الأربعاء، 30 مايو 2012

تعويم الدولار.. ترويض الفئة العاصية



قرار بنك السودان المركزى بتعويم سعر الصرف للجنيه السوداني يجيء خطوة جريئة  . ولكنها ليست الأولى للتعامل بفاعلية مع الوضع المتذبذب لقيمة الجنيه السوداني وقيمة السلع المعروضة في الأسواق تبعاً لذلك. وتعويم سعر الصرف Flotation يعني ترك سعر العمله بالنسبة للعملات الأخرى يتحدد وفقاً لقوى العرض والطلب في السوق النقدية . والتي شهدت مؤخراً زلزالاً وردات فعل وتوابع عديدة.
تعويم سعر الصرف وتحولات العرض والطلب:
تعويم سعر الصرف المعمول به في السودان هو (التعويم المدار) . وهو يختلف عن التعويم المطلق لسعر الصرف .  فالتعويم المطلق هو ترك السعر يتغير ويتجدد بحسب قوى السوق ودون أي تدخل من البنك المركزي . وقد يقتصر تدخل البنك المركزي على التأثير في سرعة تغير سعر الصرف دون اللجوء للحد من ذلك التغيير . وهو الأمر المعمول به في منطقة اليورو وفي الدولار الأمريكي والين اليابانى والجنيه الاسترلينى والفرنك السويسرى . وهذه السياسة تقتضي قدرة واسعة لقوى الانتاج في ذلك البلد . كما تقتضي سرعة وقدرة وكفاءة الأجهزة المالية . ولكن في بلد مثل السودان يعتمد بنسبة 80% على الاستيراد في تلبية احتياجات الانتاج والاستهلاك فإن التعويم المطلق للجنيه السوداني قد يخرج به عن السيطرة تماماً . لأن قوى الانتاج الضعيفة واحتياطات النقد الأجنبي الشحيحة لا تمكنان البنك المركزي من الجلوس بإرتياح في مقعد القيادة . والسيطرة بالتالى على السوق النقدية التي قد يكون في مُكنة المضاربين والمحتكرين التحكم بها أكثر من قدرة السلطات النقدية بالبلاد . ولذلك فقد كانت السياسة المتبعة هي تعويم السعر المدار أى تلك السياسة التي تسمح للبنك المركزي بالتدخل استجابة للمؤشرات . وتلك المؤشرات تتمثل في الفجوة بين العرض والطلب . ومستويات السعر العاجل والآجل والتطورات الآنية في السوق . مثل عطلات المغتربين أو مواسم الطلب العالي مثل موسم العمرة في رمضان وموسم الحج وما إلى ذلك . ويتبع هذه السياسة ثلة من البلدان ذات العملة المرتبطة بالدولار أو اليورو أو ثلة من العملات. والسودان الذي اعتمد رسمياً ربط الجنيه باليورو لم يستطع أن يفرض ذلك على السوق النقدية بالبلاد . حيث يتعامل أكثرها بالدولار فتحتسب قيمة الجنيه السوداني به .  وعلى الرغم من ذلك فقد كانت سياسة التحرير المدار سياسة ناجحة وناجعة . ضمنت للعملة الوطنية استقراراً طويلاً أمتد لأكثر من عقد كامل . وقد اتبعت هذه السياسة قبل تصدير البترول وأثبت نجاحها في تحقيق الاستقرار للجنيه السوداني . فما الذي جرى وسبب العواصف الأخيرة التي أضرت إضراراً بليغاً بهذا الاستقرار؟
صدمة الانفصال:
الاقتصاد المستقر قد يتأثر بصدمات تأتيه من الخارج فتؤثر فيه تأثيراً كبيراً. وما جرى للجنيه السوداني كان أمراً من هذا القبيل . فعلى الرغم من عدم تأثر الجنيه السوداني بصدمة الأزمة الاقتصادية العالمية في العام 2009م والتي أضرت بأسعار البترول وأرتفعت أسعار السلع المستوردة فقد استطاع الجنية السوداني آنذاك أن يستوعب صدمة الأزمة الاقتصادية العالمية . و لا تزال آثارها تتوالى علي جميع الدول في العالم وبخاصة الدول في العالم الثالث التى تعتمد علي الاستيراد لتوفير احتياجاتها الانتاجية والاستهلاكية. بيد أن صدمة الأزمة العالمية جاءت بعدها صدمة هائلة للاقتصاد.  تمثلت في انفصال الجنوب واقتطاع 75% من انتاج البلاد وصادرها من البترول من الموازنة العامة وكذلك من عائد الصادر . فاختل بذلك الميزان الداخلى والميزان الخارجى بدرجات متفاوتة .  بيد أن الأخطر من ذلك كانت هى الصدمة النفسية التي اقترنت بالانفصال . وتوقع الجمهور والسوق على وجه الخصوص لتقلبات واختلالات كبرى في الاقتصاد . مما أدى إلى حالة تشبه التوقف التام عن عرض النقود في السوق النقدية.  وبات من يملك قدراً يسيراً أو كبيراً من العملات الأجنبية في حالة ترقب . وحالة انقباض عن التعامل في تلك السوق انتظاراً لتوازنها من جديد. ثم تعرضت السوق لحالة من الاستنزاف للموارد المحدودة التي ظل بنك السوداني المركزي يرفد بها المصارف والصرافات . وتمثل ذلك الاستنزاف في محاولة حكومة جنوب السودان استبدال ما لديها من عملة سودانية دفعة واحدة بالعملات الحرة . وطرح عمله جديدة لجنوب السودان وذلك خلافاً لتعهدها بأن لا تلجأ إلى هذا الأسلوب.
بيد أن بنك السودان المركزي الذي لم يكن ليثق في تعهدات حكومة الجنوب كان قد احتاط لمثل هذه الحالة بتجهيز عملة جديدة .  فقام بطرح الأوراق المالية الكبرى منها من السوق وسحب الأوراق القديمة .  لحرمان حكومة جنوب السودان من توجيه ضربة قاصمة للسوق النقدية من خلال سحب ما يربو على (700) مليون دولار دفعة واحدة . بيد أن حكومة الجنوب وبعض المضاربين المتعاملين معها قد أفلحوا في تهريب نسبة 15% حسب تقدير البعض . وذلك من خلال تهريب بعض الأوراق الكبيرة وكل الأوراق والعملات الصغيرة للسودان .  وقد شكل هذا العمل رغم التحوط له قدراً من الضغط على سوق العملات في السودان في وقت كانت تعاني فيه من تراجع العرض على نحو مريع .  ثم أن وفاء حكومة السودان بدفع تعويضات الجنوبيين العاملين بالسودان والسماح لهم بتحويل هذه الأموال إلى عملات أجنبية عند المغادرة أدى هو الآخر إلى مزيد من الضغط على المعروض المحدود. وأدى جفاف السوق النسبى إلى تهافت المحتاجين للعملات الأجنبية لأغراض الاستيراد أو العلاج أو التعليم أو حتى العطلات.
عودة السوق السوداء:
وأدى هذا التهافت الذي ترافق مع بروز أباطرة السوق السوداء مرة أخرى إلى شبه تجفيف كامل للسوق . عجز معه البنك المركزي على التعويض الذي هو السبيل الوحيد لمناهضة السوق السوداء. ولما أتسع الرتق على الراقع كان لابد من سياسة جريئة مسنودة بترتيبات محسوبة لإعادة السيطرة على سعر الصرف . ومناهضة وترويض الفئة الباغية التي تضارب في العملات للاسترباح ولو على حساب استقرار الاقتصاد الوطني وعلي حساب حصول المواطن البسيط على السلع الضرورية بأسعار معقولة . وكان لابد من حزمة سياسات مالية ونقدية وأمنية في آن واحد . وهي الحزمة التي اعتُمدت في الوقت الراهن.  فوزارة المالية عليها اتباع سياسة مالية تقشفية مع أحلال الواردات وزيادة الصادرات . وتشجيع الاستثمار ذا العائد السريع . وبنك السودان عليه أن يحصل على موارد تمكنه من إعادة القبض على زمام المبادرة . وذلك بتوفير وسادة من النقد الأجنبى تمكنه من التدخل وإدارة سعر الصرف بعد تعويمه . وذلك للنزول به تدرجاً نحو الوضع الاعتيادي الذي يعود فيه عرض العملات الأجنبية طبيعياً . ويتوقف إحجام من البائعين الصغار أو الكبار . ويعود فيه الطلب إلى الوضع الاعتيادي الذي يتمثل في الاحتياجات الحقيقية (غير الاحتكارية) للعملات الأجنبية.
وهنالك تفاؤل عظيم بنجاح هذه السياسة (سياسة التعويم المدار) . خاصة وقد نجح بنك السودان في الحصول على موارد تكاد تسد النقص المتوقع لهذا العام ما يعنى إعادة القدرة إليه لامتلاك زمام المبادرة.
كما أن تباعد شبح الحرب بين السودان وجنوب السودان وبدء المفاوضات الأمنية التي يرجى أن تفضى إلى فتح ملفات النفط والملفات الأخرى يبعث بروح من التفاؤل للأسواق . تحتاجها الاسواق لإعادة الطمأنينة والتوازن النفسي إليها. وإذا أدى بدء المفاوضات ونجاحها إلى نتائج فإن بعض تلك النتائج ستكون حصول السودان على المزيد من موارد النقد الأجنبي . سواء من خلال ما تنتهى إليه المفاوضات أو مساعدات دولية كانت موعودة فى مؤتمر اسطنبول والذي جرى تأجيله بسبب إعتكار المناخ من جديد بين السودان وجنوب السودان . وبالتالي اعتكر المناخ بين السودان والدول الراعية لتلك الدولة الوليدة ونجاح المفاوضات سيفضى باذن الله لانقشاع السحب السوداء فى سماء الاقتصاد.  وقد لا يؤدي ذلك إلى حماسة تلك الدول لمساعدة السودان ولكنه سيؤدى إلى سحب الفيتو الذي ترفعه في وجوه الآخرين كيلا يساعدوا السودان . وفى كل الأحوال فإن فى السودان حكومة قادرة على قراءة الوقائع أياً ما تكون . وقادرة على تسخير مواردها وطاقتها للتعامل مع ذلك الواقع أياً ما كان.  وهي تعتمد بعد ثقتها وإعتدادها بنفسها على الله الرزاق ذي القوة المتين.

الحركة الإسلامية .. سؤالات وإجابات (9)


                د. أمين حسن عمر
aminhassanomer.blogspot.com

        تُوصف الحركة الإسلامية بأنها حركة أصولية تجديدية فماذا يقصد بذلك؟ وهل أصوليتها هي ذات الأصولية التي تصف بها الدوائر الغربية الحركات الإسلامية؟ وماذا يعني كونها تجديدية وما علاقة ذلك بصفة الأصولية؟ كثًر إستخدام مصطلح "أصولية" في وسائل الاعلام العربية نقلاً معرباً عن مصطلح Fundamentalism   الذي تصف به الدوائر الاعلامية الغربية الحركات الإسلامية في مشرق أوروبا وأمريكا. بيد أن الأصولية التي تُوصف بها الحركات الإسلامية ويُوصف بها الإسلام أحياناً في الغرب لا علاقة لها بالأصولية التي نؤمىء إليها. فالغرب يسقط معطيات ذاكرته عن الأصولية المسيحية على الإسلام والحركات الإسلامية. وما أبعد الشُقة بين الإسلام وبين تلك الأصولية . فهي مذهب بروتستانتي ظهر في القرن التاسع عشر بالولايات المتحدة الأمريكية (1880 – 1890) . وهو يقول بحرفية نصوص الكتاب المقدس . وأنها غير قابلة للتأويل وأن أحكامه غير قابلة للتأمل أو المساءلة الفكرية. وهو مذهب يرفض التسامح مع المغايرة والاختلاف والفكري. كما يفسر التاريخ تفسيراً يجعل تكرار أنساقه حتمياً . ولذلك فقد أصبحت تلك الحركة الأصولية من أقوى حلفاء الصهيونية . لأنها ترى حسب رؤيتها للتاريخ أن عودة المسيح مرتهنة باقامة دولة إسرائيل وإعادة تشييد الهيكل .  والغرب وأمريكا ينسبان كل حركة تدعو إلى إعادة بعث الدين في الحياة المعاصرة إلى الحركة الإصولية لإيمان غالب المواطنين في تلك البلدان بالعلمانية وفصل الدين عن الحياة العامة بل والتباعد عن التدين في الحياة الخاصة.
            أما أصولية الإسلام فهي بخلاف ذلك . لأن مرجعها إلى الاستمساك بالأصول المعرفية المتمثلة في الكتاب وفي السنة. ولا يؤمن إلا عدد قليل للغاية بأن نصوص الكتاب والسنة حرفية وغير قابلة للتأويل . وهي قلة ذات حظ قليل من العلم. ذلك أن غالب العلوم الشرعية الإسلامية أنما نشأت على تفسير النصوص وتأويلها .  لأن الأمتثال للقطعى من أحكام الكتاب والسنة لم يكن في يومٍ من الأيام موضع خلاف بين المسلمين. وقد نشأ الخلاف بين المذاهب العقدية والشرعية الإسلامية حول مدى التأويل الذي قد يُذهب إليه في تأويل النصوص لتفهم فهماً مطابقاً للمراد الألهي في استقامة أحوال المسلمين وأوضاعهم على ما يصلحهم في الدنيا والآخرة. وخلافاً  للإتهام الذي يُساق للحركات الإسلامية المعاصرة فجميعها كانت حركات ذات بعد تجديدي. ذلك أن المسلمين خاصتهم وعامتهم يؤمنون بأهمية التجديد لإصلاح الحياة واستقامتها على نهج الإسلام. فهم يؤمنون بالحديث النبوي بأن الله يبعث في الأمة في كل مائة عام من يجدد لها أمر دينها. وقد أعتبر البعض أن كلمة (من) هذه تعني فرداً قائداً . وأعتبر آخرون أن كلمة (من) قد تعني الجماعة . وسواء كان المقصود بقيادة تجديد أمر الدين فرداً واحداً أو جماعة يقودها فرد أو أفراد ملهمون فأن المطلوب المقصود تجديد أمر الدين فهماً وأحاطة بضرورات الحياة المتغيرة المتبدلة. وقد نشأت كل الحركات المهدوية على فكرة تجديد أمر الدين . وكذلك كل الحركات السلفية إنما جاءت لإحياء المعاني الأصيلة في الدين وفهمه فهماً صحيحاً كما كان يفهمه الرواد الأولون من السلف الصالح. وكذلك جميع الحركات الإسلامية المعاصرة جاءت لا لبعث الدين كما آل في مفهوم العامة من الناس . وأنما تجديد فهم الدين فهماً صحيحاً يتسم بالمرونة والقدرة على استيعاب متغيرات الحياة المتسارعة. وقد اختلفت الحركات الإسلامية في فهمها للتجديد وفي المدى الذي يمكن الذهاب إليه في استيعاب مفاهيم ورؤى جديدة لاستيعاب المراد الألهي في نصوص الكتاب والسنة المطهرة. بل أن الخلاف حول ذلك قد يمتد إلى داخل الحركة الواحدة بين متوسع في التأويل وآخر يضيق التأويل إلى أدنى المسافة.
            وقد يخلط بعض ناقصي العلم بين مفهوم التجديد ومفهوم التحديث. فمفهوم التجديد أصولي في ذاته ذلك أن التجديد يعني إعادة الشيء إلى أصله الذي كان عليه حتى يغدو وكأنه جديد كيوم ظهوره الأول . فأنت تقول جددت أثاث الغرفة أي أصلحته وزينته كى أرجعه لعهده الأول فكأنه هو يوم جيء به لأول مرة . فالتجديد هو ارجاع أمر الدين إلى أصله الصحيح. وأصل الدين اليسر والرفق والمرونة والسعة والتخفيف على المكلفين .  فلا نحتاج أن نأتي بهذه المعاني من جديد ليكون أمر الإلتزام بالدين عقيدة وشريعة أمر تترقى به أحوال الناس ولا تتردى . وأما الحداثة فهي المجيء بشيء لا أصل له فهى ليست أصولية . أي أنها أمر مبتدع بالكامل لا أصل له ينسب إليه.  ولذلك جاء في الأثر أن "كل محدثة ضلالة" لأن كل فكرة أو عمل لا يستندان إلى الهدى الألهي فهما ضلالة. وبهذا المعنى فان التجديد مفهوم يشتمل على إحياء المعاني الأصيلة وتوليد معاني جديدة مما يتطلبه تطور الحياة و التزاماً بقواعد وضوابط أنشأئها تلك الأصول التي هي المرجعية . فهى ترسم نقطة الإنطلاق وتحدد مقصد المسعى. ولذلك فان أي حركة تجديدية لا تُعنى بفهم الأصول في الكتاب والسنة والاجماع وقواعد الاستنباط الفقهى . فالأرجح أن تنزلق إلى فكرة الحداثة لا فكرة التجديد. وكذلك فأن أية حركة تجديدية لا تفهم مقاصد الدين ومرادات الاحكام الشرعية ومغازي المفاهيم العقدية فأنها سوف تعجز عن المضى على نهج الإسلام الصحيح القويم. فمعرفة الأصول والمقاصد هو الذي يُميز الحركة الأصولية التجديدية عن سواها سواء كان ذلك السوي حركة جامدة لم تدرك ما في الأصول من مرونة وسعة وشمول أو كانت حركة حداثة منفلتة من عقال الدين ولو تمسكت بعنوانينه ورسومه. وثمرة التجديد لأمر الدين مثل ثمرة التجديد لكل أمر في الحياة . وتتمثل في زيادة فاعليته وقدرته على التأثير وفي تحقيق مقاصده التي أتخذ من أجلها . وهي صلاح أمر الناس في العاجلة والآجلة. وتجديد أمر الدين يعني أكثر من أثاره المباشرة على الواقع  بل أن أثره الرئيس هو على النفس الانسانية . لأن تجديد أمر الدين يعني بيان السنة فلا تختلط بالبدع والجهالات . وتوضيح معاني القرآن وأحكامه وتعاليمه فلا تختلط بأغراض المغرضين أو جهالة المتأولين . فيصبح القرآن وكأنه يتنزل على الأنفس من جديد . وتصبح السنة وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم ماثلٌ بين أيدينا يعلمنا أمر ديننا . وكما ينجاب الضباب عن وجه السحاب ينزاح الوقر عن الآذان والغشاوة عن العيون والران عن القلوب فكأنما يصعد المؤمن خفيفاً إلى السماء.
نواصل ،،،،

الأربعاء، 16 مايو 2012

الفقر في السودان .. المواجهة الشاملة (4)



تحدثنا في المقال السابق عن أهمية تمكين الفقراء باعتماد سياسة الدعم المباشر والانسحاب تدريجيا من سياسة ( دعم الفقراء والأغنياء علي حد سواء) عبر دعم السلع الاستهلاكية . ولا شك أن الدعم المباشر للفقراء سيكون عائده المباشر دعم التشغيل . مما ينهض بالاقتصاد الكلي من اسفل الي أعلي . وسياسة دعم الفقراء تقتضي اعطاء اعتبار خاص لدعم النساء الفقيرات . ذلك أن المرأة هي القطاع الأفقر بين الفقراء . ولذلك فأن إنماء سياسة رسمية لتمكين المرأة الفقيرة يصبح واحدة من أولويات مكافحة الفقر في السودان .
التمكين الاقتصادي للمرة الفقيرة : 
لا شك أنه قد تحقق للمرأة فى عهد الأنقاذ مكاسب كبري . وبخاصه في مجال تأكيد مساواتها التامة في الحقوق مع الرجل . فالدستور ينص علي (تضمن الدولة الحقوق المساوية للرجل والمرأة في التمتع بكل الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية). ويتضمن الدستور مبدأ الأجر المتساوي للعمل المتساوي . كما يؤكد علي التمييز الأيجابي للمرأة . ويمنح قانون الجنسية المرأة الحق في أعطاء جنسيتها لأبنائها. وأدخل قانون الانتخابات نظام حصص تمثيل المرأة . واتخذت الدولة سياسة رسمية لتمكين المرأة. إلا ان هذه الجهود لم تبلغ غايتها بعد . وبخاصة في مجال التمكين الاقتصادي للمرأة. وبعض هذا التمكين يقتضي اصدار تشريعات لمكافحة اتجاهات في المجتمع تميز ضد المرأة في امتلاك الارض والثروة الحيوانية. فالمجتمع عبر ضغوط اجتماعية يعمل علي تركيز الثروة العقارية والثروة الحيوانية في أيادي الرجال رغم مخالفة ذلك للشريعة وللقوانين السارية . لأن الاعتقاد السائد أن توريث النساء للأرض أو الثروة الحيوانية يخرج بالثروة من العشيرة  الي الأنسباء والأصهار . ولذلك فغالباً ما تعوض المرأة تعويضا غير مجزي أو تُدفع بالضغوط للتنازل عن حقوقها الشرعية لإخوانها الذكور.  ولذلك لابد للقانون من ملاحظة هذا السلوك الاجتماعي المنافي للشرع والعدل . والذي يؤدي الي ارتفاع نسبة النساء ضمن المجموعة الأشد فقراً. كذلك فأن قوانين الميراث الأسلامية تقوم علي قاعدة الزام الرجل بالانفاق علي المراة ولو كانت ذات مال ولكن الواقع الاجتماعي يشهد تنصلاً كبيرا من الرجال في الانفاق علي النساء . وهذا تطور اجتماعي جديد ولكنه يتسع يوماً بعد يوم . ويترك مئات الالآف من الأسر من الأيامي والمطلقات والمعلقات ليكن مسئولات عن رعاية أسرهن بعد تنصل الزوج أو غيره من مسؤولية الانفاق . ولذلك لابد من مراجعة قوانين الأُسرة لمعالجة هذا الخلل الكبير. كذلك فان فرص المرأة في التشغيل وفي الحصول علي التمويل رغم الاصلاحات التي أُجريت في السنوات الاخيرة لا تزال فرصاً تقل كثيراً عن فرص الرجل في الحصول علي العمل والتمويل. ولذلك فلابد من اعتماد سياسة لتمييز المرأة الفقيرة ايجابيا في الحصول علي التمويل وبخاصة التمويل الأصغر. ومن الأمر الجيد   أن ذلك قد أُعتمد في اتفاقيه الدوحة التي أعطت الأولوية في التمويل الأصغر للنساء من النازحات واللاجئات . وخاصة ربات الأُسر منهن بلا عائل من الذكور. ولكن يتوجب توسيع ذلك ليكون الاستراتيجية المعمول بها في تحديد الاولويات في الدعم للفقراء بصورة عامة. واذا كانت الصحة وكذلك التعليم عنصران مهمان في محاربة الفقر فانه يلاحظ انه رغم التقدم الكبير والسريع في فرص النساء في التعليم فانه لا تزال هنالك فجوة في الاستيعاب للتعليم الابتدائي بين الرجال والنساء رغم زوال الفجوة في التعليم الثانوي والجامعي.

صحة المرأة ومكافحة الفقر:


 من ناحية أخرى فان صحة النساء مهددة بمهددات لا تواجه الرجال . وبخاصة في مجال الصحة الانجابية . ورغم التزام الدولة بسياسة جيدة في هذا المجال الا ان التنفيذ لا يزال يواجه صعوبات جمة . والنتائج رغم ايجابيتها فإنها تُحقق ببطء لا يواكب الخطة المعتمدة في اهداف الألفية  التنموية. فالولادات المبكرة جداً والولادات المتقاربة لا تزال تشكل خطرا علي صحة نساء كثيرات . ( 14 من كل الف ولادة مبكرة والمطلوب هدفاً 5,4 من كل الف الولادات المتقاربة 9,1 من كل الف وهدفي الالفية 5.3). كذلك فإن الرعاية الصحية اثناء الحمل والانجاب محدودة لعدد مقدر من النساء مما يعرضهن لاخطار داهمة اثناء الولادة . ولا تزال 24,1 من كل ألف أسرة في السودان تتفتقر  الي الرعاية الصحية  اثناء الحمل . ولا تزال 72,5 من النساء الحوامل لا يجدن الشخص المؤهل طبيا لمساعدتهن اثنا الوضع ما يرفع من نسبة الوفيات اثناء الولادة . وبخاصة بين أولئك النسوة اللواتى تعرضن لعملية الخفاض التقليدية. فحصول الوفيات بين النساء اثناء الوضوع رغم أنه انخفض انخفاضاً كبيرا مما يزيد عن 500 حالة من كل مائة الف حالة الى أن نسبته الحالية وهي 215.6 حالة  من كل مائة الف حالة لا تزال نسبة كبيرة وغير مقبولة بكل المعايير المتعارف عليها عالمياً. ولابد من خفض تلك النسبة بحزمة من التشريعات والإجراءات والرعاية الصحية والخدمية الي نسبة ربع هذا العدد قبل عام 2015 لتحقيق هدف الألفية التنموي في هذا المجال.
ويرتبط فقر النساء بصحة أطفالهن كما يرتبط بصحة المرأة نفسها . ولذلك فإن الرعاية الصحية للاطفال وفقاً لالتزامات السودان في اتفاقية الطفل تظل واحدة من وسائل مكافحة فقر النساء الأشد فقراً. وبرامج مثل برامج التحصين   والذي هو واحد من النجاحات البارزة في مجال تحسين وضع الأطفال وتقليل وفيات الأطفال يتوجب أن يُحظي بمتابعة لصيقة ودعم مستمر من الدولة  ومن المجتمع المدني . فإن تحسين صحة الأطفال لن يكون مردوده صحياً فحسب بل أن أظهر مردوداته بعد تقليل وفيات الأطفال وتحسين أوضاعهم الصحية هو تحسين الاوضاع الاقتصادية للاسرة الأشد فقراً في السودان.          

إنتهـــــــــــــــــي،،،

الثلاثاء، 15 مايو 2012

الحركة الإسلامية .. سؤالات وإجابات (8)



        سؤال ظل يتردد داخل الحركة الإسلامية عن علاقة الصعيد الخاص التنظيمي بالحزب الذي تواليه الحركة الإسلامية . وبالحكومة التي قد ينشؤها هذا الحزب إذا جرى تفويضه من الشعب مثلما هو الحال الراهن . هذا السؤال أصبح يعبر عنه بسؤال الحاءات الثلاث أي الحركة والحزب والحكومة. ولا شك أن الإجابة تتأثر إلى مدىٍ بعيد بكون  الحزب ليس واجهة للحركة الإسلامية . وإنما هو صعيد لتحركها السياسي ما يعني أن خيارات الحزب ليست بالضرورة ستكون مطابقة لخيارات الصف التنظيمي للحركة الإسلامية . كما أن قيادات الحزب ليس مشروطاً فيها تحليها بالشروط الفكرية والسلوكية التي يُشترط توافرها في قيادات الحركة الإسلامية. ولربما لا تبتعد المسافة بين معايير الإسلاميين في القيادة ومعايير الحزب على المستوى المركزى ، ولكن هذه المسافة تتسع كلما تباعدنا من المستوى القيادي المركزي للولايات وللمحليات. ولقد ظلت شكوى كثير من الإسلاميين تتكرر لا سيما على مستوى القواعد من إختراق قيادات لا يرضون عن سلوكها الفردي أو القيادي . ووصولها إلى مستويات قيادية عليا على مستوى الولايات والمحليات والوحدات الإدارية. ويتحدث الإسلاميون عن شبهات فساد هنا وهناك . ويطالبون بالتشدد في المراجعة والمحاسبة . وان تكون تلك المراجعة والمحاسبة وفق المعايير المعتمدة لدى الحركة الإسلامية. وذلك أن جمهور الشعب السوداني إنما يحاكم حزب الحركة الإسلامية بالمعايير التي يتوجب أن يتحلى بها الإسلاميون. ولا شك أن طبيعة الحزب بصفته حزباً جماهيرياً لا تتوافق مع التشدد في شروط العضوية والقيادة . لاسيما إذا نال الشخص مقبولية وتفويضاً جماهيرياً . وفي بلاد مثل بلادنا قد ينال الشخص على علاته تفويضاً جماهيرياً واسعاً بسبب نسبته العرقية أو الجهوية أو طريقته الصوفية بصرف النظر عن صفاته وسلوكه الشخصي أو القيادي . ويذهب بعض الإسلاميين أبعد من ذلك عندما يتحفظون على بعض تحالفات الحركة الإسلامية . لأن رؤيتهم لبعض قيادات تلك الأحزاب الحليفة أنها قيادات تفتقر إلى النزاهة . وقد لا تشكل وزناً ذا بال بمعايير الوزن السياسي. وبعض الإسلاميين يستخدم منطقاً صورياً يقول أنه مثلما "أن الأمة لا تلد ربتها" أي أن الأبنة لا تكون ذات ولاية على أمها فأنهم يستنكفون أن يكون للحزب اليد الطولى في تقرير الأمور الإستراتيجية السياسية دون أن يكون للحركة الإسلامية حق  الإعتراض على ذلك إلا من خلال آليات اتخاذ القرار داخل الحزب نفسه. ومثلما يشكو بعض الإسلاميين من قلة نفوذ الحركة الإسلامية على الحزب المنسوب عند الجماهير إليها فإنهم يشكون من قلة تأثير الحركة الإسلامية على الخيارات والسياسات التي تختارها وتشرعها الحكومة. بيد أنه على الرغم من كل هذه الإعتراضات فإن خيار الحركة الإسلامية الرسمي كان دائماً هو الإلتزام بفكرة الأصعدة الثلاثة للحركة الإسلامية . صعيد التنظيم وصعيد الحزب وصعيد الحكومة. وأن كل صعيد يتوجب أن يكون مستقلاً تماماً عن الأصعدة الأخرى في اتخاذ قراراته، وفي انتخاب قياداته دون أن يعني ذلك انفصال هذه الأصعدة عن بعضها البعض. ونظرية الفصل والوصل هذه يُعبر عنها بفكرة التداخل والتكامل. فالحركة الإسلامية على صعيد التنظيم ملزمة بالعمل من خلال الحزب الذي أنشأته . ولا يجوز لأي مؤسسة من مؤسسات الحزب أو فرد من أفراده أن يعطي ولاءه لأي حزب آخر. فلا يجوز لأعضاء الحركة الإسلامية موالاة حزب المؤتمر الشعبي أو حزب الأخوان المسلمين مثلاً . ولا حتى حزب منبر السلام العادل الذي تحول مؤخراً من جماعة ضغط إلى حزب سياسي يسعى لمنافسة المؤتمر الوطني وبخاصة على جمهوره من الإسلاميين خاصة. ثانياً مثلما يتوقع من الحزب أن يكون ناشطاً وفاعلاً أكثر على الصعيد السياسي دون إغفال الأصعدة الاجتماعية والثقافية والفكرية. فان ميدان العمل الرئيس للحركة الإسلامية على صعيد التنظيم هو العمل الاجتماعي والدعوي والفكري والثقافي. وواجبها الرئيس هو تفعيل النشاط في هذه المجالات سواءً من خلال عضويتها في المؤتمر الوطني (نسبتها حوالى 12%). وكذلك من خلال نشاطها المباشر أو عبر منابرها ومنظماتها الاجتماعية والطوعية ومراكز البحث التابعة لها ومنظمات العمل الثقافي التي تقودها. وكانت أصوات الإسلاميين غالباً ما ترتفع بالاحتجاج عن أن المؤتمر الوطني لا يولي إهتماماً كافياً بالعمل الاجتماعي الطوعي، ولا بالنشاط الفكري الثقافي . وأنه تحول إلى حزب غرضه الرئيس هو الفوز الإنتخابي. كما أن هؤلاء يقولون أن غالب قيادات الحركة الإسلامية وبسبب تسارع مجريات العمل السياسي قد انصرفت من مجالات العمل الإجتماعي والفكري إلى العمل السياسي الذي لا يتيح فرصاً حقيقية لنشاط ثقافي أو فكري أو تحرك إجتماعي في مجالات الدعوة والعمل الطوعي. وأن مركز نشاط الحركة الإسلامية أصبح سياسياً حتى كادت تتحول إلى حزب سياسي مثل سائر الأحزاب السياسية التقليدية. ومطالب الإسلاميين في مواجهة هذا الواقع هي أولاً : علانية وظهور الحركة الإسلامية في موازاة المؤتمر الوطني . فطالما أن الحركة لا تعمل في ذات الصعيد السياسي الذي يعمل فيه المؤتمر الوطني فإن اختفاءها النسبي يضر بها ضرراً بليغاً . إذ يحجب قياداتها عن الجماهير التي يرجي ان تقودها . كما أنه يجعلها وكأنها تابعة لحزب سياسي تبقى أسيره في أفكارها واطروحاتها لضرورات ذلك الحزب الآنية  والسياسية الطابع. ولتأكيد استقلالية  الحركة الإسلامية بوصفها تنظيماً دعوياً ثقافياً واجتماعياً يرى كثير من الإسلاميين ضرورة الفصل بين قيادات الحركة الإسلامية وقيادات الحزب . وذلك بتفريغ القيادات الحركية للعمل الدعوي والاجتماعي والفكري . وأن تكون العلاقة التي تصلهم بالحزب هي الموالاة السياسية وتنسيق النشاط  في المجالات التي يعملان بها سوياً . يسوق هؤلاء أمثلة لفكرتهم عندما يتحدثون عن وجود الطريقة الختمية إلى جانب الحزب الاتحادي الديمقراطي وإلى وجود هيئة شؤون الانصار إلى جانب حزب الأمة . ويسوقون أمثلة من تجارب العالم العربي الجديدة في مصر مثل وجود الجماعة إلى جانب حزب الحرية والعدالة . وكذلك الوضع مع حزب  العدالة والتنمية في المغرب حيث يؤكد على الاستقلالية التامة للحركة الإسلامية وللمنظمات التابعة لها عن الحزب السياسي إلى درجة اعتراض بعض تلك التنظيميات مثل التنظيم الشبابي أحياناً على سياسات مقبولة من الحزب الذي يوالونه. والبعض يُذكر بتجربة وجود التنظيم إلى جانب وجود جبهة الميثاق الإسلامي في ستينات القرن الماضي . وان كان غالب الأخوان يقرون الفشل لا النجاح إلى تلك التجربة. ولربما هذا ما قاد الحركة إلى تعليق نشاطها العلني عندما انشأت الجبهة الإسلامية القومية في منتصف الثمانينات . ولم يبق حاضراً من تنظيماتها إلا مجلس الشورى . واكتفي الإسلاميون الحركيون بوجودهم القيادي والقاعدي في الجبهة الإسلامية القومية. بيد أن الخيارات الإستراتيجية الكبري كانت من صلاحيات مجلس شورى الحركة. وكذلك فان قرار الانقلاب على حكومة القصر التي استبعدت الإسلاميين وسعت للتآمر عليهم، قد أُتخذ في مجلس شورى الحركة الإسلامية وليس مجلس شورى الجبهة الإسلامية القومية. ومضى مجلس شورى الحركة الإسلامية إلى أبعد من ذلك عندما قرر تعليق كل مؤسسات الحركة الإسلامية بما في ذلك جلسات مجلس الشورى نفسه . وأوكل مجموعة قيادية مكونة من سبعة أشخاص فقط باتخاذ كل القرارات المهمة بل و إنفاذ قرار الحركة بالانقلاب على السلطة القائمة آنذاك. ومجموعة السبعة هي التي أنشأت كل المؤسسات . وأتخذت كل القرارات بعد 30 يونيو 1989بما في ذلك تكوين مجلس قيادة الثورة ثم حله من بعد ذلك توطئة لاعداد الدستور الدائم للبلاد.
نواصل،،،،

الأربعاء، 9 مايو 2012

الفقر في السودان .. المواجهة الشاملة (3)



تحدثنا في المقال السابق عن إستراتيجية للتنمية الاقتصادية تبدأ من أسفل إلي اعلى لتمكين الفقراء وبخاصة في الأرياف من المشاركة الواسعة في الإنتاج وإخراجهم من حالة العجز عن الكسب إلي المشاركة الفاعلة في إنتاج ما يحتاجون إليه من سلع وخدمات . والفقر مفردة مشتقة من المفقور الذي عجز بسبب انكسار عموده الفقري عن الحركة أو المسكنة التي هى من السكون وعدم القدرة علي الحركة . والمفردتان دلالة علي أن السكون وعدم الحركة والسكون هما سبب الفقر . والإستراتيجية الناجعة لمكافحة الفقر هي دعم الفقراء والمساكين بما يعيدهم إلي دائرة حركة الكسب والإنتاج.
دعم الفقراء سبيل النهضة الاقتصادية:
وقد تحدثنا سابقاً عن دعم الفقراء بإزالة الحرمان التمويلى والائتمانى لتوفير الموارد التي توفر لهم وسائل الإنتاج أو توفر لهم رأس المال الأساس للبدء في الإعمال والإشغال . بيد أن الدعم التمويلى ليس كافياً لوحده . وقد جربت الدولة في السودان الدعم المباشر من خلال الزكاة ومن خلال وزارة الضمان الاجتماعي . وكذلك من خلال المشروع الرائد المتمثل في التأمين الصحي وكل هذه تجارب جديرة بالتقدير ولكنها ليست كافية. ذلك أن غالبية الدعم الذي تتحمله الموازنة العامة لا يذهب إلي الفقراء . بل أن الموازنة العامة التى هي استقطاع ضريبى يدفع غالبه الفقراء يذهب غالب الدعم فيه إلي الشرائح الأكثر اقتدارا فى المجتمع . فليس هنالك أية مقارنة بين حجم الدعم المباشر الذي يذهب للفقراء وبين دعم سلع مثل المحروقات والكهرباء والسكر والتى غالب المستهلكين لها من شرائح  المستهلكين الكبار من الطبقة الوسطى والطبقة الأغنى. ولا شك أن سياسة دعم السلع بدلاً عن دعم ذوى الخصاصة هي سياسة لا تجد شخصاً مُنصفاً يدافع عنها . إلا أن واقع الحال يؤكد أن المليارات من الجنيهات تذهب لدعم السلع وعشرات الملايين فقط تذهب لدعم الفقراء وذوى الخصاصة دعماً مباشراً. وهذا خيار سياسي لا يتوافق مع الشرع ولا العدل. فالشرع لا يجيز أخذ أموال الفقراء لردها علي الأغنياء بل دعوة الشرع بخلاف ذلك تماماً. والعدل يقتضى أن يدعم القادر الضعيف لا أن يأخذ صاحب التسع وتسعين نعجة صاحب النعجة الواحدة. اذاً لابد من مراجعة جذرية لسياسة دعم السلع لإلغائها تدريجياً . وذلك عبر إستراتيجية الخطوة خطوة على أن يحول غالب المال المتوفر من كل خطوة متراجعة عن دعم السلع إلي دعم مباشر لذوي الدخل القليل وذوى الخصاصة والمساكين. وقد يقول قائل إن دعم سلعة مثل المحروقات إن جرى رفعه سوف يؤدي إلي غلاء الأسعار التي يكتوى بنارها الفقراء أكثر من الأغنياء . وهذا قولٌ به بعض الوجاهة ولكنه لا يعدو أن يكون من لحن القول الذي يُراد بها استمرار وضع يدرك الجميع أنه وضعٌ خاطئ وظالم. وبإزاء هذه الحجة فإن الحل ليس الامتناع عن رد الأمور إلي نصابها بل الخطة الناجعة هي إجراء العملية الضرورية تدريجيياً ومحاصرة أثارها الجانبية. وقد يصح القول أن سياسة دعم السلع لا دعم الفقراء قد تراكمت آثارُها بحيث يصعب التعامل معها وإزالة الدعم ضربة لازب. وصحة هذا القول لا تعني أن نترك الأمر كله فما لا يدرك كله لا يترك كله. والسياسة الناجعة هي تلك التي أوصى بها المجلس الوطني وهي تبني خطة مرحلية لإزالة دعم السلع على دفعات . وعبر برنامج شامل يُحتاط فيه لكل الآثار الجانبية التي قد تنجم عن رفع الدعم عن سلعة مثل المحروقات دفعة واحدة . فيكون المبتدأ بالسلع التي يكون أثرها محصوراً في العدد الأقل من المتأثرين مثل زيادة وقود الطائرات والبنزين مثلاً مع زيادة طفيفة في الجازولين الذي يدخل في النقل بصورة واسعة وفي الإنتاج الزراعي.  ويمكن أن يُؤخر رفع الدعم عن سلعة مثل دقيق القمح إلى حين تحقيق خطة البرنامج الثلاثي للاكتفاء الذاتى .  لأن رفع الدعم عن الدقيق تعم به البلوى. ولن تكون فائدة إصلاح سياسة الدعم بتحويله من دعم السلع إلى دعم الأسر والأشخاص ذوي الخصاصة مقتصرة على تحقيق العدل الإنصاف بل سيؤدي ذلك إلى محاربة إسراف المسرفين من القادرين في استهلاك السلع المدعومة . كما سيكون وسيلة ناجعة لمحاربة التهريب الذي خرج تماماً عن سيطرة السلطات التي تجتهد لسد الطرق أمامه فلا تفلح إلا قليلاً .  ذلك إن إغراء تهريب سلع مثل الوقود والسكر إغراء عظيم . فالفائدة بمجرد عبور الحدود تعني مضاعفة الربح أضعافاً مضاعفة ولو على حساب الاقتصاد الوطني وعلى حساب مسغبة فقراء الوطن.
الدعم المباشر وأفضل الممارسات الدولية:
أناس كثيرون يشككون في نجاعة الدعم المباشر ويشككون في إمكانية وصوله إلى مستحقيه . بيد أن تجارب بلدان مثل الهند والبرازيل وفنزويلا أثبتت إمكانية محاربة الفقر محاربة فاعلة من خلال الدعم المباشر . المتمثل في دعم الأسر مباشرة فى المرتبات أو المنح.  وقد أثبتت تجربة البرازيل على وجه الخصوص بصورة ساطعة كيف أن تمكين الفقراء من الحصول على منح صغيرة للاستثمار أدى إلى تشغيل السواد الأعظم من السكان . وبخاصة في قطاعات الزراعة والصناعة التحويلية والحرف والخدمات . وقد أدت سياسة تمكين الفقراء التى أفضت إلى محاربة البطالة وتحقيق نسب عالية من التشغيل إلى تحريك الاقتصاد البرازيلى فنهض في عقد واحد من اقتصاد مثقل بالديون إلى اقتصاد دولة صاعدة زاحمت بقوة اقتصاديات غالب الدول الأوروبية . وأزعجت الأسواق المحتكرة وبخاصة الزراعة لدول عظمى كانت صاحبة القدح المعلى في تلك الأسواق . والسودان منذ فترة ظل يوثق علاقاته بالبرازيل وبخاصة في مجال الزراعة.  ولكن مثلما نريد أن نستجلب من البرازيل التقنيات الزراعية يجدر بنا أن ننقل تجاربها الناجحة في إستراتيجية وخطط مكافحة الفقر . وبخاصة في مجالات التمويل الأصغر والدعم المباشر ومثل هذه التجارب استطاعت أن تخفض بالفقر في البرازيل من 22% في العام 2003 إلى 4% فقط في عام 2011 . ولئن كان الفقر في السودان قبل الانفصال 46% وربما نقص قليلاً بالانفصال فيمكننا أن نعمل عبر الخطة الخمسيه للانخفاض به دون 30% ويمكن أن يهبط إلى دون عشرة بالمائة في عقد من الزمان , فقد أبانت تجارب محاربة الفقر في البرازيل والهند معالم الطريق وأولويات الخطة . فلنتحرك على بركة الله فكل ما يرفع العنت عن الناس فإنه مبارك.

نواصـــــــــــــــــــــــــــــــــل،،،

الحركة الإسلامية .. سؤالات وإجابات (7)



                د. أمين حسن عمر
Aminhassanomer.blogsprt.com

        يتساءل كثير من خصوم الحركة الإسلامية والمتشككون في فكرها وموقفها السياسي عن حقيقة موقفها من الديمقراطية. ولا يقتصر الأمر على خصوم الحركة بل إن بعض الإسلاميين من غير أعضاء الحركة الإسلامية ينظرون للديمقراطية بوصفها تدبير سياسي غربي لا يتوافق توافقاً كاملاً مع المباديء الإسلامية . كذلك فان بعض أبناء الحركة الإسلامية تساورهم الشكوك حول مدى موافقة النظام السياسي الديمقراطى الغربى الطابع مع المُثل والمباديء السياسية الإسلامية. بيد أن الحركة الإسلامية في موقفها الفكري والرسمي قد قبلت بالديمقراطية إطاراً للنظم السياسية في السودان. ورحبت  بالتعامل مع الجميع بصدق ونية سليمة في هذا الإطار. ذلك أن الديمقراطية ليست سترة جاهزة التفصيل، بل هي مجموعة مباديء وقيم ونظم وأطر يسعنا أن نختار منها ما يلائم ثقافتنا ومبادئنا الفكرية والسياسية دون أن نخرج عن إطارها العام. فالديمقراطية ليست عقيدة لكي نؤمن بها أو نكفر بها ، بل هى مباديء فكرية قد نشارك الآخرين في القناعة بها أو نخالفهم في بعض مفاهيمها. وبغرض التوضيح فإن مفهوم سيادة الشعب الذي هو الإطار المرجعى للفكر الديمقراطى مقبول لدينا ولكن في إطار ما نؤمن به من عقيدة ومباديء سياسية. فسيادة الشعب عند الغربيين سيادة مطلقة حتى لو خالفت القطعى من القيم الدينية التي يؤمن بها غالب شعوبهم. بينما فهمنا لسيادة الشعب يتدرج تحت مفهوم الحاكمية. فالحاكمية المطلقة لله بالحكم والأمر المطلق لله ولكن الشعب هو المكلف من خلال علمائه وفقهائه وزعمائه وأمرائه وعامته أن يتمثل القطعى من الأحكام وأن يؤول ويفسر ما يحتاج إلى تفسير أو تفصيل من تلك الأحكام أو ان يستنبط من أصولها وقواعدها العامة وهداية مقاصدها ما يلائم نهج الشريعة العامة. لذلك إذا جاز للبرلمان الهولندي ان يجيز تشريعاً يتيح زواج المثليين رغم مخالفة ذلك من هداية الدين المسيحي الذي يؤمن به غالبية الشعب لأن البرلمان هو المعبر عن سيادة الشعب فان ذلك لا يجوز في فهمنا لمفهوم سيادة الشعب . فلا يجوز لحاكم أو لمجلس تشريعي أن يشرع تشريعاً يناقض المعلوم بالضرورة من الدين أو يخالف إجماع المسلمين الذي لا يُعلم له مخالف.
            وهنالك مباديء ديمقراطية نقبلها كما هي لأنها تطابق مباديء نؤمن بها مثل مبدأ المحاسبة Accounablity   . فالمسئولية تقتضي المحاسبة فكل راعٍ مسئولٍ عن رعيته أي  هو محاسب عليها. والحساب حسابان حساب أمام من ولاه وهو الشعب أو من ينوب عنه إذا كان رئيساً للجمهورية منتخباً مباشرة من الشعب أو بواسطة البرلمان ، وحساب أمام  الله يوم الحساب. وكل مسئول محاسب وقد قالها عمر رضي الله عنه (إذا أخطأت فقوموني) لم يقل فصوبوني فهو يعطي الشعب الحق في محاسبته بأطره على الحق أطراً وليس بمجرد تنبيهه لوجه الحق من المسألة التي أخطأ فيها. وكذلك فأن المبدأ الذي يسمى بالشفافية والعلانية اليوم هو ذات مبدأ المناصحة أو النصح من الأئمة للعامة ومن العامة للأئمة . والنصح هو أظهار الحق الذي نؤمن به وأبلاغه للناس. ومطلوب من الحاكم أن يصارح شعبه بالحقائق وأن يعرفهم بالوقائع والنوازل . وأن يكشف لهم عن نواياه وسياساته تجاه جميع الأمور. كذلك من واجب الشعب بعد الأحاطة بالحقائق أن يظهر ما يراه مطابقاً للحق والصواب ومحققاً للنجاعة والصلاح للحاكم رضى بذلك أم أبى . والناصح الشجاع اما حامل لشهادة الكلمة أو شهيد لها إذا دفع حياته ثمناً لذلك . ولذلك يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (سيد الشهداء حمزة ورجل قال كلمة حق عند سلطانٍ جائر فقتله). فشهادة الكلمة مثل شهادة الدم سواءً بسواء . ولا يجوز لإنسان ان يكتم الشهادة لأن من يكتمها آثم قلبه . ولا يجوز لسلطان أن يكتم الحقيقة عن شعبه إلا ان يكون ذلك ضرورة من ضرورات تحقيق المصلحة الظاهرة التي لا لبس فيها. وتحت باب النصيحة وواجب الأمة في الأمر بكل معروف والنهى عن كل منكر والدعوة لكل خير تقع حرية التعبير المسؤول بصورها المختلفة . سواء كان تعبيراً مباشراً أو نشراً أو اعلاماً أو صحافة أو أي وجه من وجوه إظهار الحقيقة أو التعبير عن الرأي . فيما نراه منكراً تجب إزالته أو حقاً يجب إحقاقه أو خيراً يرجى تفعيله. بيد أن حرية التعبير لا تعنى ما يشاع في تفسيرها فى الثقافة الغربية التي تبيح التجديف في عقائد الناس والإساءة إلى ما يؤمنون به . وكما تعني عندهم حرية البذاءة والمجاهرة بوجوه الفسوق والعصيان جميعاً . كما تتيح الخوض في أعراض الاشخاص والهيئات ولا تستنكف أن تشيع الفاحشة في المجتمع . فتلك حرية نحن منها براء . ولا نراها حرية آمرة بالمعروف بل هي حرية آمرة بالمنكر هدامة للقيم والتماسك الإجتماعي.
            وأما مبدأ التمييز بين السلطات لسد ذريعة الإستبداد فمبدأ مقبول لدى الحركة الإسلامية. ونحن لا نقول الفصل بين السلطات بل التمييز بينها . وهذا ما أنتهي إليه الفكر السياسي مؤخراً. فهنالك قدر مقبول من التداخل والتكامل الذي لا يكرس للاستبداد . والنظام الرئاسى بما فيه من سلطات واسعة للرئيس بعضها تشريعى وبعضها سيادى وبعضها تنفيذى مقبول لدينا . ولكنه ليس بالضرورة الخيار الأمثل في كل زمان. وأنموذج هذا النظام في عالمنا المعاصر هي الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن النظام الرئاسى المُعدل الذي هو شراكة بين الرئاسة والبرلمان في الأمور التشريعية و فى نصب السلطة التنفيذية ومحاسبتها قد يكون خياراً أكثر مناسبة في مناخ يُخشى  فيه من تكريس السلطات في يد شخص واحد مهما عُظمت فيه الثقة. وكذلك فأن النظام البرلمانى نظام مقبول في ظرف يناسبه . وبخاصة إذا كان النظام السياسى مستقراً ولا يُخشى من زعازع الصراعات البرلمانية المضعفة للحكومات . لكن في كل الأحوال لابد من توزيع الصلاحيات بين السلطات بما يحقق التوازن والتكابح المانع لاستبداد مؤسسة أو فرد من الأفراد. ويجسُن في بلاد واسعة الرقعة مثل بلادنا أن يعزز تقسيم السطات رأسياً بتقسيمها أفقياً من خلال الحكم الفيدرالى والحكم المحلى .  وذلك بتفويض السطات أو تخويلها من خلال الدستور جغرافياً بما يعزز الحكم الشعبي في إطار وحدة الشعب والدولة . والحركة الإسلامية كانت هي الرائدة للدعوة الفيدرالية والرائدة في تنفيذها على أرض الواقع.
نواصل،،،،

الثلاثاء، 1 مايو 2012

الحركة الإسلامية .. سؤالات وإجابات (6)



        السؤال حول الإمرة والشورى من أهم السؤالات التي تتردد حول الحركة الإسلامية. وأهمية السؤال تنبع من كون الحركة الإسلامية تنظيم مستحدث لتحقيق مقاصد يتفق عليها أعضاؤها. وهو تنظيم يقوم على التراضي على تقسيم السلطات والصلاحيات داخل التنظيم بين المستويات المختلفة والمسئوليات المتعددة. كما يقرر وجوب السمع والطاعة لأولي الأمر في التنظيم ما ألتزموا بالطاعة لله ولرسوله واحتكموا للنظم والقواعد المتفق عليها داخل التنظيم. والسؤال حول الإمرة لا يقل أهمية عن السؤال حول الشورى وإلزاميتها.
            والسؤال المتصل بالإمرة أو الأمارة أو مسئولية القيادة سؤال في غاية الأهمية لأنه يتصل بمسائل فرعية متعددة . وأهمها شرعية إمرة الآمر على التنظيم في كلتا الحالتين، حالة وجود سلطة إسلامية شرعية . وحالة غياب هذا السلطان الإسلامي الشرعي . ثم يتفرع عن ذلك سؤال ما هو نطاق هذه الإمرة وحدودها وكيفية نصبها وعزلها؟ وعلاقة الإمرة بالشورى؟ وما هو نطاق الشورى ومستوياتها وحدودها؟ وما الفرق بين الشورى والإستشارة؟ وما علاقة الشورى بالديمقراطية؟ هل هي رديف للديمقراطية أم صورة من صور الديمقراطية؟ أم هي شبيه أسلامي للديمقراطية؟.
            فقه الحركة الإسلامية في الإمرة مثل فقهها في إقامة التنظيم أنه واجب كفائي إذا قام به البعض سقط عن الباقين. فالإمرة التنظيمية ليست بديلاً للإمرة العامة "الإمامة" في الدولة . وليست بديلاً لأية أمارة أو رئاسة أخرى في أية مؤسسة أو تنظيم من تنظيمات المجتمع أو الدولة. فالتنظيم الإسلامي تنظيم دعوي نهض للدعوة للاحتكام للإسلام ولشرعه وعقائده وتعاليمه وتأسيس الحياة على نهجه القويم. وفقه الإمرة في التنظيم يستند على الحديث النبوي الشريف الذي رواه عبدالله بن عمرو "لايحل لثلاثة يكونون فى فلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم" رواه أحمد وحديث أبي داؤد مثله "إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا عليهم أحدهم" وحديث أبو هريرة مثله . والإمارة عند الجمهور واجبة عقلاً وشرعاً . فأيما ثلاثة أو يزيدون توافقوا على مقصد لينجزوه جماعة فعليهم أن يأمروا أحدهم . وليس بالضرورة أن يكون الأمير واحداً فأنه مع زيادة العدد وتعدد المسئوليات فيجوز أن يتعدد الأمراء وفق ضوابط مرعية يُتوافق عليها مسبقاً قبل عقد الإمرة لهم . فتكون هي الشرط الذي يوفر الشرعية للإمرة ويحدد نطاقها وحدود مسئوليتها. وقد يرد السؤال من يملك الولاية على عقد الإمارة للأمير أو الأمراء؟ وخيار الحركة الإسلامية الذي استنبطته من فهمها للسنة والسيرة والكتاب إن الإمرة لسائر المؤمنين . فإن كانوا في جماعة خاصة فلسائر أعضاء تلك الجماعة . لأن الله سبحانه وتعالى يقول "وأمرهم شورى بينهم" فهو نسب الأمر لهم جميعاً وجعل القرار شورى بين سائرهم . ومصداق ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم "المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يدُ على من سواهم". فالشخصية الإعتبارية لكل مؤمن مساوية للشخصية الاعتبارية للمؤمن الآخر. والآية عندما تقرر أن المؤمنين أخوة فهي إنما تقرر مبدأ المساواة بينهم. بينما يقرر الحديث في شأن من دخل في ذمة المؤمنين بأن له ما لهم وعليه ما عليهم "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" وهكذا فإن الأعضاء في التنظيم يتساوون في الولاية عليه . ولا يملك أحدُ منهم أن يدعى فضلاً زائداً عليهم. ولا يملك أحدٌ أن يتولى الأمر وغالب الجماعة له كاره . ولا تملك ثلة من الجماعة أن تفرض ما تراه على سائر الجماعة إلا إقناعاً وإقتناعاً.
            وقضية الإمرة الطوعية هذه قضية جوهرية لأنها يترتب عليها قضية شرعية الأمر . فمشروعية الأمر أو القرار لا تكتمل فتستوجب السمع والطاعة إلا إذا استوفت شرطين. الشرط الأول هي أن يوافق ما جاء به الله ورسوله والثانية أن يصدر الأمر أو القرار من أمير جاء بالطوع والأختيار لا بالغلبة. وصحيح أن جماعة من الفقهاء قد جوزوا إمارة المتغلب دفعاً للفتنة . ولكن الأمر لا ينتطبق على تأسيس التنظيم الإسلامي فالتنظيم ليس بالدولة . وأنما هو كيان طوعي ثم أن الحركة الإسلامية لم تأخذ في وقت من الأوقات بفقه درء الفتنة ولو باعطاء الشرعية للمتغلب المستبد. ذلك أنها تقرأ في السنة المطهرة من حديث أنس رواه الترمذي  "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة  وذكر منهم رجلاً أم قوماً وهم له كارهون" . فامامة الأكراه تستحق لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يرضى بها مؤمن. أما درء الشر الأكبر بالشر الأصغر ففقه يعلمه جميع المؤمنين ولكن استخدامه درعاً لحماية إمارة المستبد المتغلب أمر آخر. فالأصل أن أمارة المتغلب المستبد لا تجوز ولا تقبل . أما أن تكون دفعاً لشرٍ أعظم فمسألة تُقدر بقدرها في وقتها وظرفها . ولا يتوجب أن يُستخدم خوف الفتنة لإشعار إئمة الاستبداد أنهم في وقاءٍ من عصيان الشعوب إذا ما أستخدموا العنف والقوة للاستيلاء على الحكم أو البقاء فيه.
            والحركة الإسلامية في السودان لا تأخذ بجواز سلطة المتغلب . ولذلك فقد أجازت لنفسها الخروج عليه بالسلاح . وبخاصة إذا كان ذلك المستبد المتغلب مستهيناً بشرع الله غير ملتزمٍ بتحكيمه أو متهاوناً في شأن إنفاذ الأحكام الشرعية خوفاً من دائرة تصيبه أو دنيا تفلت من بين يديه فلا يصيبها. ولقد أجازت الحركة الإسلامية الخروج على الحكم المايوي " حكم نميري" بالسلاح لأنه متغلب مستبد لا يحكم بشرع الله . ثم لما أعلن تحكيمه للشريعة أختلف الرأي في شأنه بين من يرى مصالحته وأعلان الطاعة لحكمه باعتباره حكماً شرعياً وان لم يجرى نصبه بالأختيار والطوع من الشعب . و رأي آخر يرى مصالحته ولكن يرفض المشاركة في حكمه لأن حكمه ليس شرعياً من باب أنه جاء بالقهر والغلبة وليس بالبيعة والاختيار الحر من الجمهور . ورأت فئة أخرى أنه لا يجوز مصالحته ولا مشاركته بل بمقاومة حكمه المستبد ما وجدت الحركة الإسلامية إلى ذلك سبيلاً . وفي أثناء هذا الجدال الفقهي نشأ جدال فرعي حول الطاعة لمن تكون في ظل حكومة لا تمتثل لشرع الله أو حكومة تحتكم للشريعة ولكنها لم تأت بصورة شرعية أي بالاختيار الطوعي من الجمهور . وأما الحالة الثالثة فهى حكومة تحتكم إلى الشرع وجاءت بالاختيار . وكان غالب الرأي في الحركة الإسلامية أن طاعة أمير الحركة أولى من طاعة حاكم لا يحكم بالشريعة وطاعة أمير الحركة أو أمراؤها أولى من طاعة حاكم لم يأت بالاختيار الطوعي بل جاء متغلباً مستبداً. وأنه لا تعلو طاعة الحاكم أى الأمير ذي الشوكة على طاعة أمراء الحركة إلا إذا كان يحكم بالشريعة وجرى اختياره بصورة طوعية إختيارية فعندئذ تكون طاعته مقدمة على طاعة امراء الحركة الإسلامية.
            وكما ترتبط الإمرة بشرعية الحكم من حيث إمتثاله للشريعة وتمثيله للإرادة العامة فهي ترتبط أيضاً بالمسألة الدستورية . أى بمدى التزام الآمر بالنظام الأساس للتنظيم أو الدستور العامل للدولة . فالنظام الأساس أو الدستور هو القاعدة التي تصف نطاق سلطة الأمير وحدودها  وتفويضها أحياناً وتقييدها في احيان أخرى . وذلك لأنه كما يقرر الحديث "المؤمنون عند شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً"  ولذلك فاذا أشترط المؤمنون في مقابل الطاعة أن يُستشاروا أو أن تجرى مشاورة مؤسسات بعينها قبل اتخاذ قرارات معينة فيجب على صاحب السلطان ان يتقيد بذلك . فأن لم يفعل فلا سمع ولا طاعة. فالطاعة مشروطة بالطاعة لله ولرسوله وطاعة الله ورسوله تقتضى الإلتزام بالشروط التي قطعها الحاكم على نفسه قبل أن يُقلد الإمرة على المؤمنين. وهذا يعني أن الشورى تكون معلمة إذا كان النظام الأساس لا يشترط الزاميتها في بعض الأمور التي قد تكون مستعجله أو تكون من فروع الأمور وتفاصيلها . وقد تكون ملزمة وواجبة قبل  اتخاذ القرار شورى عامة في شكل استفتاء أو خاصة للبرلمان أو لمؤسسة ذات اختصاص أو شورى خاصة لاشخاص بعينهم يحددهم النظام الأساس أو الدستور . فإذا لم يلتزم الحاكم بامضاء الشورى وأراد أن يستبد بالأمر جاز عصيانه عصياناً خاصاً أي الامتناع عن الطاعة لأمره أو عصياناً مدنياً عاماً لإسقاطه . لأنه لا يجوز لفرد مهما كان أن يستبد بشؤون الأمة دونها وبخاصة تلك التر قررت وجوبية الشورى بشأنها. ولاشك أنه كان في تاريخ الحركة الإسلامية في السودان حوادث حاول القائمون بالأمر الاستبداد بتقرير بعض الأمور المهمة دون الإلتزام بما يمليه النظام الأساس للحركة . وقد كانت النتيجة دائماً هي إما رجوعهم لغالب الرأي في الحركة أو خروجهم أو إخراجهم منها . ومضت الحركة لتحقيق مقاصدها لم يضرها من خالفها ولو كان بين الناس ذو شأن عظيم.
نواصل،،،،

الفقر في السودان .. المواجهة الشاملة (2)



تحدثنا في المقال السابق عن علاقة الفقر بالتعليم ونقص الغذاء والطاقة. وذكرنا أن المسوحات أثبتت أن الأسر التي لم ينل عائلها حظاً من التعليم تشكل 60% من الأسر الفقيرة بينما تلك التي حظي عائلها بتعليم جامعي تشكل 9% فقط من الأسر الفقيرة. وذكرنا حسب المسوحات أن 31.5% تعاني من تدني استهلاك الفرد من الطاقة الحرارية "أي طاقة الحركة والعمل" والذي جري تقديره في السودان 1751 سعراً حرارياً. وهذه المؤشرات تضع الإصبع علي أسباب الفقر في السودان وهي نقص الطاقة والصحة ونقص المعرفة فما العمل؟
الغذاء والصحة والتعليم أولاً:
لابد لإستراتيجية النهضة الاقتصادية أن تكون إستراتيجية لمكافحة الفقر بمقاربة التشغيل الكامل لقوة العمل المتاحة في السودان "نسبة البطالة حسب تعداد 2008   16.8%"  .ثم بزيادة الطاقة والقدرة علي العمل مع تحسين الوضع الغذائي والصحي من جهة. وبناء القدرة علي العمل من الجهة الأخرى من خلال التعليم والتدريب. إن الفقر الريفي هو الفقر الأوسع )57.6% ( من الأسر الفقيرة بينما الفقر الحضري 26.5% لذلك فأن المعركة الأساس مع الفقر هي معركة "التنمية الريفية" . وبخاصة في مجال تطوير الإنتاج الغذائي وتحسين الثقافة الغذائية وتسريع الرعاية الصحية الأولية. والمجال الآخر هو التعليم والتدريب. ولا شك أن معظم الأسر غير المتعلمة تقطن في الريف كما أن معظم التسرب من التعليم يقع هنالك . ولا تكاد توجد أية وسائل أو وسائط تنشط في التدريب والتأهيل علي أداء العمل في الأرياف السودانية سواء كان ذلك في بيئة الزراعة أو بيئة الرعي. إن أية إستراتيجية  للنهضة الاقتصادية لابد لها من الانطلاق من أسفل إلي اعلى Bottom to top . وهذا يعنى أن ترتكز علي مفاهيم تسعى للتشغيل الكثيف للسكان ومحاربة البطالة . والاقتراب من هدف التشغيل الكامل للقوي المهيأة للعمل . وتسعى في ذات الوقت لرفع ناتج العمل من خلال مضاعفة الإنتاجية إضعافا مضاعفة . (فالإنتاجية في السودان سواء كانت زراعية أو صناعية تقع في ادني درجات السلم). وهذا يعنى التركيز علي التعليم ذى البعد الوظيفى التطبيقى الذي يهدف إلي تعليم أهل الأرياف كيف يؤدون الأعمال علي الوجه الأمثل Know how?. بيد أن نقص الطاقة ونقص المعرفة ليسا وحدهما المسئولان عن ضعف التشغيل في الأرياف وضعف الإنتاجية فيها. فالموارد الأساس مثل توفر المياه للزراعة أو الرعي عنصر آخر. ولئن كان توجه الحكومة نحو السدود وحصاد المياه يمثل تحركاً في الاتجاه الصحيح فان تسريع الحركة ومضاعفتها باتجاه تحقيق الاستقرار للرعاة وتوفير المياه للزراعة يتوجب أن يحتل مركزاً متقدماً في أولويات الدولة. وتحقيق الاستقرار للرعاة بتوفير المياه سيدخل الإنتاج الحيواني دائرة الاقتصاد الفاعل. ذلك أن الاستقرار سيولد احتياجات جديدة ويصنع استهلاكاً  متصاعداً مما يغير في التقاليد والمفاهيم الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بمهنة الإنتاج الحيوانى .  فتتضاعف الإنتاجية القابلة للتداول الاقتصادي وللتصدير. كذلك فان إقامة السدود وتوسيع عمليات حصاد المياه سيوسع الرقعة الزراعية بصورة تنقلها من الاقتصاد الكفائى إلي الاقتصاد النقدى.
الحرمان الائتمانى:-
ومثلما أن توفر بعض الموارد كالمياه يشكل ضرورة قصوى للتنمية الريفية. فان إخراج أهل الريف من دائرة المحرومين من الائتمان والتمويل المصرفي  يجب أن يصبح هدفاً مهماً لتسريع التنمية الريفية. فمن المعلوم أن 15% فقط من أهل السودان يتعاملون مع المصارف . وأن اقل من نصف هؤلاء فقط هم من يحظون بخدمات التمويل والائتمان المصرفى . بينما نسبة 80% من النسبة المحرومة من تلك   الخدمات تعيش فى الأرياف الزراعية أو الرعوية. وعواقب مثل هذه الحقائق لا شك ستكون مريرة.  فان أي عمل اقتصادى يقتضى قدراً من المال يتجاوز الحاجات الاستهلاكية المباشرة. ولذلك فلابد من إستراتيجية قومية عاجلة بالاستفادة من  التجارب العالمية لإخراج الغالبية المحرومة من دائرة الحرمان التمويلي   The Unbanked Majority  Banking. وهنالك تجارب ناجحة في بلدان العالم الثالث مثل بنغلاديش والفلبين وكينيا . والبلدان النامية مثل البرازيل والهند في مجال المضاعفة السريعة لإعداد المتعاملين مع المصارف من خلال تجارب الصرف الاليكترونى ونقاط البيع واستخدام الموبايل لانجاز الخدمات المصرفية. وقد درس بنك السودان تلك التجارب كما أجرت عليها منظمات الأمم المتحدة دراسات للنظر في إمكانية نقل تلك التجارب للسودان . وبخاصة استخدام الهاتف السيار لربط الشرائح الفقيرة بالمصارف . وتوفير خدمات التمويل والتأمين للفقراء من خلال الوصل بين "التمويل الأصغر" وتكنولوجيا المعلومات ووسائط الاتصالات . وقد أظهر السودان اهتماماً كبيراً بالتمويل الأصغر إلي الدرجة التي مضى فيها لإنشاء مجلس أعلى برئاسة رئيس الجمهورية. بيد أنه لا تزال توجد عوائق كثيرة . وربما تردد في النهضة التنظيمية التشريعية للتوسع في عمليات التمويل الأصغر .  وتقديم الخدمات المصرفية من خلال الهاتف السيار . وبخاصة وقد أصبح السودان الدولة الأفريقية الثالثة في استخدام الهاتف السيار . وتجاوز الاستخدام 27 مليون مشترك مع شركات الاتصالات. و فى مطلع هذا  العام أُعلن من خلال ورشة نظمتها شركة السودان للخدمات المالية  أن بنك السودان سوف يسمح باستخدام الهاتف السيار في التعامل مع المصارف في منتصف العام الجاري . وذلك   بعد انجاز التشريعات والترتيبات  اللازمة  لضبط مثل هذه المعاملات.
ولا شك أن توسيع الخدمات المصرفية من خلال التمويل الاصغر واستخدام الهاتف السيار المصرفى سوف يضاعف عدد المتعاملين مع المصارف . ويزيد عدد المستفيدين من خدمات الائتمان والتمويل المصرفي. والتجربة الكينية  أثبتت أن عدد المتعاملين مع المصارف قفز في ثلاث أعوام من الفترة من 2006 – 2009  من 15% الي 70% . وإذا أستطعنا في السودان أن نحقق مثل  هذا  النجاح فان خيره سيكون عميماً علي النظام المصرفي وعلي فقراء المواطنين في آن واحد. ومثلما يمكن استخدام الهاتف السيار في توسيع المعاملات المصرفية فهو يوفر وسيطا جيداً لنقل المعارف الضرورية التى تنقل للمزارعين والرعاة من أهل الريف افضل التجارب والممارسات في اداء الاعمال ((الحزم التقنية )) والتوجيهات المهمة للثقافة الصحية والغذائية.  ونحن لا نتحدث بذلك  دون استناد لتجارب ناجحة فى بلدان العالم ففى بلد مثل البرازيل حيث أُستخدم الهاتف السيار في تطوير قدرات وملكات الريفيين (وأغلب أولئك ذوى حظ محدود او غير موجود من التعليم ) حقق ذلك البرنامج نجاحاً مبهراً تحاول دولة مثل كينيا أن تحتذيه  بعد نجاح تجربة M-Pesa  في مجال توسيع دائرة التعامل مع المصارف عبر الهاتف السيار . ولذلك   نشأت خدمات توجيهية في مجال التعليم والصحة تستغل فرصة التواصل الواسع التي يتيحها الهاتف السيار لتوصيل معلومات وتوجيهات محددة لجمهور معين .  يُرجى أن يستفيد منها لتطوير ممارسته لتبلغ لافضل الممارسات المتعارف عليها فى المهن المختلفة . أننا نزعم زعماً يقارب الحقيقة إن لم يطابقها أن أهل السودان الريفى منهم والحضرى ذوى استعداد عال للتعلم والاستفادة من التعليم والتدريب  . ما كان ذلك التعليم والتدريب متوافقاً مع ما يعتقدونه صحيحاً  أو  ثبت أنه يحقق المصالح والمنافع المرئية لهم. ولذلك فعلينا الشروع في ادارة حوار كبير وكثيف حول الاستراتيجية الشامله لمكافحة الفقر في الارياف . وتحقيق التنمية الريفية المتسارعة فأنها هي الوصفة الأسرع لإزالة كثير من أسباب الفقر وأعراضه. 
نواصـــــــــــــــــــــــــــــــــل،،،