والتفاكر ثم التوافق حول الإستراتيجية الشاملة لمكافحة الفقر. ولاشك أن في تجارب العالم مندوحة عن التنظير المجرد أو الإجتهادات المتخيلة . فهنالك تجارب في العالم لم يصادفها التوفيق الكبير علينا أن نعتبر بها . وهنالك تجارب ناجحة صادفت توفيقاً مذهلاً علينا أن نطلع عليها وان نتأسى بها.
التجربة البرازيلية في مواجهة الفقر
            والتجربة البرازيلية في مواجهة الفقر أدهشت العالم وأجبرت المتشككين جميعاً على الإعتراف بانجازاتها المذهلة . ففي الفترة بين 2003 – 2009م نما دخل من يصنفون فقراء في البرازيل سبعة أضعاف نمو دخل من يصنفون أغنياء في ذلك البلد. وفي هذه الفترة (ستة سنوات فقط) انخفضت نسبة الفقر في البرازيل من 22% إلى 7% . ويتوقع الخبراء ان تكون قد انخفضت الآن (2012) إلى نسبة 4% وهي نسبة الفقر في أوربا. هذا الإنجاز الهائل وراءه ايمان رجل نشأ في وسط أفقر أحياء ريودي جانيرو  وأدرك بأن الفقر هو العدو الأكبر هو الشيطان الأكبر . ذلك الرجل هو لولا دي سيلفا والذي شهدت فترة حكومته (2003 – 2011م) هذه الإنجازات الإجتماعية والاقتصادية الكبرى. ولم يكن نجاح سياسات مكافحة الفقر في البرازيل نجاحاً إجتماعياً فحسب بل أنه كان السبب الرئيس في إدخال غالبية البرازيليين في دائرة الإنتاج الفاعل . مما تمظهرت آثاره على الاقتصاد الوطني لتكون البرازيل أكبر تجربة للنجاح الاقتصادي فى العقود الأخيرة .  فقد تحولت من أكبر مدين في العالم إلى أسرع الأقطار نمواً في العالم. ولذلك فان ثمرة البرنامج الاجتماعي الناجع والناجح ليس التراضي الإجتماعي فحسب ، بل والنهضة الإقتصادية الشاملة. وللبرازيل تجارب يمكن ان تهديها لجميع العالم في هذا الصدد وعلى رأسها البرنامج الذي يسمى (بولسا فاميلا) (منحة العائلة) . وهي منحة مجانية توفر مواردهامن ضرائب على حزمة من السلع الكمالية التي يستخدمها الأغنياء لتذهب منحاً للأسر الفقيرة. وهي منحة مشروطة بشروط المقصود منها تعزيز التنمية الإجتماعية مثل شرط تعليم الأبناء والمراجعة الصحية الدورية . والأسرة التي تثبت أنها ترسل الأبناء إلى المدارس وتحرص على التحصين الصحي والمراجعة الدورية الصحية تستحق المنحة. وهذه المنحة غير المستردة إلى جانب مشروع التمويل الأصغر هما الذين أخرجا ملايين الأسر من دائرة الفقر ونقلاهم من الطبقة الدنيا إلى الطبقة الوسطى المنتجة. ومشروع التمويل الأصغر البرازيلي هو الآخر من المشروعات الناجحة وهو يسمى Credi Amigo  ( الرفيق الدائن)  أو نحو ذلك . وهذا الرفيق يسعى للفقراء ليقدم لهم التمويل وليعينهم على دراسة المشروعات الصغيرة الناجحة. وهو  إذ يقدم التمويل لا يطلب ضمانة مالية أو عينية وأنما جماعة من المستفيدين متضامنين يضمن بعضهم بعضاً. وقد أنبأني محافظ بنك السودان المركزي أنهم قد نقلوا بالفعل هذه التجربة لتطبيقها في السودان . وهي أشبه بنظام العاقلة أو الكافلة . وهي جماعة أو قبيلة أو فئة تتضامن لدفع الدية (في حالة الديات) أو لمساعدة مريض أو دفع غرامة في حالة التأمين التكافلي . والفكرة هي نقل فكرة التكافل لتصبح ضماناً لإسترداد التمويل في عمليات التمويل الأصغر . وهذه الفكرة أحرزت نجاحاً فائقاً عند تطبيقها في التمويل الأصغر في البرازيل. والمشروع الثالث كبير النجاح هو مشروع التأمين الصحي ، والذي أحرز نجاحاً باهراً في البرازيل لأنها جعلته مشروعاً مختلطاً . فهنالك تأمين صحي تشرف عليه الدولة وغالب هذا يؤهب للفقراء . وتأمين صحي يشرف عليه القطاع الخاص والمؤسسات الاقتصادية ويعمل على أسس أقتصادية وهو في الغالب لتأمين الأغنياء والطبقة الوسطى والعليا. والدولة تتدخل لدعم المؤسسات العلاجية من حيث البنيات التحتية ولكن التأمين الصحي يتكفل بسائر عمليات التسيير لتلك المؤسسات . كما يضمن توفير العلاج والدواء للعملاء من الفقراء والأغنياء على حدٍ سواء.
            لاشك أن في السودان مشروعات قد بدأت في كل هذه المجالات ولكننا نحتاج إلى إرادة سياسية أكبر للانحياز أكثر للفقراء . ولإعادة بناء استراتيجية التنمية الاقتصادية في البلاد لتتواءم مع الإستراتيجية الكبرى لمكافحة الفقر حتى نضطره إلى أضيق الطريق . ولو أمكننا ان نقتله لقتلناه . فقد قال عمر رضي الله عنه لو كان الفقر رجلاً لقتلته. غير أن الفقر ليس رجلاً ولكنه ناتج من عواقب أفعال الرجال . ولو أنا قتلنا الشح والأنانية لكان لنا على الفقر نصرُ مبين (ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون).
                                                                               نواصل



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق