تحدثنا في المقال
السابق عن إستراتيجية للتنمية الاقتصادية تبدأ من أسفل إلي اعلى لتمكين الفقراء وبخاصة في الأرياف من المشاركة الواسعة في
الإنتاج وإخراجهم من حالة العجز عن الكسب إلي المشاركة الفاعلة في إنتاج ما
يحتاجون إليه من سلع وخدمات . والفقر مفردة مشتقة من المفقور الذي عجز بسبب انكسار
عموده الفقري عن الحركة أو المسكنة التي هى من السكون وعدم القدرة علي الحركة . والمفردتان
دلالة علي أن السكون وعدم الحركة والسكون هما سبب الفقر . والإستراتيجية الناجعة
لمكافحة الفقر هي دعم الفقراء والمساكين بما يعيدهم إلي دائرة حركة الكسب
والإنتاج.
دعم الفقراء سبيل النهضة الاقتصادية:
وقد تحدثنا سابقاً عن دعم الفقراء بإزالة
الحرمان التمويلى والائتمانى لتوفير الموارد التي توفر لهم وسائل الإنتاج أو توفر
لهم رأس المال الأساس للبدء في الإعمال والإشغال . بيد أن الدعم التمويلى ليس كافياً
لوحده . وقد جربت الدولة في السودان الدعم المباشر من خلال الزكاة ومن خلال وزارة
الضمان الاجتماعي . وكذلك من خلال المشروع الرائد المتمثل في التأمين الصحي وكل
هذه تجارب جديرة بالتقدير ولكنها ليست كافية. ذلك أن غالبية الدعم الذي تتحمله
الموازنة العامة لا يذهب إلي الفقراء . بل أن الموازنة العامة التى هي استقطاع
ضريبى يدفع غالبه الفقراء يذهب غالب الدعم فيه إلي الشرائح الأكثر اقتدارا فى
المجتمع . فليس هنالك أية مقارنة بين حجم الدعم المباشر الذي يذهب للفقراء وبين
دعم سلع مثل المحروقات والكهرباء والسكر والتى غالب المستهلكين لها من شرائح المستهلكين الكبار من الطبقة الوسطى والطبقة
الأغنى. ولا شك أن سياسة دعم السلع بدلاً عن دعم ذوى الخصاصة هي سياسة لا تجد
شخصاً مُنصفاً يدافع عنها . إلا أن واقع الحال يؤكد أن المليارات من الجنيهات تذهب
لدعم السلع وعشرات الملايين فقط تذهب لدعم الفقراء وذوى الخصاصة دعماً مباشراً.
وهذا خيار سياسي لا يتوافق مع الشرع ولا العدل. فالشرع لا يجيز أخذ أموال الفقراء
لردها علي الأغنياء بل دعوة الشرع بخلاف ذلك تماماً. والعدل يقتضى أن يدعم القادر
الضعيف لا أن يأخذ صاحب التسع وتسعين نعجة صاحب النعجة الواحدة. اذاً لابد من
مراجعة جذرية لسياسة دعم السلع لإلغائها تدريجياً . وذلك عبر إستراتيجية الخطوة خطوة
على أن يحول غالب المال المتوفر من كل خطوة متراجعة عن دعم السلع إلي دعم مباشر
لذوي الدخل القليل وذوى الخصاصة والمساكين. وقد يقول قائل إن دعم سلعة مثل المحروقات
إن جرى رفعه سوف يؤدي إلي غلاء الأسعار التي يكتوى بنارها الفقراء أكثر من
الأغنياء . وهذا قولٌ به بعض الوجاهة ولكنه لا يعدو أن يكون من لحن القول الذي يُراد
بها استمرار وضع يدرك الجميع أنه وضعٌ خاطئ وظالم. وبإزاء هذه الحجة فإن الحل ليس
الامتناع عن رد الأمور إلي نصابها بل الخطة الناجعة هي إجراء العملية الضرورية تدريجيياً
ومحاصرة أثارها الجانبية. وقد يصح القول أن سياسة دعم السلع لا دعم الفقراء قد
تراكمت آثارُها بحيث يصعب التعامل معها وإزالة الدعم ضربة لازب. وصحة هذا القول لا
تعني أن نترك الأمر كله فما لا يدرك كله لا يترك كله. والسياسة الناجعة هي تلك
التي أوصى بها المجلس الوطني وهي تبني خطة مرحلية لإزالة دعم السلع على دفعات . وعبر
برنامج شامل يُحتاط فيه لكل الآثار الجانبية التي قد تنجم عن رفع الدعم عن سلعة
مثل المحروقات دفعة واحدة . فيكون المبتدأ بالسلع التي يكون أثرها محصوراً في
العدد الأقل من المتأثرين مثل زيادة وقود الطائرات والبنزين مثلاً مع زيادة
طفيفة في الجازولين الذي يدخل في النقل بصورة واسعة وفي الإنتاج الزراعي. ويمكن أن يُؤخر رفع الدعم عن سلعة مثل دقيق
القمح إلى حين تحقيق خطة البرنامج الثلاثي للاكتفاء الذاتى . لأن رفع الدعم عن الدقيق تعم به البلوى. ولن
تكون فائدة إصلاح سياسة الدعم بتحويله من دعم السلع إلى دعم الأسر والأشخاص ذوي
الخصاصة مقتصرة على تحقيق العدل الإنصاف بل سيؤدي ذلك إلى محاربة إسراف المسرفين
من القادرين في استهلاك السلع المدعومة . كما سيكون وسيلة ناجعة لمحاربة التهريب
الذي خرج تماماً عن سيطرة السلطات التي تجتهد لسد الطرق أمامه فلا تفلح إلا قليلاً
. ذلك إن إغراء تهريب سلع مثل الوقود
والسكر إغراء عظيم . فالفائدة بمجرد عبور الحدود تعني مضاعفة الربح أضعافاً مضاعفة
ولو على حساب الاقتصاد الوطني وعلى حساب مسغبة فقراء الوطن.
الدعم المباشر وأفضل الممارسات
الدولية:
أناس كثيرون يشككون في نجاعة الدعم المباشر
ويشككون في إمكانية وصوله إلى مستحقيه . بيد أن تجارب بلدان مثل الهند والبرازيل
وفنزويلا أثبتت إمكانية محاربة الفقر محاربة فاعلة من خلال الدعم المباشر . المتمثل
في دعم الأسر مباشرة فى المرتبات أو المنح.
وقد أثبتت تجربة البرازيل على وجه الخصوص بصورة ساطعة كيف أن تمكين الفقراء
من الحصول على منح صغيرة للاستثمار أدى إلى تشغيل السواد الأعظم من السكان . وبخاصة
في قطاعات الزراعة والصناعة التحويلية والحرف والخدمات . وقد أدت سياسة تمكين
الفقراء التى أفضت إلى محاربة البطالة وتحقيق نسب عالية من التشغيل إلى تحريك
الاقتصاد البرازيلى فنهض في عقد واحد من اقتصاد مثقل بالديون إلى اقتصاد دولة صاعدة
زاحمت بقوة اقتصاديات غالب الدول الأوروبية . وأزعجت الأسواق المحتكرة وبخاصة
الزراعة لدول عظمى كانت صاحبة القدح المعلى في تلك الأسواق . والسودان منذ فترة ظل
يوثق علاقاته بالبرازيل وبخاصة في مجال الزراعة. ولكن مثلما نريد أن نستجلب من البرازيل التقنيات
الزراعية يجدر بنا أن ننقل تجاربها الناجحة في إستراتيجية وخطط مكافحة الفقر . وبخاصة
في مجالات التمويل الأصغر والدعم المباشر ومثل هذه التجارب استطاعت أن تخفض بالفقر
في البرازيل من 22% في العام 2003 إلى 4% فقط في عام 2011 . ولئن كان الفقر في
السودان قبل الانفصال 46% وربما نقص قليلاً بالانفصال فيمكننا أن نعمل عبر الخطة الخمسيه
للانخفاض به دون 30% ويمكن أن يهبط إلى دون عشرة بالمائة في عقد من الزمان , فقد
أبانت تجارب محاربة الفقر في البرازيل والهند معالم الطريق وأولويات الخطة . فلنتحرك
على بركة الله فكل ما يرفع العنت عن الناس فإنه مبارك.
نواصـــــــــــــــــــــــــــــــــل،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق